مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

اللقاء التاريخي لأهل البيت

البيعة الثانية سنة (٢٢٠ ه‍):

بويع الإمام القاسم البيعة الثانية وعمره (٥١) سنة ، روى السيد أبو العباس الحسني قال : وحدثنا محمد بن منصور بالكوفة سنة تسعين ومائتين ، قال : كنت في منزلي بالكوفة سنة عشرين ومائتين كئيبا حزينا ، لما فيه آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما فيه شيعتهم ، حتى استأذن عليّ أبو عبد الله أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين صلوات الله عليه ، فاستقبلته وأدخلته منزلي ، فرحبت به وسرتني سلامته [قادما] من البصرة ، ثم ما شعرت بشيء وأنا في الحديث معه ، والتوجع لما فيه أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى استأذن إليّ أبو محمد القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل الرسي عليه‌السلام ، فاستقبلته وأدخلته ورحبت به ، وسررت بسلامته [قادما] من الحجاز ، وجعلنا نتحدث ونذكر ما فيه الناس من الظلم والتعدي ، وما تغلب عليه الجائرون ، حتى استأذن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن عليهم‌السلام ، فغدوت واستقبلته وأدخلته الدار ، وهنأت له بسلامته وقدومه من الشام سالما ، لأنه كان يكون بجبل فكام ، وأقبل عليه أحمد بن عيسى والقاسم بن إبراهيم يسألانه عن حاله وأمره.

قال : وراءهم أبو محمد الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد عليهم‌السلام ، فجاءنا ودق علينا الباب فقمت ففتحت له ، فسلم على القوم ودعا لهم بالسلامة ، وقال : الحمد لله الذي جمعنا وإياكم في دار ولي من أوليائنا.

قال محمد بن منصور : وهؤلاء هم الذين كان يشار إليهم ، ويفزع السلطان منهم ، وقد امتنعوا من الحضور عندهم وفي مجالسهم وأخذ عطاياهم.

قال محمد بن منصور : فورد عليّ من السرور ما لا أحسن أصفه ، ودهشت وأردت أن أخرج فآخذ ما يأكلون ، فقالوا إلى أين تمضي ، زرناك وتتركنا وتخرج؟!

فقلت : يا سادتي آخذ لكم ما يصلح لكم من المأكول. فقالوا : وما عندك شيء؟

قلت : بلى ، ولكني أستزيد.

فقالوا : وما عندك؟ فقلت : عندي خبز وملح ولبن وتمر. فقالوا : أقسمنا عليك لا

٢١

تزيد على هذا شيئا ، وأغلق الباب لنأمن ، فقمت واستوثقت من الباب وأغلقته ، وقدمت إليهم طبقا عليه خبز وملح وخل وتمر ولبن ، فاجتمعوا وسموا الله عزوجل ، وجعلوا يأكلون من غير حشمة حتى استوفوا ، وشربوا من ماء الفرات الذي كان عندي. وقاموا فتوضئوا للصلاة ، فصلوا صلاة الأولى فرادى ووحدانا ، فلما انقلبوا مدوا أرجلهم كل واحد على سجادته ، يتحدثون ويغتمون لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما هم فيه من الجور والظلم. وقعدت على عتبة الصفّة ليراني جماعتهم وبكيت ، وقلت : يا سادة أنتم الأئمة وأنتم أولاد رسول الله ، وأولاد فاطمة وعلي صلوات الله عليهم ، وأنتم المشار إليكم ، وأنتم أهل الحل والعقد ، وأنتم العلماء ، والأئمة من ذرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وولد الوصي عليه‌السلام ، وقد اجتمعتم وجمع الله بينكم ، ونحن بلا إمام ولا لنا جماعة ، ولا عيد ، فارحموا كبر سني ، واعملوا فيما يقربكم إلى الله عزوجل ، وبايعوا واحدا منكم أعلمكم وأقواكم ، حتى يكون الرضى منكم ، ترضون به الإمام لنا ، إمام نطيعه ونعرفه ، ونموت بإمام للمسلمين ، ولا نموت موتة جاهلية ، ونكون نعرفه.

فقالوا : صدقت أيها الشيخ ما أحسن ما قلت ، وإن لك ملتنا ولحمنا ودمنا ، وأنت منا أهل البيت ، وما نطقت فهو الصواب ، ونحن نفعله بإذن الله إن شاء الله تعالى.

قال : فقلت : فرحوني ولا تبرحوا حتى تبرموا ولا تؤخروا إلى مجلس آخر ، فإنا لا نأمن الحوادث!

فبرز أبو محمد القاسم بن إبراهيم وأقبل على أبي عبد الله أحمد بن عيسى ، وقال : إن شيخنا وولينا قد قال قولا صادقا متفقا ، وقد اخترتك لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنت العالم القوي ، تقوى على هذا الأمر ، فقد رضيتك ورضي أصحابنا ، فتول هذا الأمر ، ومدّ يدك أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله فأنت الرضا ، ما تقولون يا أصحابنا؟ قالوا جميعا : رضى رضى.

فقال أحمد بن عيسى : لا والله وأنت يا أبا محمد حاضر ، إذا حضرت فلا يجب لأحد أن يتقدمك ، ويختار عليك ، وأنت أولى بالبيعة مني.

