مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

يمكن السماوات والأرض في عقل أو لب ، أن تكون من ابن أبدا أو (١) أب ، وهل الابن إلا كالأبناء ، وكذلك الأب فكالآباء ، فإن لم يكن كهم زال أن يكون أبا أو ابنا ، ولم يكن ذلك أبدا في الأوهام ممكنا ، لأنه إن لم يكن أب وابن كأب وابن في الأبوة والبنوة مثله ، زالت الأبوة والبنوة واسمها كلها عنه ، وإن كان الابن للابن مثلا ، كان مثله خلقا مجتبلا ، ومتى (٢) جعلوا المسيح ابنا وولدا ، كان مثل الأبناء لله عبدا مخلوقا متعبدا ، ومتى أنكروا أنه كغيره من الأبناء عبد (٣) لله ، أنكروا صاغرين أن يكون كما قالوا ابنا لله ، أفليس هذا من القول هو المحال بعينه؟! وما يحتاج أحد يعقل إلى تبيينه!!

إذ يثبتون من ذلك في حال واحدة ما ينفون ، وينفون من مقالهم في حال واحدة ما يثبتون.

ولله تبارك وتعالى من الحجة والرد ، في كتابه على من قال عليه بالولد ، ما يكثر عن الله عن أن نحصيه أو نعدده ، أو يدرك مدرك سوى الله (٤) أمده ، وكفى بما ذكرنا والحمد لله حجة وردا ، على من زعم أن لله تبارك وتعالى ولدا ، من فرق النصارى واليهود ، (٥) وأهل الفرية على الله والجحود ، ممن جعل لله سبحانه ندا أو ضدا ، وجعله والدا (٦) أو ولدا ، فليفهم حجج الله في ذلك كله من كان لله موحدا ، وليتفقد تناقض قولهم فيه وفساده ، وإحالته واختلافه ، يجد قولا محالا فاسدا ، متناقضا مختلفا.

وفيه ما يقول الله سبحانه ، لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورفع شأنه : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦)) [الكهف : ٤ ـ ٦]. فأخبر

__________________

(١) في (ج) : أو من أب.

(٢) في (د) : مثله سواء خلقا. وفي (ج) : خلقا مختبلا. وفي (ج) و (د) : فمتى جعلوا.

(٣) في (أ) و (ج) و (د) : عبد الله. وفي (ب) : عند الله. وما أثبت هو الصواب ، والله أعلم.

(٤) في (ج) و (د) : الله أبدا أمده.

(٥) لقولهم : عزيز بن الله.

(٦) في (ج) : مولودا.

٤٠١

سبحانه بأسف رسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من قولهم على الله سبحانه بالفاسد المحال ، وبأخبث ما يقال من متناقض الأقوال ، ونبأ الله جميع عباده ، بجهلهم لقولهم فيه وفساده ، بقوله سبحانه: (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً)(٥) ، ووجدنا ما قال الله من كذبهم فيه وقلة علمهم لازما واجبا ، وكان ذلك على ما قال به من أهل الكتاب ، أوكد لما (١) يقولون به من ربوبية رب الأرباب ، فكلهم يثبت لله الربوبية ، ويصحح له الوحدانية ، وجميعهم ـ وإن زعم أن لله ولدا ـ يقر بربوبيته ووحدانيته ، ويشهد له بدوامه وأزليته ، التي لا يصح لهم أبدا ما يقولون به منها ، إلا بتركهم لمقالتهم في الولد والرجوع عنها ، ولن يرجعوا عن ذلك مصارحة أبدا ، وإن هم قالوا أن قد اتخذ الله ولدا ، لأن في رجوعهم عن القول لله بالوحدانية والأزلية ، لحوقهم عند أنفسهم بقول (٢) أهل الجاهلية ، من عبدة الأوثان ، والنجوم والنيران ، وذلك فما لن يقولوه ، وإن لم يعرفوا الله وجهلوه ، لفساد ذلك عندهم وشناعه ، وبعد إمكان ذلك في الله وامتناعه ، ولذلك ما يقول جلّ جلاله ، عن أن يصح عليه تشبيه شيء (٣) أو يناله ، في أزلية قديمة أو ذات ، أو صفة ما كانت من صفات ، إذ في ذلك ، لو كان كذلك ، إشراك (٤) غيره معه في الإلهية ، إذ كان شريكا له في القدم والأزلية.

فتبارك الله الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، وجل ربنا عن أن يكون له في شيء كفؤ أو نظير! وأنى وكيف يكون خلق كخالقه؟! وهل يصح من ناطق بهذا لناطقه؟! لا ولو تظاهر الخلق جميعا عليه ، لما صح لهم والحمد لله أبدا منطق فيه.

__________________

(١) في (ب) : ما.

(٢) في (ج) : لقول.

(٣) في (ج) : تشبيه له بشيء.

(٤) في (ج) : اشتراك.

٤٠٢

[أدب الحوار]

وبعد : فلا بد لمن أنصف خصما في منازعته له ومجادلته ، من ذكر ما يرى الخصم أن له فيه حجة من مذهبه ومقالته ، فإذا ذكر ذلك كله ، بان ما فيه عليه وله ، فكان ذلك لباطله أقطع ، وفي الجواب له أبلغ وأجمع.

والنصارى فهم خصماؤنا في الله ، فلا بد من تبيين ما افتروا فيه على الله ، وهم ممن قال الله فيهم : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) [الشورى : ١٦]. ومن الذين قال فيهم : (*هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج : ١٦]. فهم في ذلك كغيرهم من كفرة الأمم.

فليفهم من قرأ كتابنا هذا ما نصف فيه من قولهم كله فسنصفه ، بما يعلمه علماء كل فرقة منهم إن شاء الله ويعرفه ، وسنستقصي لهم في كله ما استقصوا لأنفسهم من المقال ، ثم نجادلهم فيه على الحق بالتي هي أحسن وأبلغ في الجدال ، وندعوهم إلى سبيل ربنا وربهم بالحكمة والبينة ، ونعظهم إن شاء الله بالمواعظ البليغة الحسنة ، فإن الله سبحانه يقول لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٢٥) [النحل: ١٢٥] ، فنستعصم الله في ذلك كله بعصمة الهداة المسترشدين. (١)

[مذاهب النصارى المتفق عليها]

وهذا كتاب ما حددت النصارى من قولها ، قد استقصينا فيه جميع أصولها ، فليفهم ذلك إن شاء الله منها ، من أراد فهمه من الأمم عنها.

زعمت النصارى كلها : أن الله سبحانه ثلاثة أشخاص مفترقة ، وأن تلك الأشخاص الثلاثة كلها طبيعة واحدة متفقة ، وقالوا : تلك الثلاثة في درك يقين النفس ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : المرشدين. وفي (د) : الراشدين.

٤٠٣

أب وابن وروح قدس.

قالوا : فالأب غير مولود ، والابن فابن وولد مولود ، وروح القدس فلا والد ولا مولود، وكل واحد من الثلاثة بما قلنا فموجود.

