مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله خالق كل معبود ، المستوجب للحمد في كل موجود ، الذي لا يقصر عنه بالحمد من رشيد خلقه حامد ، الصمد الذي ليس من ورائه غاية يصمدها صامد.

دليل من استدل بالحقائق ، فيما فطر سبحانه من مختلف الخلائق ، التي يوجد من اختلافها ، وما خالف بينه من أصنافها ، ما يوجد من اختلاف الظّلم والأنوار ، وفرقة ما بين الليل والنهار ، بل أكثر في الفرقة بيانا ، وأوضح في التباين فرقانا ، لتفاوت ما فيها من اختلاف الألوان والطعوم ، ولضروب ما فيها من كل محسوس ومعلوم ، دلالة منه سبحانه بمتفاوتها ، ومختلف ما بين حالاتها ، على الأول الأحد ، السابق لكل عدد ، الذي لا يكون ثان إلا من بعده ، ولا يثبت الثاني إلا من بعد عده ، البعيد من مساواة الأنداد ، المتعالي عن مناواة الأضداد.

نحمده على ما هدانا إليه ، ودل برحمته من توحيده عليه ، ونسأله أن يصلي على ملائكته المصطفين ، وعلى جميع رسله والنبيين ، وأن يخص محمدا في ذلك من صلواته ، بأفضل ما خص به أهل كراماته ، ونستعينه لا شريك له على شكر نعمته ، فيما وهب لنا من أبوة محمد عليه‌السلام وولادته ، والحمد لله رب العالمين ، ونعوذ به (١) من عماية العمين.

__________________

(١) في (ب) : بالله.

٣٢١

[الرد على ماني (١)]

ثم إن فرقة من الكفرة قادها عصيانها ، ونعق بقادتها في الكفر والعمى شيطانها ، إمامها المقدم ، وسيدها المعظم ، (ماني) الكافر بأنعم الله اللعين ، الذي لم يبلغ كفره قط بالله الشياطين ، ابتدع من القول زورا لم يسبقه إليه سابق من الأولين ، ولم يقل به قبله قط أحد من قدماء الخالين ، مع افتراق مللهم ، ومختلف سبلهم ، فزعم أن الأشياء كلها شيئان ، وقد يوجد خلاف زعمه بالعيان ، فلا يوجد بين ما ذكر من النور والظلمة فرقة ، إلا وجدت الأشياء كلها بمثله لهما مفارقة ، إلا أن الفرقة بين الأشياء أوجد ، ومن الأشياء للنور والظلمة أوكد ، مكابرة لعقول أطفال الأنام ، وتجاهلا بما تجهله بهيمة الأنعام.

ثم قال تحكما ، وافترى زعما ، أن الأشياء كلها من النور والظلمة مزاج ، وأنه لم

__________________

(١) ماني بن فاتك ، مؤسس المانوية ، ولد بجنوبي بابل نحو سنة (٢١٦ م) أي بعد ميلاد المسيح عليه‌السلام ، واختلف في أصله ، إلا أن أقرب للصواب أنه كان فارسي الأصل ، وتربى تربية دينية ، هيئته فيما بعد إلى ادعاء النبوة هو في سن صغيرة في الرابعة والعشرين من عمره. أما عن أسباب ادعائه النبوة في هذه السن وبواعث ذلك فهو أمر يصعب معرفته أو التكهن به ، لأن أغلب المراجع التي أرخت له تقف عند أسباب ادعائه للنبوة ، إلا أن الظاهر من ذلك هو أن ميوله الشخصية وبيئته والتربية الدينية التي تلقاها قد أثرت كثيرا في ذلك. الموسوعة الفلسفية / ٤١٧.

وشرع يبشر بالمانوية وقصد الهند ، ولما ارتقى شابور عرش فارس (٢٤١ م) استدعاه ، لكن دعوته لاقت معارضة شديدة من كهنة الزرادشتية ، فلما نصب بهرام بن شابور ملكا قضى بإعدامه سنة (٢٧٢ م).

وتعتبر المانوية فرقة غنوصية مسيحية ، وهي من أخطر الدعوات على العقيدة المسيحية والأفكار التي تعرضت لها منذ بشر بها المسيح عليه‌السلام ، بل تعتبر من أطول هذه الدعوات التي أثرت فيها ، إذ استمرت من القرن الثالث الميلادي حتى القرن الثالث عشر.

انتشرت المانوية وشاعت واعتنقها الكثيرون في سوريا وآسيا الصغرى والهند والصين ومصر وبلاد البلقان وإيطاليا وفرنسا ، وكان القديس أوغسطين نفسه مانويا لبعض الوقت.

وتقوم عقيدة المانوية على ثنائية الإله ، وهي أهم فكرة في هذه العقيدة ، فهناك إله للنور وإله للظلمة ، والأول إله للخير والخصب والثمار ، والثاني إله للشر والدمار.

٣٢٢

يكن بينهما فيما خلا من دهرهما امتزاج ، سفها من القول وتعبثا (١) ، ومجانة في السفه وخبثا ، فثبت بينهما شبه الاستواء ، وحكم عليها حكم السواء ، في حالين يجمعانهما عنده معا ، وفعالين يتساويان فيهما جميعا ، فقال في أولاهما لم يمتزجا ، ثم قال في أخراهما امتزجا ، فجمعهما ـ عنده في الامتزاج وخلافه ـ الحالان ، واشتراكهما فيما كان من إساءة وإحسان ، وليس في أنهما هما الأصلان ، دليل واضح به يثبتان ، أكثر من تحكّم العماة في الدعوى ، والاعتساف منهم (٢) فيهما للعشوى ، وما ذا يرون قولهم ، لو عارضهم مبطل في الدعوى كهم (٣).

فقال : بل النور والظلمة مزاجان ، ومن ورائهما فلهما أصلان ، هل يوجد من ذلك لهم ، إلا ما يوجد لمن خالفهم؟!

فإن قالوا : الدليل على ذلك نفع النور ، فربما ضرنا النور في أكثر حوادث الأمور ، ولما يوجد من نفع قليل غيره ، أنفع مما يوجد من أكثر كثيره ، لتمرة أنفع في الغذاء لأكلها ، من الأنوار في الغذاء كلها ، ولئن كانت الدلالة من الدال على المنكر ضرا ، يعود عندهم شرا ، إن النور لأدل على طلبات الأشرار ، وأكشف لهم عن خفيات ما يبغون من الأسرار ، التي عنها تجلى نورهم ، وبه كثرت في الضر شرورهم.

