مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

وكذلك الأمر في كل معلوم أو مجهول ، حتى ينتهي إلى الله الذي لا يدرك إلا بالعقول ، فيجده كل عقل سليم ، وفكر قلب حكيم ، واحدا لا اثنين ، وشيئا لا شيئين ، عظيم ليس من ورائه عظيم ، وعليم ليس فوقه عليم ، ذلك الله الرحمن الرحيم ، الواحد الأول القديم ، القدوس الملك الحكيم ، الذي لا تناويه الأعداء بمقاتلة ، ولا تكافيه الأشياء بمماثلة ، وهو الله الذي لم يلد ولم يولد ، والصمد الذي ليس من ورائه مبتغى يصمد ، غاية طلب الخيرات ، ونهاية النهايات ، وإذا صحح حجتنا في هذا صوابنا ، فهو لمن سأل عن وحدانية الله جوابنا.

فأما ما ذكر (١) بعد هذا من القيل (٢) فحشو مسربل بهذيان الفضول ، ليس له مرجوع نفع ، ولا يحتاج له إلى دفع.

أرأيتم حين يقول : انقلب عليه خلقه الذين ـ زعم ـ هم عمل يديه ، ودعاء كلمته ، ونفخة روحه ، فعادوه ، وسبوه وآسفوه ، وأنشأ تعالى يقاتل بعضهم في الأرض ، ويحترس من بعضهم في السماء بمقاذفة النجوم ، ويبعث لمقاتلتهم ملائكته وجنوده.

فيا ويل ابن المقفع ما أكذب قيله! وأضل عن سبيل الحق سبيله!! متى قيل له ـ ويله ـ ما قال؟! أو زعم له أن الأمر في الله كذا كان؟! ومتى ـ ويله ـ قلنا له أن من قوتل هو من قذف بالقذف؟! وأن الله في نفسه هو المحترس أف لقوله ثم (٣) أف!! بل الله (٤) هو المانع لأعدائه ، من أن يصلوا من العلو إلى مقر أوليائه ، تعريفا ـ بعدل (٥) حكمه ، وفيما تعلم الملائكة من علمه ـ بين الشياطين العصاة ، وبين الملائكة المصطفاة ، ورحمة منه سبحانه للآدميين ، وإقصاء عن (٦) علم السماء للشياطين ، توكيدا به لحجته

__________________

(١) في (ب) و (د) : ما ذكره.

(٢) في (أ) و (ج) : القبل. وفي (ب) و (د) : القتل. وكلاهما مصحفة ، ولعل الصواب ما أثبتنا.

(٣) في (أ) و (ج) : من.

(٤) في (ب) و (د) : بل هو الله المانع أعداءه.

(٥) في (أ) و (ج) : فعدل. مصحفة.

(٦) في (أ) : من.

٣٤١

سبحانه وإحداثا ، وإحياء به (١) لموتى الجهالة وانبعاثا ، وإكراما منه بذلك لنبيه ، وصيانة منه (٢) لوحيه.

فمن أين ـ يا ويله ـ أنكر من هذا ما كان مستبانا؟! وما يراه الناس في كل حال عيانا؟! أو يقول إن ما يرى من هذا لم يزل ، وأنه ليس بحادث كان بعد أن لم يكن ، فأين كانت مردة قريش عن الرسول به؟! ودلالتها للعرب (٣) فيه على كذبه ، وهو يزعم لها أن ما رمي بها عند بعثته ، وأن الرمي (٤) بها علم من أعلام نبوءته ، فلو كانت عند قريش ـ على ما قال ـ حالها ، لكثرت على الرسول فيه أقوالها ، ولما أرادوا من شاهد أكبر بيانا من هذا في إكذابه ، ولكن ابن المقفع يأبى في هذا وغيره إلا ما ألف من ألغابه (٥).

للعرب إذ أكثرها أهل ضواحي وبادية ، وقريش (٦) فإذ كانت منازلها على جبال عالية ، أحدث بالنجوم عهدا ، وأشد في الكفر تمردا ، من أن يكون أمرها على خلاف ما قال الرسول فيها ، ثم لا يكذبونه فيما زعم من اختلاف حاليها (٧) ، وإلا فالرسول كان في حكمته ، (٨) وفيما كان له عليه‌السلام من فضيلة الصدق عند عشيرته ، يتقول مثل هذا لعبا ، أو يفتريه عندهم كذبا ، بل ليت شعري ما أنكر؟! ولم ـ ويله ـ نفر

__________________

(١) في (ب) : وإحيائه.

(٢) في (ج) : وصلة منه. مصحفة. وفي جميع المخطوطات الاعنة بدل : منه. ولعلها مصحفة. والصواب ما أثبت. لأن الشهب رصدت لمنع الشياطين من استراق السمع.

(٣) في (أ) و (ج) : للغرر.

(٤) يعني أن ابن المقفع يزعم أنه لم يرم بشيء بعد بعثه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن الرمي لم يكن علما من أعلام نبوته.

(٥) في (أ) و (د) : ألعابه. وفي (ب) و (ج) : الغاية. ولعل الصواب ما أثبت. وألغاب : جمع لغب. وهو الإفساد ، والحديث الخلف ، وسيئ الكلام.

(٦) في (أ) و (ب) و (ج) : وبادية قريش فإذا كانت.

(٧) في (أ) : خاليها. (ب) : حمالتها. وفي (ج) : لفظة مهملة.

(٨) في (أ) و (ج) : حكمه.

٣٤٢

فاستكبر (١) ، من أن ترجم الشياطين على علم وحي الله ومنزله ، كي لا تسبق به الشياطين إلى أوليائها قبل رسله ، فينتشر علمه قبلها في الناس انتشارا ، فيزداد مثله (٢) يومئذ له إنكارا ، ويحكم له (٣) فيه ظنونه ، ويزيد فتنة به مفتونه ، فأيما (٤) من هذا أنكر في رحمة الله الرحيم ، وفيما خص الله به رسله من التكريم.

فإن قال فما باله إذا أراد إنزاله؟! لم يطوه حتى لا يناله ، شيطان رجيم مريد ، ولا مطيع رشيد ، إلا رسوله من بين خلقه وحده ، فيكون هو الذي يبث (٥) رشده؟!

