مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

وفي أناجيلهم أنه قال عليه‌السلام : لحقا أقول لكم أيها الناس والكتبة والأحبار ، إنّ كثيرا من المشرق والمغرب يجيء يوم القيامة والجزاء ، يتكئ مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماء ، وإن كثيرا ممن يزعم أنه ابن لهم يقصى عنهم مع الظلمة في النار ، ثم يكونون مخلدين أبدا في البكاء وتحريق الأستار (١).

وفي أناجيلهم : أن رجلا من الكتبة جاءه فقال : إني أحب أن أتبعك ، وأكون حيث كنت معك ، فقال عليه‌السلام : لثعالب الوحش مغار ، ولطير السماء أوكار ، وأنا فليس لي منزل ولا قرار أقر إذا قروا فيه ، ولكلّ مأوى وليس لي مأوى آوي إليه (٢).

__________________

ـ يجدونه ، احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة ، من ثمارهم تعرفونهم ، هو يجتنون من الشوك عنبا ، أو من الحسك تينا ، هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارا جيدة ، وأما الشجرة الرديئة فتصنع أثمارا رديئة ، لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارا رديئة ، ولا شجرة رديئة أن تصنع أثمارا جيدة ، كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار ، فإذا من ثمارهم تعرفونهم.

ليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات ، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم : يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا ، وباسمك أخرجنا شياطين ، وباسمك صنعنا قوات كثيرة ، فحينئذ أصرّح لهم أني لم أعرفكم قط ، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم ، فكل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها ، أشبهه برجل عاقل بنى بيته على الصخر ، فنزل المطر وجاءت الأنهار ، وهبت الرياح ، ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط ، لأنه كان مؤسسا على الصخر ، وكل من يسمع أقوالي هذه ولا يعمل بها ، يشبه برجل جاهل بنى بيته على الرمل ، فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبت الرياح وصدمت ذلك البيت فسقط ، وكان سقوطه عظيما. فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بهتت الجموع من تعليمه ، لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان ، وليس كالكتبة. إنجيل متى الإصحاح الخامس / ٢٠١ ثم ٣٢ إلى آخر الإصحاح السابع.

(١) نص الإنجيل هكذا : وأقول لكم : إن كثيرين سيأتون غدا من المشارق والمغارب ، ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، في ملكوت السماوات ، وأما بنوا الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية ، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. إنجيل متى الإصحاح الثامن ١٣١٢. لوقا ١٣ / ٣٠٢٧.

(٢) نص الإنجيل هكذا : فتقدم كاتب وقال : يا معلم اتبعك أينما تمضي. فقال يسوع للثعالب أوجرة ، ولطيور السماء أوكار ، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه. إنجيل متى الإصحاح الثامن / ١٩ ـ

٤٤١

وفي أناجيلهم : أن رجلا من حوارييه قال له : يا معلمي ائذن لي أذهب فأدفن أبي ، فقال له : تعالى اتبعني وكن معي وعلى أثري ، واترك الأموات يدفنون موتاهم ، ففيهم لدفنهم ما كفاهم (١).

تم والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد خاتم النبيين ، وعلى أهله الطيبين ، وسلم عليهم أجمعين.

* * *

__________________

٢١. إنجيل لوقا ٩ / ٦١٦٠.

(١) نص الإنجيل هكذا : وقال له آخر من تلاميذه : يا سيد ائذن لي أن أمضي ، وأدفن أبي ، فقال له يسوع اتبعني ودع الموتى يدفنون موتاهم. إنجيل متى الإصحاح الثامن ٢١ ـ ٢٣. وإنجيل لوقا ٩ / ٥٧ ـ ٥٩.

٤٤٢

كتاب المسترشد

٤٤٣
٤٤٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي لا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأقطار ، الذي لم تهجم (١) عليه العقول بفكرها ، ولا الفكر بمحالها (٢) ولا الألباب بتدبيرها ، الذي لم ينفصل من المخلوقين فيكون منهم بعيدا ، ولم يتصل بهم فيكون لهم مخالطا.

إن سأل سائل ذو حيرة (٣) عن قول الله عزوجل : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ٤]. وتوهم أن الله تبارك وتعالى ارتفع في مكان دون الأماكن!! وعاب من قال : إن الله بكل مكان ، وقال : أيصعد من الله إلى الله!! إذ (٤) قال إنه في السماء وفي الأرض.

