مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

والمزاج نفسه فثمرة لا من مثلها ، وعقدة المزاج فليست كأصلها ، إذ أصلها اثنان وهي واحدة ، وإذ هما لها أصل وهي لهما عقدة ، فأيّ مكابرة أوحش ، أو محال قول أفحش؟! مما أدى إلى مثل هذا ، وما كان من القول هكذا؟!

فليعلموا ـ ويلهم ـ أن الله هو الذي صنع الأولاد للآباء ، وأنه لا يصنع الأكفاء (١) الأكفاء ، ولكن الله الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفؤا أحد.

وكيف يصنع والد ولدا؟! وإنما كان بالأمس مولودا ، إذا (٢) يكون الوالد من صنع ولده ، كما الولد من صنع والده ، لأنهما كفوان في الميلاد ، وولدان كالأولاد ، ولكن ذلك كما قال الله الشريك له ، وما بيّنه في كتابه ونزله ، (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)) [الشورى : ٤٩ ـ ٥٠].

ويقال إن شاء الله لهم من الناطق الظلمة فالمنطق خلاف الخرس وهو خير زعمتم؟! أم النور والظلمة جميعا فقد استويا في النطق والاستواء تشابه كما علمتم؟! أم الناطق النور؟ فالمنطق خير وشرور ، والشر إذا فهو في نوركم ، ويلكم ما أبين في هذا شناعة أموركم! وأشد مجونكم! وأعظم جنونكم! وأظهر السفه به وبغيره فيكم! وأغلب الدناءة فيه عليكم.

وزعموا أنهما حساسان ، (٣) فهما لا محالة في الحس مشتبهان ، ومشبه الشر لا يكون إلا شرا مؤذيا أليما ، ومشبه النور لا يكون عندهم إلا نورا كريما ، وفي مشابهة النور بالحس للظّلمة نفي ألا يكون (خيرا ، وفي مشابهة الشر للنور بالحس نفي أن لا يكون) (٤) شرا ، فكل منهما خير شر ، وشر خير ، (٥) وهو من القول فأحول ما يكون

__________________

(١) في (ب) و (د) : الأكفاء إلا الأكفاء. (زيادة).

(٢) في (ب) : إن. مصحفة.

(٣) في (ب) و (د) : أنها حساسات. مصحفة.

(٤) سقط من (ب) و (د) : ما بين القوسين.

(٥) في (ج) : فكل خير منهما خير شر وشر خير. وفي (د) : فكل خير منهما شر خير شر.

٣٨١

من المحال ، وأخبث ما قيل به في الإحالة من الأقوال.

ومن (١) قولهم إن الأشياء لا تتغير عن جواهرها ، (٢) وقد ترون أنها تتغير عن صورها ، فصورة النور مؤنسة مضيّة ، وصورة الظلمة موحشة ظلمية ، فإذا ما هما امتزجا عوين مزاجهما بصورة في المزاج (٣) أخرى ، ليست بما كان يرى ، لا مؤنسا مضيا ، ولا موحشا ظلميا ، فمن أين كانت هذه الصورة الثالثة؟ إلا أن الأمور حادثة ، ولكن القوم يلعبون بنفوسهم ، ويقولون بخلاف ما يجدون من محسوسهم ، وليس ببدع ممن جسر (٤) على قول الزور والبهتان ، أن يجحد بلسانه ما يدركه بشواهد العيان ، فيزعم أن الرطب يبس ، وعشر العدد خمس ، وإنما التبيان في الحقائق الموجودة ، ما يدرك منها بشواهدها المشهودة.

وزعموا أن الشيء لا يكون أبدا ، إلا مثل جوهره مجتمعا ومفردا ، وشأن النور العلو والارتفاع ، وشأن الظلمة السفول والاتضاع ، وكذلك شأن كل ضدين ، متى وجدا متضادين ، متى علا هذا ، هوى هذا ، فهو أبدا يهوي إذا ضده سما ، ويسمو إذا ضده هوى ، وفي فراق الشيء لشأنه ، حقيقة فنائه وبطلانه ، كالنار التي من شأنها التسخين ، واللين الذي لا يكون إلا وله تليين ، فمتى بطل شأناهما ، بطلت لا بد عيناهما ، لأنه لا حار إلا مسخّن ، ولا ليّن أبدا إلا مليّن.

وقد زعموا أن النور قد زال عن داره من العلى ، وصار إلى هذه الأرض السفلى ، وفي ذلك من تغيّره ، ما قد قيل من بطلان عينه. وكذلك الظّلمة في بطلانها ، إذا صارت إلى خلاف شأنها ، فصارت في منزلها سفلا ، إلى ارتفاع ومعتلى ، فهما في قولهم قد بطلا ، وقد يوجدان بالعيان علوا وسفلا ، وهذا نفس متناقض المحال ، وعين متدافع الأحوال ، إذ في أن يبطلا فقدانهما ، وفي أن يوجدا بطلانهما ، فعدمهما وجود ، وغيبتهما

__________________

(١) في (أ) : وأما.

(٢) في (ب) : جوهرها.

(٣) سقط من (ب) و (د) : في المزاج.