فليعلم أنه لم يصل (٦) إلى الأرض من الله حكمة في تنزيل ، إلا كانت ملائكة الله أولى فيها بالتفضيل ، لأنها صلوات الله عليها أطوع المطيعين وأعلمهم عن الله بحكم التنزيل ، وأنها في ذلك متعبدة ، وبه لله عزوجل ممجّدة ، وإنما تعبدها الله سبحانه بالعلم ، وفضلها في العبادة للحكم ، والتنزيل بعلم العلوم ، وبحكمة كل محكوم ، وجبلّة الجن جبلة (٧) ، للسمو إلى السماء محتملة ، والجن فهم (٨) بفضل أهل السماء عالمون ، وإلى علم ما عندهم من العلوم متطلعون ، فإذا دارت في الملائكة حكمة وحي نزّل (٩) فيها ، أو عدل حكم (١٠) حكم به في الأمور عليها ، استرقت منه الجن ما سمعت في مشاهدها ، وما ذكرت أنه لها هناك من مقاعدها. ألم تسمع قولها في ذلك ، وخبرها عن مقاعدها

__________________

(١) في (أ) و (ج) : فامسكين. مصحفة.

(٢) يعني : مثل ابن المقفع.

(٣) في (ب) و (د) : أو يحكم به.

(٤) في (أ) و (ج) : فأما ما من. تصحيف.

(٥) في (أ) و (ج) : بيت. تصحيف.

(٦) في (ب) و (د) : لا يصل.

(٧) في (أ) : وحبيله الجن حبله. (ب) : وحبله الجن حبله. وفي (ج) و (د) : (بدون إعجام). وقد قلّبت الكلمة على وجوه عدة مع البحث في معاجم اللغة ، فلم أهتد إلى معنى يطمئن إليه ، فاجتهدت فيما أثبت. والله أعلم بالصواب.

(٨) في (أ) و (ج) : فهم.

(٩) في (ج) : ينزل.

(١٠) في (أ) و (ج) : بحكم. مصحفة.

٣٤٣

هنالك ، (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠)) [الجن : ٨ ـ ١٠].

وهذا يا هؤلاء فإنما كان منها ، ونبأ الله به فيما أدى عنها ، بعد أن قالت : (إِنَّا سَمِعْنا) ـ في الأرض ـ (قُرْآناً عَجَباً)(١) [الجن : ١] ، ألا تسمعها تقول بعد : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) (٨).

وما ابن المقفع بمأمون ، من (١) أن يظن أن الحرس شرطيون ، لما بلونا من جهله باللسان ، وقلة علمه بمخارج القرآن. وإنما الحرس مثل على معنى الحفظ لها ، بما جعل من الرجم دونها ، فازدادت الجن بما وجدت هنالك ، يقينا وإيمانا بذلك. فما ينكر من القذف بالشهب ، وغيره ما فيه من التعجب؟! هل ذلك ممن يقدر عليه ، إلا كغيره مما هو فيه ، وقد زيد به في هذا من من الجن (٢) اهتدى ، وتجنب طرق الضلالة والردى ، وكان فيه منع لتوكيد كذب الشياطين ، ودفع عن الرسول لتصديق أقوال المكذبين ، والله يقول لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله ، في السورة نفسها ، ومع ذكر الشياطين وحرسها ، (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)) [الجن : ٢٥ ـ ٢٨].

وأما قوله في القتال : وأنزل ملائكته فإذا غلبوا عدوا قال : أنا غلبته ، أو غلب له وليّ، قال : أنا ابتليته.

فما أنكر ويله من أنا غلبته؟! وقد قاتلت معه ملائكته ، وقد قذف بالرعب في قلوبهم ، وبث الرعب في مرعوبهم ، وما ينكر من قتلهم ـ ويله ـ بالملائكة ، وهل ذلك بهم إلا كغيره من كل هلكة ، إلا أن ملائكة الله في ذلك متعبدة مثابة ، وأنه منه جل

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : من.

(٢) في (ب) و (د) : من الجن من اهتدى.

٣٤٤

ثناؤه بالملائكة لأعدائه معاقبة ، وأنه لأوليائه عز ونصر ، ولأعدائه ذل وكسر.

فإن قال : ألا قتلهم (١) بما هو أوحى! (٢) واجتاحهم بغير القتل اجتياحا!!

فهذا إن دخل علينا له دخل في الملائكة ، دخل في غيره من كل هلكة ، يقال في كل واحده بعينها ، ألا كان الأمر بغيرها! وكل ما كان به كائن الهلكة ، فهو أمره بالملائكة أو غير الملائكة.

فإن قال : ألا خلق الناس أبرارا! ومنعهم أن يكونوا أشرارا! فمسألة من سأل عن هذا محال ، وليس لأحد علينا في هذا مقال ، لأنه إنما يكون البرّ برّا ، ما فعله فاعله متخيرا ، فأما ما جبر عليه صاحبه جبرا ، فلا يكون منه خيرا ولا شرا.

وفيما قال : أن يكون الانسان إنسانا لا إنسانا ، والاحسان إحسانا لا إحسانا ، لأن الانسان لا يكون إنسان إلا وهو مملّك مختار ، والاحسان لا يكون إحسانا إلا ولم يحمل عليه اضطرار.

وأما قوله (في ظفر أعدائه ، في بعض الحالات على أوليائه) (٣) ، فليس ويله بموجود من قولنا صحيح ، يعلمه كل أعجمي منا أو فصيح ، أن أوليائه لم تغلب إلا بنصره ، ولم تغلب إلا بمخالفتهم أو بعضهم لأمره ، والدليل على ذلك أنه لما أمسك عنهم نصره لما كان من عصيانهم ، كان ذلك هو بعينه سبب خذلانهم ، وأنه من فقد سب ، ما به الغلبة غلب ، وأنه غير مستنكر ذلك من فعال حكيم يملكه ، أن يعصيه (٤) من أعطاه إياه فيمسكه ، فيفقد فيه من نصره ما كان يجد ، ويتغير الأمر به إذا عصى عما كان يعهد ، فمتى نصر الله له وليا فبرحمته ، أو تركه من النصر فبضرب من معصيته ، وهذا من الأمر فلا يزول به عن قدير قدرة ، ولا تفسد معه لحكيم حكمة ، بل الحكمة معه قائمة موجودة ، والأفعال فيه منه عدل محمودة. ألم تسمع حكيم الحكماء ، وأقدر قادري العظماء ، يقول في هذا من نصره وخذله ، وقدرته سبحانه وعدله : (إِنْ

__________________

(١) في (أ) و (ج) : ألّا هو قتلهم.