فجوابنا في ذلك أن الله تبارك وتعالى في الأماكن كلها ، مدبر لها حافظ قائم عليها ، لم تحوه ولم تحط به ، ولا نقول يصعد منه إليه ، فنصفه بالغاية والتحديد ، وأنه سبحانه في مكان دون مكان ، ولكنّا نقول : إن الله تبارك وتعالى خلق ملائكته ، وتعبدهم بما شاء ، فكلف بعضهم نقلة (٥) الأخبار من السماء إلى الأرض ، ونقلة الأخبار من الأرض إلى السماء ، وأنه خلق السماء فأسكنها ملائكته لعبادته (٦) بعضهم ينسخ أعمال الآدميين ، ووكل بعضهم رقيبا وحافظا على الملائكة التي وكّلت بنسخ أعمال الآدميين ، وكذلك قالت الملائكة صلوات الله عليهم (٧) : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)) [الصافات : ١٦٤]. أي : ما وكّلوا به من صنوف التعبد ، وقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ٤]. معناه في الآية الأخرى ، مثل قول إبراهيم الخليل عليه‌السلام : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ)(٩٩)

__________________

(١) في (ب) : لا. ولم تهجم أي : لم تنته إليه. قال أمير المؤمنين : هجم بهم العلم على حقائق الأمور ، فباشروا روح اليقين.

(٢) في (ب) و (د) : بمجالها. والمحال : الشدة والكيد والتدبير.

(٣) في (ب) : خبرة (مصحفة).

(٤) في (ب) : أن.

(٥) الاسم من الانتقال.

(٦) سقط من (أ) : لعبادته.

(٧) في (أ) و (ج) : عليها.

٤٤٥

[الصافات : ٧٧]. ولم يبرح الأرض في حال ذهابه إلى ربه ، وقد كان الله معه.

وقد قال لكليمه موسى وأخيه (١) هارون صلى الله عليهما : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٣٨]. وذهاب إبراهيم صلى الله عليه إلى ربه ، في الحالة التي ربه معه فيها ، وإنما معناه في ذهابه إلى ربه ، توجهه إليه بعبادته ، وتشاغله عما (٢) سواه.

وكذلك توجيه الملائكة بصعود أعمال العباد إلى الموضع من السماء الذي (٣) تعبدت به ، ولتصعد بأعمال العباد إليه ، وإنما توجهت بتلك العبادة إلى الله ، كما ذهب إبراهيم إلى ربه ، بمعنى توجهه بعبادته إليه.

ووجه آخر في الصعود ، هو القبول (٤) لذلك ، لأنك تقول لا يصعد إلى الله هذا الكفر ، ويقال : قد نسخت الملائكة أعمال الكافرين ، وصعدت بها إلى الله ، وهو لا يقبلها ، ولا تصعد إليه أعمالهم ، بمعنى لا يقبلها ، وكذلك قال الله عزوجل : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) بمعنى إنما يقبل الله الكلام الطيب بالعمل الصالح.

فإن لجّ (٥) السائل بالشغب فقال (٦) أيصعد من الله إلى الله؟!

قيل له لا. (٧) ولكن يصعد الكلم الطيب من المكان الذي لا يخلو منه الله ، (٨) إلى السماء التي فيها الله.

__________________

(١) في (ب) و (د) : ولأخيه.

(٢) في (أ) و (ج) : عن. وفي (د) : عمن.

(٣) في (ب) و (ج) و (د) : التي.

(٤) أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة رضي الله عنه قوله : (الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال : لا يقبل قول إلا بعمل. وقال الحسن : بالعمل قبل الله. الدر المنثور المنثور ٧ : ١٠. وقال أبو حيان : وصعود الكلام إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المسمى إليه ، لأنه تعالى ليس في جهة ، ولأن الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود ، لأن الصعود يكون من الأجرام ، وإنما الصعود يكون من الأجرام ، وإنما ذلك كناية عن القبول. البحر المحيط ٧ / ٣٠٣. وقال ابن حجر العسقلاني : قال البيهقي : صعود الكلام الطيب ، والصدقة الطيبة ، عبارة عن القبول ، وعروج الملائكة هو إلى منازلهم في السماء. فتح الباري (١٣ / ٥١٦).