(٤) في (ب) و (ج) و (د) : ببديع. وفي (أ) و (ج) : خسر. وفي (ب) و (د) : حسر. وكلاهما مصحفتان. والصواب ما أثبت. والجسر : الإقدام ، والمضي ، والجرأة.

٣٨٢

شهود. فأيّ عجب أعجب؟! ومتلعّب ألعب؟! ممن رضي بهذا قولا ، وكان بمثله معتلا ، وفي هذا من أمرهم ، وما أوجدنا (١) فيه من ذكرهم ، كفاية للناظر المبصر ، بل قد يكتفي به غير المفكر ، والحمد لله حمدا دائما مقيما ، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما.

فأما خرافات أحاديثهم ، وترّهات (٢) أعابيثهم ، فهزل ليس فيه جد ، ولا مما يجب له رد ، (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة : ٧٩]. وبأي متلعّب قاتلهم الله يتلعبون ، ألم يروا أسماءهم التي يسمون ، وما منها لا (٣) غيره يعظمون. فمنها عندهم : أبو العظمة ، وأم الحياة المتنسمة ، وحبيب الأنوار ، وحراس الخنادق والأسوار ، والبشير والمنير ، والانسان القديم ، وما ذكروا من الأراكنة (٤). التي عليهم بها من الله ألعن اللعنة ، وما قالوا من عمود الشبح ، التي بها وبقولهم فيها أقبح ما يستقبح ، وأكذب أكاذيب الزور ، وأعجب عجائب ما وصفوا من الظلمة والنور ، فزعموا أن أسماءهم هذه التي افتروا ، وفننوا فيها بأعباثهم (٥) وكثروا ، هي رد الظلمة ـ زعموا ـ عن النور ، أفلا ردت عن أنفسها ما هي فيه من الشرور!!

وزعموا أن هؤلاء لأجزاء النور مصطفّون ، وهم في أنفسهم بالظلمة مختلطون. فيا ويلهم ويلا ويلا ، (٦) من أقاويلهم قيلا قيلا ، في أبي عظمتهم ، وأم حياتهم ، وحبيب أنوارهم ، وبشيرهم ومنيرهم ، وعمود شبحهم وإنسانهم ، وما يعبثون فيه من أراكنهم ، فعظموا منها غير معنى ، وسموها كذبا بالأسماء الحسنى ، وهم يزعمون عنها ـ ويلهم ـ أنها مخالطة في حال للأقذار ، (٧) ملتبسة فيما زعموا بالأشرار ، تنكح في بعض الأحايين

__________________

(١) في (ب) و (د) : وما وجدنا.

(٢) الترّهات : جمع ترّهة : وهي الأباطيل.

(٣) في (أ) : إلا غيره. مصحفة.

(٤) الأراكنة : جمع أركون : العظيم من الدهاقين. والدهقان : التاجر العظيم. فارسي معرب.

(٥) في (ب) و (د) : بأعيانهم. مصحفة.

(٦) سقط من (ب) و (د) : ويلا ويلا.

(٧) في (ب) و (ج) : للأقدار. وفي (أ) : للاقتدار. كلاهما مصحفتان.

٣٨٣

نكاحا ، وتؤكل في بعضها صراحا ، وتقسم تارة (١) وتحدث ، ثم تقيم في ذلك وتمكث ، فيا لعباد الله إن هذا لهو العبث العابث ، والمقال الفاسد العائث ، الذي لم يقل بمثله سوى أهله قط قائل ، ولم يسأل فيه بمثل عجز مسائل ابن المقفع سائل ، ولقد ـ ويله ـ أكثر في المسألة والمسألة لا تكثر (٢) وطغى ، حتى هممنا أن لا نجيبه لو لا مخافة أن يكون على ذلك المحق (٣) متّبعا (٤) ، وذلك لجهله ، بما سقط إلينا من مسائله ، وخلّط في (٥) قوله ، ولكذبه أيضا فيما ينحل وينتحل ، وكثرة ما يختلف في كل مسألة وينتقل ، وما أحسبه جالس قط متكلما ، ولا أحسن لمسائله تفهّما.

فليعلم من قرأ كتابنا هذا وفهم ما فيه لهم ، جوابنا إن هو كان من غيرهم ، عمى مذهبهم وصممه ، وإن كان ممن تلبس بضلالتهم فليحذر غير الله ونقمه ، فلقد قذفوا قذفا ، مسخا وخسفا ، وكادت السماوات أن يتفطرن وشوامخ الجبال أن تخر بدون ما قالوا ، ولأصغر أضعافا مما نالوا ، لأن الذين قالوا قبلهم الأقوال ، وجعلوا لله سبحانه الأمثال ، أثبتوه سبحانه ولم ينفوا ، وإن هؤلاء أنكروا ونفوا ، فلا يغترّنّ منهم مؤخّر في الجزاء ، بما يرى من استدراجه بالاملاء ، فإن الله يقول لا شريك له ، وتعالى عن كذب الكاذبين قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)) [آل عمران : ١٧٨]. ويقول سبحانه : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)) [الأنعام : ٤٤ ـ ٤٥]. ويقول سبحانه : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى

__________________

(١) في (د) : ساعة.