وإن كان دليل عماة الظّلمة ، على ما بينوه أصلا في (٤) الظلمة ، ضر الظلمة في بعض أمورها ، لربما منعت كثيرا من الشرور بستورها ، فلم يجد لمنعها بسواتر ظلامها ، الأئمة سبيلا إلى تناول آثامها ، ولسنا نجد عيانا نورهم من المضارّ معرّى ، ولا ظلامهم في جميع الأحوال مضرا ، (٥) إلا أن يكون نورهم عندهم غير النور المعقول ، فيصيروا

__________________

(١) في جميع المخطوطات : وتعنتنا. وما أثبت اجتهاد.

(٢) في (ب) : فيهم.

(٣) في (ب) و (د) : لهم.

(٤) في (ب) : من الظلمة ضرا الظلمة. وفي (د) : ضرا للظلمة.

(٥) قال أحد الشعراء مقتدا دعوى المانوية في أن النفع وإلى في النور والضر والشر في الظلمة. وكم لظلام الليل عندي من يد تفيد بأن المانوية تكذب يقول : إن للظلام عندي أباد مشكورة فقد نفعني وأوصل إلى الخير حينما جن تسترني مع معشوقي ولولاه لما تمكنت من لقائه ، وهذا النفع من الظلام يكذب ـ

٣٢٣

بعد إثبات أصلين إلى إثبات أصول ، ويحكموا على غائب لا يرى ، بحكم لا يتيقن ولا يمترى ، يتبين به عند أنفسهم قصرة (١) عماهم ، ويصح لهم بله (٢) غيرهم فيه خطاهم.

ثم يقال لهم أيضا : حدثونا عن نور الشمس ، وما يباشر أبصار المبصرين منه عند شروقه باللمس ، أليس نافعا (٣) في نفسه ، وعند مباشرة لمسه؟!

فإن قالوا : بلى ، وكلما تلألأ ؛ لأنه يتلألأ فيشرق وينير ، وكذا الأمر به كل نور إما قليل وإما كثير.

قيل : فما باله يعشي أبصار الناظرين ويؤذيها؟! وما بال بعض الحيوان لا تبصر مع ضوء الشمس وتلاليها؟! (٤)

فإن قالوا : لعلة (٥) أن النور إذا أشرق على ناظر الانسان ، وغيره مما يبصر (٦) مع ضوء الشمس من الحيوان ، رد مع شروقه ما في النواظر ، من الظلمة إلى الناظر ، فلم ير فيه ، ولم يطق النظر إليه.

قيل : فالظلمة في قولهم تستر ، فكيف مع مكانها في الناظر تبصر ، وقد ترى الأبصار ، إذا أشرقت الأنوار ، تبصر حينئذ الأشياء ، وترى الظلمة والضياء ، فلو كانت الظلمة لها سترة ، لما أبصرت ما ترونها له مبصرة.

فإن قالوا : الحرارة هي التي فعلت ذلك بالأبصار ؛ لأن النور من شأنه دفعها إلى ما هي فيه من محجر القرار.

قيل : فالحرارة عندكم يا هؤلاء من شأنها الإحراق ، وقد يرى الناظر يديم النظر إلى شروق الشمس فلا يحرق ناظره الإشراق! وقد يزعمون أن الحرارة في الظلمة أوكد ،

__________________

ـ دعوى المانوية في نسبة الشر إلى الظلام والخير إلى النور.

(١) القصر : اختلاط الظلام.

(٢) بله : ناهيك عن ، أو فضلا عنه.

(٣) في (أ) و (ج) : نافع.

(٤) أي : تلألؤها. وإنما حذف الهمز لتوافق السجعة أو الفصلة السابقة. وهي لغة حجازية.

(٥) في (ب) : العلة.

(٦) في (ب) : لا يبصر.

٣٢٤

وفي سوسها (١) وكونها أوجد ، ثم يديم الناظر إليها نظره ، فلا يعشيه ولا يحرق بصره! فأي دليل أدل على تلعبهم ، وأوضح برهانا على سفه مذهبهم؟! من هذا عند من ذاق من المعارف ذوقا ، وعقل بين مفترقات الأشياء فروقا!!.

وأخرى يا هؤلاء فافهموها ، تدل فيها على غير الأوهام التي توهموها ، أن الشديد الرمد يجد في الظلمة راحة وفترة ، وأنه يجد في النور عند مقاربته له مضرة منكرة ، فلا نرى الظلمة إلا تفعل خيرا ، ولا النور إلا يفعل شرا كبيرا (٢).

وهذا فقد يبين أيضا بوجه آخر ، يدل على خلاف ما قالوا في الخير والشر.

وهو أن يقال لهم في الماء ، إذ زعموا أنه مزاج من النور والظلماء : ما بال قليله ينفع وكثيره يضر؟!

فإن قالوا من قبل أن المزاج يقل ويكثر.

قيل : فما بال كثير نوره ، في الكثير من بحوره ، لا يمنع ضر كثير ظلمته ، كما منع قليل نفعه قليل مضرته؟!

أم تزعمون أن قليل النور أقوى من كثيره ، فهذا من القول هو المحال بعينه ، أن يكون قليل من شيء هو أقوى من كثير ، كان منيرا أو غير منير!

ومما ـ أيضا ـ يدخل عليهم ، أن يقال إن شاء الله لهم : حدثونا يا هؤلاء عن الثور (٣) ما باله يفر عن الحر إذا أحرقه إلى البرد والضّلال ، ويفر من البرد إذا آذاه إلى الصّلاء (٤) والنار ، وهما في زعمكم جميعا ظلمة مضرة ، ليس لأحد فيهما منفعة ولا مسرّة! ولن يخلو عندكم أن يكونا من سوسه فينفعاه ، أو مما زعمتم من خلافه فيضراه؟!

فإن قلتم بما فيهما من مزاج النور انتفع؟

__________________

(١) أي : أساسها.

(٢) في (ب) و (د) : كثيرا.

(٣) في (ب) و (د) : النور. ولعلها مصحفة.

(٤) الصّلاء : الشواء.

٣٢٥

قيل لكم : فإلى أيهما فر ونزع؟!

فإن قالوا : إلى أكثرهما نورا ، وأقلهما من المزاج شرورا.

قيل : لئن كان من الشر إلى الخير صار بفراره ، لقد أدركه الشر منهما في مقره وقراره ، وإن ذلك لما لا ينمي (١) أبدا ، ولا يكون حيث كان إلا ضدا.

ثم يقال لهم : هل الظلمة مضادة للنور؟

فإن قالوا نعم.

قيل : أبمثل ما يعقل من تضاد الأمور؟

فإن قالوا : نعم.