(٥) في (ج) : تمادى في الخصومة. والشغب : تهييج الشر.

(٦) في (أ) : و. وفي (ج) : وقال.

(٧) سقط من (ب) : لا.

(٨) سقط من (أ) و (ج) : لفظ (الله).

٤٤٦

[معاني «في»]

والله على العرش استوى ، وهو عنه غير غائب وهو في السماوات العلى ، وفي الأرض ولم يغب عنه نجوى ، كذلك (١) قال في كتابه : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦)) [الملك : ١٦]. فأخبر أنه في السماء ، وكذلك قال : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤]. وكذلك قال : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣].

و (في) : لها معان تختلف في اللغة ، ليس شيء في شيء (٢) إلا وهو لا يخلو من أحد هذه المعاني التي نحن ذاكروها إن شاء الله.

١ ـ إما أن تكون فيه ، بمعنى قول القائل : الناس في عامهم هذا مخصبون.

٢ ـ أو يكون الشيء في الشيء محويا كاللبن في وعائه.

٣ ـ أو يكون الشيء في الشيء كالحي في حياته.

٤ ـ ويكون الشيء في الشيء كالأبيض في بياضه.

٥ ـ ويكون الشيء في الشيء كالعبد في سلطان مولاه.

٦ ـ ويكون الشيء في الشيء كالمرابط في رباطه ، والغازي في غزاته ، والباني في بنائه.

فاعرف هذه اللغات ، كيف تتصرف في معانيها ، وتتوجه في تصاريفها.

٧ ـ وقد يكون أيضا معنى (٣) (في) : إنما هو مع. وفي القرآن مثل ذلك قول الله سبحانه : (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ٣٨]. فمعنى قوله : (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) أي مع أمم. وكذلك قال : (الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ) [الأحقاف : ١٨] ، يعني : مع أمم. (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي

__________________

(١) في (أ) و (ج) : وكذلك.

(٢) سقط من (أ) : شيء في.

(٣) سقط من (ب) : معنى.

٤٤٧

عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل : ١٤]. أي : مع عبادك الصالحين. وقال سبحانه : (فِي تِسْعِ آياتٍ) [النمل : ١٢] أي : مع تسع آيات. وقال : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٦] بمعنى : معهن.

٨ ـ ومعنى آخر من تأويل (في) : يكون تفسيره على ما قال الله تبارك : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] يعني : على جذوع النخل (١). وقال : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) [الكهف : ٣٥]. يعني : عليها. وقال : (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) [طه : ١٢٨ الأحزاب : ٢٦]. يعني : يمرون على قراهم.

٩ ـ ومعنى آخر من معاني (في) : يكون تفسيره إلى. وذلك قوله عزوجل : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء : ٩٧]. يعني : إليها.

١٠ ـ وقد يتجه تفسير (في) : إلى معنى آخر ، قال الله سبحانه في كتابه : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)) [الإسراء : ٧٢]. أي : عن هذه (٢) النعمة ، وعن ذكر آياتي ، فهو في الآخرة أعمى (٣).

١١ ـ وقد يتجه على معنى آخر ، في قول الله فيما (٤) أخبر عن فرعون ، وقوله لموسى عليه‌السلام : (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) [الشعراء : ١] أي : عندنا ، وقال : (إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) [هود : ٩١]. بمعنى (٥) : عندنا.

وقال تبارك وتعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤]. فالمعنى في ذلك كله على المشاهدة والتدبير لا على أنه في شيء يحويه ، ولا على أنه مع شيء ملازق له

__________________

(١) سقط من (ب) : يعني على جذوع النخل.

(٢) سقط من (ب) : هذه.

(٣) أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن ابن عباس : (وَمَنْ كانَ) في الدنيا (أَعْمى) عما يرى من قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا (فَهُوَ) عما وصفت له في الآخرة ، ولم يره (أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) يقول : بغير حجة. الدر المنثور ٥ / ٣١٧.

(٤) في (أ) و (ج) : قوله فيما.

(٥) في (ب) و (د) : أي بمعنى.

٤٤٨

ولا (١) أنه على شيء ، كما الانسان على السرير ، وعلى السطح ، وقد خلا منه ما هو أسفل من ذلك.