فقال القاسم : اللهم غفرا اللهم غفرا ، أرضاك وأسألك أن تقوم بأمة محمد صلى

٢٢

الله عليه وآله ، فتحيله علي؟! فقال : لا يكون ذلك وأنت حاضر.

قال : ثم أقبل القاسم على عبد الله بن موسى ، فقال : يا أبا محمد قد سمعت ما جرى ، وقد امتنع أبو عبد الله أن يقبل ما أشرت به ، وأنت لنا رضى ، وقد رضيتك لعلمك وزهدك.

فقال يا أبا محمد : نحن لا نختار عليك أحدا ، وقد أصاب أبو عبد الله فيما قال ، وأنت الرضى لجميعنا.

فقال : اللهم غفرا ، أحلت عليّ أنت أيضا؟! لما تزهدون في النظر لأمة أبيكم محمد وللناس عامة؟!

ثم أقبل على الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد ، فقال : فأنت يا أبا محمد اقبل هذا الأمر ، فإنك أهل له وأنت قوي على النظر فيه ، والبلد بلدك ، وتعرف من أمر الناس ما لا نعرف.

فقال : يا أبا محمد والله لا يتقدم بين يديك أحد إلا وهو مخطئ ، أنت الإمام وأنت الرضى وقد رضينا بك جميعا.

فقال القاسم : اللهم غفرا اللهم غفرا.

قال : ثم إن أحمد بن عيسى أقبل على القوم فقال : إن أبا محمد لنا رضى ، وقد رضيت به ، قال عبد الله بن موسى ، والحسن بن يحيى : صدقت أيها الشيخ.

قال محمد بن منصور : فخفت أن يفوتنا وقت الصلاة للعصر ، ولم يبرموا حتى انتبز أحمد بن عيسى القاسم بن إبراهيم وأخذ يده ، وقال : قد بايعتك على كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنت الرضا. فجعل القاسم يقول : اللهم غفرا اللهم غفرا.

ثم بايعه عبد الله بن موسى ، والحسن بن يحيى ورضوا به ، وقال لي : بايع ، فقمت إليه : وبايعت القاسم بن إبراهيم على كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم قال لي القاسم : قم يا أبا عبد الله وأذّن ، وقل فيه : حيى على خير العمل ، فإنه هكذا نزل به جبريل عليه‌السلام ، على جدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقمت وأذنت وركعت وأقمت ، فتقدم القاسم بن إبراهيم فصلى بنا جماعة صلاة العصر ، وباتوا عندي تلك الليلة ، فصلى بنا المغرب والعشاء جماعة ، فلما أصبحوا

٢٣

تفرقوا ومضى القاسم بن إبراهيم إلى الحجاز ، وأحمد بن عيسى إلى البصرة ، وعبد الله بن موسى إلى الشام ، ورجع الحسن بن يحيى إلى منزله ، فكانوا على بيعة القاسم عليه‌السلام (١).

جهاد الإمام

إن الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والخروج على الحاكم الظالم ، بالثورة المسلحة يعتبر الأصل الخامس من أصول الدين لدى الزيدية ، فإذا كان الجهاد يوازي أو يرقى إلى مستوى توحيد الله وعدله ، فلا عجب إذا إن رويت الأرض من دماء شهداء الفضيلة ـ الزيدية ـ ولا عجب أيضا إن ملأت قبورهم ساحات العراق وإيران واليمن والمغرب والمدينة وسائر البقاع ، فما ذلك إلا ضريبة لازمة للحق الذي آمنوا به ، وثمن مدفوع للشعار الذي رفعوه.

قال الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب : والله لم أخرج أشرا ولا بطرا ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي. ألا ترون إلى الحق لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه.

وقال الإمام زيد بن علي : والله لوددت أن يدي معلقة بالثريا ثم أقع حيث أقع على أن يصلح الله بي أمر أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال وقد خفقت الرايات على رأسه : الحمد لله الذي أكمل لي ديني ، والله إني كنت أستحيي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن أرد عليه ولم آمر في أمته بمعروف ولم أنه عن منكر.

وقال : والله لوددت أنها تؤجج لي نار ثم أقذف فيها على أن يصلح الله بي أمر أمة جدي.

وقال الإمام زيد في دعوته ـ البيان والبرنامج السياسي لثورته ـ : أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله ، وإماتة البدع ، وإحياء السنن ، وإعطاء المحرومين ، والدفع

__________________

(١) تتمة المصابيح لأبي العباس الحسني / ٣٢١ ـ ٣٢٥. (مخطوط).

٢٤

عن المستضعفين ، وقسم الفيء بينكم بالسوية ، ونصر الحق وأهله.

وقال الإمام زيد لولده يحيى وهو يجود بنفسه : ما أنت صانع يا بني؟ قال : أقاتلهم وأجاهدهم. قال : نعم ، يا بني ، جاهدهم فو الله إن قتلاك في الجنة وإن قتلاهم في النار.

فإذا كانت هذه وصية الوالد لولده وهو يجود بنفسه فما ظنك بمرتبة الجهاد عند هؤلاء القوم؟!