قيل : إن الضد لا يجامع أبدا ضدا ، إلا أفناه فكان له عند المجامعة مفسدا ، ولا تكون المضادّة من الشيئين واقعة ، إلا لم تجمعها بعد تضادهما جامعة ، إلا مع بطلان موجود (٢) أعيانهما ، أو تبدّلهما باجتماعهما عن معهود شأنهما ، كبطلان الثلج والنار عند اعتلاجهما ، أو كتبدل اللونين أو الطعمين في امتزاجهما.

فكيف يصح لما زعموا من الأصلين الاجتماع؟! أو يوجد منهما بعد المزاج إضرار (٣) أو انتفاع؟! وهما لا يكونان إلا متنافرين ، أو مزاجا فيكونا متغيرين ، كتغير الممتزجات عند مزاجها (٤) إلى فعال واحد ، يجده منها بدرك الحواس أو بعضها كل واحد.

لا كما قال (ماني) المكابر لدرك حسه ، المخالف فيما قال ليقين نفسه ، المتلعب (٥) في مذهبه ، السفيه بمتلعّبه.

__________________

(١) لا ينمي : أي : لا ينجي ، والنامي : الناجي. قال التغلبي :

وما فيه كان السم فيها

وليس سليمها أبدا بنامي

لسان العرب مادة نمي.

(٢) في (ب) : وجود.

(٣) في (ب) : أو إضرار وانتفاع. وفي (د) : اضطرار أو انتفاع.

(٤) في (أ) : مزاجهما.

(٥) في (ب) : المتغلب في مذهبه السفيه بمتغلبه ، وهو تصحيف.

٣٢٦

وهذا أيضا يكذب قولهم ، أن يقال لهم : حدثونا ممن موجود الضحك والبكاء؟

فإن قالوا : هما من الظلماء. لم يصح أن يكونا وهما متضادان من واحد غير متضاد. وكذلك إن قالوا من النور لم يصح أن يكونا منه وهو واحد غير ذي تضاد.

وكذلك الجوع والشبع ، والصبر والجزع ، والفرح والحزن ، والجرأة والجبن ، وهذا كله ، وفرعه وأصله ، عندهم شرّ مذموم ، وفي كل حال مقبّح ملوم ؛ لأنه قد يضحك ويبكي ، ويصح في هذا الدار ويشتكي (١) ، ويجوع ويشبع ، ويصبر ويجزع ، ويفرح ويحزن ، ويجترئ ويجبن ، من يكون ذلك كله منه عندهم في بعض الحال شرا ، فكفى بهذا لمن أنصف الحق من نفسه منهم معتبرا.

فهذا أصل قول (ماني) النجس الرجيس (٢) ، الذي لم يسبق قوله فيه قول إبليس ، ولم يعب على الله بمثله قط عات ، ولم يقصر بمعتقده عن غايات الضلالات ، وعلى هذا ـ من قوله ، وما وصفنا فيه من أصوله ـ مات (٣) ماني لعنه الله لعنا كثيرا ، وزاده إلى ناره سعيرا.

[الرد على بن المقفع]

ثم خلف من بعد ماني أبي (٤) الحيرة والهلكات ، خلف سوء استخلفه إبليس على ما خلف ماني من الضلالات ، يسمى ابن المقفع (٥) ، لعنه الله بكل مرأى ومسمع ، فورث

__________________

(١) أي : يمرض.

(٢) في (أ) و (ج) : الرجس.

(٣) في (ج) : فات.

(٤) في (ب) : أبو.

(٥) ابن المقفع :

أبو محمد عبد الله روزبه بن داذويه. فارسي الأصل.

ولد حوالي سنة / ١٠٦ ه‍ ، في قرية بفارس اسمها (جور). وهي مدينة (فيروزآباد) الحالية ، وقيل بالعراق.

لقب أبوه بالمقفّع ، بفتح الفاء ، لأن الحجاج ضربه فتقفعت يده ، أي : تشنجت.

وقيل : بكسرها لعمله القفعة ، وهي شبيهة بالزنبيل ، بلا عروة وتعمل من الخوص.

٣٢٧

__________________

نشأ بين أحياء العرب. فكان أبوه (داذويه) المقفع الفارسي يعمل في جباية الخراج لولاة العراق ، من قبل بني أمية ، وهو على دين المجوسية ، ثم أسلم في آخر عمره ، وولد له ابنه هذا وسماه (روزبه) فنشأ بالبصرة ، وهي يومئذ حلبة العرب ، ومنتدى البلغاء والخطباء والشعراء.

فكان لكل ذلك ـ فوق ذكائه المفرط ـ أعظم أثر في تربيته ، وتهيئته ، لأن يصير من الكتاب والأدباء ، والمترجمين إليها.

وكان مجوسيا مزدكيا ، قيل أسلم على يد عيسى بن علي ـ عم السفاح ـ بمحضر من الناس ، وتسمى (عبد الله) وتكنى بأبي محمد.

وتقرب من بني أمية وولاتهم ، فكان يكتب ليزيد بن عمر بن هبيرة وإلى العراق في عهده ، ثم كتب لأخيه داود بن هبيرة بعده وهو لا يزال مجوسيا. في خلافة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.

فلما ظهر العباسيون ، وتمكنوا من الأمويين اتصل بعيسى بن علي ـ عم الخليفين السفاح ، والمنصور ـ وكان حاكم الأهواز ، فأسلم على يده ـ كما قيل ـ فكان كاتب ديوانه ، كما قام بتعليم بني أخيه فنون العربية.

والمؤرخون يقولون إنه كان كاتبا بليغا يضارع صديقه الكاتب عبد الحميد الكاتب ، والذي كان يكتب بالشام لمروان بن محمد الملقب بالحمار ـ آخر خلفاء بني أمية.

وترجم له كتب (أرسطاطاليس) الثلاثة في المنطق ، وكتاب (المدخل إلى علم المنطق) المعروف بإيساغوجي. وترجم له عن الفارسية وقيل عن الهندية كتاب (كليلة ودمنة) الشهير.

واتهم بالزندقة.

قال ابن حجر : وحكى الجاحظ أن ابن المقفع ، ومطيع بن أياس ، ويحيى بن زياد ، كانوا يتهمون ، ويقال : إن ابن المقفع مر ببيت نار المجوس ، فتمثل بأبيات عاتكة.

والبيتان ذكرهما الشريف المرتضى في أماليه ، وقال روى ابن شيبة قال حدثني من سمع ابن المقفع وقد مر ببيت نار المجوس ، بعد أن أسلم فلمحه وتمثل :

يا بيت عاتكة الذي أتغزل

حذر العدى وبه الفؤاد موكل

إني لأمنحك الصدود وإنني

قسما إليك مع الصدود لأميل

وقال الشريف المرتضى أيضا :

وروى أحمد بن يحيى ثعلب قال : قال ابن المقفع يرثي يحيى بن زياد ، وقال الأخفش : والصحيح أنه يرثي بها ابن أبي العوجاء :

رزئنا أبا عمرو ولا حي مثله

فلله ريب الحادثات بمن وقع

فإن تك قد فارقتنا وتركتنا

ذوي خلة ما في السداد لها طمع

لقد جر نفعا فقدنا لك أننا

أمنّا على كل الرزايا من الجزع

٣٢٨

__________________

قال ثعلب : البيت الأخير يدل على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر ، والشر ممزوج بالخير.