(٢) يعني : أن من شأن السؤال أن يكون قليلا مختصرا.

(٣) المحق : النقص ، والمحو ، والإبطال.

(٤) في جميع المخطوطات : متبعا. وغير بعيد أن تكون الكلمة (مبتغى) وغيّرتها أيدي النساخ.

(٥) في (ب) و (د) : من.

٣٨٤

أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) (٤٥) [إبراهيم : ٤٢ ـ ٤٥].

فإن قال قائل منهم يحذرني النار ، ويخبرني عن كتابه الأخبار ، ولست بهما بموقن ، ولا لخبره عنهما بمؤمن. (١) فليعلم أن أقل ما عليه فيما أنذر ، وفيما يعقل من يعقل فيما حذّر ، خوف الممكن المطنون ، إذا كان غير مستنكر أن يكون ، وإن الناس لو كانوا لا يحذرون إلا ما يعلمه من حذروه ، ولا ينذر المنذرون قوما إلا ما عاينوه وأبصروه ، لقلّت النذر ، وفني الحذر ، وإنه لو حذّر (٢) جبارا بل إنسانا ذليلا لارتاع له ارتياعا ، ولاستشعر من الخوف لتحذيره وهو هو أفزاعا! فكيف بملك الملوك؟! ومن له ملك كل مملوك؟! ذلك الله العلي الجبار ، الذي بإرادته كانت الظّلم والأنوار ، والسلام على من اتبع الهدى ، وآثر رضى الرب الأعلى ، فرضي من الأشياء مرتضاه ، واصطفى من الأمور مصطفاه ، فأدى إليه سبحانه في نفسه حقه ، وعلم أنه هو الذي فطره وأحسن خلقه ، وأن له عليه فرضا واجبا ، أن يكون لما أحبّ محبا ، ومن كل ما كره من الأمور قصيّا ، ولمن والى من خلقه وليا ، ولمن عادى سبحانه من أهل الأرض عدوا ، فإنه لا يعادي سبحانه إلا مسيئا أو سوءا ، والحمد لله رب العالمين ، وصلواته على محمد وأهله الطاهرين.

تم الرد على ابن المقفع ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا.

* * *

__________________

(١) في (ب) و (د) : موقن. وفي (ب) و (د) : بخبره. والصواب : لخبره. وله يشهد له قوله تعالى (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا). وفي (أ) : بموقن. وفي (ب) : مؤمن.

(٢) في (ب) و (د) و (ج) : حذرت. ويبدو أنها مصحفة. لأن الفعل مبني للمجهول. ونائب الفاعل (ضمير القائل). السابق ذكره.

٣٨٥
٣٨٦

الرد على النصارى

٣٨٧
٣٨٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي لم يزل ولا يزال ، وله الكبرياء بديّا والجلال ، البري من كل تغيّر وزوال ، وتبدّل وحركة وانتقال ، أو فناء أو احتيال ، المتعالي عن أن يكون لشيء أصلا متأصلا ، أو عنصرا من عناصر الأشياء كلها متحللا ، فيكون كواحد منها ، أو كما بان من فروعها عنها ، فكثر من قلته بتفرع بعد قلة ، أو عزّ بكثرته بتجمع من ذلة ، ولو أن ذلك ، كان فيه كذلك ، لعاد غيره له ندا ومثلا ، إذ كان له سبحانه محتدا (١) وأصلا ، ولكان حينئذ لكل ما كان منه ، ووجد من فروعه وعنه ، ما كان من التوالد له ، إذ كان المتولد منه مثله.

[مشابهة الفروع للأصول]

وكذلك يوجد لكل فرع كان من أصل ، ما يوجد لأصله من التوالد مثلا بمثل ، كفرع ما يرى من الأشياء كلها ، التي تتولد يقينا عيانا من نسلها ، مثل ما يتولد غير مرية من أصلها ، كما يرى من ولادة الأبناء ، لمثل ما يتولد من الآباء ، سواء ذلك كله سواء.

وكذلك ما يرى من متولد الشجر وغير الشجر ، فكالأنثى في ذلك أجمع والذكر ، يتولد في ذلك كله من أولاده (٢) ، ما يتولد سواء من والده ، فكل شيء أبدا كان ممكنا في أصل ووالد كون وجوده ، فمثله ممكن سواء في نسله ومولوده ، لا يمتنع مما قلنا به في ذلك وقبوله ، إلا مكابر في ذلك لعلمه ومعقوله. ولذلك وما فيه من الامكان ، وما يدخل به على أهله من النقصان ، ما تقدس الله عنه ، وجل وتطهر منه ، فلم تمكن فيه منه سبحانه ممكنة في فكر ولا مقال ، وكان القول عليه جل جلاله بذلك أحول محال ، إذ في أن يكون شيء له ولدا ، وأن يكون لشيء أصلا ومحتدا ، إبطال الإلهية والربوبية ،

__________________

(١) في (ج) : إذا كان سبحانه. والمحتد : الأصل والطبع.

(٢) في (ج) : أولاد.