وقال الإمام يحيى بن زيد :

يا بن زيد أليس قد قال زيد

من أحب الحياة عاش ذليلا

كن كزيد فأنت مهجة زيد

تتخذ في الجنان ظلا ظليلا

وقال الإمام محمد بن عبد الله النفس الزكية :

منخرق الخفين يشكو الوجى

تنكبه أطراف مرو حداد

شرّده الخوف وأزرى به

كذاك من يكره حر الجلاد

قد كان في الموت له راحة

والموت حتم في رقاب العباد

إن يحدث الله له دولة

يترك آثار العدى كالرماد

وقال إبراهيم بن عبد الله يرثي أخاه محمدا :

سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا

فإن بها ما يدرك الطالب الوترا

ولست كمن يبكي أخاه بعبرة

يعصرها من جفن مقلته عصرا

ولكنني أشفي فؤادي بغارة

ألهب في قطري كتائبها جمرا

وقال الإمام الحسين بن علي الفخي وهو على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا ابن رسول الله ، على منبر رسول الله ، وفي حرم رسول الله ، أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله الله ، وإلى أن أستنقذكم مما تعلمون.

وكان يقول عند البيعة : أبايعكم على كتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى أن يطاع الله ولا يعصى ، وأدعوكم إلى الرضا من آل محمد ، وعلى

٢٥

أن نعمل فيكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والعدل في الرعية ، والقسم بالسوية ، وعلى أن تقيموا معنا وتجاهدوا عدونا ، فإن نحن وفينا لكم وفيتم لنا ، وإن لم نف لكم فلا بيعة لنا عليكم.

وقال محمد بن إبراهيم الرسي : وقد رأى امرأة على مزبلة تأخذ دجاجة ميتة! ما تفعلين يا أمة الله؟! فقالت : استرني سترك الله ، فإن لي أيتاما لا أجد قوتهم إلا من هذا.

فبكى بكاء شديدا ، وقال : أنت وأمثالك يضطرونني أن أخرج غدا فأقتل في سبيل الله.

وقال الإمام القاسم بن إبراهيم :

عسى مشرب يصفو فتروى ظمية

أطال صداها المنهل المتكدر

عسى بالجنوب العاريات ستكتسي

وبالمستذل المستضام سينصر

عسى جابر العظم الكسير بلطفه

سيرتاح للعظم الكسير فيجبر

عسى بالأسارى سوف تنفك

وثائق أدناها الحديد. المسمر

عسى صور أمسى لها الجور دافنا

سينعشها عدل فتحيا وتنشر

عسى الله لا تيأس من الله إنه

يسير عليه ما يعز ويكبر

عسى فرج يأتي به الله عاجلا

بدولة مهدي يقوم فيظهر

يقسم أعشار ويشبع ساغب

وينصف مظلوم ويوسع مقتر

ويظهر حكم الله في كل شارق

وينشر معروف ويقمع منكر

هكذا إذا نظرة الزيدية إلى الجهاد والثورة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لإحقاق الحق ، وإبطال الباطل ، ونصرة المظلومين ، والدفع عن المحرومين. وهكذا تشرّب الإمام القاسم حب الجهاد ونشأ عليه منذ نعومة أظفاره ، فآباؤه بين قتيل في ساح الوغى ، أو قتيل في أعماق السجون ، أو مبني عليه وهو حي ، فما فت ذلك في عضده ، ولا زاده إلا تصميما وتشميرا للجهاد.

٢٦

فإني من القوم الذين يزيدهم

قسوّا وبأسا شدة الحدثان

ظل في مصر يدعو لبيعة أخيه محمد بن إبراهيم فترة من الزمن حتى استشهد أخوه ، ثم دعا إلى نفسه ، وتغرب عن الأوطان ، وتنقل بين البلدان ، رافعا راية الجهاد ، ومبينا حق الله على العباد ، حتى سقط عنه فرض الجهاد بالسيف ، لقلة الأنصار ، فتوجه إلى جهاد آخر جهاد القلم للدفاع عن مفاهيم الدين الحنيف ، ورد شبهات الملحدين ، وتأويل الجاهلين ، وتحريف الغالين ، وانتحال المبطلين.

وتوجه إلى إعداد جيل من المجاهدين ، من أبنائه وأحفاده ، وأصحابه. ولقد أثمر الشجر الذي غرسه ، وأينع الثمر الذي حرسه ، وما حفيده الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم إلا دوحة من تلك الشجرة الباسقة ، وجذوة من شلال النور الذي ملأ الأفق واستنار.

علم الإمام

مرحلة التلقي :

تربى الإمام القاسم ونشأ في وسط أسرة علمية موصولة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، زقت العلم زقا.

ينهل من معين نبعها الصافي ، ويرشف من سلسبيلها العذب.

تلقى تعليمه على يد أبيه وأعمامه الذين كانوا شامة في جبين الزمن ، يشار إليهم بالبنان علما وزهدا وورعا وجهادا.

وكان شغوفا بالبحث ، والتوفر على دقائق علم الكلام ، يلتقي بعلماء الطوائف باحثا ومناظرا ، حتى استقام عوده ، وقوي زنده ، مع فطنة متوقدة ، ونظر صائب ، وفكر نافذ.