وقالوا : إن هذه الأشخاص الثلاثة لم تزل جميعا معا ، لم يسبق بعضها في الوجود بعضا ، وإن ما ذكروا (١) من الأب والروح والولد ، لم يزالوا كلهم في اللاهوت وملك واحد ، ليس بين الثلاثة كلها تفاوت في الإلهية ، ولا في قدم ولا قدرة ولا ملك ولا مشيّة ، وإن الثلاثة كلها واحد في الطبيعة والذات ، (٢) وإن هذا الواحد في الطبيعة ثلاثة في الأشخاص المفترقات ، (٣) وذلك كالشمس ، فيما يدرك منها بالحس ، التي هي شمس واحدة في كمالها وذاتها ، وثلاثة متغايرة في حالها وصفاتها ، كل واحد منها غير الآخر في شخصه وصفته ، وإن كان هو هو في ذاته وطبيعته.

فمن ذلك زعموا أن الشمس في عينها كالأب ، وضوءها فيها كالابن ، وحرّها منها كالروح ، ثم هي بعد وإن كانت لها هذه العدة ، فشمس لا يشك فيها أحد واحدة ، لأن الشمس إن فارقها ضوءها لم تدع شمسا ، وكذلك إن فارقها حرّها لم تدع أيضا شمسا ، وإنما تسمى شمسا وتدعا ، إذا كان هذا كله فيها مجتمعا.

وكذلك الانسان فإنه وإن كان في الانسانية واحدا ، فإنا قد نراه وترونه أشياء كثيرة عددا ، منها نفسه وجسده ، وحياته ومنطقه ، فجسده غير نفسانيته ، ومنطقه غير حياته ، لأنه ليس يقدر أحد أن يزعم أن الحياة هي المنطق ، ولا أنهما جميعا واحد متفق ، لأن كثيرا من الأحياء لا يتكلم ولا ينطق.

قالوا : ولسنا نريد بالمنطق القول الذي يسمع سماعا ، ولكنا نريد الفكر الذي جعله الله في الانسان غريزة وطباعا ، فطرة (٤) خاصة في الانسان ، لا في غيره من الحيوان ،

__________________

(١) في (ج) : ما ذكرنا. وفي (د) : ما ذكر.

(٢) سقط من (د) و (ج) و (د) : والذات.

(٣) في (ج) و (د) : المفترقة.

(٤) في (ج) و (د) : وفطرة.

٤٠٤

كالحيوان الذي جعل (١) من البهائم وغيرها ، من نوابت الأرض وشجرها ، ولو كانت الحياة هي المنطق ، لكان كل حي من الأشياء ينطق ، فنطق جميع البهائم ، كما ينطق بنو آدم.

قالوا : فلما لم يكن الأمر كذلك ، دل على ما قلنا به من ذلك ، فالأب والابن وروح القدس ، كان دركهم بعقل أو حس ، فقد (٢) صاروا في الذات والطبيعة واحدا فردا ، وفي الأقانيم التي هي الأشخاص ثلاثة عددا ، فالطبيعة تجمعهم وتوحدهم ، والأقانيم تفرقهم وتعددهم ، فالأب ليس بالابن والابن فليس بالروح ، وما قلنا به من هذا فبيّن مشروح ، فهم كلهم بالطبيعة والذات واحد ، وهم في الأقانيم ثلاثة روح وابن وأب والد ، لأن الأب والد غير مولود والابن فمولود غير والد ، والروح فثالث موجود ، لا والد ولا مولود.

قالوا : ثم إن هذه الأقانيم الثلاثة لم تزل جميعا معا ثلاثة عددا ، لم يسبق في الوجود والأزلية والقدم واحد منها واحدا ، أنزل واحد منها وهو الابن إلى الأرض رأفة بالبشر والإنس ، عن (٣) غير مفارقة منه للأب ولا لروح القدس ، إلى مريم العذراء ، فاتخذ منها حجابا وسترا ، فتجسد منها بجسد كامل في جميع إنسانيته ، فتبدّى به وظهر فيه لأعين الناظرين عند معاينته ، فأكل كما يأكل الإنسان وشرب ، وساح على قدميه ودأب وتعب ، وأسلم نفسه رأفة ورحمة بالبشر للصّلب ، ولما صار إليه لكرمه وحلمه من الأذى والنصب.

[مذاهب النصارى المختلفة]

ثم اختلفت النصارى (٤) بعد في الابن والولد ، وما كان من تجسده بما زعموا من الجسد.

__________________

(١) في (ج) : جعل الله في البهائم.

(٢) في (ج) و (د) : قد.

(٣) في (ج) : من. وسقط من (د) : عن.

(٤) قال الإمام يحيى بن حمزة عليه‌السلام في الشامل : (وأما النصارى فحكى نقلة الأقوال ، إن مذاهب النصارى لا تنضبط ، وهي غير منحصرة حتى قال بعض النقلة لمذاهبهم ليس شيء أغلظ علي من ـ

٤٠٥

__________________

ـ حكاية أقاويل النصارى ، لاضطرابها وكثرة تناقضها ، وكفى بمذهب بطلانا هذه خلاصته ، وثمرته وثقاوته ، وهم على ما اشتهر عنهم أربع فرق :

الأولى : الملكانية ، وهم أقدم فرق النصارى مذهبا ، وقد قالوا بأن الله تعالى ، واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية ، وان الاتحاد لعيسى عليه‌السلام ، ما كان من حيث أنه انسان معين ، بل إنما وقع الاتحاد بالانسان الكلي.

الثانية : اليعقوبية ، وهم القائلون بأن الاتحاد إنما كان من حيث الذات ، حتى قالوا : المسيح جوهر من جوهرين ، وأقنوم من أقنومين ، ناسوتي ولاهوتي ، وأنهما امتزجا حتى صار منهما شيء ثالث ، كما تمتزج النار بالفحمة ، فيصير منهما شيء ثالث وهو الجمرة.

الثالثة : النسطورية ، وهم القائلون بأن الاتحاد إنما كان من جهة المشيئة ، وقال بعضهم معنى الاتحاد هو :

إن الكلمة جعلته هيكلا وادّرعته ادّراعا ، وكذلك قالوا : المسيح جوهران أقنومان.

الرابعة : هؤلاء الأرمنوسية ، فإنهم زعموا أن عيسى عليه‌السلام ، كان عبد الله تعالى اصطفاه ، ولكنه اتخذه ابنا له على سبيل التشريف ، هذا ما ذكره الإمام يحيى عليه‌السلام من بيان فرقهم.

قال : واشتهر على ألسنة المتكلمين أن النصارى يقولون : إن الله واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية. فأما وصفهم الله تعالى بالجوهرية ، فالخلاف فيه ليس إلا من جهة اللفظ ، لأنهم متفقون على أن الله ليس بمتحيز ، وأنه تعالى منزه عن المكان والجهة ، ومعنى وصفه بكونه جوهرا عندهم ، أنه قائم بنفسه ليس بمفتقر إلى غيره.