٣٨٩

وزوال الأزلية والوحدانية ، وإذ لا يكون واحدا من كان له ولد أبدا ، ولا يكون أزليا من كان أبا أو والدا ، (١) لأن الابن ليس لأبيه برب ، وكذلك الرب فليس لمربوب بأب ، إذ كان الابن في الذات هو مثله فكلاهما من الربوبية قاص متبعّد ، إذ ليس منهما من هو بها متفرد متوحد. لأن الربوبية لا تمكن أبدا إلا لواحد ، ليس بأصل لشيء ولا ولد ولا والد.

ولكل ولد في (٢) ذاته ، ما للوالد من صفاته ، وكذلك والده فله في الذات ، مثل ما للولد في ذلك من الصفات ، كالانسانية التي للابن منها ما لأمه وأبيه ، وفي الأبوين منها ومن كمالها مثل ما فيه ، فليس له من الانسانية وحدودها ، ولا مما يوجد فيه وفيهما من موجودها ، أكثر مما لهما منها ، وكل واحد منهما فغير مقصر عنها ، ولتمامهما جميعا فيها ، وفطرة الله لهما عليها ، كان الابن ولدا لهما ونسلا ، وكانا له بها محتدا وأصلا ، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه ، لعيسى صلوات الله عليه ورضوانه ، فيما نزل من الكتاب ، في يوم البعث والحساب ، توقيفا وتعريفا له وللعباد ، على أنه قد يجب للوالد في الذات ما يجب للأولاد ، وتوبيخا لمن أفرده دون أمه في العبودية والإلهية ، وحالهما في الذات حال واحدة مستوية ، فعبدوه عماية وجهلا دونها ، وهم يعلمون أنه ابنها ومنها ، ويوقنون فلا يشكّون أن أباها أبوه ، فهي وآباؤها أولى منه بما أعطوه ، إذ كان لو لا وجودهم لم يوجد ، ولو لا ولادتهم له لم يولد.

فكيف يعبدونه دونهم ، ولم يكن قط إلا منهم ، فهو في الذات كهم ، إلا أن يفرقوا بينه وبينهم ، بحال يخصونه بها دونهم ، أو بغير ذلك من فعل من الأفعال ، هو سوى ما يجمعهم وإياه في الذات من الحال ، فكيف وذلك غير قولهم ، وما يبنون عليه من أصلهم.

[عيسى بشر]

فاسمعوا لقول الله في ذلك وبيانه ، وما بيّن فيه جل جلاله من تفصيله وفرقانه ، إذ

__________________

(١) في جميع المخطوطات : كان والدا أو أبا. والصواب ما أثبت.

(٢) في (ج) : من.

٣٩٠

يقول له صلى الله عليه ، في ذلك من غير ما سخطة منه عليه ولا لوم فيه (١) : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦)) [المائدة : ١١٦] ، فسبح الله جل جلاله إكبارا له عن أن يقول في ذلك على الله علّام ما كان وما يكون بقول إفك مفتر مكذوب ، لا يصح فيه أبدا قول في فطرة ، ولا يقوم في سليم عقل ولا فكرة.

وقال صلى الله عليه : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)) [المائدة : ١١٧] ، فأنبأهم صلى الله عليه أنه عبد الله (٢) كما هم كلهم جميعا عبيد ، (٣) وأخبر الله سبحانه من قوله في ذلك بما لا تنكره النصارى كلها وإن اختلفت في أديانها ، وفرّقتها البلدان في كل مفترق من أوطانها ، لما رأوا منه عيانا ، وأيقنه من غاب منهم إيقانا ، من عبادته عليه‌السلام لله واجتهاده في طاعة الله ، وكان في ما عاينوا (٤) من مشابهته لهم في الخلقة دليل مبين على أنه عبد الله ، يجري عليه من حكم الله في أنه عبد لله ما جرى عليهم ، بما (٥) بان من أثر تدبير الله وصنعه فيه وفيهم.

وفيما قلنا من ذلك ومثله ، في أن (٦) الفرع من الشيء له ما لأصله ، ما يقول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١)) [الزخرف : ٧٤]. يخبر جل جلاله عن أنه قد يجب للولد ما يجب

__________________

(١) في المخطوطات : عليه فيه ولا لوم. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) في (أ) و (د) : عبد له كما هم جميعا عبيده.

(٣) في (أ) و (د) و (ج) : عبيده. والتصحيح من نسخة أشار إليها المستشرق الألماني.

(٤) في (ج) : ما عاينوه.

(٥) في (ج) : يجري. وفي (د) : مما.

(٦) في (د) : وأن الفرع.

٣٩١

للوالدين (١) في كل ما يجب لهم بالطبيعة والذات ، لا فيما يجب من ذلك بالأعراض المحدثات.

ولو كان عيسى صلى الله عليه كما قالوا ربا وإلها ، وعن أنه لله عبد أو صنع معظما في ذاته (٢) منزّها ، لكان لأمه من ذلك ما له ، إذ كانت في الذات مثله ، بل لكان ينبغي لمن ولده أن يكون أعلى من ذلك منزلة منه ، إذ كان وجوده صلى الله عليه به وعنه.