(٢) أي : أسرع.

(٣) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج).

(٤) في (أ) و (ب) : بملكه أن يعصيه. وفي (أ) و (ج) : أو يعصيه.

٣٤٥

يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)) [آل عمران : ١٦٠].

يخبر عن أنه متى حبس عنهم نصره ، حل مع حبسه خذله ، فمن لم يخذله سبحانه فأولئك هم المنصورون ، ومن خذله فلم ينصره فأولئك هم المبتلون ، فما في هذا مما ينكره عقل ، أو يفسد فيه من الله فعل ، سبحان الله ما أحق في من جهل هذا شبه البهائم! التي مثّلها جل ثناؤه بأهل الجرائم.

وأما قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] ، فهي فيما أرى والله أعلم ، مما قد يجوز في اللسان ويعلم ، أنك لم ترم بالرعب في قلوبهم إذ رميت ، ولكني أنا الذي به في قلوبهم رميت ، وبالرعب الذي قذفه الله في قلوبهم انهزموا ، لا بالرمي بالبطحاء إذ رموا.

ومثل ذلك من الله لا شريك له قوله : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٢٧) [الأحزاب : ٢٦ ـ ٢٧]. فما ينكر من القدير على الأشياء ، أن يفعل ما يقدر عليه من الرّماء ، ما ينكر هذا إلا أحمق ، ولا يدفع هذا من الله محق ، فالله على هذا وخلافه يقدر ، وكذلك قدرته في أن يخذل وينصر ، وما صحت في فعله لقادر (١) قدرة ، فغير مستنكر أن تكون له وحده (٢) مفتعلة ، وإلا كان معنى القدرة عليه باطلا ، إذ ليس يرى بها القادر طول الدهر فاعلا.

فإن قال قائل : فما تقولون (٣) هل يقدر الله على أن لا يدخل المتقين الجنان؟! ولا من كفر نعمته (٤) وأنكره وأنكر رسله النيران؟!

__________________

(١) في (د) : لفاعل.

(٢) في جميع المخطوطات (وحدة). وقد قلبتها على الوجوه المحتملة فلم أهتد فيها إلى معنى صحيح ، فلعل الصواب ما أثبت والله أعلم.

(٣) في (ب) و (د) : تقول.

(٤) في (ب) : بنعمته.

٣٤٦

قلنا (١) قديما كان ولم يدخل واحدا من الفريقين مدخله ، وإنما القدرة على أن يدخل ولا يدخل فقدما فعله ، فقد كانوا قديما ولم يدخلوا ، ولا بد بعد أن يدخلوا ، فقد كان المقدور عليه من لم يدخل ، وسيدخل ، فافهموا ما قلنا عنا ، وضعوا الفهم فيه حكما (٢) بيننا.

وأما قوله : فقتلت أعداؤه أنبياءه ورسله. فما ينكر من قتلهم لهم (٣) قاتله الله وقتله،(٤) لو لم يقتلوا لم يجب لهم من الكرامة عنده ما أوجبه ، ولم يدركوا ثواب ما كان القتل فيه سببه ، ولو كان له علينا في قتلهم مطلب لكان في موتهم ، ولو دخل علينا بقتلهم وموتهم لدخل علينا في أصل الفطرة لهم ، والفطرة لا يكون فيها من الحكمة ما فيها ، إلا بموجود البنية التي بنيت عليها ، وذلك ما قد فرغنا من الجواب فيه ، ودللنا بآثار الله في الحكمة عليه ، وفيما وصفنا منه ، وأنبأنا به عنه ، ما أوضحه ، ووضح به فصحّحه. والحمد لله رب العالمين كثيرا ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم تسليما.

وأما قوله : فأجّل عدوه إلى يوم يبعثون. فهو وأصحابه في هذا يلعبون ، ولو فسد في التأجيل طول تأخيره ، لفسد في ذلك أقصر قصيره! فليت شعري ويله ، لم تقابح هذا وأنكره؟! وهو لو لم يبق لم يعص ولم يطع ، ولو لا المعصية والطاعة لم يخلق ولم يصنع!

وأما قوله : وأمرض خلقه وعذبهم ، بما عرض من الأسقام لهم. فلعمري لقد وفّاهم سبحانه طبائعهم مفصلة ، وسلمها إليهم مكملة ، عن هلكات العصيان ، وشين معايب النقصان ، فما دخلها من سقم بدن ، أو فساد متديّن (٥) ، فبعد اعتدال تركيبها ،

__________________

(١) في (أ) و (ج) و (د) : قيل.

(٢) في (ب) : الفهم فيه كما بينا.

(٣) في (أ) و (د) : له.

(٤) في (ب) و (د) : ولعنه.

(٥) متديّن : مصاب بداء ، يقال : دان. إذا أصابه الدّين. وهو داء. لسان العرب. مادة دين.

٣٤٧

عن كل نقص من معيبها ، (١) وما فسد لهم من دين بعصيان ، فبعد هدى من الله وبيان ، وتخيير في (٢) الطاعة وإمكان ، فما في الذي ذكر ، وفنّن فيه فأكثر ، مما (٣) يدخل له أو لغيره علينا ، أو يجد به أحد مقال تعنيف فينا ، كأن كلامه ، ويله وأحكامه ، كلام لم يزل يسمعه من شطار (٤) أهل السجون ، أو كأنما قبل آدابه عن سفلة أهل المجون ، بل كأنه مجنون مصاب ، لا يحق له جزاء ولا عليه عقاب.

ومتى قيل له ، قاتله الله وقتله ، ما زعم وقال؟! (٥) وهذى به وهذر إذ سال؟! أنه أصمّ خلقه من حيث ظن ، (٦) وأعماهم كما توهم ، أو جبرهم على عصيانه ، أو حال بين أحد وبين إيمانه ، أو أنه هو أمرضهم ، (٧) أو عذّب بغير ذنب بعضهم ، بل نقول هو أسمعهم بالدعاء نداه ، ونوّر أبصارهم بنور هداه. ومن مرض منهم فمن الله يطلب شفاه ، وإذا ابتلي ببلاء فهو سبحانه الذي يكشف بلاه ، ألم يسمع ـ ويله ، الله تعالى وقوله ، عن أيوب نبيئه المبتلى ، عليه صلوات الرب الأعلى : (أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١)) [ص : ٤١] ، (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٨٣) [الأنبياء : ٨٣]. قال الله سبحانه : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)) [الأنبياء : ٨٤].