وأما الأقنوم فهو : اسم سرياني. ومعنى الأقنوم عندهم : الشيء المتفرد بالعدد. والأقانيم عندهم ثلاثة : أقنوم الأب ، وهذا ذات الباري تعالى. وأقنوم الابن ، وهو الكلمة. وأقنوم روح القدس ، وهو الحياة. وقد تخبط الناس في معرفة مقاصدهم ، بهذه الأقانيم ، فذهب بعضهم إلى أن هذه الأقانيم ذوات قائمة بأنفسها ، وكل أقنوم منها مستقل بنفسه ، وذهب آخرون منهم إلى أنها أشخاص. وقال قائلون : إنها وجوه وصفات ، إلى غير ذلك من التفرق والخلاف.

قال : وكلامهم في هذه الأقانيم في غاية الخبط والاضطراب ، لا تستقر له قاعدة ، ولا يعقل له حقيقة.

قال : واعلم : أن الأشبه عند التحقيق أن مراد النصارى من هذه الأقانيم التي زعموها هو هذه المعاني التي يثبتها هؤلاء الأشعرية ، وبيانه أن النصارى يعتبرون في تقرير مذهبهم وقولهم ، بهذه الأقانيم شرائط ثلاث :

الأولى : وحدة الذات ، فإن عندهم أن الله تعالى ، واحد بالجوهرية.

الثانية : أن الصحيح من مذهبهم أن هذه الأقانيم عندهم ذوات مستقلة بأنفسها ، ليست من قبل الأحوال والصفات ، بل ذوات على حيالها منفردة.

الثالثة : أن هذه الأقانيم متعددة في أنفسها ، وأعدادها ثلاثة كما سبق ، وهذه الشرائط الثلاث لا توجد ـ

٤٠٦

فقالت فيه الروم ، وهو قولها المعلوم : إن الأقنوم (١) الإلهي الذي لم يزل موجودا ، ومن قبل الدهور من الأب مولودا ، أنزل إلى مريم العذراء فأخذ منها طبيعة بغير أقنوم فكان لطبيعتها أقنوما ، فعمل (٢) بطبيعتها التي أخذ منها كل ما كان لها في طبيعتها معلوما ، فنام كما كانت تنام نومها ، وإن لم يكن أقنومه أقنومها ، وفعل من أفعال طباعها فعلها ، وإن لم يكن أصله في الناسوت أصلها. قالوا : فعمل بطبيعتها فكان المسيح إنسانا تاما بطبيعتين ، وإن كان أقنوما واحدا لا اثنين ، والمسيح فهو ابن الله الأزلي المولود ، وعمل الطبيعتين جميعا فهو فيه موجود. قالوا : فإذا سرّ أو بكى ، أو ضحك أو اشتكى ، ـ وكلهم يقر ولا يشك ، أن قد كان يبكي ويضحك ـ فكل ما

__________________

ـ على الكمال ، إلا في مذهب الأشعري ، فإن ذات الله عندهم هي أصل لهذه المعاني ، وهو غير متعدد ، وزعموا أيضا أن هذه المعاني مستقلة بأنفسها ذواتا على انفرادها ، وهي القدرة ، والعلم ، والحياة ، وغيرها. وقالوا أيضا : إن هذه المعاني متعددة في أنفسها ، فزعم بعضهم أنها سبعة ، وزعم بعضهم أنها ثمانية ، فحصل من هذا أن الشرائط التي اعتبرتها النصارى في قولهم بالأقانيم ، لا توجد إلا في مذهب هؤلاء الأشعرية ، فهم يضاهونهم في مقالتهم ، ويكرعون معهم في آجن ضلالتهم.

قال : وقد فسر بعض النقلة من أهل المقالات كلام النصارى وقولهم بالأب ، والابن ، وروح القدس ، بما تقوله الفلاسفة من أنه تعالى عقل وعاقل ومعقول ، فهو من حيث أنه عقل لذاته أقنوم الأب ، ومن حيث أنه عاقل لذاته أقنوم الابن ، ومن حيث أنه معقول لذاته أقنوم روح القدس.

قال : واتفقت آراء الفرق النصرانية على القول بالاتحاد ، ثم اختلفوا في كيفيته ، فقال بعضهم : إن الاتحاد كان بامتزاج الذاتين.

وقال بعضهم : الاتحاد بالحلول.

وزعم بعضهم : أن الاتحاد كان بالانسان الكلي.

وبعضهم قال : الاتحاد بالانسان الجزئي ، إلى غير ذلك من التفرق والنزاع ، تعالى الله عن سخيف نحو هذه المقالات ، التي أذعنت لها السماء بالانفطار ، والأرض بالتشقق ، والجبال بالانحدار (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً).

(١) الأقنوم : اسم سرياني ، ومعناه الأصل ، والشيء المتفرد كما سبق.

(٢) سقط من (أ) و (د) و (د) : فعمل.

٤٠٧

كان من ذلك كله وما (١) أشبهه مما في طبائع (٢) الإنس فمن عمل الطبيعة الانسانية ، وما كان من إحيائه الموتى وإبرائه للكمه والبرص ومثله فمن عمل الطبيعة الإلهية.

وقالت اليعقوبية (٣) : إن الابن الذي لم يزل ، زال من السماء إلى الأرض ونزل ،

__________________

(١) في (ج) : ومن.

(٢) في (ج) : طباع.

(٣) النصرانية هي الديانة المسيحية التي أنزلت على عيسى عليه‌السلام ، مكملة لرسالة موسى عليه‌السلام ، متممة لما جاء في التوراة من تعاليم ، موجهة إلى بني إسرائيل ، داعية إلى التهذيب الوجداني والرقي العاطفي والنفسي ، لكنها سرعان ما فقدت أصولها ، مما ساعد على امتداد يد التحريف إليها حيث ابتعدت كثيرا عن صورتها السماوية الأولى ، لامتزاجها بمعتقدات وفلسفات وثنية.

التأسيس وأبرز الشخصيات :

زكريا عليه‌السلام : كان واحدا من أنبياء بني إسرائيل ، كرس نفسه لخدمة الهيكل المقدس في فلسطين ، وقد اختير ليكون كافلا لمريم ، وقد وهبه الله تعال ـ على الكبر ـ يحيى عليه‌السلام.

يحيى (يوحنا) : واحد من أنبياء بني إسرائيل ، كان يقوم بتعميد الناس في نهر الأردن ليطهرهم من الخطايا والذنوب ، وقد قام هو نفسه بتعميد عيسى عليه‌السلام ، مات مقتولا بأمر من ملك اليهود بفلسطين (هيردوس) بسبب معارضته إياه في زواجه من ابنة أخيه.

مريم ابنة عمران : عمران هو أحد عظماء بني إسرائيل ، وقد كانت زوجته عاقرا فرزقها الله بمريم ، فنذرتها لخدمة الهيكل والعبادة فيه ، أما مريم فقد كانت صالحة وطاهرة ، وقد اصطفاها الله على نساء العالمين.