قال الإمام القاسم عن نفسه : والعقول حظوظ متقسمة ، والأخلاق غرائز مستحكمة ، فالحازم مغتبط بما ألهم ، جذل بما قسم ، والمفرّط متأسّ على ما حرم ، يقرع

٢٧

سنّه من الندم ، فإن قهر نفسه على تعوّض ما فرط ، أورده صغر الهمم في أعظم الورط ، وإن تمادى في التقصير ، دحض دحضة الحسير.

وإني لما زايلت قلة الآثام ، وخضت في أفانين الكلام ، وناسمت كثيرا من علماء الأنام ، أطللت على مكنون من العلم جسيم ، واستدللت على نبأ من ضمائر القلوب عظيم ، لأن صحيح الجهر ، يدل على كثير من مكنون السر.

واطلعت على ذلك بخصال أوتيتها ، وأخر تجنبتها ، فأما اللواتي أوتيت فذكاة الفطنة ، وقلة المشاحة في المحنة ، والاصغاء لأهل الافتنان ، والقبول من ذوي الأسنان ، وكثرة الاقتباس من أولي الحكم والأذهان ، والزهادة في الزائل الفان ، وصحة الناحية ، وتكافئ السريرة والعلانية ، وسلامة القلب ، وحضور اللب ، فافهموا يا بني.

وأما اللواتي اجتنبتها ، فمهازلة الحمقاء ، ومشاحنة الأدباء ، وترك ما تشره إليه النفس من عرض الدنيا ، والمكاثرة والحقد ، والظغن والحسد ، والاسترزاء للحرّ والعبد ، والمماكسة فيما يكسب الحمد.

يا بني فبعض هذه الخصال طبعت عليه بالتركيب ، وبعضها استعنت عليه بقبول تأديب الأديب ، والتمثل بالأريب اللبيب ، مع رغبة حداني عليها طلب الازدياد ، مما أرجو به النجاة في المعاد ، والزلفة يوم التّناد.

علم الإمام بلغة العرب

لقد هضم الإمام علوم الشريعة الإسلامية واستوعبها استيعابا دقيقا ، أصولا وفروعا وآدابا وأخلاقا.

ومما أعانه على ذلك ما ذكر سالفا من ذكاة الفطنة ، والحرص على الاستزادة والاستفادة من كل من له علم أو حكمة ، إضافة إلى معرفته الكاملة للغة العربية وآدابها ، فهو سليقي كما قيل :

ولست بنحوي يلوك لسانه

ولكن سليقي أقول فأعرب

وهذه المعرفة العميقة بدقائق اللغة وأساليبها هو الذي مكنه من التوفر على ذلك العلم ، والوقوف على أسرار القرآن الكريم.

٢٨

قال في كتاب المسترشد :

كذلك قال في كتابه : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦)) [الملك : ١٦]. فأخبر أنه في السماء ، وكذلك قال : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤]. وكذلك قال : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣].

وفي : لها معان تختلف في اللغة ، ليس شيء في شيء إلا وهو لا يخلو من أحد هذه المعاني التي نحن ذاكروها إن شاء الله.

١ ـ إما أن تكون فيه ، بمعنى قول القائل : الناس في عامهم هذا مخصبون.

٢ ـ أو يكون الشيء في الشيء محويا كاللبن في وعائه.

٣ ـ أو يكون الشيء في الشيء كالحي في حياته.

٤ ـ ويكون الشيء في الشيء كالأبيض في بياضه.

٥ ـ ويكون الشيء في الشيء كالعبد في سلطان مولاه.

٦ ـ ويكون الشيء في الشيء كالمرابط في رباطه ، والغازي في غزاته ، والباني في بنائه.

فاعرف هذه اللغات ، كيف تتصرف في معانيها ، وتتوجه في تصاريفها.

٧ ـ وقد يكون أيضا معنى في : إنما هو مع. وفي القرآن مثل ذلك قول الله سبحانه :

(ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ٣٨]. فمعنى قوله : (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) أي مع أمم. وكذلك قال : (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ) [الأحقاف : ١٨] ، يعني : مع أمم. (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل: ١٩]. أي : مع عبادك الصالحين. وقال سبحانه : (فِي تِسْعِ آياتٍ) [النمل : ١٢] أي : مع تسع آيات. وقال : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٦] بمعنى : معهن.

٨ ـ ومعنى آخر من تأويل في : يكون تفسيره على ما قال الله تبارك : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] يعني : على جذوع النخل. وقال : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) [الكهف : ٤٢]. يعني : عليها. وقال :

٢٩

(يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) [السجدة : ٢٦]. يعني : يمرون على قراهم.

٩ ـ ومعنى آخر من معاني في : يكون تفسيره إلى. وذلك قوله عزوجل : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء : ٩٧]. يعني : إليها.

١٠ ـ وقد يتجه تفسير في : إلى معنى آخر ، قال الله سبحانه في كتابه : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)) [الإسراء : ٧٢]. أي : عن هذه النعمة ، وعن ذكر آياتي ، فهو في الآخرة أعمى.

١١ ـ وقد يتجه على معنى آخر ، في قول الله فيما أخبر عن فرعون ، وقوله لموسى عليه‌السلام : (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) [الشعراء : ١٨] أي : عندنا ، وقال : (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) [هود : ٩١]. بمعنى عندنا.