وليس أحد من النصارى يثبت لمريم ما يثبت لابنها من الإلهية ، بل كلهم يقول : إنها أمة من إماء الله محدثة غير قديمة ولا أزلية ، وقد يلزمهم صاغرين فيها ، من إضافة الإلهية إليها ، ما قال الله تبارك وتعالى فيهما ، إذ الحكم واقع بالاشتباه (٣) في الذات عليهما ، فهي في ذلك كله كولدها ، إذ روحه من روحها وجسده من جسدها.

فإن لم يكن ذلك ، فيهما كذلك ، زالت البنوة عنه منها ، وزال أن تكون له أمّا عنها ، فلم تكن له أمّا ولم يكن لها ابنا ، إذ لم تكن إلا موضعا له ومكانا ، إلا أن يجعلوا الأماكن أمهات لما كان فيها ، فيقع ما قالوا من أنها أم له عليها.

فأما إن جعلوها (٤) من طريق ما يعقل أمّا له ، فقد جعلوها في الطبيعة لا محالة مثله.

وإذا كان ذلك ، فيهما كذلك ، جعلوه صاغرين كأمه إنسانا لا ربا ولا إلها ، وكان الناس كلهم إذ هو مثلهم في ذلك له أمثالا وأشباها ، لا افتراق بينه وبينهم في الإنسية ، ولا تفاوت بينه وبين جميعهم في الجنسية ، ولذلك كان يطعم صلى الله عليه كما يطعمون ، ويألم مما يؤلمهم كما يألمون ، ويقيمهم كما يقيمهم الشراب والطعام ، ويعرض له الحزن والغموم والاهتمام.

والنصارى كلها فقد تقر بطعمه وحزنه واغتمامه ، وتحمده بما كان من صبره

__________________

(١) في (أ) و (د) : للوالد.

(٢) سقط من (أ) و (د) و (ج) : معظما في ذاته.

(٣) في (د) : في الاشتباه.

(٤) في (د) : يجعلوها.

٣٩٢

وآلامه ، التي كانت وصلت إليه عندهم في الضرب والصلب ، وما كان يلقى في سياحته وأمره ونهيه من الدؤب والتعب ، وفيما (١) جعل الله من طعمه وأكله من الآيات البينة الجلية، ما يبطل ما قالت به النصارى فيه من الأقوال الكاذبة المفترية الرديّة ، وفي نسبة الله له المعقولة في الدنيا والآخرة إلى أمه ، ما يدل ـ والحمد لله ـ من رشد على أنها من أصله وجرمه ، (٢) وأنه في ذلك كله كمثلها ، إذ هو منها ومن نسلها ، آباؤها آباؤه ، وغذاؤها غذاؤه.

فليفهم هذا ـ من أمره وأمرها ، وعند ذكره في النسب وذكرها ـ من يفهم ويعقل ، ولا يتجاهل منه ما لا يجهل. وليعلم أن قول الله سبحانه كثير في كتابه : ابن مريم ، وترديده في ذلك لذكره بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيه من تيقن الثّلج ، (٣) وغوالب الحجج ، التي يثلج (٤) بها كل قلب ، ويغلب فلا يعلى بغلب ، إذ تقرر من ولادتها له ما لا ينكره من النصارى ولا غيرها منكر ، ولا يتحير فيه من (٥) كل من عرفه بها ولا بما كان له من ولادتها متحيّر ، إذ جعله الله سبحانه ابنها ، وجوده منها وعنها ، منها (٦) كونه وفصوله ، وأصولها كلها أصوله ، وكل ما لزم فرع شيء من تغيير أو فناء لزم أصله ، وكذلك كل ما كان من ذلك للأصل فهو له ، لا يأبى ذلك ولا يكابره ، إلا فاسد العقل حائره (٧).

وفيما قلنا به والحمد لله من ذلك ، وأن (٨) عيسى صلى الله عليه كذلك ، ما يقول الله سبحانه : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ

__________________

(١) في (ج) و (د) : ونهيه والدءوب. وفي (أ) و (ب) : وما جعل.

(٢) الجرم : الجسد.

(٣) في (ج) و (د) : يقين. والثّلج : اليقين.

(٤) يسكن ويطمئن.

(٥) سقط من (ج) : من.

(٦) سقط من (ج) : منها.

(٧) في (أ) : جائره. وفي (ج) و (د) : حائر.

(٨) في (ج) : وفي أن عيسى. وفي (د) : في أن عيسى.

٣٩٣

أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)) [المائدة : ٧١] ، فأي آية أدل لهم على أنه مثلهم من أكله للطعام لو كانوا يعقلون ، فلقد جهلوا من هذا ـ ويلهم ـ ما لم يجهل قوم نوح إذ يقولون : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون : ٣٣].

[مصادر عقائد النصارى]

ومن قبل ما قالت به النصارى في المسيح بن مريم ما قال بمثل قولهم المشركون ، فزعموا أن ملائكة الله المقربين ، ولد وبنات لله رب العالمين.