عيسى عليه‌السلام : ولد في بيت لحم من أمه مريم ، من غير أب ، إذ نفخ الله فيها من روحه فكان ميلاده حدثا عجيبا على هذا النحو ، ليلقي بذلك درسا على بني إسرائيل الذين غرقوا في الماديات وفي ربط الأسباب بالمسببات ، بعث عيسى عليه‌السلام نبيا إلى بني إسرائيل مؤيدا من الله بعدد من المعجزات الدالة على نبوته ، فمن ذلك.

أنه كان يخلق لهم من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله.

وكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله.

وكان يحيى الموتى بإذن الله.

وكان يخبر الناس بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم بإذن الله.

وقد أيده الله بمائدة من السماء أنزلها عليهم لتكون عيدا لأولهم وآخرهم.

غضب اليهود عليه فأغروا به الحاكم الروماني الذي تجاهلهم أولا ، ثم كذبوا وتقوّلوا مما جعله يصدر ـ

٤٠٨

__________________

ـ أمرا بالقبض عليه وإصدار حكم بالاعدام ضده.

ألقى الله شبه عيسى وصورته على رجل من أصحابه يقال : إنه (يهوذا الإسخريوطي) فنفذ الحكم فيه ، أما عيسى فقد توفاه الله بعد ذلك ورفعه إليه.

الحواريون الاثنا عشر كما هم مذكورون في إنجيل متّى :

١ ـ سمعان المعروف باسم بطرس

٧ – توما.

٢ ـ اندرواس أخو سمعان.

٨ ـ متى العشار.

٣ ـ يعقوب بن زبدى.

٩ ـ يعقول بن حافي.

٤ ـ يوحنا أخو يعقوب.

١٠ ـ لباوس الملقب تدّاوس.

٥ ـ فيليبس.

١١ ـ سمعان القانوني (الغيور).

٦ ـ برنو لماوس.

١٢ ـ يهوذا الإسخريوطي.

 ـ وهناك الرسل السبعون الذين يقال بأن المسيح قد اختارهم فأرسلهم ليعلموا المسيحية.

ـ وهناك المائة والعشرون الذين يقال بأن بطرس قد خطب فيهم فامتلئوا بالروح بعده وراحوا يدعون للنصرانية ، وعن طريق هؤلاء اختير بالقرعة بدل ليهوذا فوقعت القرعة على متياس الذي أكمل الاثنى عشر.

ـ بولس (شاول) : لقد كان لهذا اليهودي الخبيث ، الذي دخل النصرانية ـ دور كبير في تحطيم الاتجاهات الصحيحة للمسيحية بإدخاله فكرة التثليث والقول بألوهية المسيح ، وأنه قام من الأموات ، وصعد ليجلس عن يمين أبيه ، كما ابتكر خرافة العشاء الرباني وغفران الذنوب مستمدا ذلك من الفلسفات الإغريقية والوثنية ، ونادى بألوهية الروح القدس ، ودعا إلى عدم ضرورة الختان ، واخترع قصة الفداء ، وهو الذي نقل المسيحية من كونها دينا خاصا ببني إسرائيل إلى جعلها دينا عالميا ، لقد كتب أربعة عشر سفرا تعليميا من أصل إحدى وعشرين رسالة تشكل مجموع الرسائل التي تعد مصدرا تشريعيا في النصرانية.

الأفكار والمعتقدات :

أولا : كتبها وأناجيلها :

ـ التوراة : وهو العهد القديم الذي يعد أصلا للديانة النصرانية.

ـ العهد الجديد : أي الإنجيل ، والأناجيل المعتبرة التي اعترفت بها الكنائس في القرن الثالث الميلادي أربعة هي :

إنجيل متى : وهو أحد التلاميذ الاثنى عشر ، دوّن الإنجيل باللغة العبرية أو بالسريانية ، وأقدم نسخة عثر عليها كانت باللغة اليونانية ، كما أن هناك خلافا حول من دوّن الإنجيل ومن ترجمه.

إنجيل مرقص : كاتبه يوحنا الذي اختير من السبعين ، وقد كان رجلا نشيطا في نشر النصرانية في ـ

٤٠٩

__________________

ـ أنطاكية وشمال إفريقيا ومصر وروما وقد قتل حوالي عام ٢٦ م.

إنجيل لوقا : طبيب أو مصوّر من أصل يهودي ، كان مرافقا لبولس في حله وترحاله ، وهو ليس من تلاميذ المسيح.

إنجيل يوحنا : وهو حواري ابن صياد ، كان المسيح يحبه ، بعضهم يقول بأنه شخصية مجهولة ، انفرد بالقول بالتثليث وبألوهية المسيح في ذلك الوقت المبكر من تاريخ النصرانية.

ـ يلاحظ على الأناجيل الأربعة أنها ليست من إملاء السيد المسيح عليه‌السلام مباشرة ، وأن كاتبيها ليسوا على مستوى من الأهلية ليكونوا علماء دين ، كما أن أصولها ضائعة ولا تحمل أقل ما توجبه شروط الرواية التي يستلزمها كتاب سماوي ديني.

ـ أما الرسائل : فهي الأسفار التعليمية التي توضح النصرانية المعاصرة أكثر من الأناجيل ، وقد دوّنها رجال مشهورون ، وهي تعنى بتفسير مظاهر السلوك وأنواع الطقوس في الحياة النصرانية.

ـ إنجيل برنابا : يعرف بابن الواعظ وهو لاوي قبرصي ، طاهر نقي ، وهو خال مرقص ، وأول نسخة اكتشفت منه كانت في مكتبة سكتس الخامس بروما ، لكنه يختلف عن الأناجيل الأربعة بما يلي :

(الله) عنده هو رب العالمين خالق السموات.

الذبيح من أبناء إبراهيم إنما هو إسماعيل لا إسحاق.

يبشر بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لا يقول بصلب المسيح بل يؤكد بأن الله قد ألقى الشبه على يهوذا الإسخريوطي.

يحث على الختان.

يعتبر عيسى نبيا لا أكثر. ولهذا فالمسيحيون لا يعترفون بهذا الإنجيل.

هذا وقد تم نقل هذا الإنجيل إلى العربية وطبع بها.

ثانيا : المجامع النصرانية :

هي مجالس شورية تعقد بين الحين والحين لسن القرارات وإصدار الفتاوى ، فهي هيئة تشريعية تحل وتحرم ، ومن أهم هذه المجامع :

مجمع نيقية ٣٢٥ م : قالوا فيه بأن المسيح إله فقط.

مجمع القسطنطينية الأول ٣٨١ م : قرروا فى بأن الروح القدس إله.

مجمع أفسس الأول ٤٣١ م : قالوا فيه بأن للمسيح طبيعتين لاهوتية وناسوتية.