وقال الإمام القاسم في كتاب المسترشد أيضا : اعلموا رحمكم الله أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبيه محمد صلى الله عليه كلامه ، لسانا عربيا مبينا ، أوجز البلاغات وأبلغه إيجازا ، وليس للأميين في اللغة أن يتأولوا في الكتاب ما لا يدركه المتأولون من رباني اللغة والكتاب ، وقد علم رباني اللغة أن لها تصاريف المذاهب وفنون الجهات ، وأنها ذات قيم وأمواج وأطناب ولطائف ودقائق في بيان.

وإن فرقة من البدعيّة استعجمت في كتاب الله ، وسارعت في تأويله من غير فصاحة بالتأويل ، ولا فهم في التنزيل ، ولا آلة في العلم باللغات.

قال الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عن الإمام القاسم : ولقد سمعته يقول : قرأت القرآن والتوراة والإنجيل والزبور ، ما علمي بتأويلها بدون علمي بتنزيلها(١).

وهكذا نجد الإمام عالما بدقائق اللغة ومعانيها ، مكّنه من الاطلاع الكريم على مقاصد القرآن وأسراره.

__________________

(١) تتمة المصابيح / ٣٢٧.

٣٠

فصاحة الإمام وبلاغته

لقد ولد الإمام القاسم سنة (١٦٩ ه‍) وعاش وتربى في بيت النبوة والرسالة ، يتلقى العلم عن آبائه ، أسرة العلم والحلم والحكمة ، وتربى بعيدا عن تأثير اللغات الدخيلة على العربية الفصحى ، من لغات الداخلين في الإسلام من العجم من فرس وروم وخزر وصقالبة وبربر وسائر لغات الأفارقة ، فبقي عربيا نقيا سليقيا ، وعباراته الجزلة وألفاظه الغربية ، وتراكيبه المتينة ، وسبكه المنظوم ، تدل بما لا يدع مجالا للشك على أصالة لغته ، ونقاء ثقافته.

وفوق هذا كله فالإمام شاعر مطبوع عذب المورد ، مشرق المعنى ، وأديب متضلع في فنون الأدب ، متقن لعلوم اللسان ، عارف بأخبار العرب ، مطلع على لغاتها ، راو لأشعارها وأمثالها ، كاتب بديع الإنشاء ، حسن الترسل ، ناصع البيان ، وهو ناثر لا يدانى من غير تكلف.

فجميع كتبه التي تزيد على الثلاثين ، مصوغة بطريقة الشعر المنثور أو النثر المشعور ، ما عدى سبعة كتب ، هي : المسترشد ، والرد على المجبرة ، والرد على الملحد ، والرد على الرافضة ، والعدل والتوحيد ، والإمامة كتابان.

ولك أن تتخيل أيها القارئ وعورة هذا المسلك ، وصعوبة هذا السبيل ، سيما والمواضيع التي تناولتها تلك الكتب أهم وأخطر المواضيع الكلامية والفلسفية والعرفانية والفقهية ، فترى الإمام القاسم مع هذا يلتزم بالنثر المشعور دون أن تلحظ في لغته أدنى تكلف أو ضعف ، بل يمضي على سليقته العربية التي خصه الله بها. حتى نصوص التوراة والإنجيل والزبور فإنه يصيغها بلغته الشاعرية الرقيقة ، محافظا على المعنى كله دون ما تغيير ، وستلاحظ أيها القارئ النصوص الأصلية للتوراة والإنجيل مقارنة بالنصوص المصوغة بلغته الشاعرية ، فلا تجد أي اختلاف في المعنى. ولن أضرب لك مثلا على ذلك ، لأن كتبه كلها أمثلة على ما ذكرت.

شاعرية الإمام

لم يبق فن من فنون الأدب إلا وخاضه الإمام القاسم بمهارة وبراعة ، وشعره يعد

٣١

من قمم الشعر العربي بلاغة وفصاحة ، بلغ مقاما رفيعا في جزالته وعذوبته ، حتى كان أئمة الزيدية الكبار يجلون شعره أيما إجلال.

قال الإمام الناصر الأطروش : لو جاز أن يقرأ شيء من الشعر في الصلاة لكان شعر القاسم عليه‌السلام (١).

ونأسف كثيرا لضياع كثير من شعر الإمام القاسم ، فإن التاريخ لم يحفظ لنا إلا النزر اليسير منه ، والذي قاله في بعض المناسبات.

