مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

ظهورها في نواتها أقرب وأشهر وأعم ، ولم يستحل وجود صورتين معا (١) في حين واحد.

قال الملحد : إن النواة هي تمرة بالقوة الهيولية ، أعني أنها إذا انتقلت لم تنتقل إلا إلى شجرتها ، ثم إلى ثمرتها ، ثم تعود إلى أصلها ، ثم تصير نواة في وسطها.

قال القاسم عليه‌السلام : لو كان هذا هكذا ، لكانت الطبيعة (٢) التي هي الأصل تمرة بالقوة الهيولية ، إن كنت ممن يقول بالدهر ، وإن كنت ثنويا فالنور والظلمة ، وما أصّلت من أصل فيجب على هذا أن يكون ذلك الأصل تمرة بالقوة ، لأنها إذا انتقلت انتقالاتها صارت تمرة ، وهذه مكابرة (٣) واضحة ، وذلك يوجب عليك أن الأصل البحت : تمرة ، نواة ، خوخة ، باذنجانة ، لأنه جائز عندك الانتقال من صورة إلى صورة. وإن (٤) كان حكم الأصول في الهيئات (٥) خلاف حكم الفروع فسنقول فيه قولا شافيا إن شاء الله.

قال الملحد : إن صحّحت أن (٦) حكم الأصول حكم الفروع (٧) ، تركت مذهبي ، فإنه قد عظمت عليّ الشّبهة في هذا الموضع.

قال القاسم عليه‌السلام : اعلم أن طرق العلم بالأشياء مختلفة.

فمنها : ما يعرف بالحس.

ومنها : ما يعرف بالنفس.

ومنها : ما يعرف بالعقل.

ومنها : ما يعرف بالظن والحسبان.

__________________

(١) سقط من (ب) و (ه) : معا.

(٢) سقط من (ب) : لكانت الطبيعة.

(٣) في (ه) : وفي هذا مكابرة. وفي (و) : وهذا مكابرة.

(٤) لعله عطف على قوله في الجواب السابق حيث قال : أشد الإنكار ، وذلك أن الشيء الذي هو الأصل لا يخلو من أن يكون فيه من الأحوال. في (ب) : فإن.

(٥) في (ب) و (د) : الأصول والهيئات.

(٦) في (ب) : بأن.

(٧) في (ج) : إن صححت أن حكم الأصول في الهيئات خلاف حكم الفروع تركت مذهبي.

٣٠١

فأما الذي يعرف بالحس فطرقه خمس :

سمع ، بصر ، شم ، ذوق ، لمس.

فالسمع طريق الأصوات ، والكلام.

والبصر طريق الألوان ، والهيئات.

والذوق طريق المطعوم.

والشم طريق الأراييح (١).

واللمس طريق اللين والخشونة.

وما يعرف بالنفس فالخجل ، والوجل ، والسرور ، والحزن ، والصبر ، والجزع ، واللذة ، والكراهية ، وما أشبه ذلك من التوهم ، وغيره.

وأما ما يعرف بالعقل فشيئان : أحدهما : يدرك (٢) ببديهته مثل تحسين الحسن ، وتقبيح القبيح ، وحسن التفضل ، وشكر المنعم ، ومثل تقبيح كفر المنعم ، والجور ، وما يجانسه من علم بدائه العقول.

والوجه الثاني هو : الاستنباط ، والاستدلال ، الذي هو نتيجة العقول (٣) كمعرفة الصانع ، وعلم التعديل ، والتجوير ، والعلم بحقائق الأشياء.

وأما ما يعرف بالظن والحسبان فهو : القضاء (٤) على الشيء ، بغير دليل ، فهذا ربما يصيب ، وربما يخطي ، وإنما لخصت لك هذا كله ، ليكون عونا لنا فيما تأخر من كلامنا ، ويكون أحد (٥) المقدمات التي نرجع إليها ، فكل (٦) شيء من هذه العلوم لا يصاب إلا من طريقه ، ولو حاولته من غير طريقه لتعسر عليك ، وكنت كمن طلب

__________________

(١) في (ب) : الروائح. وفي (د) : الأرياح.