مجمع خلقيدونية ٤٥١ م : قالوا فيه بأن للمسيح طبيعتين ومشيئتين.

مجمع رومه ١٨٦٩ م : قرروا فيه بأن البابا معصوم.

ـ تتابعت المجامع ، وما تزال إلى يومنا هذا ، ومن أواخرها مجمع روما ١٨٦٩ م والمجمع الإقليمي في ـ

٤١٠

__________________

ـ جاكرتا ١٩٦٧ م الذي عقد لتوقيع ميثاق بين كل الطوائف ، للتحالف على مواجهة المسلمين بكلمة واحدة في الاجتماعات والمحافل الدولية.

ثالثا : الفرق النصرانية :

الموحدون وهم :

ـ أتباع آريوس الذي كان يقول بأن الأب وحده هو الله ، والابن مخلوق له.

ـ بولس الشمشاطي وأصحابه في أنطاكية : يقولون بأن عيسى عبد الله ورسوله وهو واحد من أنبياء اللهعليهم‌السلام.

ـ النسطوريون : وهم أصحاب نسطور بطريرك الإسكندرية سنة ٤٣١ م ، والذي قال بأن مريم لم تلد إلا الإنسان ، فهي بذلك أم لإنسان وليست أما لإله ، ومذهب النساطرة وضع الأساس للقول بطبيعتين في المسيح.

ـ مذهب الكنائس الشرقية : «الأرثوذكس» وهو رد فعل لعقيدة نسطور ، إذ أعلنوا في مجمع عقد بمدينة أفسس بالأناضول سنة ٤٣١ م ووافقوا فيه على عقيدة البابا كيرلس بطرس الإسكندرية ، والتي تقضي بأن للمسيح طبيعة واحدة ومشيئة واحدة.

ـ مذهب الكاثوليك : وهو مذهب الطبيعتين والمشيئتين متأثر بمذهب النساطرة ، وقد اعتنقت روما هذا المذهب واتخذت به قرارا في مجمع خلقيدونية سنة ٤٥١ م.

ـ مذهب اليعاقبة : يقولون بأن للمسيح طبيعة واحدة وهي التقاء اللاهوت بالناسوت.

ـ مذهب الموارنة : وهو مذهب منسوب لرجل اسمه يوحنا مارون ، الذي دعا سنة ٦٦٧ م إلى أن للمسيح طبيعتين ، ولكن له مشيئة واحدة وذلك لالتقاء الطبيعتين في أقنوم واحد.

ـ مذهب البروتستانت : وتسمى كنيستهم «الإنجيلية» إذ إنهم يتبعون الإنجيل دون غيره ، وفهمه لديهم ليس مقصورا على رجال الكنيسة ، إنها تمثل ثورة في الفكر النصراني ، بدأها آريوس في القديم مرورا بنسطور وانتهاء بالكثيرين الذين من أبرزهم لوثر كنج (١٤٨٢ ـ ١٥٢٩ م) وهم يستنكرون حق الغفران والاستحالة ومنع الصلاة للموتى وقصر سلطان الكنيسة في الوعظ والارشاد ، ومنع استعمال لغة غير مفهومة في الصلاة.

ـ بعد انعقاد المجمع الثامن ٨٧٩ م انقسمت الكنائس إلى قسمين رئيسين :

الكنيسة الغربية اللاتينية البطرسية ورئيسها البابا بروما.

الكنيسة الشرقية اليونانية الأرثوذكسية ورئيسها بطريرك القسطنطينية.

وسبب الانقسام هو السؤال التالي :

«هل الروح القدس منبثق عن الأب؟ وهو رأي الكنيسة الشرقية».

«أم أن الروح القدس منبثق عن الأب والابن معا؟ وهو رأي الكنيسة الغربية».

٤١١

__________________

رابعا : في المعتقدات :

ـ الألوهية والتثليث : يعتقدون بوجود إله خالق عظيم ، لأنهم كتابيون أصلا لكنهم يشركون معه الابن (عيسى) ، والروح القدس (جبريل) ، وبين الكنائس تفاوت عجيب في تقرير هذه المفاهيم وربط بعضها مع بعض ، مما يسمونه الأقانيم الثلاثة ويفسرونه بأنه وحدانية في تثليث وتثليث في وحدانية.

ـ الدينونة : يعتقدون بأن الحساب في الآخرة سيكون موكولا لعيسى ابن مريم ، لأن فيه شيئا من جنس البشر مما يعينه على محاسبة الناس على أعمالهم.

ـ الصلب : المسيح في نظرهم مات مصلوبا فداء عن الخليقة ، ذلك أن الله لشدة حبه للبشر من ناحية ولعدالته من ناحية أخرى ، فقد أرسل وحيده ليخلص العالم من خطيئة آدم حينما أكل من الشجرة المحرمة ، وأن عيسى قد صلب عن رضى تام فتغلب بذلك على الخطيئة ، وأنه دفن بعد صلبه ، وأنه قام بعد ثلاثة أيام متغلبا على الموت ثم ارتفع إلى السماء.

ـ تقديس الصليب : يعتبر الصليب شعارا لهم ، وهو موضع تقديس الأكثرين ، وحمله علامة على أنهم من أتباع المسيح.

ـ الصوم : هو الامتناع عن الطعام الدسم وما فيه شيء من الحيوان أو مشتقاته ، مقتصرين على أكل البقول ، وتختلف مدته وكيفيته من فرقة إلى أخرى.

ـ الصلاة : ليس لها عدد معلوم مع التركيز على صلاتي الصباح والمساء ، وهي عبارة عن أدعية وتسابيح وإنشاد ، كما أن الانتظام في الصوم والصلاة إنما هو تصرف اختياري لا إجباري.

ـ التعميد : وهو يعني الارتماس في الماء أو الرش به باسم الأب والابن والروح القدس ، تعبيرا عن تطهير النفس من الخطايا والذنوب.

ـ الاعتراف : وهو الإفضاء إلى رجل الدين بكل ما يقترفه المرء من آثام وذنوب ، وهذا الاعتراف يسقط عن الانسان العقوبة بل يطهره من الذنب ، إذ يدّعون بأن رجل الدين هذا هو الذي يقوم بطلب الغفران له من الله.

ـ العشاء الرباني : يزعمون بأن المسيح قد جمع الحواريين في الليلة التي سبقت صلبه ، وأنه قد وزع عليهم حمرا وخبزا كسّره بينهم ليلتهموه ، إذ إن الخمر يشير إلى دمه ، والخبز يشير إلى جسده.

ـ الاستحالة : من أكل الخبز وشرب الخمر من الكنيسة في يوم الفصح ، فإن ذلك يستحيل فيه وكأنه قد أدخل في جوفه لحم المسيح ودمه ، وأنه قد امتزج في تعاليمه بذلك.

ـ يحلون أكل لحم الخنزير مع أنه محرم في التوراة ، ويحرمون الختان مع وجوده في شريعتهم أصلا ، وأباحوا كذلك الربا وشرب الخمرة ، لقد قصروا التحريم في الزنى وأكل المخنوق وأكل الدم وأكل ما ذبح للأوثان.