أقول : والأبيات مذكورة في حماسة أبي تمام / ٣٥٧.

وقال ابن حجر : ونقل عن ابن المهدي أنه قال : ما رأيت كتابا في زندقة إلا هو أصله. لسان الميزان ٣ / ٤٤٩.

وكذلك قال الشريف المرتضى في أماليه ١ / ١٣٥.

وأيضا ما نقل الإمام القاسم عنه من كتابه من النصوص التي تؤكد صدق ما قيل عنه من الزندقة ، شاهد عدل ، وخبر ثبت ، سيما والإمام القاسم قريب العهد به ، إذ ولد ابن المقفع سنة (١٠٦ ه‍) ، وولد الإمام القاسم سنة (١٦٩ ه‍). إضافة إلى ورع الإمام الشديد الذي يستحيل معه التقول والافتراء. ورغم أني بحثت كثيرا عن كتب ابن المقفع إلا أني لم أعثر إلا على مجلد بعنوان آثار ابن المقفع ، بعد لأي وجهد ، حصلت عليه من مكتبة بعمان الأردن ، يحتوي هذا المجلد على :

ـ كليلة ودمنة.

ـ الأدب الكبير

ـ الأدب الصغير

ـ الدرة اليتيمة

ـ رسالة في الصحابة ، وبضع وريقات رسائل وحكم.

ولم أقف على كتابه الذي نقل منه الإمام القاسم ، ولعل الله أن يمن بالوقوف عليه.

ولقد شن الجاحظ حملة شعواء على الثنوية ، وذكر طرفا من عقائدهم التي ذكرها الإمام القاسم في كتابه (الرد على ابن المقفع) ، وهو من المعاصرين للإمام القاسم ، فقال : إن كتبهم لا تفيد علما ولا حكمة ، وليس فيها مثل سائر ، ولا خبر طريف ، ولا صنعة أدب ، ولا حكمة غريبة ، ولا فلسفة ، ولا مسألة كلامية ... وجل ما فيها ذكر النور والظلمة ، وتناكح الشياطين ، وتسافد العفاريت ، وذكر الصنديد ، والتهويل بعمود الصبح). الحيوان ١ / ٢٨.

وهذا يؤكد وجود رسالة ابن المقفع في هذا الشأن ، التي رد عليها الإمام القاسم ، وقد أثبت المستشرق الإيطالي (ميكل أنجلو جويدي) رسالة ابن المقفع التي فندها الإمام القاسم وأكد أنها من تأليفه.

ورغم الهالة العلمية الكبيرة التي أحيط بها في علمه بفنون وآداب العربية ، فإن الإمام القاسم قلل من علمه بلغة العرب ، وآدابها ، في غير ما موضع من كتابه هذا. قال : إنه إنما أتي هو وأضرابه من قبل جهلهم باللسان العربي. ومثّل لذلك بقوله : والذي اضطرت عظمته أعداءه الجاهلين له ، والعامين عنه. فقال : وجهله بما بين العامين والعمين من الفرق في اللسان ، أوقعه بحيث وقع من جهله بمخارج القرآن ، والعامي فإنما هو ما نسب إلى أعوام الزمان ، والعمي فإنما هو أحد العميان.

قتله ـ حرقا بتهمة الزندقة ـ سفيان بن معاوية المهلبي ، أمير البصرة ، بأمر المنصور.

٣٢٩

عن ماني في كفره ميراثه ، وحاز عن أبيه ماني فيه تراثه ، فعقد بعنقه من ضلالاته أرباقها ، (١)وشد على نفسه من هلكاته (٢) أطواقها ، فنشأ في الغواية منشأه ، وا فترى على الله ورسله افتراءه ، فوضع كتابا أعجمي البيان ، حكم فيه لنفسه بكل زور وبهتان ، فقال من عيب المرسلين ، وافترى الكذب على رب العالمين ، بما تقوم له ذوائب الرءوس ، وتضطرب لوحشته أركان النفوس ، ووصل إلينا في ذلك كتابه ، وما جمحت به فيه من الإفك ألعابه.

فرأينا في الحق أن نضع نقضه ، بعد أن وضعنا من قول ماني بعضه ، إذ كان ماني العمي له فيما قال من الضّلال إماما ، فأما النقض على ماني فسنضع له إن شاء الله كتابا تاما (٣).

زعم ابن المقفع اللعين عماية وفرطا ، أنه لا يرى من الأشياء كلها إلا مزاجا مختلطا. كذلك زعم النور والظلمة ، اللذان هما عنده الجهل والحكمة.

فاعرفوا إن شاء الله هذا من أصله ، فإنا إنما وضعناه لنكشف به عن جهله ، وبالله نستعين في كل حال ، كانت منا في قول أو فعال

__________________

وقيل : إن سبب قتله الأمان الذي كتبه لعبد الله بن علي ـ عم المنصور ـ بعد أن خرج بالشام بعد موت السفاح ، وكان أميرا عليها ، وغلب عليها ، وادعى أن السفاح عهد إليه ، فجهز المنصور أبا مسلم الخراساني ، فدخل البصرة ، فاستأمن له أخواه عيسى وسليمان المنصور فآمنه ، فطلب عبد الله من يرتب له كتاب أمان لا يستطيع المنصور أن ينقضه ، وكان ابن المقفع كاتب سليمان أمير البصرة فأمره فكتب نسخة الأمان ، ومن جملته : ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله ، فرقيقه أحرار ، ونساؤه طوالق ، والمسلمون في حل من بيعته. فاشتد على المنصور ، وأمر سفيان بن معاوية المهلبي ـ وكان يعادي ابن المقفع ـ أن يقتله فقتله.

هذا ما قيل في سبب قتله.

وكما أسلفنا فقد ولد ابن المقفع سنة (١٠٦ ه‍) ، وقتل سنة (١٤٢ ه‍). يعني أنه كان في ريعان شبابه عند مقتله ، فعمره آنذاك (٣٦) سنة.

(١) الأرباق جمع ربق : الحبال.

(٢) في (أ) و (ج) : هلكته.

(٣) لم نقف عليه ولم يذكره المؤرخون ، فلعل الإمام عليه‌السلام توفي قبل وضعه.