ومن ذلك قول الشاعر :

وصرنا خاليين وليس معنا

سوى رب البنيّة والمقام (٢)

فمن أنكر ذلك وزعم أن ربه في مكان دون مكان! سئل في أي مكان هو؟! فإن قال : على العرش.

قيل له : أو ليس العرش غير السماوات والأرض؟! فقوله : نعم.

فيقال له (٣) : كيف. قلت هو في السماء ، وقد زعمت أنه على العرش ، والعرش غير السماوات والأرض؟! وفي هذا ردّ لقول الله سبحانه : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣].

وإن قالوا : إن العرش ليس في السماوات ، ولكنه فوقها ، عطلوا السماوات من العرش ، وفي تعطيلهم (٤) السماوات من العرش تعطيل ما قالوا هو العرش دون ما سواها.

* * *

__________________

(١) في (ب) و (د) : ولا على.

(٢) لم أقف على قائله.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : له.

(٤) في (ب) : تعطيلكم.

٤٤٩
٤٥٠

(الرد على من قال إن لله نفسا كنفس الإنسان)

إن سأل سائل ذو حيرة (١) عن قول الله عزوجل : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦]. وعن قوله سبحانه : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام: ١٢]. وتوهم أن لله عزوجل نفسا كنفس الانسان ، وأنها جزء الجسم ، وأنها جوهر يقيم الأعراض؟

قيل له : إن معنى قول الله سبحانه في كتابه : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٤] ، أي : تعلم ما أعلم ولا أعلم الذي تعلم ، وكذلك قال عزوجل: (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ، فالكاتب (٢) هو المكتوب عليه ، وهو الله عزوجل ، الكاتب والمكتوب عليه.

وإن زعم أن النفس معنى غير ذاته ، وزعم أنه شخص (٣).

سئل عما في النفس ، أهي النفس أم غير النفس؟!

فإن زعم أنها غير النفس ، زعم أن في ربه غير ربه ، وإن زعم أن الذي في النفس هي النفس! زعم أنه لا معنى لقوله (فِي نَفْسِي)!!

ويسألون هل كانت النفس وفيها ذلك الذي هو غيرها؟!

فإن زعموا أنه لم يزل ، جحدوا قول الله : (هُوَ الْأَوَّلُ) [الواقعة : ٧٧]. وإن زعموا أنها كانت ، وليس فيها ذلك الذي في النفس ، وأن ذلك محدث ، جحدوا أن يكون: كان عالما لم يزل.

واعلم أن للنفس في لغة (٤) العرب معاني ، فمنها ما يجوز على الله تبارك وتعالى ،

__________________

(١) في (ب) : حبرة (تصحيف).

(٢) في (ب) : فالكتاب. (تصحيف).

(٣) الشخص : سواد الإنسان وغيره تراه من بعد.

(٤) قال البيهقي : ومعنى قول من قال : الله سبحانه ، أنه نفس : أنه موجود ثابت غير منتف ولا معدوم ، وكل موجود نفس ، وكل معدوم ليس بنفس.

٤٥١

ومنها ما لا يجوز عليه.

فأما ما لا يجوز عليه : (١) فمعنى النفس التي هي الروح ، وما ذكر الله تعالى من قوله: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧)) [التكوير : ٧]. فهذه النفوس هي أجزاء الإنسان التي هي أرواحهم. وقد قيل في اللغة [في] ذكر هذه النفس : فاضت نفس فلان ، يعنون : خروج روحه ، (٢) وهذا المعنى عن الله عزوجل منفي.

وقال الله عزوجل في كتابه ، يذكر النفس بغير هذا المعنى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [النساء : ١ ، الأعراف : ١٨٩ ، الزمر : ٦] يعني : من آدم عليه‌السلام ، فسماه نفسا ، ولم يرد به روحه ، وقال : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي) [الفجر : ٢٧ ـ ٢٨]. يعني : يا أيها الإنسان ، ولم يرد النفس التي هي الروح فقط ، وإنما أراد الحي الذي هو الإنسان ، وكذلك قوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨)) [المدثر : ٣٨]. أي : كل إنسان بما كسب رهين ، وقال : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٤٨]. يعني : أن يقول الانسان وقال : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٢]. يريد : الانسان. وقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥ الأنبياء : ٣٥ ، العنكبوت : ٥٧]. يعني : أن كل إنسان ميّت.