ـ الأصل في ديانتهم الرهبانية ، وهو العزوف عن الزواج ، لكنهم قصروه على رجال الدين ، وسمح ـ

٤١٢

__________________

ـ للناس بزوجة واحدة مع منع التعدد الذي كان جائزا في مطلع المسيحية.

ـ الطلاق : لا يجوز للرجل أن يطلق زوجته إلا في حالة الزنى ، وهنا لا يجوز للزوجين الزواج بعده مرة أخرى ، أما الفراق الناشئ عن الموت فإنه يجيز للحي منهما أن يتزوج مرة أخرى ، كما يجوز التفريق إذا كان أحد الزوجين غير نصراني.

ـ التكاثر والنسل : يحثون جماعتهم من النصارى على التكاثر ، ويصبح ذلك أكثر وجوبا في المناطق التي لا يكونون فيها أكثرية.

ـ النواحي الروحية : لقد جاءت النصرانية في الأصل لتربية الوجدان ، وتنمية النواحي العاطفية ، داعية إلى الزهد وعدم محاولة الثأر ، مستنكرة انخراط اليهود في المادية المغرقة ، يقول إنجيلهم (من ضربك على خدك الأيمن فاعرض له الآخر ، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك) لوقا ٦ / ٢٨ لكن تاريخهم ملئ بالقتل وسفك الدماء.

ـ صكوك الغفران : وهو صك يغفر لمشتريه جميع ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر ، وهو يباع كأسهم الشركات ، وقد يمنح الشخص بناء على هذا الصك أمتارا في الجنة على حسب مقدار المبلغ الذي يقدمه للكنيسة.

ـ الهرطقة ومحاربتها : لقد حاربت الكنيسة العلوم والاكتشافات ، والمحاولات الجديدة لفهم الكتاب المقدس ، وصوبت سهامها إلى كل نقد ، ورمت ذلك كله بالهرطقة ، ومحاربة هذه الاتجاهات بمنتهى العنف والقسوة.

الجذور الفكرية والعقائدية :

ـ أساسها كتاب التوراة الذي يسمونه العهد القديم ، فقد انعكست الروح والتعاليم اليهودية من خلاله ، ذلك أن النصرانية قد جاءت مكملة لليهودية ، وهي خاصة بخراف بني إسرائيل الضالة ، كما تذكر أناجيلهم.

ـ لقد أدخل أمنيوس المتوفى سنة ٢٤٢ م أفكارا وثنية إلى النصرانية ، بعد أن اعتنق المسيحية وارتد عنها إلى الوثنية الرومانية.

ـ عند ما دخل الرومان في الديانة النصرانية نقلوا معهم إليها أبحاثهم الفلسفية وثقافتهم الوثنية ، ومزجوها بالمسيحية التي صارت خليطا من كل ذلك.

ـ لقد كانت فكرة التثليث التي أقرها مجمع نيقية ٣٢٥ م انعكاسا للأفلوطنية الحديثة ، التي جلبت معظم أفكارها من الفلسفة الشرقية ، لقد كان لأفلوطين المتوفى سنة ٢٧٠ م أثر بارز على معتقداتها ، فأفلوطين هذا تتلمذ في الاسكندرية ، ثم رحل إلى فارس والهند ، وعاد بعدها وفي جعبته مزيج من ألوان الثقافات ، فمن ذلك قوله : بأن العالم في تدبيره وتحركه يخضع لثلاثة أمور :

المنشئ الأزلي الأول.

٤١٣

رأفة منه ورحمة بالانسان ، وتعطفا منه على البشر بالاحسان ، فأخذ من مريم العذراء جسدا ، فتجسد به فصارا جميعا واحدا ، وقالوا : ألا ترون الانسان من روح وجسد ، ثم هو يدعا إنسانا باسم واحد ، فترونهما وإن سميا بالإنسان ، فليس يقال لهما : إنهما في الانسانية اثنان ، ولكن يقال : إنه إنسان واحد ، وهو كما تعلمون روح وجسد. قالوا

__________________

العقل المنبثق عنه.

الروح التي هي مصدر تتشعب منه الأرواح جميعا.

وهو يضع بذلك أساسا للتثليث ، إذ إن المنشئ هو الله ، والعقل هو الابن ، والروح هو الروح القدس.

ـ تأثرت النصرانية بديانة متراس التي كانت موجودة في بلاد فارس قبل الميلاد بحوالي ستة قرون ، والتي تتضمن تعاليمها قصة مثيلة لقصة العشاء الرباني.

ـ الهندوسية فيها تثليث وأقانيم وصلب للتكفير عن الخطيئة ، وزهد ورهبنة وتخلص من المال للدخول في ملكوت السموات ، والإله لديهم له ثلاثة أسماء فهو (فشنو) أي الحافظ. وسيفا (المهلك). وبراهما (الموجد). وكل ذلك انتقل إلى النصرانية بعد تحريفها.

ـ البوذية التي سبقت النصرانية بخمسة قرون انتقلت بعض معتقداتها وأفكارها إلى المسيحية ، وإن علم مقارنة الأديان يكشف تطابقا عجيبا بين شخصية بوذا وبين شخصية المسيح عليه‌السلام (انظر محمد أبو زهرة : محاضرات في النصرانية).

ـ عقيدة البابليين القديمة خالطت النصرانية ، إذ أن هناك محاكمة لبعل إله الشمس ، تماثل وتطابق محاكمة المسيح عليه‌السلام.

ـ نستطيع أن نقول بأن النصرانية قد أخذت من معظم الديانات والمعتقدات التي كانت موجودة قبلها ، مما أفقدها شكلها وجوهرها الأساسي الذي جاء به عيسى عليه‌السلام من لدن رب العالمين.

الانتشار ومواقع النفوذ :

ـ تنتشر النصرانية اليوم في معظم بقاع العالم ، وقد أعانها على ذلك الاستعمار والتنصير ، الذي تدعمه مؤسسات ضخمة عالمية ذات إمكانات هائلة.

ـ لقد انتشرت الكاثولوكية بشكل كبير في إيطاليا وبلجيكا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال.

ـ أما الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية فمعظم انتشارها في روسيا والبلقان واليونان ، ومقرها الأصلي في القسطنطينية ، ويتبعها عدد من الكنائس الشرقية المستقلة.

ـ أما الكنيسة البروتستانتية فمركز انتشارها ألمانيا وانجلترا والدانمرك وهولندا وسويسرا والنرويج وأمريكا الشمالية. الموسوعة الميسرة / ٤٩٩.

٤١٤

وكذلك المسيح الذي هو اجتماع اللاهوت والناسوت (١) يسمى مسيحا ، وهو ابن الله الذي لم يزل أفما ترون هذا قولا فيما ذكرنا وقسنا بيّنا صحيحا.