(٢) في (ب) و (د) : يعرف.

(٣) في (ب) و (د) : العقل.

(٤) القضاء هنا بمعنى : الحكم.

(٥) في (ب) و (د) : إحدى.

(٦) في (ب) : وكل.

٣٠٢

علم الألوان بالسمع ، وعلم الذوق بالعين.

فأما أحوال (١) الأجسام فإن (٢) طريق المعرفة بها من جهة البصر ، والبصر لا يؤدي إلى الإنسان إلا الأجسام ، لأن الأجسام لا يجوز أن (٣) تخلو من هذه الصفات ، فيتوهمه ويمثله (٤) في نفسه خاليا منها ، فإذا لم يجز ذلك ، ثبت أن الأجسام لا تخلو من هذه الصفات ، وأنه لا يكون حكم أصولها إلا كحكم فروعها.

[علة وجود الأشياء وفسادها]

قال الملحد : إنهم يزعمون أن علة كون الأشياء ، وفسادها حركات الفلك ، وسير الكواكب ، وبعضهم يقول : إن علتها تمازج الطبيعتين ، أعني النور والظلمة ، وبعضهم يقول غير ذلك.

قال القاسم عليه‌السلام : الدليل على فساد قولهم : قول الله تبارك وتعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) [الحج : ٥] ، وقوله : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ)(٦٨) [يس : ٥٥].

فلو كان علة كونه ما ذكروا (٥) لكان الإنسان لا يتوفى في طفوليته ، ولا يفسد كونه ، مع وجود علة كونه ، اللهم إلّا أن يقرّوا بحدوث علة الفساد ، فيكونوا حينئذ تاركين لمذهبهم ، فإن قالوا : بل علة كونه وفساده قديم. فالشيء (٦) إذا كان فاسدا في حال ، كان فيها صالحا ، إذ عللهما موجودة ، ومحال أن تكون عللهما موجودة ويتوفى

__________________

(١) يعني : الصّور ، التي هي الأعراض.

(٢) في (ب) و (د) : فإنما.

(٣) سقط من (أ) : يجوز أن.

(٤) أي : يتوهم الإنسان الجسم خاليا من الصفات ، لأن منها الطول والعرض والعمق ولو تجرد منها لخرج عنه كونه جسما.

(٥) في (أ) و (ه) و (و) : ما ذكر.

(٦) هذا جواب عليهم.

٣٠٣

هذا في الطفولية ، ويرد هذا إلى أرذل العمر ، وينكس هذا في الخلق. إذ يعمر (١) ؛ إن هذا لعمري لعكس العقول.

قال الملحد : لو لزمهم ذلك ، للزمك حين زعمت : أن الله علة كون الأشياء وفسادها ، مثل ما ألزمت خصومك.

قال القاسم عليه‌السلام : ولا سواء! وذلك أنا لا نزعم أن الله علة كون الأشياء وفسادها ، بل نزعم : إن الله تعالى هو الذي كون الشيء ، وأفسده من غير ما (٢) اضطرار. والدليل على أن الله عزوجل ليس بعلة فعله (٣) ذلك ؛ أنّ أفعاله مختلفة الأحوال ، منتقلة الصفات. فلو كان هو العلة لما زال شيء عن صفته ، لأنه عز ذكره قديم ، والقديم لو كان علة شيء ، لم يزل معلوله ، كما لم يزل هو في ذاته ، وزوال الأشياء عن صفاتها يدل على أن الله عزوجل ليس بعلة ولا معلول.

فقال الملحد حينئذ (٤) : بارك الله فيك ، وفي من ولدك ، فقد أوضحت ما كان ملتبسا عليّ ؛ وإني سائلك عن غيرها ، فإن أجبتني عنها كما أجبت أسلمت.