أو ما سمع قول إبراهيم ، فيما نزل الله به (٨) من القرآن الحكيم ، فيما ذكر عند

__________________

(١) لعل المطرفية فيما تدعي من الأخذ بأقوال الإمام القاسم والهادي عليهما‌السلام أخذت في دعواها بأن الأمراض من تغيّر في الطبيعة المجبول عليها الإنسان ، ومن حدوث خلل في التركيب ، أخذت ذلك من هذا النص.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : في.

(٣) في (ب) : فما.

(٤) الشطار : جمع شاطر ، وهو من أعيى أهله خبثا.

(٥) في (أ) : وقال وهذر به إذ. وفي (ب) و (د) : وقال به وهذى به وهذر إذ.

(٦) ربما نقص هنا شيء من الكلام. فعادة الإمام السجع المستوي.

(٧) وهذا أيضا مما تعلقت به المطرفية في تلك الدعوى.

(٨) سقط من (ب) و (د) : به.

٣٤٨

الله (١) لمرضه إذا مرض من الشفاء ، وأضاف إلى نفسه من الغفلة والخطأ ، إذ يقول صلى الله عليه : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)(٨٢) [الشعراء : ٧٨ ـ ٨٢].

وأما قوله : وكل خلقه دمر تدميرا.

فلقد أنكر ويله من تدميرهم ما لم يجعله الله نكيرا .... (٢) عصيانهم لله مستحق الطاعة ظلما واعتدا ، ومجانبتهم لما جعل الله لهم به النجاة والهدى ، هو الذي به هلكوا ودمّروا ، بعد أن بصّرهم الله منجاتهم فلم يبصروا ، إلا أن يكون توهّم أن الله (٣) هو الذي حملهم على العصيان وجبرهم ، فكيف يا (٤) ويله وهو الله الذي مكّنهم فيه وخيّرهم؟! وما أجبر أحدا تعالى على إحسان ، فكيف يجبره له على عصيان؟! ولم يسخط ما قضى ، ولا رضي إلا بما فيه الرضى ، ولم يغضب له من فعال ، ولم يتضاد بحال ، ولم يتناول (٥) عدوا بقتال ، ولم يتمثل في شيء بمثال ، وإذا مرض خلقه شفاهم ، أو تعاموا عن الهدى أراهم.

فيا عجبا ممن (٦) جهله! وأنكر حقه وعطّله!! لو كان الله سبحانه صاحبا لوجب حقه!! فكيف والخلق خلقه؟! وهو خالق الخلق ومبتدعه ، والمحسن إليه في كل حال ومصطنعه ، ومن لم يدبر (٧) عنه بإحسانه حتى أدبر (٨) ، ولم يغيّر ما به من نعمه حتى كفر ، كيف وهو من عصاه استرضاه! ومن استكبر وهو القادر عليه أملاه! ثم كرّر

__________________

(١) في (ب) و (د) : عن.

(٢) أشار إلى بياض في (أ).

(٣) في (ب) و (د) : أن يكون يتوهم أن يكون هو حملهم.

(٤) في (ب) و (د) : فيكف ويله.

(٥) في (أ) و (ج) : ينازل. وفي (ب) : يناول.

(٦) في (أ) و (ج) : عن. وفي (ب) : من.

(٧) سقط من (ب) : من. وفي (أ) و (ج) : يدبره. تصحيف.

(٨) يعني : أن الله سبحانه لم يقطع إحسانه عن أحد حتى أدبر وأعرض عنه.

٣٤٩

عليه في دعواه الهدى نداه ، ثم من قبل حظه فيه جازاه ، ومن أبى عطيته من الخيرات حرمه ، وهو الذي قبّح من كل ظالم ظلمه. فيا ويل من جهل إحسانه ، وركب في الكفر عصيانه ، ما ذا جهل من إحسان كثير لا يحصى؟! ومن عصى (١) إذ إياه عصى ، فمن أولى منه جل ثناؤه بالعبادة والتعظيم ، فيما دعا إليه من الطاعة له والتسليم ، وهو الله الهادي إلى سبيل النجاة ، والمنعم بنعمه التي ليست بمحصاة.

فإن قال قائل : ومن أين تدري أن هذه نعمه؟ وأن محدثها إحسانه وكرمه؟!

فليعلم أن كل ما يرى منها نعم بيّن آثار الإنعام فيها ، بحكم تصحح أثره (٢) العقول عليها ، وأنه لا بد في فطرة العقول ، وما فيها لها (٣) من المعقول ، من أن يكون لهذه النعم مول أولاها ، هو الذي فطرها وأنشأها ، وأنه لا ينبغي أن يكون موليها ، كهي فيما أبان من أثر الصنعة عليها ، وأنه لا يوجد شيء غيرها ، إلا وجدت فيه الصنعة وتأثيرها ، حتى ينتهي ذلك إلى من لا يشبهه مصنوع ، ومن كل الأشياء فمنه بدع مبدوع ، وأنه الله الأول القديم ، الملك القدوس الحكيم.

فإذا صح ذلك عند من يعقل بإشهاده ، علم أن النجاة من الله لا تكون (٤) إلا بإرشاده ، الذي نزل فيما أوحى من كتبه ، ودل على النجاة فيه بسببه ، فالحمد لله ولي النعمة في الأشياء ، والمتولي لنجاة من نجا بهداه (٥) من الأولياء ، الذي ليس له أكفاء فتساويه ، ولا شركاء في الملك فتكافيه ، المتبري من كل دناءة ، (٦) المتعالي عن كل إساءة ، رب الأنوار المتشابهة في أجزائها ، وولي تدبير الظلم وإنشائها ، العلي الأعلى ، ذي الأمثال العلى ، والأسماء الحسنى ، شاهد كل نجوى ، ومنتهى كل شكوى ، والممهل

__________________

(١) في (د) : عصاه.

(٢) في (ب) و (د) : آثار.

(٣) سقط من (ب) : ولها.

(٤) سقط من (ب) : لا تكون.

(٥) سقط من (أ) : بهداه.

(٦) في (أ) و (ج) : ذله. تصحيف.

٣٥٠

المطيل ، ومن لا يعدل من الأشياء كلها بعديل ، فكل ذي خير (١) محمود ، أو منسوب إلى كرم أو وجود ، فالله مبتدئ فطره محموده ، والسابق الأول بما حمد من وجوده (٢).