ومنهم ما (١) قبلت النصارى أقوالها ، وحذت في الاشراك بالله منهم مثالها ، وهو قول كان يقول به في الأوائل الروم والقبط وأهل الجاهلية ، من كان يقول في النجوم السبعة بتثبيت الربوبية لها والإلهية ، وكانوا يزعمون أن النجوم السبعة ملائكة لله ناطقة ، وأنها آلهة مع الله ـ لما تم بها (٢) كونه ـ خالقة ، وأن الله سبحانه صنعهن منه صنعا ، ولم يبتدعهن لا من شيء بدعا ، فلما أكملهن تبارك وتعالى وتم تمامهن ، كنّ كلهن به وعنه قال لهن :

أنتن آلهة الإلهية بكنّ عقد كل معقود وحل كل محلول ، وزعموا أن بهن وعنهن كانت من الحيوان المائت (٣) جعله كل مجعول ، بهن كان وجوده وقوامه (٤) ، ومنهن كان صنعه وتمامه ، وأنهن (٥) علة واسطة بين الله وبين الأشياء ، وأن الله الصانع لهن ولغيرهن به ماتت (٦) الأحياء ، وكان الله لا شريك له إله الآلهة العليّ الذي لا يمثلونه بشيء ، والأول القديم الذي لم يزل تبارك وتعالى من غير أول ولا بدي ، وأنه هو المبتدئ (٧)

__________________

(١) في (أ) : من قبلت. وما ، هذه زائدة ، كثيرا ما يستخدمها الإمام.

(٢) في (ج) : تم به كونها خالقة.

(٣) في (ج) : الميت.

(٤) في (ج) : قيامه.

(٥) في (د) : وأنه.

(٦) في (ج) و (د) : بهن. وفي (ج) : ما بث.

(٧) في (د) : المبتدئ بإنية الصانع.

٣٩٤

الصانع للنجوم السبعة ، المتعالي عن مشابهة كل مصنوع كان أو يكون وكل صنعة.

وكذلك قالت النصارى : إن الله خلق الأشياء بابنه نفسه ، وحفظها ودبّرها بروح قدسه ، وإن الابن خلق الخلق وفطره ، وإن روح القدس حفظ الخلق ودبّره ، وزعموا أن قوة الخلق غير قوة الحفظ والتدبير ، وأن الأب لم ينفرد من ذلك كله بقليل ولا بكثير ، وأن حال الأب والابن وروح القدس في الإلهية واحدة ، وأن عبادة كل واحد منهم (١) عليهم واجبة.

وكذلك زعم المشركون من أصحاب النجوم أن الله خلق الحيوان الميت ودبّره بالنجوم السبعة ، وأن بهن وبما جعل الله من القوة فيهن كانت من ذلك كل بريته وكل صنعة ، فأقوالهم كلهم (٢) في أن لله ولدا واحدة (٣) غير مفترقة ، وفريتهم جميعا في ذلك على الله فكاذبة غير مصدقة ، إذ شبهوا بالله غيره ، فجعلوه ولده ونظيره.

وفي القول بالولادة والاشتباه ، (٤) إبطال من قائله لكل إله ، لأنهما إذا تماثلا واشتبها ، لم يكن كل واحد منهما إلها ، لأنه لا يقدر مع تشابههما أحدهما على إبطال الآخر ، وإذا لم يقدر على إبطاله كان عاجزا غير قادر ، ومن كان في شيء من الأشياء كلها عاجزا ، كان عجزه له (٥) عن الربوبية والإلهية حاجزا.

وإن قال قائل كان (٦) كل واحد منهما قادرا على إبطال نظيره ، ففي ذلك أدل الدلائل على نقص كل واحد منهما وتقصيره ، وإذا كان كل واحد منهما منقوصا مقصّرا ، (٧) لم يكن من الأشياء كلها لشيء صانعا مدبرا ، ليس له كفؤ من الأشياء كلها ولا مثل ولا نظير ، ولم يوجد في السماء ولا في الأرض ولا فيما بينهما صنع ولا تدبير ،

__________________

(١) سقط من (أ) و (د) و (ج) : منهم.

(٢) في (د) : كلهم جميعا في.

(٣) في (أ) : أوجده. مصحفة.

(٤) في المخطوطات : في الولادة. ولعل الصواب ما أثبت. وفي (د) : والأشياه.

(٥) سقط من (ج) : له.

(٦) في (د) : فإن قال. وسقط من (ج) : كان.

(٧) في (ج) : مقسّرا.

٣٩٥

والصنع فقد (١) يرى بالعيان في ذلك كله قائما موجودا ، فكفى بذلك دليلا بيّنا على أن لهذا الصنع العجيب صانعا لا والدا ولا مولودا.

ووجود (٢) صانعه أبين وأوجد من وجود كل موجود وجودا ، وأنه واحد صمد ليس والدا ولا مولودا ، ولن يجد ذلك أحد أبدا ، إلا الله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يزل تبارك وتعالى واحدا صمدا ، ليس من ورائه أزلي مصمود ، ولا أوّلي من الأشياء موجود ، فيكون متقدما أوّلا قبله ، فلا يكون الله هو الخالق له ، بل هو الله الخالق الأول القديم ، الذي ليس لغيره (٣) عليه أولية ولا تقديم ، ولكن كل ما سواه ، فخلق ابتدعه وأبداه ، فوجد بالله خلقا بديا بعد عدمه ، بريا من مشاركة الله في قدرته وقدمه ، بينة آثار الصنع والتدبير فيه ، شاهدة أقطاره بالحدث والصنع عليه ، مختلف مؤلف ، ضعيف مصرّف ، مجسم محدود ، متوهم معدود ، قد ناهاه قطره وحدّه ، وأحصاه مقداره وعدّه ، فهو كثير أشتات ، له نعوت وصفات ، كثيرة متفاوتات ، كذلك الحيوان منه والموات.