قال القاسم عليه‌السلام : إن أسلمت فخير لك ، وإن أصررت فلن يضر الله إصرارك! سل عما بدا لك.

[توحيد الخالق]

قال الملحد : ما الدلالة على أن صانع العالم واحد؟

قال القاسم عليه‌السلام : لأنه لو كان أكثر من واحد ، لم يخل من أن يكون كل واحد من الصانعين حيا ، قادرا. أو ليس كذلك؟! فإذا (٥) كان كل واحد منهما حيا

__________________

(١) في (أ) و (ج) : أو يعمر.

(٢) سقط من (ب) و (ه) و (د) : ما.

(٣) سقط من (أ) و (ب) و (ج) و (د) : فعله.

(٤) في (ه) : عند ذلك.

(٥) في (ب) و (د) و (و) : فإن.

٣٠٤

قادرا ، لم يكن محالا متى أراد هذا خلق شيء ، أن يمنعه الآخر من خلقه لذلك الشيء بعينه ، ولو منعه صاحبه من ذلك ، كان الممنوع عاجزا ، ودلّك عجزه على حدثه! وإن تمانعا ، وتكافأت قواهما ، وقع الفساد ، ولم يتم لواحد منهما خلق شيء ، ودخل على كل واحد منهما العجز ، إذ لم يقدر كل واحد منهما على مراده. فلما وجدنا العالم منتظما ، متّسق التدبير ، دلنا على (١) أن صانع ذلك ليس باثنين ، ولا فوق ذلك.

قال الملحد : ما أنكرت أن يتّفقا ، ويصطلحا؟

قال القاسم عليه‌السلام : إن الاتفاق والاصطلاح يدلان على حدث من تعمدهما ، لأنهما لا يتفقان إلّا عن ضرورة ، والمضطر فمحدث لا محالة.

قال الملحد : إنهم يقولون : إن صانع الخير لا يأتي بالشر أبدا ، وكذلك صانع الشر لا يأتي بالخير أبدا (٢).

قال القاسم عليه‌السلام : إن هذا مكابرة العقول.

قال الملحد : وكيف ذلك؟

قال القاسم عليه‌السلام : لأن ذلك يدعو إلى القول بأن أحدا لم يذنب قط ، ثم اعتذر من ذنبه (٣) ؛ وإلى القول بأن إنسانا واحدا لم يصدق ولم يكذب ، ولم يضل ولم يهتد (٤) ، ألا ترى أنهم (٥) يزعمون أن انتحالهم حق ، وأنه واجب على الناس الرجوع إلى مذهبهم ، فإن كان الشيء الواحد لا يأتي بالخير والشر ، فحدثني من يدعون إلى مذهبهم؟ فإن قالوا : الخير. قيل : فإن الخير لا يضل أبدا. وإن قالوا : الشر. فالشر لا

__________________

(١) في (ب) و (د) : واتسق تدبيره. وسقط من (أ) و (ب) و (ج) و (د) : على.

(٢) الشر قسمان : الأول شر ليس من صنع الله وهو الفساد والمعاصي وما شابهها. والثاني من الله وهو شر في تصور الإنسان وخير في الواقع وذلك مثل : الجدب والمرض والفقر وما شابه ، وهو المقصود هنا.

(٣) أي : تاب وصلح بعد فساده.

(٤) في (ه) : لم يصدق ويكذب ولم يضل ويهتد.

(٥) أي : الثنوية أصحاب الظلمة والنور.

٣٠٥

يهتدي أبدا. فليت شعري من هذا (١) الذي يدعونه إلى مذهبهم.

قال الملحد : لعمري لقد ألطفت (٢) في الاستخراج على القوم ، ولعمري إن هذا مما يقطع شغبهم ، ولكنهم يقولون : لما كان في العالم خير وشر ، دلنا ذلك على أنهما من أصلين قديمين.