٣٣٠

كان أول ما افتتح به كتابه ، ما أكذب به نفسه وأصحابه ، أن قال :

بسم النور (١) الرحمن الرحيم

فإن كان النور هو الذي فعل اسمه (فلا اسم له ، وإن لم يكن فعل اسمه فمن فعله ، فإن هم ثبتوا (٢) له اسما غيره لم يكن إلا مفعولا ، وإن كان هو اسمه) (٣) كانت أسماؤه ممن سماه فضولا ، والفضول عندهم من كل شيء فمذمومة ، وأسماؤه إذا كلها شرور ملومة ، فهل يبلغ هذا من القول ، إلا كل أحمق أو مخبول.

وقال : الرحمن الرحيم ، فلمن زعم ألنفسه أم للأصل الذميم؟! فإن كان عنده رحمانا رحيما ، لمن لم يزل عنده شرا مليما (٤) ، إن هذا لهو أجلّ الجهل ، والرضى عما ذم من الأصل ، وإن كان إنما هو رحيم رحمان ، لما هو من نفسه إحسان ، فهذا أحول المحال ، وأخبث متناقض الأقوال.

ثم قال : أما بعد : فتعالى النور الملك العظيم ، فليت شعري أيّ تعال يثبت لمن هو في أسفل التخوم!! ومن هو مختلط عنده بكل مذموم ، من الأنتان القذرة ، والبول والعذرة ، وبكل ظلمة هائلة ، وأوساخ سائلة ، مرتبط في الأسافل ، مزلزل فيها بأمواج الزلازل ، لا يطيب منها نتنا ، ولا يعيد قبيحا حسنا ، ولا هائلا أنسا ، ولا سائل بول يبسا.

أيّ ملك لمن لا يملك إلا نفسه وحدها؟! ولا يستطيع رشدا إلا رشدها! ولا يتخلص من مرتبط عدو! ولا يقدر على النجاة من سوء! وأي عظمة تحق لمناوئ ضده بالمباشرة؟! ولم (٥) يعل عدوه بغلبة ـ له عن مباشرته (٦) ـ قاهرة ، ومن فرّقته المناواة أعضاء؟! ومزّقته المحاربة أجزاء؟! ومن حطّه حربه من أعالي العلى؟! إلى بطون الأرض السفلى؟!!

__________________

(١) في (ب) : الله (خطأ).

(٢) في (أ) : بينوا.

(٣) سقط ما بين القوسين من (ج).

(٤) في (ب) و (د) : ملوما.

(٥) في (ب) : ولمن.

(٦) في (أ) و (ب) : مياشرته.

٣٣١

ثم قال زعم : الذي بعظمته وحكمته ونوره عرفه أولياؤه. فليت شعري أنور أولئك عنده أم ظلمة؟! فإن كانوا نورا (١) فهم أجزاؤه ، أو ظلمة فتلك ـ زعم ـ أعداؤه ، فهو الذي لا ولي له في قوله ، ولم يؤمن عليه الفناء بعد زواله ، عما كان معهودا من حاله ، ومع ما صار إليه من انتقاله ، عن دار أودّائه ، إلى دار أعدائه (٢).

فيا ويل ابن المقفع ، أيّ مشسع (٣) عن الحق شسع ، وأي متطوّح (٤) من الضلالة تطوّح ، وإلى أيّ طحية (٥) من العماية تروّح (٦).

فافهموا أيها السامعون عجيب أنبائه ، وتدبروا من قوله معيب أهوائه ، إذ زعم (٧) أن بعظمة نوره ، وحكمة ما ذكر من زوره ، كانت أولياؤه ـ زعم ـ عارفة ، كأنه يثبت أنها كانت به جاهلة ، ومع تثبيت هذا من القول في أموره ، ثبت عمى (٨) الجهل والشر في نوره ، ثم نسب عظمة إلى عظيم ، وثبّت حكمة لحكيم ، فأضاف نورا إلى منير ، ولا (٩) يخلو ذلك من أن يكون قليلا من كثير ، فيكون كثير ذلك أفضل من قليله ، فيكون مقصرا بالقليل عن الكثير وتفضيله ، والتقصير نقص والنقص عنده شر من شروره ، والشر ـ زعم ـ لا يكون أبدا في نوره. فاسمعوا لقول التناقض ، وزور حجج التداحض ، ففي واحدة مما عددنا ، وأصغر ما من قوله أفسدنا ، كفاية نور كافية ، وأشفية من الضلالة شافية ، لمن أنصف فاعتبر ، واعتبر فادّكر.

فإن زعم أن عظمته ونوره وحكمته هن هو ، زال عنه بزواله عنهن إذ هواهن الارتفاع والعلو ، إلا أن يزعموا أنه ليس في الأرض للنور عظمة ، ولا في دار هذه الدنيا

__________________

(١) في (ب) و (د) : أنوارا.

(٢) في (أ) و (ج) : عذابه. (مصحفة).

(٣) المشسع : المبعد.

(٤) المتطوح : المهلكة والمهوى.

(٥) الطحية : الذهاب في الأرض ، والبعد.

(٦) تروّح أي : ذهب.

(٧) في (ج) : إذ يزعم ، وسقط : إذ من (ب).

(٨) في (ج) : عم الجهل والبشر.

(٩) في (ب) : ولن. وفي (د) : أن.

٣٣٢

من حكمه حكمة ، فيكون هذا ترك قولهم كله ، والخروج من معهود فرعهم فيه وأصله.

ثم قال زعم : والذي اضطرت عظمته أعداءه ، الجاهلين له ، والعامين عنه ، إلى تعظيمه ـ كما زعم ـ لا يجد الأعمى بدا مع قلة نصيبه من النهار أن يسميه نهارا مضيئا.

وجهله بما بين العامين والعمين من الفرق في اللسان ، أوقعه بحيث وقع من جهله بمخارج (١) القرآن ، والعامي فإنما هو ما نسب إلى أعوام الزمان ، والعميّ فإنما هو أحد العميان ، فكيف ويله مع جهله لهذا ومثله ، يقدم على تعنيف وحي كتاب الله ومنزله ، الذي نزله على رسله ، سبحان الله ما يبلغ العمى بأهله!! فثبّت العظمة من نوره جزءا ، وجعلها (٢) من أعضائه عضوا ، ونسب إليها بعد فعلا ، زالت (٣) به عن عدو النور جهلا ، ورفعت به عن العمين ـ زعم ـ عماهم ، والعمون فلا يكونون عنده إلا ظلماهم ، فلا نرى عظمتهم عندهم ، وإن كابروا في ذلك جهدهم ، إلا وقد أولت الظلمة خيرا كثيرا ، وأحدثت (٤) للجهل والعمى تغييرا ، وهو يزعم في قوله ، أنه لا تغيّر (٥) في شيء من أصوله ، والأعمى فلم ينكر قط نهارا ، ولم يستصغر نهاره احتقارا ، ولم يعارضه به جهل ، ولم يكن له عما فيه تبدّل ، وأعداء نوره به ـ زعم ـ جاهلة (٦) ، وعن مذهبه فيه ضآلة مضلة ، (٧) فكيف يصح تمثيله لهم بالأعمى؟ إن هذا لصمم من ابن المقفع وعمى!!