فليس يوجد أبدا الواحد الأزلي ، الذي ليس له مثل ولا نظير ولا كفي ، (٤) إلا الله تقدست أسماؤه ، وجل ذكره وثناؤه ، وفي ذلك وبيانه ، ومن حججه وبرهانه ، ما يقول الله جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله ، فيما نزل من كتابه المجيد ، في سورة الإخلاص والتوحيد : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) [الإخلاص : ١]. والأحد فمن ليس له والد ولا ولد ، (اللهُ الصَّمَدُ) (٢) [الإخلاص : ٢] والصمد فهو الغاية في كل خير والمعتمد ، الذي ليس من ورائه ، من يسمى بأسمائه ، فيستحق منها كما استحق الله شيا ، فيكون لله فيما يسمّى به منها كفيا ، كما قال الله سبحانه في كتابه ، وما نزل من

__________________

(١) في (ج) : قد.

(٢) في (ب) : ووجوده أبين وأوجد من وجود كل موجود وجودا. وفي (ج) : مثل (ب). إلا أنه سقط قوله (وجودا). وفي (د) مثل (أ). وسقط منه قوله : (وجودا).

(٣) في (ج) : لغير عليه.

(٤) في (ج) : كفو.

٣٩٦

البيان (١) على عباده ، فيما كان لله (٢) تبارك وتعالى من أسمائه الحسنى متسميا : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (٦٥) [مريم : ٦٥].

وفيما نزّل سبحانه من أنه ليس له كفؤ ولا نظير ، ما يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. و (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) [الأنعام : ١٠٣].

وفي أنه ليس له شبيه ولا كفي ، (٣) ولا مثيل ولا بدي ، ما يقول الله سبحانه : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ٣ ـ ٤]. وكيف يولد من لم يزل واحدا أولا؟! أو يلد من جل أن يكون عنصرا متحللا؟! (٤) لا كيف والحمد لله أبدا! يكون الله والدا أو ولدا! فنحمد الله على ما منّ به علينا في ذلك من البيان والهدى ، ونعوذ بالله في الدين والدنيا من الضلالة والردى.

فليسمع ـ من قال بالولد على الله ، من كل من أشرك فيه بالله ، من اليهود والنصارى ، والملل الباقية الأخرى ـ حجج الله المنيرة في ذلك عليهم ، ففي أقل من ذلك بمنّ الله ما يشفيهم ، من سقم كل عمى عارضهم فيه أو داء ، ويكفيهم في كل قصد أرادوه أو اهتداء ، ففي ذلك ما يقول الله سبحانه لهم كلهم جميعا ، ولكل من كان من غيرهم لقوله فيه سميعا ، ممن لم يعم عن قول الله فيه عماهم ، ولم يعتد على الله فيه اعتداءهم : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] ، فقال الله إنكارا لقولهم فيه وردا : (سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧) [البقرة : ١١٦ ـ ١١٧].

__________________

(١) في (د) : البيان به على.

(٢) في (د) : كان الله.

(٣) في جميع المخطوطات الموجودة (شبيه ولا مثل أو مثيل ، ولا كفيء ولا بدي). وما أثبت اجتهاد مني جريا على نفس الإمام.

(٤) في (ج) : متخللا.

٣٩٧

وفي ذلك وتبيينه ، وفي افترائهم فيه بعينه ، ما يقول الله سبحانه : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) [الأنعام : ١٠٠ ـ ١٠٣]. ومعنى خرقوا ، فهو : افتروا واخترقوا ، باطلا وبهتانا ، وعماية وجهلا وطغيانا.

وتأويل «سبحن» ومعناها ، فليعرف ذلك من قراها : إنما هو بعد الله وتعاليه ، عما قالوا به (١) من اتخاذ الولد فيه ، وقول القائل سبحان ، إنما معناه : بعدان ، كما يقال بينك وبين ما تريد ، سبح يا هذا بعيد ، فالسبح هو البعيد (٢) الممتنع ، والأمر المتعالي المرتفع.

فما الذي هو أمنع وأبعد ، من أن يكون الله والدا أو يولد ، وهذا فهو قول متناقض ، محال داحض ، لا يقوم أبدا في فكرة ولا وهم ، ولا يصح به كلام من متكلم.