قال القاسم عليه‌السلام : أما وجود الخير والشر في العالم ، فإنا نجده ؛ إلّا أن هذا يدلنا على أن صانع العالم واحد.

والدليل على ذلك : أن الخير والشر ، معتقبان على الخيّر والشرير ، ووجدناهما محدثين ، وقد قدمنا الكلام في هذا المعنى بما فيه كفاية ، وبيّنا أن العالم أصله وفرعه محدث ، وأن المحدث يقتضي المحدث ، (فإن كان حكم فاعله كحكمه ، أوجب ذلك حدوث صانع العالم ، ويقتضي المحدث) (٣) ، فإن كان هذا هكذا ، فلكل صانع صانع ، إلى ما لا نهاية له ، وقد بيّنا فساده آنفا (٤).

ووجه آخر وهو : أن الخير والشر ليس اختلافهما يدل على قدمهما ، ليس اختلافهما بأعظم (٥) من اختلاف الصور والهيئات. وقد قلنا : إن اختلافهما يدل على من خالف بينها ، واخترعها (٦) مختلفة ، فلو كان الخير والشر وسائر المختلفات قديمة ، لكان فيها دفع الضرورات.

ووجه آخر : ذلك (٧) أنا نرى خيرا لمعنى ، وشرا لمعنى آخر ، ونرى الخير والشر

__________________

(١) في (أ) و (ج) : ما هذا.

(٢) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) : لطفت.

(٣) سقط من (ب) و (د) : ما بين القوسين.

(٤) في (ه) و (و) : أيضا.

(٥) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) : بأكثر. وفي (ه) : أعظم.

(٦) في (أ) : إن اختلافهما يدل على من خالف بينهما واخترعهما. وفي (ج) : إن اختلافها يدل على من خالف بينهما واخترعها. وفي (و) : إن اختلافهما يدل على من خالف بينها واخترعها.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : ووجه آخر. وفي (ه) : وهو.

٣٠٦

مجتمعين في حين (١) واحد ، فلا يخلوان في حال اجتماعهما من أمور : إما أن يكونا اجتمعا بأنفسهما ، أو جمعهما غيرهما ، فإن كانا اجتمعا بأنفسهما فمحال (٢) ، وذلك أنهما ضدان ، والضدان لا يجتمعان بأنفسهما ، لأنا (٣) نشاهد نفورهما ، وفرار كل واحد من صاحبه ، فإذ فسد ذلك ، لم يبق إلا أن جامعا جمعهما.

ووجه آخر وهو : أنه لو كان وجود الخير والشر ، دالا على أن لهما أصلين قديمين ، لكان وجود الطبائع الأربع دالا على أن لها أصولا قديمة ، وإذا كان هذا هكذا ، دلنا على أن شاهدهم شاهد زور.

[حكمة خلق العالم]

قال الملحد : فإذا لم يكن العالم واحدا قديما ، ولا كان (٤) مزاج الاثنين ، وكان صنعا من صانع قديم ؛ فحدثني. لم خلق الله هذا العالم؟

قال القاسم عليه‌السلام : إن هذا الكلام فرع من أصل ، فإن سلّمت لي الأصل كلمتك فيه ، وإلا نازعتك في الأصل.

قال الملحد : وما ذلك الأصل؟

قال القاسم عليه‌السلام : هو أن تعلم بالدلائل : أن العالم محدث ، وأن له محدثا ، ثم تعلم: أن محدثه واحد ، قديم ؛ ثم تعلم : أنه قادر ، حي ، حكيم في نفسه ، وفعله.

قال الملحد : قد دللت على الصانع ، وعلى أنه واحد ، فما الدليل على أنه قادر حي حكيم؟

قال القاسم عليه‌السلام : الدليل على ذلك أنا وجدنا الفعل المتقن المحكم متعذرا

__________________

(١) في (ه) : حال.

(٢) في (ب) و (ج) و (ه) : فذلك يستحيل.