ثم قال : ومسبّح ومقدّس النور. (٨) النور الذي ـ زعم ـ من جهله لم يعرف شيئا

__________________

(١) في (ج) : جهله لمخارج. وفي (د) : بمن جهله بمخارج.

(٢) في (أ) و (ب) و (د) : وجعله من. وفي (ج) : وجعل له من. وما أثبت هو الصواب. تأمل.

(٣) في (أ) و (ج) : أزاله. وفي (د) : أزالت.

(٤) في (ج) : أو حديث (مصحفة).

(٥) في (أ) و (ج) : لا يغير شيء من أصوله.

(٦) في (ج) : جهله. (تصحيف).

(٧) في (أ) و (ج) : متصلة.

(٨) في (ب) و (د) : ومقدس النور الذي.

٣٣٣

غيره ، ومن شك فيه ـ زعم ـ لم يستيقن بشيء بعده.

فاسمعوا في هذا القول من أعاجيبه! وما استحوذ عليه فيه من ألاعيبه!! قال ومسبّح فمن تأويله مسبّحه (١) ، إذ ليس إلا هو وعدوه الذي لا يسبحه ، فإن كان إنما يسبح نفسه ، فإنما يسبح جنس جنسه ، فما في ذلك له من المدح! وما يحق بهذا من مسبّح وغير مسبّح ، وإن (٢) كان إنما سبحه (٣) جزء من أجزائه ، فإنما سبح (٤) الجزء نفسه وغيره نظيره (٥) من أكفائه ، وقد يحق له يا هؤلاء على الأكفاء ، من تسبيحه ما يحق لها عليه بالسواء ، وهو مسبّح ومسبّح ، ومادح وممتدح ، فليس له من مسبّحه إلا ما عليه مثله من تسبيحه ، ولا له من مادحه إلا ما عليه من مديحه ، وكل هذا أعجب عجيب! وقول متناقض وتكذيب!!

قال : ومقدّس وإنما مقدّس مفعّل ومعناه فمبرّك ، فمن يبرّكه وهو عنده يبرّك ولا يبرّك ، وليس معه إلا عدوه ، الذي لا سوّ إلا سوّه ، (٦) فنفسه تبرّكه ، فقد كان إذا ولا بركة له. فسبحان الله ما أفحش خطاهم! وأبين جهلهم وعماهم!!

فإن قال قائل منهم فبهذا فقد قلتم ، وقد يدخل لهم عليكم ما أدخلتم!!

قلنا أما مسبّح فنقولها ، وأما مقدس فأنت تقولها ، ونحن لا من (٧) طريق ما كفرت ، فقد نقولها في النور الذي ذكرت ، لأن الله تبارك وتعالى بارك فيه ، وفطره من البركة على ما فطره عليه ، فينفع بقدره (٨) ، في بعض أمره ، فدل بذلك على بركته ، وإحسان وليّ فطرته ، ولكنا نقول في الله : الملك القدوس كما قال ، إذ كان كل شيء فبقدسه

__________________

(١) في (ج) : سبحانه.

(٢) في (ب) و (د) : فإن.

(٣) في (ج) : يسبحانه. وفي (ب) و (د) : يسبحه.

(٤) في (ب) و (د) : يسبح.

(٥) في (ب) و (د) : نظيرا.

(٦) يعني : لا سوء إلا سوءه. وإنما لغة الإمام لغة حجازية وهم يسهلون المهموز.

(٧) في (أ) : لأن (مصحفة).

(٨) في (ب) و (د) : بقدرته.

٣٣٤

نال من قدس البركة (١) ما نال.

ومسبّح فقد نقولها (٢) ، إذ نجدها له ونعقلها ، من كل ما هو سواه مفطورا ، ظلمة كان ذلك أو نورا ، فأما هذيان التعبث ، وقول التناقض والتنكث ، فهو بحمد الله ما لا نقول ، مما لا يقارب قول (٣) أهل العقول ، فأما قوله : الذي من جهله لم يعرف شيئا غيره ، فافهموا فيه هذيانه وهذره ، فلعمر أبيه ، ولعمر مغويه ، لقد يعرف ـ الطب والصناعات ، وأنواع ما تفرق فيه الناس من البياعات ـ من لا يعرف نوره ، ولا يتوهم أموره ، يعرف ذلك يقينا من نفسه ابن المقفع ، ويرى منه (٤) بيانا بكل مرأى ومسمع ، كم ترون من طبيب طلب منه ابن المقفع الدواء؟! أو موصل من العوام أوصل إليه سراء (٥) أو ضراء؟! توقن نفسه أن طبيبه يداويه ، وأنه لا ينجع (٦) فيه بغير يقين تداويه.

وكذلك من أوصل إلى ابن المقفع ضراءه فقد يعلم أنها غير سرّائه ، أو أوصل إليه سرّاءه فقد يوقن بتّا أنها غير ضرائه ، وهذا من تكذيبه فيما قال فأتم موجود ، كثير بين الناس في كل ساعة معهود ، لا يشك في يقينه أهل الطب والصنائع ، ولا العامة فيما تدبر من المضارّ بينها والمنافع ، وكلهم لا يوقن بشيء مما زعم في نوره ، بل يزعم أن الجهل في كل ما هو عليه من أموره.

ثم ابن المقفع فقد يعلم بتّا يقينا ، أن الناس لا يثبتون لشيطانه فعلا ولا عينا (٧) ، فأي أمر أعمه عمها؟! أو ضلالة أقل شبها؟! من ضلالة دخلت بأهلها ، في مثل هذا السبيل من جهلها! فنعوذ بالله من خزي الأضاليل ، ونعتصم به من لهو الأباطيل ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا طيبا مباركا فيه.

__________________

(١) في (د) : البركة له ما نال.

(٢) في (أ) و (ج) : ويفعلها. تصحيف.

(٣) في (أ) : يقارب قوله العقول.

(٤) في (أ) و (ج) : وابن أمية. تصحيف.

(٥) في (أ) و (ج) : شرا أو ضرا.

(٦) أي : لا ينفع.

(٧) في (ب) و (ج) : عبثا.