فأين قولنا ويله ، مما (٣) ادعاه وتقوّله؟ سبحان الله ما أشد سفهه وجهله! لعنه الله وأضل عقله. ولو لا ـ أني سمعت الله لا شريك له يقول : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥)) [الزخرف : ٥] ، ويقول سبحانه : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)) [الأعراف : ١٧٩]. ثم لم يترك مع (٤) ذلك تذكيرهم ، وبعث مع ذلك فيهم نذيرهم ، ـ لما رأيت لمن ذهب مذهبه ، وتلعّب في القول متلعّبه ، منازعة ولا إجابة ولا تذكيرا ، ولظننتهم إلا ما شاء الله له في العقول بقرا أو حميرا!!

أرأيتم حين يقول : ولا يغلب أحدا إلا بالخيل السلاح. إنه ليطمح (٥) في الخطأ ـ ويله ـ أيّ طماح! أترونه إنما يظن تغالب البهائم ، أو غلبة الناس للإبل الجلة الصّلادم (٦) وارتباطهم للفيلة بالأمراس ، وقرع سوّاسها (٧) لرءوسها بالأجراس ، (٨) إنما كان منهم بخيل أو سلاح ، ويله إنه ليجمح (٩) عن الحق أيّ جماح! ولئن كان يظن أن الناس أقوى من الملائكة ، إن هذا في الظن لأهلك الهلكة ، وقد بينا في جواب ذلك لهم فيهم ، ومن

__________________

(١) في (ب) : ذي كرم.

(٢) في (ب) : موجوده.

(٣) في (أ) و (ج) : بما ادعاه ، ويقوله. تصحيف.

(٤) في (أ) و (ج) : ثم ينزل. وفي (ج) : ثم لم ينزل. وفي (ب) : ثم يترك. وفي (د) : ثم لم يذكر. وما أثبت ملفق من الجميع ، والله أعلم بالصواب. وفي (أ) و (ج) : في ذلك.

(٥) في (أ) و (ج) : لطمح.

(٦) في (ب) و (د) : اللجية. تصحيف. والجلة : هو الجمل إذا ثنّى ، يعني في السنين. قاموس. والصلادم جمع صلدم : وهو الصلب الشديد.

(٧) الأمراس : الحبال. وسوّاس جمع سائس : وهو الذي يقوم عليها ويروضها.

(٨) الأجراس : عيدان يضرب بها.

(٩) في (أ) و (د) : للجمح. والطماح والجماح بمعنى. وهو الارتفاع ، والنشوز. مأخوذ من جماح الخيل.

٣٥١

غلبة الأولياء لله (١) لعدوهم وظهورهم عليهم ، بما (٢) فيه بيان كاف ، وعبرة واضحة لذي إنصاف (٣).

واما قوله : يقاتل على الملك والدنيا. فكيف ـ ويله ـ يقاتل على الملك والدنيا ، وطلب العز فيها والكبرياء ، من كان لباسه فيها مع وجوده لملكها الشّعر والوبر والعباء والصوف ، وشعاره فيها والناس شباع آمنون الجوع والظمأ والخوف ، وما الملك ممن يظل (٤) نهاره وليله خاشعا وباكيا ، ويسيح على قدميه (٥) في الأرض حافيا ، يدعو من هلك من أهلها إلى النجاة ، وينادي من مات عن الهدى إلى الحياة ، ومن هو أعز ما يكون مفارقا (٦) لأحوال ملوك الدنيا وأغنيائها ، ومن (٧) لا يرى متكبرا عن مساكين العامة وفقرائها ، يقف عليها ، ويرى واقفا فيها ، ويأكل معها إذا أكلت ، ويجيبها إذا سألت ، ويعود مرضاها إذا مرضت ، ويشهد موتاها إذا ماتت.

فأين هذا كله ، وفرع هذا وأصله ، من أحوال الملوك التي تتكبر عن (٨) آبائها ، ولا تنظر بخير إلى أبنائها ، ما أشبه بعض ابن المقفع ببعض ، وما أحسب له في المكابرة نظيرا من أهل الأرض.

وأما قوله قول الزور والباطل : وأخرج ـ زعم ـ سلطان الجاهل ، الذي يستر (٩) عليك الجهالة ، ويأمرك أن لا تبحث ولا تطلب ، ويأمرك بالايمان بما لا تعرف ، والتصديق بما لا تعقل ، فإنك ـ زعم ـ لو أتيت السوق بدراهمك تشتري بعض السلع ، فأتاك الرجل من أصحاب السلع ، ودعاك إلى ما عنده ، وحلف لك أنه ليس في

__________________

(١) في (ج) : عليهم الأولياء. مصحفة. وفي (ب) و (ج) و (د) : بالله.

(٢) في (أ) و (ج) : ما.

(٣) في (ج) : لذوي إنصاف. وفي (ب) : لذوي الإنصاف.

(٤) في (أ) : يظل بهذه. وفي (ج) : يظن بهاذه. مصحفة.

(٥) السياح : الذهاب في الأرض للعبادة. وسقط من (أ) و (ج) : على قدميه.

(٦) في (أ) و (ج) : مفارق الأحوال. وفي (ب) و (د) : مفارق لأحوال. ولعل الصواب ما أثبت.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : ومن.

(٨) في (أ) و (ج) : على.

(٩) في (أ) : ستر. وفي (ب) : يسري. وفي (د) : يسر.

٣٥٢

السوق شيء أفضل مما دعاك إليه لكرهت أن تصدقه ، وخفت الغبن والخديعة ، ورأيت ذلك ضعفا ، وعجزا منك ، حتى تختار ـ زعم ـ على بصرك ، وتستعين بمن رجوت عنده معونة وبصرا.

[التفكير فريضة إسلامية]

فمن ـ يا ويله ـ الذي يخاطب ويسأل؟ ومن الذي يخشى أن يخدع ويجهل؟ النور الذي لا يجهل ـ زعم ـ فيعود شرا ، أم الظلمة التي لا تكون إلا خديعة ومكرا؟! سبحان الله ما أشبه أمثاله بعقله! وما أوجد (١) شبهه في الدناءة (٢) بفعله!! أمحمد ـ ويله ـ (٣) صلوات الله عليه ، كان يدعو إلى شيء مما كذب (٤) عليه فيه؟! معاذ الله أن تكون تلك كانت قط من آدابه ، ومما نزّل عليه في كتابه! أهو ـ ويله ـ يحمل على خلاف ما يعرف؟! وإنما جاء صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو إلى المعارف ، أو يأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكف عن الطلب والبحث ، وهو الكاشف عن أسرار الغيوب لكل متبحّث ، أو هو يرضى دناءة الخدع وقبائحها ، أو يقارب الأسواء وفضائحها؟! ولم يقبّح أحد من الخلق السيئات بأكثر مما قبّح ، ولم ينصح في الدلالة على الخيرات أشد (٥) مما نصح ، ولم يناد بإظهار أمره أحد قط كما نادى ، ولم يدع إلى (٦) كشف الحق ما إليه دعا.