(٣) في (أ) و (ج) و (و) : مع أنا.

(٤) سقط من (ه) : وكان.

٣٠٧

إلا على القادر الحي الحكيم العالم ؛ فلمّا وجدنا الفعل المحكم واقعا ، دلنا ذلك على أن صانعه عالم ، قادر ، حي ، حكيم.

قال الملحد : فهل وجدت الفاعل الحكيم القادر سوى الإنسان؟

قال [القاسم] : لا.

قال [الملحد] : أفتقول إنه إنسان؟

قال [القاسم] : إني وإن لم أجد إلا إنسانا ، فلم يقع الفعل منه لأنه إنسان ، إذ قد وجدنا إنسانا تعذر عليه الفعل ، فلما وجدناه متعذرا عليه ؛ دلنا ذلك على وجود فاعل ليس بإنسان (١).

ألا ترى أنا لما قلنا : إنه لا يجوز كون الفعل إلا من قادر حكيم ، جائز منه ذلك. فكان قولنا فيه مستمرا ؛ ولما لم يستمر القول في ذلك (٢) لم نقل به.

(قال الملحد : قد أبلغت في هذا ، فنرجع إن شئت إلى مسألتي.

قال [القاسم] : سل) (٣).

قال [الملحد] : لم خلق الله العالم؟

قال القاسم عليه‌السلام : قال الله سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] ، وقال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(٥٦) [الذاريات : ٥٦] ، وقال : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣]. فأخبر أنه خلقنا للعبادة ، والابتلاء ، وليبلغ بنا إلى أرفع الدرجات ، وأعلى المراتب.

__________________

(١) لأن تخلف القدرة والحكمة عن بعض الناس دليل على أنها لم تحصل للآخرين لعلة كونهم من الناس ، إذ قد وجد ناس لم تحصل لهم فدل على أنها حصلت ممن يعلم ويقدر من الناس بجعل جاعل ، لا لعلة أنه إنسان. وذلك يدل على أن القدرة والحكمة لا تتوقف على الإنسانية. تعليقة السيد بدر الدين الحوثي.

(٢) أي : في الإنسان وقدرته.

(٣) سقط من (ه) : ما بين القوسين.

٣٠٨

قال الملحد : فما دعاه إلى خلقنا؟ ألحاجة خلق؟

قال القاسم عليه‌السلام : أما قولك : ما دعاه؟ فمحال.

وذلك أنه لم يزل عالما بلا سهو ، ولا غفلة. فقولك : ما دعاه (١)؟ محال. لأن الدعاء ، والتنبيه ، والتذكير ، إنما يحتاج إليها الغافل ؛ فأما الذي لا يجوز أن يغفل ، فمحال أن يدعوه شيء إلى شيء ؛ إذ لا غفلة هناك ، ولا سهو. والدليل (٢) على ذلك : أن الغفلة من الدلالة على الحدوث ؛ وقد قامت الدلالة على أنه قديم. وأما قولك : ألحاجة خلق؟ فالحاجة أيضا من صفات المحدثين ، والقديم يتعالى عنها.

قال الملحد : فلم خلق؟!

قال القاسم عليه‌السلام : أما قولك : لم خلق؟ فقد أجبتك ، وذلك في الجوابين السابقين لهذا. لأن قولك «لم»؟ سؤال. وقولي : «لأن» إجابة.

قال الملحد : فما وجه الحكمة في خلق العالم ، وخلق الممتحنين؟

قال القاسم عليه‌السلام : وجه الحكم في ذلك ، أنه إحسان ، أو داع إلى إحسان ، وكل من أحسن ، أو دعا إلى إحسان ، فهو حكيم فيما نعرفه.