٣٣٥

وأما ما بعد هذا من حشو كتابه ، فإنا قصرنا ـ لضعفه (١) ـ عن جوابه. ثم قال وتلعّب (٢) في بعض كلامه ، وجوّز ما حكم به لنفسه من أحكامه : فقد يبصر المبصرون ـ زعم ـ أن من الأمور محمودا ، وأن منها مذموما. فقال منها ولم يقل كلها ، وسقط عنه بعضها وفضلها ، وإذا كان لأيها (٣) كان بعض وكل ، كان لكلها يقينا على بعضها (٤) فضل ، وإذا ثبت بين النور التفاضل ، ثبت لبعضه على بعض فضائل ، وإذا كان النور فاضلا ومفضولا ، فقد عاد (٥) النور بعد أصل أصولا ، إذ الفاضل والمفضول اثنان ، والفضل والنقص منهما شيئان ، والفاضل فخير حالا ، والمفضول أسفل سفالا ، فكل جزءين من أجزائه ، فهما خير من جزء ، وكل عضو من أعضائه ، فهو في الشر كعضو ، وهما (٦) إذا اجتمعا ، خير منهما إذا انقطعا ، فمرة فيهما (٧) خير عند الاجتماع ، ومرة فغيرهما خير منهما عند الانقطاع.

وكذلك أيضا فقد يدخل عليهم (٨) في الظلمة وتفاضلها ، ما يصيّرهم إلى أن شر البعض منهما أقل من شر كلها ، إذ شر كلها أكثر من شر بعضها ، وإذ الشر من أقلها ليس هو أكثر من شر كلها ، فالنور في نفسه واسمه شر ضرّار ، ونافع شرّار ، وذلك أنه (٩) يقل والقلة عنده شر فيعود نوره ضرا ، ويقصر عن قدر مبلغ كماله والتقصير عنده ضر فيعود ضرا ، والظلمة فخير عندهم وشر ، ونفع وضر ، إذ قليلها (١٠) مقصر في

__________________

(١) في (ب) و (د) : لضعفه فيه عن.

(٢) سقط من (ج) : وتلعب.

(٣) في (ب) و (د) : لأيهما.

(٤) في (ب) و (د) : بعض.

(٥) في (ب) : صار.

(٦) في (ب) و (د) : فهما.

(٧) في (أ) و (ج) : فيهما. وفي (ب) و (د) : فهما. ويبدو أن كليهما مصحفة.

(٨) في (أ) و (د) : يدخل عليهما الظلمة وفاضلها. وفي (ج) : وتفاضلاهما.

(٩) في (أ) و (ج) : وكذلك. وفي (ب) : لأنه.

(١٠) في (أ) و (ج) : قلتها.

٣٣٦

الشر ، عن مبلغ كثيرها في مواقعه من الضر ، وبعضها كذلك مع كلها ، فرعها فيه ليس كأصلها.

فأي عدوان أعدى؟! أو طريقة أقل هدى؟! مما تسمع من أمورهم أيها السامع ، فلتنفعك في بيان قبائحه المنافع ، وأيّا (١) ما ـ ويله ـ رأى من الأشياء ، من كل ظلمة أو ضياء ، يحمد أو يذم في الناس دائبا ، وليس في الحمد والذم عندهم متقلبا ، ألم ير (٢) أن الظلمة ربما نفعت فحمدت ، وذلك إذ استترت الأبرار (٣) بها عن ظلم الظالمين فسلمت ، وطلبت فيها وبها ، البرد (٤) فأدركته في طلبها ، فهذا منها نفع ظاهر في دنيا ودين ، يراه (٥) بيّنا من أمرها كل ذي عين وقلب رصين (٦) ، ثم تعود منافعها مضارا ، إذا أعطت (٧) هذا منها أشرارا ، وكذلك أحوال النور ، في جميع ما يرى من الأمور ، ربما (٨) نفع فيها ، ثم عاد بالضر عليها ، وقد ذكرنا من ذلك في صدر كتابنا طرفا ، فيه لمن أنصف في النظر ما كفى.

وقال في كتابه زعم لبعض من دعاه (٩) : إن الذي دعاه إليه رجاؤه فيه للهدى. فمن يأوله رجا ، الظلمة التي لا ترجى ، ولا يكون (١٠) منها أبدا إلا الأذى ، ولا يفارقها

__________________

(١) في (ب) و (د) : وأيما.

(٢) في (ب) و (ج) و (د) : ألم تر.

(٣) في (أ) و (ج) : الأنوار. (مصحفة).

(٤) في (ب) : البرة. (مصحفة). والبرد هنا : النوم. قال تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً). أي : نوما.

(٥) في (ب) و (د) : يرى.

(٦) الرصين : المحكم الثابت.

(٧) في (أ) : مضارا أعطت هذا فيها أسرارا.

(ب) : إذا أعطت به هذا منها أسرارا. (ج) : مضارا أعطيت هذا فيها أشرارا. والمعنى : أنها تنقلب منافعها إلى مضار إذا سترت الأشرار. وهم يرتكبون الجرائم.

(٨) في (أ) و (ج) : بما (مصحفة).

(٩) في (ب) و (د) : دعا.

(١٠) في (أ) و (ج) : يمكن.

٣٣٧

أبدا عنده العمى؟ أم النور الذي لا يخشى ولا يعمى (١)؟! ولا يكون منه أبدا عنده إلا الرضى؟! بل ليت ـ ويله ـ شعري ، فلا يشك ـ زعم ـ ولا يمتري ، من الذي يدعوه إلى الإحسان من الإساء؟! (٢) ومن الذي ينادي به إلى الصواب عن الخطأ؟! أهو النور الذي لا يسيء؟! والمصيب الذي لا يخطي؟! فلا حاجة له إلى دعائه وندائه ، وهو لا يسيء أبدا فيكون كأعدائه ، أم المسيء الذي لا يحسن؟! والمخطئ الذي يشتم ويلعن؟! كان يا ويله إليه دعاؤه ، وبه كان نداؤه ، فأنى يجيبه وليس بمجيب؟! وأنى يصيب من ليس أبدا بمصيب؟!

إن ابن المقفع ليكابر يقين علم نفسه ، وإن به لطائفا من لمم الشيطان ومسّه ، بل مثل ابن المقفع يقينا ، وما مثّله الله به تبينا ، ما ذكر الله جل ثناؤه ، وتباركت بقدسه أسماؤه ، حيث يقول : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)) [الأعراف : ١٧٩]. يقول الله سبحانه : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٨٠) [الأعراف : ١٨٠]. ثم قال سبحانه : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٨١) [الأعراف : ١٨١]. فلعمر الحق وأهله ، ما وفّق (٣) ابن المقفع فيه لعدله ، ألم يسمع ويله ، قول الله لا شريك له : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١٨٦) [الأعراف : ١٨٥ ـ ١٨٦]. فيا ويل ابن المقفع لقد أدّاه عتهه وعماه في الأمور ، إلى أجهل الجهل فيما وصف من الظلمة والنور ، وليس علّته (٤) فيما أحسب من ضلاله ، ولا علة من تبعه عليه من جهاله ، إلا قلة علمهم بما شرع الله به دينه ونزل به كتابه من الحكمة ، لا عن شبهة

__________________

(١) في (ب) و (د) : ويعمى.