أما سمعه ويله ، ما أكذب قيله! وهو يقول صلوات الله عليه ورضوانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٤) [يونس : ١٠٤].

__________________

(١) في (ب) و (د) : يوجد.

(٢) في (ب) : الدنيا. مصحفة.

(٣) سقط من (ب) و (د) : ويله.

(٤) أي كذب ابن المقفع على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٥) في (ب) : أكثر.

(٦) في (أ) : من الكشف للحق.

٣٥٣

ويقول الله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤) [آل عمران : ٦٤] ، ويقول سبحانه : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣٥) [يونس : ٣٥].

وإن (١) دعوى ابن المقفع هذه فيه ، لما لم يدّعه قط مدّع عليه ، لا ممن أجابه فاهتدى ، ولا ممن صد عنه واعتدى ، (٢) ولكني أحسب أن ابن المقفع هذى ، وألقى الشيطان على لسانه ما (٣) تمنى ، فجعل ظنه عليه يقينا ، أو كابر (٤) من وجد قوله بيّنا! كيف يا ويله ، قاتله الله وقتله ، يكون كما افتراه ، أو على شيء مما ادعاه ، والله يقول سبحانه : (* قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦)) [سبأ : ٤٦]. ويقول سبحانه : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)) [الأعراف : ١٨٥]. ويقول سبحانه : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠١) [يونس : ١٠١]. فهل دعا أحد إلى إخلاص الفكر دعاه ، أو حدى (٥) أحد من الناس على النظر حداه ، ما يبلغ كذب ابن المقفع في الكلام ، كذب أضغاث الأحلام ، طلب ـ ويله ـ في الكتاب من التعنيف ، وتكلّف في عيبه من التكاليف ، ما لم تطقه قبله عفاريت الشياطين ، فكيف به وإنما هو مجنون من المجانين!! أما سمع قول رب العالمين: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ

__________________

(١) في (أ) و (ج) : وأين.

(٢) في (أ) و (ج) : ملحدا.

(٣) سقط من (ب) : الشيطان. وفي (ب) : لسانه بما.

(٤) في (ج) : كأين. مصحفة.

(٥) في (أ) : حذاء. وفي (ج) : حد. مصحفة. ومعنى حدى : بعث وساق وحث.

٣٥٤

وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨) [الإسراء : ٨٨]. وقوله سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٨) [يونس : ٣٨].

أما قوله : فلا نعلم دينا مذ كانت الدنيا ـ زعم ـ إلى هذا الزمان الذي حان فيه انقضاؤها ، أخبث زبدة كلما مخض ، وأسفه في ذلك التمخيض أهلا ، والبتر أصلا ، وأمرّ ثمرا وأسوأ أثرا ، على أمته ، والأمم التي ظهر عليها ، وأوحش سيرة ، وأغفل عقلا ، وأعبد للدنيا ، وأتبع للشهوات من دينكم.

وقد قال : ويله في هذا من أصول ديننا وفروعه ، ومفرّق حكم دين الله ومجموعه ، بما لا يخفى كذبه فيه ، عمن (١) حكم بأقل الحق عليه.

وأيّ دين أحسن نظاما ، وأعدل أحكاما ، وأقل تناقضا ، وأرضى رضى ، من دين قامت دعائمه ، واعتدلت (٢) قوائمه ، على الأمر فيه بالعدل والاحسان ، ونهت نواهيه عن كل فحشاء وعدوان ، فلم يترك لمحسن ثوابا ، ولم يضع (٣) عن مسيء فيه عقابا ، بمقادير من قسط عادلة ، وموازين من عدل غير مائلة ، لولاه لفسدت الأرض خرابا ، وعدمت الصالحات ذهابا.

[إسلام السلاطين]

ولكني أراه ظن ديننا ، وتوهم أحكام ربنا ، أحكام معاوية بن أبي سفيان ، (٤) وما

__________________

(١) في (ب) : من.

(٢) في (ب) : وعدلت.

(٣) في (ب) : يضع لمسيء. تصحيف.

(٤) عن عبد الله قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه. أخرجه الذهبي في الميزان ٢ / ٧. وصححه. وأخرجه في تهذيب التهذيب ٥ / ١١٠ ، وفي تهذيب التهذيب ٧ / ٣٢٤ ، وفي الميزان ٢ / ١٢٩ ، مثله عن أبي سعيد رفعه ، ونحوه عن أبي جذعان. وقال في تهذيب التهذيب ٨ / ٧٤ ، في ترجمة عمرو بن عبيد بن باب قال : حدثنا بندار ، حدثنا سليمان بن حرب ، ـ

٣٥٥

__________________

ـ حدثنا حماد بن زيد قيل لأيوب : إن عمرا روى عن الحسن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه ، وعن أبي سعيد رفعه : إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد فاقتلوه. قال ابن حجر : وأخرجه الحسن بن سفيان في مسنده عن إسحاق عن عبد الرزاق ، عن ابن عيينة عن علي بن زيد. قال : والمحفوظ عن عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن علي ولكن لفظ ابن عيينة : فارجموه. قال أورده ابن عدي عن الحسن بن سفيان. وفي كنوز الحقائق للمناوي / ٩ ، ولفظه : إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه ، قال : أخرجه الديلمي ـ يعني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ. يحتمل قويا أن يكون المراد من المنبر في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إذا رأيتم معاوية على منبري). هو مطلق المنبر بدعوى أن كل منبر يصعد عليه في الإسلام ويخطب عليه فهو منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويحتمل أن يكون المراد منه مخصوص منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة كما يؤيده بل يدل عليه ما تقدم في حديث أبي سعيد : إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد ... إلخ.