وقالت النسطورية : إن الابن الذي لم يزل بمحبته نزل رأفة وكرما ، فتجسّد من مريم عند نزوله جسدا كاملا تاما ، بطبيعة وقنومية ، (٢) من إنسانية وآدمية ، فكان المسيح طبيعتين وقنومين ، بعد تجسده بالجسد تآمين. وقالوا : فنحن إذا رأيناه يأكل ويشرب ، ويجيء في الأرض ويذهب ، وينصب ويشتكي ، ويضحك ويبكي ، جعلنا ذلك كله ، وما رأينا منه ومثله ، من الناسوت وإذا (٣) نحن رأيناه يحيي الموتى ، ويبرئ المرضى ، ويمشي على الماء ، جعلنا ذلك للاهوت.

[المذهب الجامع للنصارى]

وقالت فرق النصارى كلها مع اختلافها ، وافتراق قولها في أوصافها ، (٤) إن سبب نزول الابن الإلهي الذي نزل من السماء ، رحمة للبشر ومحافظة على الرسل والأنبياء ، قالوا من أجل خطيئة آدم فإنه لما أن (٥) أخطأ ، وأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها فعصى ، تبرأ الله تبارك وتعالى منه ، وأسلمه إلى الشيطان باتّباعه له. قالوا فكان في حيّز الشيطان ودار ملكه ، وكذلك زعموا كان معه فيها جميع ولده ، يحكم فيهم الشيطان بما أحب من حكمه ، قالوا وكان فيما ملك الشيطان من آدم ونسله ، أنفس كثيرة من أنبياء الله ورسله ، فمن تلك الأنفس نفس نوح ونفس إبراهيم ، وغيرهما من أنفس الرسل والنبيين ، قالوا فتلطف الابن واحتال لاستخراج تلك الأنفس من يد الشيطان ، فلبس لذلك ومن أجله جسدا آدميا ، ليكون بما لبس منه عن الشيطان خفيا ، فتنكر

__________________

(١) اللاهوت : الإله ، والناسوت : الناس.

(٢) في (أ) و (ب) و (ج) : وقنومة.

(٣) في (ج) و (د) : فإذا.

(٤) في (ج) : أقوالها إن. وفي (د) : أقوالها في أوصافها.

(٥) سقط من (ج) و (د) : أن.

٤١٥

الابن بذلك له ، لكي لا يحترس الشيطان منه ، فلا ينفذ فيه مكره.

قالوا : فلما غلبت (١) على الناس الخطية ، وحلت بها (٢) فيهم البلية ، واستبان لآدم زعموا ما فعل الشيطان به ، وما كان من غروره إياه وخديعته له ، خدع عند تلك (٣) الابن الشيطان بمكره ، فبلغ فيه ما أراد من أمره ، فاستخرج آدم وجميع ولده ، من سلطان الشيطان ويده. قالوا وذلك كله فإنما كان الابن يبذل نفسه للصلب ، ولما لقي من الأذى قبله والنصب ، إحسانا من الابن (٤) إلينا وكرما ، ورأفة من الابن بنا ورحما (٥).

قالوا : فاشترى الابن البشر من أبيه ، بما وصل (٦) من الأذى والصلب إليه ، وذلك زعموا أن أباه لم يكن في حكمه وعدله ، أن يظلم الشيطان ما جعل له من آدم وولده ، إن صاروا إلى طاعة الشيطان وأمره ، لأنه قال للشيطان فيما يزعمون من المقال : كل من اتبعك فهو لك.

قالوا : فلذلك اشترانا الابن من أبيه بالعدل ، وغلب الشيطان على ما كان في يده منا بالمكر. فلما استخرج آدم ونفوس الرسل والأنبياء ، صعد بعد فراغه من معاملة الشيطان إلى السماء ، بعد أربعين (٧) يوما مرت به ، بعد الذي كان من صلبه. قالوا : فجلس عن يمين أبيه تاما بكليته وجسده وجميع ما فيه من اللاهوت والناسوت ، وكل ما كان فيهما ولهما من النعوت.

قالوا : وسينزل أيضا مرة أخرى ، فيدين الأحياء والأموات عند فناء الدنيا. قالوا : ولذلك آمنا بالأب والابن وروح القدس. قالوا : والأب فهو الذي خلق الأشياء بابنه ،

__________________

(١) في (ج) : غلب.

(٢) سقط من (ج) و (د) : بها.

(٣) في (ج) و (د) : ذلك.

(٤) في جميع المخطوطات : الابن. وأنا أعتقد أنها الأب. وإنما تصحفت والله أعلم.

(٥) في (ج) : ورحمة.

(٦) في (أ) و (ب) : وصل من ذلك من. وفي (د) : وصل والصلب.

(٧) في (د) : أربعين مرت بعد.

٤١٦

وحفظها بروح قدسه.

فهذا ـ فليعلمه من أراد علمه ـ جماع قول النصارى وما لبسوا من اللبس ، في الأب والابن وروح القدس ، وفي (١) الأقانيم والطبيعة ، وما لهم في ذلك من المقالة البديعة ، التي لم يقل بها قبلهم قائل ، ولم يتنازع (٢) فيها مجيب ولا سائل ، وقولهم إن الثلاثة في موضع يوحدون ، وفي موضع بعد التوحيد يثلثون ، وفي سبب نزول الابن زعموا من أجل (٣) خطيئة آدم ، وما قالوا به في ذلك من خلاف جميع الأمم ، فلم نترك لهم بعد هذا من قول ، يجهله منهم (٤) إلا كل جهول.

[نقض مذاهب النصارى]

ونحن إن شاء الله مبتدئون فرادّون ، لباب فباب بما يقولون ويحددون ، فليفهم ذلك من يريد مجادلتهم من أهل التوحيد والدعوة ، فإنا مقدّمون إن شاء الله من ذلك باب الأبوة والبنوة.

فقائلون لهم ، جميعا جوابهم (٥) : أخبرونا عن هذه الأسماء التي سميتم؟ وادعيتم من خرافات القول فيها ما ادعيتم؟! من أب زعمتم وابن روح قدس ، لم يدل على شيء منه قياس ولا حاسة من الحواس الخمس ، ما هذه الأسماء أسماء طبيعية ذاتية جوهرية؟! أم هي أسماء شخصية قنومية (٦)؟! أم تقولون هي أسماء حادثة عرضية؟! فإنكم إن كنتم إنما (٧) سميتم الأب عندكم أبا ، لأنه ولد بزعمكم ولدا وابنا ، فليس هذه الأسماء طبيعية

__________________

(١) سقط من (ج) : في.

(٢) في (ج) : ولم ينازع.

(٣) سقط من (ج) : أجل.

(٤) سقط من (ج) : منهم.

(٥) سقط من (ج) : جوابهم.

(٦) في (ج) : اقنومية.

(٧) سقط من (ج) و (د) : إنما.