__________________

والنفس في كلام العرب على وجوه :

فمنها نفس منفوسة مجسمة مروّحة.

ومنها مجسمة غير مروحة. تعالى الله عن هذين علوا كبيرا.

ومنها نفس بمعنى إثبات الذات ، كما نقول في الكلام : هذا نفس الأمر ، نريد إثبات الأمر ، لا أن له نفسا منفوسة ، أو جسما مروحا ، فعلى هذا المعنى يقال في الله سبحانه : إنه نفس. لا أن له نفسا منفوسة أو جسما مروحا. وقد قيل في قوله عزوجل : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ). أي : تعلم ما أكنه وأسره ولا علم لي بما تستره عني وتغيبه ، ومثل هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي). أي : حيث لا يعلم به أحد ولا يطلع عليه أحد. الأسماء والصفات / ٢٨٦.

(١) سقط من (أ) و (ب) و (ج) و (د) : فأما ما لا يجوز عليه.

(٢) في (ب) و (د) : خرج.

٤٥٢

والعرب قد تقول للشيء الذي لا روح (١) له ولا شخص ، هذا نفس كلامك ، وهذا النور بنفسه.

وقال الشاعر :

قالت له النفس إني لا أرى طمعا

وإن مولاك لم يسلم ولم يصد

وقال آخر :

وهل نحن إلا أنفس مستعارة

تمر بها الروحات والغدوات

يعني هل نحن إلا أناسي مستعارون ، ولو أراد بذكر النفس معنى الروح لما (٢) جاز أن يسمى كله نفسا ، لأنه بدن ونفس.

وقال آخر :

وقد وفدت إليك بذات نفسي

قصائد يعترفن بما نشاء

يعني بقوله بذات نفسي ، أي : بي كما أنا. كما قيل في اللغة : جئتك بنفسي ، ولم يريدوا بقولهم معنى ثانيا ، هو غير جئتك ، لأنه إذا قيل : جئتك دل على الجائي تاما ، ولما قال بنفسي لم يرد معنى ثانيا هو غير المعنى الذي هو جئتك.

وقال آخر :

 .......................

وما لام نفسي مثلها لي لائم (٣)

قال الله عزوجل : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) [آل عمران : ٥٣]. يعني : نحن وأنتم ، وقال الله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨]. فالمحذّر : هو : المحذّر منه ، يعني يحذركم

__________________

(١) في (أ) و (ج) : له بنفسه وكذلك يقولون للشيء الذي لا روح له ولا شخص.

(٢) سقط من (أ) : لما.

(٣) لم أقف على هذه الأبيات فيما لدي من كتب الأدب.

٤٥٣

الله أي : يعذبكم ، كما قال : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ١٢]. وليس الكاتب غير المكتوب عليه.

* * *

٤٥٤

(الرد على من زعم أن الله نور كالأنوار المخلوقة)

إن بعض الملحدين توهم (١) أن الله عزوجل نور كالأنوار المنبسطة ، وتوهم آخرون منهم أنه نور كالأنوار الكثيفة الساترة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وقد رأينا مثل المعنيين اللذين توهموا من النور المنبسط ، والنور الكثيف الساتر ، فأما النور الكثيف الساتر ، فالبدر إذا هو كهر ، (٢) وكثف ، ستر من السماء عن أبصارنا بقدر استدارته ، ورأينا قرص الشمس كثيفا ساترا يستر الأبصار من السماء بقدر استدارته ، فأما النور المنبسط ، الذي تنفذه الأبصار فقد رأيناه ، (٣) من ذلك ضوء النهار ، ونور القمر ، وشعاع الشمس يدخل من الكوة ، فلا يستر (٤) أبصارنا لانبساطها ، ولا يكون ذلك ساترا لأبصارنا عما خلفه.