وعلى كل حال فإن معاوية حسب الأحاديث المتقدمة ممن يجب قتله بحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تسامح فيه المسلمون ، أما وجوب قتله على الاحتمال الأول فواضح ، وأما على الثاني فلما رواه ابن سعد في الطبقات ٤ / ١ / ١٣٦ ، من مجيء معاوية إلى المدينة وصعوده على منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الأسدي ، عن أيوب ، عن نافع ، قال : لما قدم معاوية المدينة حلف على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقتلن ابن عمر. ثم رواه بطريق آخر عن نافع. فراجع.

وقال في أسد الغابة لابن الأثير في ترجمة معاوية بن صخر وهو معاوية بن أبي سفيان ، قال : وروى عبد الرحمن بن أبزي عن عمر أنه قال : هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد ، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد ، ثم في كذا وكذا ليس فيها لطليق ، ولا لولد طليق ، ولا لمسلمة الفتح شيء. ورواه ابن سعد أيضا في طبقاته. ٣ ـ ١ / ٢٤٨.

الاستيعاب لابن عبد البرج ٢ / ٤٠٢ : في ترجمة عبد الرحمن بن غنم الأشعري ، قال : ويعرف بصاحب معاذ لملازمته له ، وسمع من عمر بن الخطاب ، وكان من أفقه أهل الشام ، وهو الذي فقّه عامة التابعين بالشام ، وكانت له جلالة وقدر ، وهو الذي عاتب أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذ انصرفا من عند علي عليه‌السلام رسولين لمعاوية ، وكان مما قال لهما : عجبا منكما كيف جاز عليكما ما جئتما به ، تدعوا عليا أن يجعلها شورى ، وقد علمتما أنه قد بايعه المهاجرون والأنصار ، وأهل الحجاز ، وأهل العراق ، وأن من رضيه خير ممن كرهه ، ومن بايعه خير ممن لم يبايعه ، وأي مدخل لمعاوية في الشورى وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة ، وهو وأبوه من رءوس الأحزاب. قال : فندما على مسيرهما وتابا منه بين يديه. وذكره ابن الأثير أيضا في أسد الغابة. ٣ / ٣١٨ باختلاف يسير.

٣٥٦

سن بعد معاوية ملوك بني مروان (١) ، من تناقض أحكامها ، وجورها في أقسامها ، وأولئك فأعداء ديننا ، وحكم أولئك فغير (٢) حكم ربنا ، وحكم ديننا فالحكم الذي لم يخالطه قط جور ، وأموره من الله فالأمور التي لا يشبهها أمور ، ويحق (٣) بذلك أمر وليه أحكم الحاكمين ، وحكم جاء من رب العالمين.

وأما قوله : رجل من أهل تهامة. فإنما هو ضرب من العجامة ، وما في هذا ويله ، ما أشد عتوّه وكفره ، تهاميا كان عليه‌السلام أو شاميا ، أو مغربيا كان من الناس أو مشرقيا ، هل هو إلا بشر آدمي ، بعثه إلى كل فصيح وأعجمي ، كما قال سبحانه ، أجزل الله كرامته ورضوانه: (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) (٦) [فصلت : ٦]. هل هو إلا رسول الله صلى الله عليه بعثه الله إلى الانسان ، وإحسان من الله وهبه الله عباده لا كالاحسان ، أرسله سبحانه بهداه مبتديا ، إلى أولاء الخلق بأن يكون مهتديا ، إل الملأ من عشيرته ، وفي ولد إبراهيم وذريته ، وإلى أبناء قحطان من خيرته ، وهم الذين كانوا في كفرهم أوفى أهل الكفر لمن عاهدوا عهدا ، وأكرمهم لمن وادّ ودّا ، وأحسنهم لمن تحرّم بهم تحرّما ، وأحفظهم لجوار من جاورهم تكرما ، وأشدهم للكذب إنكارا ، وعن كل دناءة خلق استكبارا ، وأشدهم لله إعظاما ، ولحرم بيته إكراما ، والذين يقول عنهم ، فيما ذكر عنهم ، في عبادة ما كانوا يعبدون معه من الأوثان ، تقربا بعبادتهم لذلك إلى الرحمن ، (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [ص : ٨٤]. أما سمعت قول الله فيهم ، وفيما ذكر لعباده من تمنيهم ، (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٦٩) [الصافات : ١٦٧ ـ ١٦٩]. ويقول سبحانه عنهم خاصا (٤) دون الخلق ، في تمنيهم دون أهل الأرض لدين الحق ، (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى

__________________

(١) في (أ) و (ج) : في. وقد سبق في الدليل الكبير بعض ما ورد في بني أمية فراجعه.

(٢) في (أ) : غير.

(٣) في (ب) : بحق.

(٤) في (أ) : خاصة. وفي (ج) : حاصلا. مصحفة.

٣٥٧

الْأُمَمِ) [فاطر : ٤٢].

وأما قوله : عليه اللعنة في آيات المرسلين ، وتمثيله لها بسحر الساحرين ، فغير بدع بحمد الله منه وقبله ، ما قال إخوانه من الكافرين فيها قوله ، أما سمعتم قول فرعون وملائه ، عند ما رأوا من نور الحق وضيائه ، (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣] فبينا (١) هو يقول أيها الساحر إذ قال إنك لمسحور ، وبينا قريش تقول لمحمد صلى الله عليه ما هذا إلا سحر إذ قالوا إنك لمجنون ، ولعمري لو كان موسى ومحمد صلى الله عليهما ساحرين عندهم وفيهم ، لكان ذلك بيّنا جليا لديهم لا يخفى منه شيء عليهم ، كما كان يتبين لهم سحر السحرة والكهان ، يوقنونه منهم بحقيقة الايقان ، ولا يدّعون سحرهم جنونا ، ولا ساحرهم مسحورا ، غلطا وعتها ، وعماية وعمها (٢).

هذا ليعلم أن قولهم فيه لم يكن إلا كذبا وافتراء ، وأن السحر لم يكن عندهم ما (٣) يشك فيه ولا يمترى.