روى محمد بن منصور المرادي رحمه‌الله قال : سمعت القاسم بن إبراهيم ، ونحن في منزل للحسينيين يقال له : الورينة ، يقول : انتهى إليّ نعي أخي محمد وأنا بالمغرب ـ يقصد بالمغرب مصر ـ فتنحيت فأرقت من عيني سجلا أو سجلين ، ثم رثيته بقصيدة ، على أنه كان يقول بشيء من التشبيه (٢) ، ثم قال : ثم قرأها علي من رقعة ، فكتبتها ، وهي هذه :

يا دار دار غرور لا وفاء لها

حيث الحوادث بالمكروه تستبق

أبرحت أهلك من كد ومن أسف

بمشرع شربه التصدير والرّنق

فإن يكن فيك للآذان مستمع

يصبى ومرأى تسامى نحوه الحدق

فأيّ عيشك إلا وهو منتقل

وأي شملك إلا وهو مفترق

من سرّه أن يرى الدنيا معطلة

بعين من لم يخنه الخدع والملق

فليأت دارا جفاها الأنس موحشة

مأهولة حشوها الأشلاء والخرق

قل للقبور إذا ما جئت زائرها

وهل يزار تراب البلقع الخلق؟

ما ذا تضمّنت يا ذا اللحد من ملك

لم يحمه منك عقيان ولا ورق

بل أيها النازح المرموس يصحبه

وجد ويصحبه الترجيع والحرق

يهدى لدار البلى عن غير مقلية

قد خطّ في عرصة منها له نفق

__________________

(١) الإفادة / ١٢٠.

(٢) يعني : التشبيه البلاغي.

٣٢

وبات فردا وبطن الأرض مضجعه

ومن ثرا هاله ثوب ومرتفق

نائي المحل بعيد الأنس أسلمه

برّ الشفيق فحبل الوصل منخرق

قد أعقب الوصل منك اليأس

منك القرائن والأسباب والعلق

يا شخص من لو تكون الأرض

ما ضاق منّي بها ذرع ولا خلق

بينا أرجيك تأميلا وأشفق أن

يغبّر منك جبين واضح يقق

أصبحت يحثى عليك الترب في

حتى عليك بما يحثى به طبق

إن فجّعتني بك الأيام مسرعة

فقلّ منّي عليك الحزن والأرق

فأيّما حدث تخشى غوائله

من بعد هلكك يغنيني به الشفق (١)

وقال أبو طالب : أنشدني أبو العباس الحسني رحمه‌الله ، قال : أنشدني عبد الله بن أحمد بن سلام رحمه‌الله ، قال : أنشدني أبي ، قال : أنشدني القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام لنفسه ، في مرثية أخيه محمد بن إبراهيم عليهما‌السلام :

صرم الكرى وصل الجفون

وشحاك فقدان الخدين

مما يهيج لك الأسى

خلجات صرف نوى شطون (٢)

بعثت سواكب عبرة

غرقت لها مقل العيون

وأخ يجير على الحوا

دث أعتريه ويعتريني

ختر الزمان بعهده

وسطت عليه يد المنون

فنعى إليّ مصابه

نفسي وغيّض من شئوني (٣)

علق المنون تصرمي

آنت مفارقة المنون

__________________

(١) مقاتل الطالبيين / ٥٥٣ ـ ٥٥٥.

(٢) النوى : البعد. وشطون : بعيد.

(٣) الشأن : الخطب ، ومجرى الدمع إلى العين ، ولعل المراد : ونقص من مجرى الدمع إلى العين كناية عن كثرة البكاء.

٣٣

عفت المنى وطويت عن

علق المنى كشحا فبيني

ما فاز بالخفض امرؤ

جعل المنى أدنى قرين

لهفان يتبع نفسه ال

آمال حينا بعد حين

غمر الرجاء فؤاده

ودهته أنجية الظنون

يسموا إلى كذب المنى

ويعوذ بالعهد الخؤن

لم يقض من حاجاته

وطرا ولم يمهد لدين

نصبا لكل مهمّة

حمّال أعباء الحزين (١)

لله درّ عصابة

باعوا التّظنّن باليقين

فسمت بهم همم العلى

عن صفقة الحظ الغبين

فتأثّلوا عزّ التقى

وذخيرة الفضل المبين (٢)

وقال الإمام أبو طالب : أنشدني أبو العباس الحسني رحمه‌الله ، قال : أنشدني عبد الله بن أحمد بن سلام ، قال : أنشدني القاسم بن إبراهيم لنفسه :

ونى التهجير والدّلج

وأقصر في المنى لحج (٣)

وطاف بحالكي وضح

عليه من البلى نهج (٤)

فقلت لنفس مكتئب

علاه من الردى ثبج (٥)

__________________

(١) النصب : العلم المنصوب.

(٢) تأثل : عظم وتأصل. الإفادة / ١١٨ ـ ١١٩.

(٣) التهجير : السير في الهاجرة. والدّلج محركة : السير أول الليل. اللجج : بمعنى الضيق.

(٤) الحالك : شديد السواد ، والمراد به هنا شعر الرأس كناية عن الشباب. ونهج البلا ، قال في تاج العروس ٦ / ٢٥٣ : وأنهج البلى الثوب أخلقه كنهجه ومنعه ينهجه نهجا ونهج الثوب بلي ولم يتشقق ، وقال ابن العربي أنهج فيه البلى : استطار.

(٥) الثبج : العظيم.