وأعلام العبودية في هذه الأنوار التي ذكرنا كلها بينة ، وذلك (٥) لأن النور الكثيف الساتر ضعيف لا يقدر على الزيادة في نفسه ، ولا الانتقاص لها ، ولا تقدر على الامتناع من العيون أن تدركها ، (٦) فالضعف لكل ما ذكرنا لازم ، وكذلك الضعف بيّن في الأنوار المنبسطة ، إذ لم يحجب الأبصار عن نفذها ومجاوزتها إلى ما خلفها ، فالضعف لكل ما ذكرنا لازم ، والله فيتعالى (٧) عن هذه المعاني ، أن يكون بشيء منها موصوفا ، لأنها مخلوقة ، وكل ما أشبه المخلوق فهو مخلوق ، وليس الخالق للشيء ، كالمخلوق في جميع المعاني كلها.

وأعلم أن النور له في الكتاب وفي (٨) اللغة معان ، يجري على الله عزوجل بعضها ،

__________________

(١) في (ب) و (ج) : زعم.

(٢) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) : قهر ، والكهر : الارتفاع.

(٣) في (أ) : رأينا.

(٤) في (ب) و (د) : فلا تستره.

(٥) سقط من (ب) و (د) : لأن.

(٦) كذا في جميع المخطوطات ولعلها (تدركه) لأن الضمير عائد على النور.

(٧) في (أ) و (ج) : فتعالى.

(٨) سقط من (ب) : في.

٤٥٥

ولا يجري عليه بعضها ، فالذي يجري عليه منها ، هو ما قال الله في كتابه : (* اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٢].

يعني : الله ينير لعباده (١) دلائله التي يهتدون إليه بها ، لأن يعرفوه بما أبان ، ويعلمون أنه الحق بآياته المنيرة ، وأن يميزوا بها بين الخالق وخلقه ، والله نور الأنوار ، وهو منير لما (٢) نوّر من دلائله ، فهو نورها لأنه أضاء لنا (٣) الأشياء وأبانها ، وجلا عنها ظلمة الشبهة ، فأزال عنها الشكوك والريب ، بتجليتها للعقول ، أنه الحق المبين ، وأنه نور كل شيء ، وليس كمثله شيء. وكذلك (٤) أمرنا أن نصفه ، وبذلك دلنا على نفسه ، من غير أن نجاهر الله فتدركه الأبصار ، فاستنار لنا بتدبيره ، من غير مشاهدة منّا له ، ولا إحاطة به ، ولا إدراك من حواسنا له ، فهو نور السماوات والأرض ، ونور من فيهما ، بمعنى : (٥) الذي ذكرنا أن الحق من عنده ، وأن العباد به استناروا ، وبه استضاءوا ، وبه أبصروا ، إذ استضاء لهم سبحانه بنوره الذي عاينوا من خلق أنفسهم ، وتدبيره في ملكوت السماوات والأرض.

ومن لطائف الآيات التي لا يكون معها ريب ، ولا تدانيها الشكوك ، ولا تعتريها الفترات (٦) ، ولا تكون معها الغفلات ، فرأوا ربّهم بتدبيره ونوره وعلاماته ، لا بمجاهرة منهم له ، ولا بالمشاهدة والملاقاة ، تقدس الله عن ذلك ، وجل جلالا عظيما. وكذلك الله نور السماوات والأرض ومن فيها ، لأن عباده الذين هم سكان أرضه ، استناروا وعلموه بما عاينوه من نوره ، إذ دبّر الأرض ، وخلق فيها ما به أنار لهم ، إنه الله سبحانه ،

__________________

(١) أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق علي ، [كذا في الدر المنثور. ولعله يقصد عليا آخر غير الإمام علي عليه‌السلام] عن ابن عباس : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، قال : هادي أهل السماوات وأهل الأرض ، الدر المنثور ٦ / ١٩٧.

(٢) في (أ) و (ج) : بما نوره. وفي (د) : بمانور.

(٣) في (ب) : له.

(٤) في (ب) و (د) : كذلك.

(٥) في (أ) و (ج) : لمعنى.

(٦) الفترة : الانكسار والضعف.

٤٥٦

فاستنار نوره بغير تحديد ، وعرفوه من غير تخيّل ، ووحدوه معروفا بغير (١) تشبيه ، بل عرفوا الله بعجيب آياته ، وبأثر دلالاته.