كيف ويله وويل أسلافه ، ومن تبعه بعده من أخلافهم وأخلافه ، يسمى سحرا أو جنونا؟ ما يملأ بطونا وعيونا! وترى آثاره اليوم (٤) إلى الدهر الأطول دائمة ، ومواقعه في بطون الآكلين والشاربين من الظمأ والجوع باقية ، ما هذه بطريقة السحر المعروف ، ولا يعرف السحر بوصف من هذه الوصوف ، إلا أن يكون في مومه (٥) وعماه ، وشدة تباعده عن هداه ، يبصر اليوم من السحر ما لم يكونوا يبصرون ، أو يظهر السحرة اليوم له منهم ما لم يكونوا يومئذ (٦) يظهرون ، والسحر يومئذ فيهم ظاهر منشور ، وصاحبهم إذ ذاك عندهم مكرّم محبور ، ومن أظهر اليوم السحر ، لم يكن له عند الأمة عقوبة إلا القتل ، ما أوضح الأمور ، وأبين الساحر والمسحور ، وليس في هذا شغل ، لأحد ممن

__________________

(١) في (ب) : فبينما.

(٢) في (أ) و (ج) : وعماها.

(٣) في (ب) : بما.

(٤) سقط من (ب) : اليوم.

(٥) مومه. الموم : البرسام. وهو علة يهذى فيها.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : يومئذ.

٣٥٨

يعقل ، مع أنك لم تر قط أحدا يسحر ، إلا وهو يعبث في سحره ويسخر ، ولم تره وإن سحر إلا مسترذلا ، وسفلة دنيّا نذلا.

وأما قوله : نافر الله الإنسان فقال : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (١٨) [العلق : ١٧ ـ ١٨]. ثم افتخر بغلبته ـ زعم ـ لقرية أو لأمة أهلكها من الأمم الخالية. فما في هذا ويله من نافر وافتخر ، لا ولكنه أوعد وحذّر ، بما فيه لمن عقل مزدجر ، (١) وعبرة كافيه ومدّكر ، وهذه من لفظاته الأولى ، وشبيهتهن في الدناءة والعمى ، فيا ويله ما أغلب عليه قول السفال والبهتان ، وأجهله بما يدور بين أهله من هذا اللسان ، الذي لا يصاب إلا به تأويل القرآن ، ولا يتبين بغيره من الألسن ما يتبين به من البيان ، فليقبل من أراده قبل تعلّمه ، ولا يحكم على القرآن بوهمه ، فإن (٢) ابن المقفع إنما استعار أحرفه ، فأما معناها فجهله وحرّفه ، يسمع منا في ذكر الله لفظا ، فوعاه كما سمع حفظا ، ثم ثبّته إلى نوره وضلالته كذبا ، فأنشأ يمدح به غير الممدوح تلعبا ، والمعاني منه فأعجمية ، والأسماء التي سمى فعربية.

وأما قوله : انقلب وأنشأ. فكلمتان ليس لهما في الله معنى ، لقبح مخرجهما ، وضلال منهجهما ، عن كلام أهل القدر والنّهى ، وإنما قبلهما من الناس عن (٣) الطبقة السفلى!

ومن قال له يا ويله انقلب عليه خلقه؟! وأنه أنشأ سبحانه يقاتله ويغالبه؟! هذا ويله فما لم يقل به في الله قط ، منذ كانت الدنيا مقتصد ولا مفرط.

وأما قوله : عمل يديه ، ودعاء كلمته ، ونفخة روحه. فكله منه على ما توهمه زور وبهتان ، وأكثر قوله فيه هذر وهذيان ، وليس فيما فنّن في (٤) هذا من قوله ، لا في قصره ولا في طوله ، أكثر من أن الله أحدث صنعا ، وأبدع لا شريك له بدعا.

فإن قال قائل ولم أوجد صنعه؟! وما العلة التي لها أبدع بدعه؟! فهي الاختيار

__________________

(١) في (أ) و (ج) : من زجر. مصحفة.

(٢) في (أ) و (ج) : فإنما.

(٣) سقط من (ب) و (ج) : عن.

(٤) في (ب) : من.

٣٥٩

فيما أنشأ ، وإظهار حكمته فيما أبدى ، جودا منه وكرما لا يشوبه حسد ، ولا يجب به إلا له فيه حمد ، وكفى بهذه (١) لصنعه علة ، وفيما سأل عنه جوابا ومسألة.

فإن سأل سائل ، أو قال قائل ، (٢) فما باله إذا كان الجود عندكم من علة صنعه وبريته ، والجود فلم يزل عندكم من ذاته ، لم يحدث الصنع قبل إحداثه؟! فهذا ضرب من غلط السؤال وأعياثه (٣)! إذ كان الصنع كيف ما كان حدثا ، وكان الله له في ذلك محدثا ، فهذا جوابنا له فيما سال ، إذ كان في مسألته قد أحال (٤). والحمد لله رب العالمين ، وأول من أنعم من المنعمين.

وأما قوله : فصارت الغلبة للشيطان بأن تبعه الخلائق على ضلالته إلا أقلهم.

فيا ويله ما في هذا من غلبته ، (٥) بل هبهم تبعوه على ضلالته ، فإنما بأهوائهم ، (٦) وأطاعوه لعدائهم ، (٧) لا عن غلبة منه لهم ، فو الله ما غلبهم ، فكيف يغلب خالقه وخالقهم؟! ، ومتى غالب الله الشيطان فغلب أو غلب؟! يأبى (٨) ابن المقفع ـ ويله ـ إلا اللعب ، لئن كان الشيطان غلب الله بكثرة أتباعه ، لقد غلب الشر نوره بكثرة أشياعه!. ويله إنما يتبع الشيطان من أطاع هواه ، وعمي عن الله مثل عماه ، وسبله إلى الله لو أرادها ذلل ، وطريق نجاته بالحق له مسهّل ، ولم يعص من عصى غلبة ولا قهرا ، ولم تطع نفس على طاعتها جبرا ، إنما خلق الثقلان ، مخيّرين بين الطاعة والعصيان ، لتكون الطاعة بالاختيار إحسانا ، والمعصية للانسان عصيانا.

وأما قوله عليه اللعنة : أدخلوا عليه الأسف والحسرة والغيظ.

__________________

(١) في (ب) و (د) : بهذه الصنعة. تصحيف.

(٢) سقط من (أ) : أو قال قائل.

(٣) الأعياث : جمع عيث. وهو الافساد.

(٤) أحال : أتى بالمحال.

(٥) في (أ) و (ج) : غلبه.

(٦) في (ب) و (د) : وإنما تبعوه ومالوا إليه بأهوائهم.

(٧) في (أ) و (ب) : لعذابهم. وفي (ج) : لعذانهم. وما أثبت اجتهاد مني ، والله أعلم بالصواب.

(٨) في (أ) و (ج) : فأبى.

٣٦٠