٣٤

قطي ما دمت في مهل

فإن الحبل مندمج (١)

ولا تستوقري شبها

فوجه الحق منبلج

وزور القول ممحق

إذا طافت به الحجج

فهبك رتعت في مهل

أليس وراءك اللجج

وعاذلة تؤرّقني

وجنح الليل معتلج

فقلت رويد عاتبة

لكل مهمة فرج

أسرّك أن أكون رتع

ت حيث المال والبهج (٢)

وأني بتّ يصهرني

لحرّ فراقه وهج

فأسلب ما كلفت به

ويبقى الوزر والحرج

ذريني حلف قاضية

تضايق بي وتنفرج

ولا ترمين بي غرضا

تطاير دونه المهج

إذا أكدى جنى وطن

فلي في الأرض منفرج (٣)

وقال الإمام القاسم لما لامه أهله على رد هدية المأمون :

تقول التي أنا ردء لها

وقاء الحوادث دون الردى

ألست ترى المال منهلّة

مخارم أفواهها باللهى

فقلت لها وهي لوّامة

وفي عيشها لو صحت ما كفى

كفاف امرئ قانع قوته

ومن يرض بالعيش نال الغنى

__________________

(١) قطي : حسبك. وأدمج ، قال في التاج : أدمج الحبل : أجاد فتله.

(٢) البهج : الارتياح والسعادة.

(٣) كدى الأرض : أبطأ نباتها ، وأكدى الزرع ساءت نبتته. والكداء ككساء : المنع. والجنى هو : النبات. والقصيدة في الإفادة / ١١٧ ـ ١١٨.

٣٥

فإني وما رمت في نيله

وقبلك حب الغنى ما ازدهى

كذي الداء هاجت له شهوة

فخاف عواقبها فاحتمى (١)

وقال ناقدا الوضع السياسي الفاسد ، والجبروت الظالم ، راجيا الفرج في تغيير ذلك الواقع المتردي ، ليتغير حال المستضعفين الجياع العراة ، والسجناء المقيدين ، منتظرا دولة المهدي عليه‌السلام ، الذي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما ، وهي قصيدة مشهورة يتناقلها الناس ، روى الإمام الهادي عليه‌السلام منها شطرا (٢) ، وتكملتها في آخر أحد مخطوطات المجموع ، قال فيها :

زمانك هذا أيها المتجبر

وإن قال فيه القائلون فأكثروا

زمان الهوى والحق والحق والهوى

إذا اجتمعا فالحق أعلا وأنور

نسيت أم استوحشت من دار فتنة

رأينا الهوى فيها على الحق يؤثروا

أديل الهوى فيها على الحق دولة

أحارت ذوي الألباب حتى تحيروا

أسى شبهت والناس يجزون بالأسى

فلا ينكرون الظلم والظلم منكر

تظالم أهل الأرض حتى كأنما

به أمروا وهو الذي عنه حذروا

يقولون حكم الله بالجور أمره

وحاشا لحكم الله بل عنه يزجر

فيا مستسيغ الظلم يشجيك غبه

ظلمت وحكم الله بالحق أأمر

عسى مشرب يصفو فتروى ظمية

أطال صداها المنهل المتكدر

عسى بالجنوب العاريات ستكتسى

وبالمستذل المستضام سينصر

عسى جابر العظم الكسير بلطفه

سيرتاح للعظم الكسير فيجبر

عسى بالأسارى سوف تنفك عنهم

وثائق أدناها الحديد المسمر

عسى صور أمسى لها الجور دافنا

سينعشها عدل فتحيا وتنشر

عسى الله لا تيأس من الله إنه

يسير عليه ما يعز ويكبر

عسى فرج يأتي به الله عاجلا

بدولة مهديّ يقوم فيظهر

__________________

(١) الإفادة / ١٢٧.

(٢) انظر درر الأحاديث النبوية / ١٠٩ ـ ١١٠.

٣٦

تقسم أعشار ويشبع ساغب

وينصف مظلوم ويوسع مقتر

ويظهر حكم الله في كل شارق

وينشر معروف ويقمع منكر

ويجلد سكران ويقطع سارق

وتنفى ظلامات وترجم عهّر

وينعش من قد كان في الجور خاملا

ويستر عدلي ويخمل مجبر

ويحيا كتاب الله بعد مماته

وذاك بمنّ الله والله أكبر

وقال في العظة :

أترقد والمنايا طارقات

ولا تغترّ في طول الحياة

تزوّد من حياتك للممات

كأنك قد أمنت من البيات

أتضحك أيها العاصى وتلهو

ونار الله تسعر للعصات

فيا قلبى فلم تزدد رجوعا

وتعرض عن عظات ذوي العظات

وقال أيضا :

مضى عمري وقد حصلت ذنوب

وعزّ عليّ أني لا أتوب

نطهّر للجمال لنا ثيابا

وقد صدئت لقسوتها القلوب

وأعربنا الكلام فما لحنّا

ونلحن في الفعال فلا نصيب

وقال أيضا :

أعارك ما له لتقوم فيه

بطاعته وتعرف فضل حقه

فلم تشكر لنعمته ولكن

قويت على معاصيه برزقه

تبارزه بها يوما وليلا

وتستحيي بها من شر خلقه

وقال أيضا :

صنيع مليكنا حسن جميل

فما أرزاقنا عنا تفوت

فيا هذا سترحل عن قريب

إلى قوم كلامهم السكوت

وقال أيضا :

سبحان ذي الملكوت أتت ليلة

محضت بوجه صباح يوم الموقف

٣٧

لو أن عينا أوهمتها نفسها

أن المعاد مصور لم تطرف

حتم الفناء على البرية كلهم

والناس بين مقدم ومخلف

وقال أيضا :