قال الملحد : وكيف يكون حكيما من خلق خلقا فآلمه بأنواع الآلام؟ وامتحنه بضروب من الامتحان ، أخبرني عن وجه (٣) الحكمة في ذلك ، من الشاهد؟

قال القاسم عليه‌السلام : أما قولك : كيف يكون حكيما ، من خلق خلقا ، فآلمه بأنواع الآلام؟ فوجه الحكمة في ذلك من الشاهد (٤) ، أنا وجدنا من الآلام في الشاهد ما هو داع إلى الإحسان. من ذلك : ضرب المؤدّبين للصبيان (٥) ومنه الحجامة ، والفصد (٦) ،

__________________

(١) في (ه) : فما دعاه.

(٢) في (ب) و (ج) و (د) : والدلالة.

(٣) في (أ) : خبرني بوجه. وفي (د) : خبرني ما وجه. وفي (ب) و (ج) : خبرني عن وجه.

(٤) في (ه) : في الشاهد.

(٥) في (ه) و (د) : المؤدبين والصبيان. وفي (د) : المؤدبين الصبيان.

(٦) الفصد : شق العروق ، والمراد الحجامة.

٣٠٩

وشرب الأدوية الكريهة ؛ كل ذلك داعية إلى الإحسان ، وإلى شيء حسن في العقل ، فإذا كان من الآلام (١) في الشاهد ما هو كذلك ، فكل ما (٢) كونه من قبل الله عزوجل ، مثل الموت والمرض والعذاب وغيره ، حكمة في الصنع ، وصواب في التدبير ، إذ كان كل ذلك داعية إلى إحسان.

قال الملحد : ما الدليل على أن ذلك داعية إلى الإحسان؟

قال القاسم عليه‌السلام : الدليل على ذلك أنها أفعال الحكيم ، وقد صح أن الحكيم إنما (٣) يفعل هذه الأشياء ، التي هي الترغيب في السلامة والصحة والخير ، والترهيب من الغم والشر (٤) والسقم. ومن رغّب في الخير ، فحكيم في ما نعرفه.

وأما قولك : لم امتحن امتحانات ، عطب (٥) أكثرهم عندها؟

فإنا نقول في ذلك ولا قوة إلا بالله : إن الله سبحانه إنما امتحانه وأمره ونهيه ، داعية له إلى الخير ، فمن عطب فمن قبل نفسه عطب (٦) ، لأنه لم يأتمر بما أمره الله سبحانه ؛ ولا انتهى عما نهاها عنه ، ولو كان انتهى عما نهاه عنه ، وركب ما أمر به ، لكان يؤديه ذلك إلى الفوز العظيم.

فهو : من قبل نفسه عطب ؛ لا من قبل الله عزوجل.

ومثل (٧) ذلك فيما نعرفه : أن حكيما من حكمائنا لو أعطى عبيدا له دراهم ، وقال لهم : اتجروا ، فإن ربحتم ، ولم تفسدوا ، فأنا معطيكم ما يكفيكم ، وإن لم تفعلوا عاقبتكم. فأطاعه منهم قوم ، وعصاه آخرون ، لم ترجع اللائمة عليه ، بعصيانهم إياه ؛ ولكنها لا حقة بهم ، حين عصوه ، ولم يخرج دعاء سيدهم إياهم وعطيتهم من الحكمة ؛

__________________

(١) في (ه) : الأدوية.

(٢) في (أ) و (ج) و (ه) : ما هو كونه من قبل.

(٣) في (ب) و (د) : لأنه فعل الحكيم ، والحكيم إنما.

(٤) في (ه) و (و) : الغم والسقم والشر.

(٥) في (ج) : غضب. (مصحفة).

(٦) في (ب) و (د) : داعية له إلى الحكمة ، فالمأمور من قبل نفسه عطب. وسقط من (أ) و (ج) : عطب.

(٧) في (ب) : مثال.

٣١٠

إذ لم يدعهم به إلا إلى الإحسان ، فلما كان ذلك كذلك ، كان الله حكيما ، بامتحانه وأمره(١) ونهيه.

قال الملحد : إن الله يعلم ما هو صائرون إليه ، ونحن لا نعلم ذلك (٢).