ولذلك من محاله ، وتناقضه وإبطاله ، ما يقول الله سبحانه تعاليا عن قولهم وبعدا : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] ، والمتخذ عند كل أحد فهو المستحدث المصطنع ، وما اتّخذ فاصطنع (٣) فهو يقينا المحدث المبتدع ، والوالد كما قد بينا في صدر هذا الكتاب كالمولود ، في مالهما بالذات والطبيعة من (٤) الخاصية والحدود ، فجعلوا الإله البديع كالمبدوع ، والرب الصانع للأشياء كالمصنوع ، وكلهم يزعم أن الله صانع غير مصنوع ، ومبتدع لجميع البدائع غير مبدوع ، وإذا صح أن السماوات والأرض وما فيهن لله ، وأن قيام ذلك ووجوده وصنعه بالله ، وما قضى من أمر فإنما قضاؤه له ، بأن

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : به.

(٢) في (ج) : البعد.

(٣) في (ج) : واصطنع.

(٤) سقط من (د) : من.

٣٩٨

يبتدع صنعه وفعله ، لا بنصب ولا علاج ، (١) ولا أداة ولا معاناة ولا احتياج ، (٢) ولكنه يتم كونه وصنعه ، إذا هو أراده وشاءه.

وإذا قيل أمر الله في خلقه وقضى ، فإنما هو من الله بمعنى أراد الله وشاء ، وما ذكر من قنوت الأشياء لله ، فإنما هو قيامها ووجودها بالله ، وتأويل قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (١١٦) ، إنما هو كل به ومن أجله كائنون.

وسواء في هذا الباب ، وفيما ذكر منه (٣) في الكتاب ، قلت : له ، وبه (٤) ومن أجله ، وكما يقال : فعلت ذلك بك ولك ، وكذلك يقال : فعلت ذلك بك ومن أجلك.

ولما أن صح بأحق الحقائق ، وأوجد ما يكون من الوثائق ، أن السماوات والأرض ومن (٥) فيهن لا تكون أبدا إلا من واحد ، صح أن ذلك لا يكون أبدا من مولود ولا والد ، فكان القول ـ مع صحة هذا ونحوه وأمثاله ، بما قالوا به في الولد ـ من أخبث القول وأحول محاله!! وأيّ تناقض في مقال يقال أقبح؟! أو محال بتناقض (٦) فاحش أوضح؟! من قولهم اتخذ الله ولدا فجعلوه (٧) متخذا مولودا! وهم يقولون مع قولهم ذلك أن الولد لم يزل قديما موجودا ، لم يفقد قط ولم يزل ، ولم يتغير حاله ولم يتبدّل ، فمن أين يكون مع (٨) هذا القول منهما ولد ووالد؟! وأمرهما جميعا في القدم والأزلية واحد! وكيف يكون متخذا حدثا من لم يزل موجودا قديما ، وإنما يكون المتخذ المستحدث من كان قبل أن يتّخذ مفقودا عديما. فقالوا جميعا كلهم : هو الله (٩) وولده ، ثم زعموا مع

__________________

(١) علاج ومعالجة : المحاولة.

(٢) سقط من (أ) و (ب) : ولا احتياج.

(٣) في (د) : من.

(٤) في (ج) : قلت به وله.

(٥) في (ج) : ما.

(٦) في (أ) و (د) : ومحال يتناقض.

(٧) في (ج) و (د) : فجعلوا الولد متخذا.

(٨) في (ج) و (د) : (مع الله هذا). وهو سهو من الناسخ.

(٩) في (أ) و (ب) و (ه) : و (هو ابنه وولده). وهو سهو فيما يبدو.

٣٩٩

ذلك أنه ابنه يسبحه ويعبده ، والمولود (١) عندهم في الإلهية والأزلية كالوالد ، فصيّروا الرب المعبود في ذلك كله كالمربوب العابد ، فهل وراء ما قالوا به من التناقض في ذلك على الرب؟! من مزيد في تناقض أو محال أو إبطال أو إفساد أو كذب ، يقول به قائل مناقض محيل ، ويضل (٢) في مثله إلا تائه ضليل ، قد عظم في المحال والتناقض إسرافه ، وقلّ في المقام بالباطل لنفسه إنصافه ، فهو يلعب في حيرته ساهيا ، ويخوض في غمرته لاهيا.

وفيه والحمد لله وفي أمثاله ، ممن قال على الله بمقاله ، ما يقول الله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٨٣) [الزخرف : ٨٢ ـ ٨٣]. وفي ذلك ما يقول سبحانه : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (٤١) [سبأ : ٤٠ ـ ٤١].

وفي إحالة قول من قال بالولد ، من أهل الكتاب ومن كل ملحد ، ما يقول سبحانه: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)) [مريم : ٨٩ ـ ٩٥]. والإدّ من الأمور والأقاويل ، فما امتنع امكانه في العقول ، فلم يطق له أحد احتمالا ، وكان في نفسه فاسدا محالا ، وهو كما قال الله سبحانه : (وَما يَنْبَغِي). وذلك فما ليس بممكن ولا متأتي (٣).

فأي ممتنع من الأمور أبعد إمكانا (٤)؟! مما قالوا به في الولد على الله بهتانا ، وهل

__________________

(١) في (أ) و (ب) و (د) : والمعبود.

(٢) في (ج) و (د) : أو يضل.

(٣) في (ج) و (د) : ولا متأت.

(٤) في (أ) و (ب) : مكانا.

٤٠٠