ومعنى آخر في تأويل قوله نور (٢) ، قد علّم العالمين ، أن الأشياء تدرك بحقائقها ، وتعلم بالاستيقان وإن كانت غائبة. (٣) فالله يعلم ويعرف ويميز (٤) بين ما يدرك بالمجاهرة ، وبين ما لا يدرك بها ، كالخشونة واللين ، والحمرة والبياض ، وما لا يدرك بالمجاهرة ، بالسمع والبصر والعقل [ك] الرّي (٥) والظمأ ، والشبع والسغب (٦) ، وما أشبه ذلك مما غيّب عن حواسنا ، وإن كنا قد أدركناه ، لعلمنا بما صرّفنا منه ربنا ، فيما أخبرنا عما غاب عنا من ملكوته.

واعلموا أن الله سبحانه وصف الآية التي هي نور ، مخبرا لعباده أن الله سبحانه لم يرد نفسه بقوله : (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) [النور : ٣٥]. ولم يمثل بالقنديل نفسه ، ولا بالمصباح تعالى عن ذلك ، وأي فضل في القنديل ، ليس في النجم الذي هو الزهرة ، فكيف يمثل نفسه بالقنديل ، ويترك ما هو أنور من القنديل وأحسن ، بل أي فضل (٧) في القنديل ليس في درّ الجنان! كيف (٨) يمثل نفسه بالقنديل؟! وهو يتعالى عن الزهرة ودرّ الجنان!

بل كيف يضرب الله لنفسه أمثالا مفضولة (٩) دون الفاضلة ، تعالى عن التمثيل والأشباه ، وتقدس عن ذلك. لكن الله سبحانه نور السماوات والأرض بما أبان لهم عن نفسه ، بخلقه لهم ، وبما له فيهم من التدبير ، الدال عليه ، فاستضاء عباده به إذ أضاء لهم

__________________

(١) في (أ) : من غير.

(٢) في (أ) و (ج) : من تأويل. وفي (ب) و (د) : نورا.

(٣) سقط من (ب) : وإن كانت غائبة.

(٤) في (أ) و (ب) و (د) : ويميز ما بين.

(٥) في جميع المخطوطات : والرأي ، وما أثبت اجتهاد مني.

(٦) السغب : الجوع.

(٧) في (ب) و (د) : فضل أحسن في.

(٨) سقط من (ب) : كيف.

(٩) في (ب) : مثلا مفضولا.

٤٥٧

نفسه بخلقه لهم ، فلم يضل في مضلات الشبهة ، من استضاء بربه ، واستنار به ، فبانت الأعلام الهادية ، لمن استبان بها عن ربها ، فبان الله بها لمن استنار بها ، وكان الله نوره إذ اهتدى به ، وأحيا لنا القلوب بعد موتها بنوره ، إذ أنار لها فاهتدينا بها (١) إليه.

ومعنى آخر من معاني النور ، وهو مما لا يجوز على الله ، وهو ما ذكرنا من معنى الشمس الساترة ، وشعاعها المنبسط الذي ليس بساتر. ومعنى من معاني النور ، وهي النيران الكثيفة ، وهي في معاني قرص الشمس والقمر (٢). ومعنى من معاني النور ، وهو الإيمان (٣) ، لأن الإيمان نور ، وكذلك القرآن نور ، وقد سمى الله القمر نورا والشمس سراجا ، والإيمان نورا ، وقال : (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [الأحزاب : ٤٣ ، الحديد : ٩].

فهذه المعاني من الأنوار التي ذكرنا مميزة للعقول ، إذا ما نظروا إليها بها ، فأجروا على الله منها ما يجوز عليه ، وما جرى على العباد منها ، فعنه عزوجل نزهوا الله ولم ينسبوه (٤) إليه.

وأما تأويل : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) [النور : ٣٢] فقد يجوز أن يكون عنى بذلك القرآن (٥) في غياهب (٦) الوساوس نيّرا مضيئا ، وبه يبطل كيد إبليس اللعين ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : به.

(٢) أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يدبر الأمر فيهما نجومها وشمسها وقمرها. الدر المنثور ٦ / ١٩٦.

(٣) في (ب) و (د) : هو.

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم ، وصححه عن أبي بن كعب : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، مَثَلُ نُورِهِ). قال : هو المؤمن الذي جعل الإيمان والقرآن في صدره فيضرب الله مثله. الدر المنثور ٦ / ١٩٧.

(٤) في (ب) و (د) : ينسبا.