٤١٧

ذاتية ، ولا أسماء أيضا قنومية (١) شخصية ، ولكنها حادثة عرضية ، عرضت (٢) عند حدوث أولاد ، بين الوالدين والأولاد ، ولسن (٣) بأسماء طبيعية ولا أقنوم ، لا في الروم ولا في غير الروم.

والطبيعية فإنما تسمى بذاتها وطباعها ، (٤) وبما يكمل ذلك كله لها من اجتماعها ، لأنا بالأسماء المعلقة بالعلة المشتقة من الأفعال المعتملة أعرف ، (٥) لأن اسم الطبيعة غير اسم الأقنوم ، واسم القنوم (٦) غير اسم الفعل المعلوم ، واسم الطبيعة ثابت ، لا اختلاف فيه ولا تفاوت ، إنما هو اسم لها محدود موقّف ، (٧) لا ينصرف فيها ولا يختلف ، فيدل على قنوم ، (٨) ولا فعل مفعول ، ولكنه اسم الشيء نفسه ، يدل عليه لا على جنسه ، كالأرض والسماء ، والنار والماء ، وأشباه ذلك من الأسماء ، التي تدل (٩) على أعيان الأشياء ، فهذه هي أسماء (١٠) الذات والطبائع ، لا أسماء الأقانيم والصنائع.

فأما أسماء القنومية ، التي ليست بطبيعية ولا عرضية ، فمثل إبراهيم وموسى ، وداود وعيسى ، وليس في الأسماء الطبيعية ، ولا في الأسماء الشخصية القنومية ، أبوة ولا بنوة ، ولا فعال (١١) ولا قوة ، إنما هي أسماء تدل على الأعيان ، كالانسانية التي تدل على الانسان.

وفيما بينا ـ والحمد لله ـ من تحديدنا الذي حددنا في الأسماء ، حجة لا يدفعها في

__________________

(١) في (ج) : اقنومية.

(٢) سقط من (أ) و (ب) و (د) : عرضت.

(٣) في (ج) : فليس. وفي (د) : وليست.

(٤) في (د) و (ج) : بطباعها وذاتها.

(٥) في (أ) و (ب) و (د) : ترك فراغا بما يسع سبع كلمات ، وقال في (أ) : بياض في الأم. وفي (د) : كذا.

(٦) في (ج) : الأقنوم.

(٧) في (ج) : موقوف.

(٨) في (ج) : أقنوم وعلى فعل. وفي (د) : قنوم ولا مفعول.

(٩) في (ج) و (د) : التي قد تدل.

(١٠) في (أ) : فهذه من أسماء.

(١١) في (ج) : ولا أفعال.

٤١٨

التسمية عندهم إلا من كان من أهل الجهل والعمى ، لأن الأسماء عندهم للأشياء ثلاثة أسماء:

اسم جوهر كالأرض والسماء.

واسم قنوم ، كفلان المعلوم.

واسم ثالث من عرض وحدث ، يسمى به كل عارض (١) محدث.

وزعمت الفرق الثلاث من النصارى ـ فنعوذ بالله من الجهل بالله (٢) ـ أنها تجد فيما في أيديها من كتب الأنبياء أن المسيح بن مريم هو الله ، وأنه هو ابن (٣) الله ، فجعلوا في قولهم هذا الابن أباه ، ثم رجعوا فجعلوا الأب هو إياه ، (٤) غفلة وسهوا واختلافا ، وعماية وتخرصا واعتسافا ، تصديقا لقول الله فيهم وفي أمثالهم ، ومن كان يقول من أهل الجهالة بمقالتهم ، (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) (١١) [الذاريات : ٨ ـ ١١].

وإنما أخذت النصارى وقبلت ، هذه الكتب فيما زعمت وقالت ، عند ما صلب عندهم المسيح صلى الله عليه من اليهود ، وليس أحد من خاصتهم ولا عامتهم عند النصارى بعدل ولا محمود ، ولا تقبل شهادته على يهودي مثله ، فكيف تقبل شهادتهم على الله تعالى وعلى رسله.

مع أنّ لما قالت النصارى من ذلك كله مخارج عندنا في التأويل صحيحة ، لا يعمى عنها ولا عما بيّن الله منها إلا من لم يقبل فيها من الله بيانا ولا نصيحة ، ولكن النصارى تأولت تلك الكتب بآرائها ، (٥) وعلى قدر موافقة أهوائها ، فضلّت في ذلك وما تأولت منه بعمى التأويل ، وأضلت من اتبعها عليه عن سواء السبيل.

__________________

(١) سقط من (ج) و (د) : عارض.

(٢) سقط من (ج) : بالله.

(٣) في (ج) : الله وهو ابن. وفي (د) : الله وابن.

(٤) في (ج) : الأب أباه.

(٥) في (ج) : بآرائهم.

٤١٩

فيقال إن شاء الله لهم فيما تأولوه من ذلك وادعوا ، وافتروا في ذلك على كتب الأنبياء وابتدعوا ، مما لم يسبقهم إليه أحد ، ولم يقل به قبلهم مفتر ولا ملحد : إنا لم ندرك نحن ولا أنتم الأنبياء ولا المسيح بن مريم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم ندرك نحن ولا أنتم أحدا من حواريه ، فنسأل من أدركنا منهم عما اختلفنا نحن وانتم فيه ، فتكتفوا (١) بمن أدركتم من الأنبياء عليهم‌السلام في التأويل ، ونجتمع نحن وأنتم على الحق فيما اختلفنا فيه من الأقاويل.

[قواعد للحوار]

ولا بد لنا ولكم من الانصاف ، فيما وقع بيننا وبينكم من الاختلاف ، فإن نحن تناصفنا ائتلفنا ، وإن فارقنا التناصف اختلفنا ، ثم لم نعد أبدا للائتلاف ، (٢) إلا بعودة منا إلى الانصاف. والتناصف هو الحكم العدل بعد الله بين المختلفين ، والشفاء الشافي الذي لا شفاء أبدا في غيره للمتناصفين ، فأنصفوا الحق من أنفسكم ، تخرجوا بإذن الله بإنصافكم من لبسكم ، وارفضوا للحق أهواءكم ، تسعدوا في دينكم ودنياكم ، وأقيموا ما أنزل إليكم (٣) من التوراة والإنجيل ، واتركوا الافتراء على الله فيها (٤) بعمى التأويل ، تهتدوا إن شاء الله لقصد سبلكم ، وتأكلوا كما قال الله من فوقكم ومن تحت أرجلكم ، وافهموا قول العزيز الوهاب ، فيكم وفي غيركم من أهل الكتاب : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)(٦٦) [المائدة : ٦٦] ، فكفى بهذا بيانا من الله في أهل الكتاب لقوم يعقلون.

__________________

(١) في (ج) : فنكتفوا.

(٢) في (ج) و (د) : أبدا إلى الائتلاف.

(٣) في (ب) : إليكم من ربكم من. وفي (ج) : إليكم ربكم في. وفي (د) : الله إليكم من ربكم من.

(٤) سقط من (ج) : فيها.

٤٢٠