اخضع لربك في الصلاة ذليلا

واذكر وقوفك في الحساب طويلا

وقال أيضا :

أفنيت عمرك إدبارا وإقبالا

تبغي البنين وتبغي الأهل والمالا

فالموت هول فكن ما عشت

من هوله حيلة إن كنت محتالا

فلست ترتاح من موت ومن نصب

حتى تعاين بعد الموت أهوالا

أملت بالجهل عمرا لست تدركه

والعمر لا بد أن يفنى وإن طالا

كم من ملوك مضى ريب الزمان

قد أصبحوا عبرا فينا وأمثالا

وقال أيضا :

يا من شكا حافظاه خلوته

حين خلاء والعباد ما فطنوا

لم يهتك الستر إذ خلوت به

بر لطيف كفّا له المنن

وقال أيضا :

فلا تجزع إذا أعسرت يوما

فقد أيسرت في الدهر الطويل

ولا تيأس فإن اليأس كفر

لعل الله يغني عن قليل

ولا تظن بربك ظن سوء

فإن الله أولى بالجميل

وقال أيضا :

لقد علمت وما الإشفاق من خلقي

أن الذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى إليه فيعنيني تطلّبه

ولو كففت أتاني لا يعنّيني

لا خير في طمع يدني إلى طبع

ورغفة من قليل العيش تكفيني

وقال أيضا :

أسلفت من عمرك ما قد مضى

منهمكا في غمرات الخطل

حتى إذا القوة زالت وقد

أقعدك العجز وحلال فشل

٣٨

تبت إلينا في صدار الحيا

مستعجما فيك فنون الخجل

فأنت عندي بمحل الرضى

وقد غفرنا لك كل الزلل

وقال أيضا :

إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا

ولم ترض مخلوقا فما شئت فاصنع

وقال أيضا :

إذا أمسى وسادي من تراب

وبت مجاور الرب الرحيم

فهنأني أصيحابي وقالوا

لك البشرى قدمت على كريم (١)

وقال أيضا :

اغتنم ركعتين زلفى إلى الله

إذا كنت فارغا مستريحا

وإذا هممت بالزور والبا

طل فاجعل مكانه تسبيحا

وقال أيضا :

اغتنم ركعتين عند فراغ

فعسى أن يكون موتك بغتة

كم صحيح رأيت غير سقيم

ذهبت نفسه الصحيحة فلتة

وقال أيضا :

اخضع لربك في الصلاة ذليلا

واذكر وقوفك في الحساب طويلا

وقال أيضا ناهيا من الكذب :

ما لكريم النصاب والكذب

ذاك فعال اللئام في الحسب

لو أعطي الحرّ أن يفه كذبا

ملك جميع الملوك من عرب

ما رضي الحرّ أن يميل به

لزعمة من زعائم الكذب

والزور أمر قلاه خالقنا

وذمّه في منزل الكتب

والعبد إلف له يقلبه

يميل منه في كل منقلب

__________________

(١) انظر كتاب (العالم والوافد).

٣٩

يكذب إما لرغبة طمعا

أو رهبة للمجون واللعب

أعيذ نفسي ومن ولدت ومن

أحببت من قول كل مكتذب (١)

وروى الإمام الناصر أحمد بن يحيى بن الحسين عن جده القاسم بن إبراهيم قوله :

دنياي ما زال همي فيك متصلا

وإن جنابك كان المزهر الخضرا

إذا انقضت حاجة لي منك أعقبها

هم بأخرى فما ينفك مفتقرا

متى أراني إلى الرحمن مبتكرا

في ظل رحمي ورزقي قل أم كثرا (٢)

وروى له الإمام الحسين بن القاسم العياني (٣) هذه المقطوعة :

وإني لمعروف بأسوة صاحبي

ودافع ما يؤذيه بالمال والنفس

أحامي عليه إن تغير حاله

وإلا فلست القاسم العالم الرسي

بذلك وصّاني سلالة أحمد

بحفظي لأصحابي على اليسر والتعس

ومن لم يكن يوسي أخاه بنفسه

فذاك من الإملاق أهل الخنا النكس (٤)

وروى له أيضا :

لرزق يبسطه والذنب يغفره

والتوب يقبله والوعد يوفيه

لم يقض جورا ولا ظلما ولا عبثا

ولا يشاء قبيحا من معاصيه (٥)

وروى له أيضا هذا البيت :

ألم يتدبر آية فتدله

على بعض ما يأتي أم القلب مقفل (٦)

وقال ابن مظفر وله قصائد عظيمة في العدل والتوحيد ، ومن قصيدة كبيرة له ، في

__________________

(١) الهجرة والوصية / ١٠٦. (مخطوط).

(٢) الحدائق الوردية ترجمة الإمام الناصر ٢ / ٤٨. (مخطوط).

(٣) انظر كتاب العالم والوافد.

(٤) تفسير الغريب عند تفسير سورة (النجم) ، (مخطوط).

(٥) تفسير الغريب في تفسير سورة (المؤمن).

(٦) تفسير الغريب في تفسير سورة (محمد) عند قوله تعالى : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها).

٤٠