(٥) سقط من (ب) : عنى.

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن الحسن رضي الله عنه (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ). قال : مثل هذا القرآن في القلب (كَمِشْكاةٍ). قال الكوة. الدر المنثور ٦ / ١٩٩.

(٦) الغيهب جمع غيهب وهو : الظلمة.

٤٥٨

وتوهيمه وخدعه ، فالقرآن في هذه الأماكن الموحشة ، كالمشكاة التي هي الكوة والمصباح في القنديل ينير (١) لما حوله ، ويضيء لمن دنا منه (٢).

وقد يجوز أن يكون الله عنى بقوله مثل نور النبي (٣) صلى الله عليه كهذا المعنى (٤) الذي وصفنا به القرآن ، والمعنى : أن النبي صلى الله عليه أضاء لنفسه بنبوته ورسالة ربه ، وأضاء لمن دنا منه أو سمع به في الأخبار.

وقد يتجه أن يكون الله أراد به قلب المؤمن أيضا ، والإيمان الذي فيه ، فمثل قلب المؤمن وكون الإيمان فيه (٥) مثل القنديل في المشكاة ، فالإيمان يضيء للمؤمن عن كل ظلمة ، كما أن القنديل يضيء في الكوة ، وتضمحل به الغياهب المدلهمات (٦) من الريب ، والإيمان يتوقد ويضيء بالحكمة توقدا يظهر شعاع الحكمة ، ونورها في كلامه وفعاله ، وعلى جوارحه ، وهو بعلمه بربه (٧) علمه له نور على نور.

واعلم أنه قد يجوز أن يكون معنى قوله : (نُورٌ عَلى نُورٍ) [النور : ٣٥]. أي : نور مع نور ، لأن كلامه نور مع عمله (٨) ، وعمله مع علمه ، فهذا نور على نور ، أي مع نور. (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [النور : ٣٥]. لا من يشاء غيره يهدي ، ولو كانت البرية كلها لمن لا يريد هدايته ظهيرا لما اهتدى المرء أدنى الهداية ، إلا أن يشاء الله.

__________________

(١) في (ب) و (د) : نير.

(٢) في (ب) : به.

(٣) أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن شمر بن عطية ، قال : جاء ابن عباس رضي الله عنهما إلى كعب الأحبار فقال : حدثني عن قول الله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ). قال : مثل نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. الدر المنثور ٦ / ١٩٨.

(٤) في (ج) : كالمعنى. وفي (ب) و (ج) و (د) : كهذا كالمعنى. وأشار في (أ) : بنسخة أخرى ، بما أثبتناه.

(٥) سقط من (ب) و (د) : فيه.

(٦) المدلهمات : المظلمات.

(٧) في (ب) و (د) : يريد (مصحفة).

(٨) أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، في حديث قال في آخره : (نُورٌ عَلى نُورٍ). يعني : بذلك إيمان العبد وعمله. الدر المنثور ٦ / ١٩٨.

٤٥٩

وقد يتجه أن يكون الله سبحانه شبّه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما شبه القرآن والإيمان بالمعنى الذي وصفناه.

ومعنى قوله : (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) [النور : ٣٥] ، فهذه شجرة منبتها في مكان تطلع (١) الشمس عليه ولا تزول عنها حتى تغيب ، وهي الشمس الضاحية ، وهو أنضج لثمرها ، تكاد أن (٢) ترى في الزيتونة التي هي ثمرها وجهك من ودكها (٣) من نقائه وصفائه (٤) ، فإذا وقد القنديل من زيت هذه الزيتونة ، كان أنور للمصباح ، وهذه أمثال ضربها الله للناس لعلهم يتفكرون.

وقال بعضهم : إن معنى : (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ). أنه : محمد صلى الله عليه يصلي لا للمشرق ولا للمغرب ، ولكن لكعبة الله البيت الحرام (٥).

* * *

__________________

(١) في (أ) : مطلع.

(٢) سقط من (أ) : أن.

(٣) الودك : الدسم. معروف.

(٤) أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد ، قال : الضوء إشراق الزيت. الدر المنثور ٧ / ٢٠٢.

(٥) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في نهاية حديث : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال : ليس بنصراني فيصلي نحو المشرق ، ولا بيهودي فيصلي نحو المغرب.

٤٦٠