(٢) في جميع المخطوطات : الإساءة. ولعل الصواب ما أثبت ، والله أعلم. رغم أني لم أقف على الإساء في معاجم اللغة.

(٣) في (أ) و (ج) : ما وافق.

(٤) في (أ) : عليه. وفي (ج) علمه. مصحفة.

٣٣٨

دخلت عليه ولا عليهم فيما وصفوا من النور والظلمة ، فلما ـ عموا عن حكم (١) الله في ذلك ورسله ، وما حكم به فيه سبحانه من أحكام عدله ، ورأوا فيه ما ظنوه (٢) تناقضا ، ورأوا كل أهل ادعائه فيه متباغضا ، ولم يلجئوا (٣) إلى الله في جهله باستسلام ، ولا عصمهم(٤) فيه من صالح عمل بعروة اعتصام ، ولم يلقوا (٥) ـ فيما اشتبه منه ـ من جعلهم الله معدنه ، فيكشفوا لهم الأغطية عن محكم نوره ، ويظهروا لهم الأخفية من مشتبه أموره ، الذين جعلهم الله الأمناء عليها ، ومنّ عليهم بأن جعلهم الأئمة فيها ، ولم يجدوا عند علماء هذه العامة فيما اشتبه عليهم منه (٦) شفاء ، ولم يرجوا منهم في مسألة لو كانت لهم عنه اكتفاء ـ ازدادوا بذلك إلى حيرتهم فيه حيرة ، ولم تفدهم أقوال العلماء فيه بصيرة ، حتى بلغني والله المستعان ـ من تهافت الضعفاء في (٧) هذا المذهب العمي ، لما رأوا من جهل علماء هذه العامة بما فيه لأهله من الدعاوي ما دعاني (٨) إلى وضع أقواله ، والكشف عما كشف الله عنه من ضلاله ، وإن كان عندنا قديما لحمقه وضعفه ، لمما لا أحسب بأحد حاجة إلى كشفه ، حتى بلغني عن الحمقى منه انتشار ، وتتابعت بانتشاره عليّ أخبار ، ورفعت إلينا منه مسائل عن ابن المقفع ، لم آمن أن يكون بمثلها اختدع في مذهبه كل مختدع ، فرأيت من الحق علينا جوابها ، وقطع ما وصل به من باطله أسبابها ، فلينصف فيها ، من نظر إليها ، وليحكم ـ فيما يسمع منها نقائضها ـ حكم الحق ، فإنه أعدل الحكم وأرضاه عند من يعقل من الخلق ، وما ألّف من مسائله هذه وجمع ، فهو ما أوقعه من الضلال بحيث وقع ، فذكر فيها النور والظلمة تلعبا ، وتلعّب بذكرهما فيهما كذبا.

__________________

(١) في (ب) : حكمة.

(٢) في (أ) و (ج) : ما طلبوه (مصحفة).

(٣) في (أ) : يلجؤه. وفي (د) : يلجأ.

(٤) في (ب) : أعصمهم.

(٥) في (أ) و (ج) : يلحقوا.

(٦) في (أ) و (ج) : فيه.

(٧) في (ج) : وفي. وفي (د) : من.

(٨) في (أ) و (ج) : ما هو دعاني. (مصحفة).

٣٣٩

فافهموا عنا جواب مسائله ، فإن فيه إن شاء الله قطع حبائله ، التي لا تصيد صوائدها ، ولا تكيد له كوائدها ، إلا حمقان الرجال ، وموقان (١) الأنذال ، كان أول ما بدأ منها ، وقال به متحكما عنها : إن سألناك يا هذا فما أنت قائل : أتقول كان الله وحده ولم يكن شيء غيره.

فاعرفوا يا هؤلاء فضول قوله ، فإنّ (٢) لم يكن شيء غيره هو من فضوله ، (٣) التي كثّر بها كتابه ، وضلّل بها أصحابه ، ومسألته هذا مما كان جوابه فيه قديما ، من كل من أثبت لله من خلقه توحيدا وتعظيما ، وفي ذلك من كتب ضعفة الموحدين وعلماءهم ، ما فيه اكتفاء لمن نظر في آرائهم ، ففي كتبهم فانظروا ، ومن نور قولهم فيه فاستنيروا ، ففيها لعمري منه ما كفى ، وصفوة (٤) هدى لمن اصطفى ، ومع ذلك فسنجيب مسألته ، ونقطع إن شاء الله علته.

نعم وكذلك يقول في الله فليعقل قولنا فيه من سمعه ، ممن لم يتبع ابن المقفع وممن تبعه ، فقد يعلم كل أحد أن الواحد لا يكون واحدا ، عند من أثبت له ندا وضدا ، وأنه متى كان معه غيره ، ضده (٥) كان ذلك أو نظيره ، زال أن يكون معنى الواحد المعلوم ثابتا ، ويعلم كل أحد أنه لا يكون ذو الأجزاء إلا أشتاتا ، ولا تكون أبدا الأشتات إلا كثيرا ، ولا تكون أجزاء إلا كان بعضها لبعض نظيرا.

أو ليس معلوما معروفا أن من وراء كل غاية غاية ، حتى ينتهي المنتهي الذي ليس من ورائه غاية ولا نهاية ، وأنه إن كان مع غاية غاية ، أو بعد نهاية عند أحد نهاية ، فلم تصر بعد إلى غاية الغايات ، ولم ينته عقله إلى نهاية النهايات ، وأنه يصير بالعظمة عند النظر من عظيم إلى عظيم ، حتى يقفه النظر على غاية ليس وراءها مزيد في تعظيم.

__________________

(١) في (ب) : مرقان. لعلها مصحفة. وموقان : جمع مائق. وهو الأحمق الغبي.

(٢) في (أ) و (ب) و (ج) : إن. بغير ضبط. فأفهمت الجازمة. وهي هنا الناصبة ، لأن الإمام يتكلم عن جملة قول ابن المقفع (لم يكن شيء غيره) فليتأمل.

(٣) في (أ) : فصوله ، وهي محتملة للصواب.

(٤) في (أ) و (ج) : وضوه هذا. تصحيف.

(٥) في (أ) و (ج) : ضد.

٣٤٠