قال القاسم عليه‌السلام : إن الجهل ، والعلم (٣) ، لا يحسّن الحسن ، ولا يقبّح القبيح ، وذلك لأنه (٤) لو كان حسنا لأن الآمر به يعلم أنه يفعله (٥) لكان ذلك قبيحا ، إذا (٦) كان الأمر منا بما يصير إليه المأمور جاهلا ، فلما (٧) لم يكن ذلك قبيحا لجهل الآمر منا ، لأنه إنما (٨) أمر بالحسن ودعا إلى الحسن ، وإن كان جاهلا بما يصير إليه المأمور [دل ذلك على أنه لا فرق بين أن يكون الآمر بالحسن ، والداعي إلى الحسن ، جاهلا بما يصير إليه المأمور] (٩) ، أو عالما.

وشيء آخر : وهو أنه لو كان الامتحان قبيحا ، إذا علم أنه يعصى ، لكان لا شيء أقبح من إعطاء العقل ، لأنه إنما يعصى عند وجوده ، ويستحق الذم والمدح به ، فلما كان إعطاء العقل عند الأمم كلها موحدها وملحدها حسنا ، دل ذلك على أن الامتحان والخلق والأمر بالحسن كله حسن ، علم أنه يعصي أو (١٠) يطيع.

قال الملحد : فلم مزج الخير بالشر ولم صار واحد غنيا ، وواحد فقيرا ، والآخر قبيحا ، والآخر حسنا؟

__________________

(١) في (ب) و (د) : بأمره.

(٢) يعني أن ما ذكر القاسم غير مطابق ، لأن الله يعلم مصير الممتحنين ، والسيد لا يعلم.

(٣) يعني الجهل منا. والعلم من الله.

(٤) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) : أنه.

(٥) في (ب) : بفضله. (مصحفة).

(٦) سقط من (ب) : ذلك. وفي (أ) و (ب) و (ج) و (د) : إذ.

(٧) في (ب) : ولما.

(٨) في (ب) : لجهل الآمر لأنه أمر.

(٩) زيادة توضيحية لا بد منها لانتظام الكلام.

(١٠) في (ب) : أم.

٣١١

قال القاسم عليه‌السلام : إن هذه الدار دار امتحان ، ودار ابتلاء ، وحقيقة الامتحان فهو : أن يخلق فيه ، أو يأمره بشيء يثقل على طباعه ؛ فينظر هل يطيع ، أم لا يطيع؟

ولو خلق الله ما هو خفيف على طباعه ، ثم أمره بالخفيف لكان ذلك لذة له ، وليس بامتحان (١). فلما كانت هذه الدار دار امتحان ، كان الواجب في صواب التدبير ، أن يمزج الخير بالشر ، والنفع بالضر ، والمكروه بالمحبوب ، والحسنة بالسيئة ، والكريه المنظر بالحسن المنظر ، إذ كانت الدار دار امتحان ؛ لأنه (٢) لو كان كله محبوبا كان دار الثواب ، ولو كان كله مكروها ، كان دار العقاب ، ودار الثواب والعقاب هذه صفتها.

واعلم أنه لو (٣) لم تعرف علل ذلك لكان جائزا ، وذلك أنه في بدي الأمر ، إذا أقمت الدلالة على أنه حكيم في نفسه وفعله ، ثم دللت على أن الكل من أفعاله حكمة ، استغنيت عن معرفة علله.

ومثال ذلك من الشاهد : أنا لو هجمنا على آلات من آلات الصانع ، فرأينا اعوجاج المعوجات ، واستواء المستويات ، وصغر بعضها ، وكبر بعضها ، وغلظ بعضها ، ورقة بعضها ، فحكمنا (٤) أن صانعها غير حكيم ، لكنا جاهلين بالحكمة ، نضع الحكمة في غير موضعها. بل حينئذ الواجب علينا أن نسلم للحكماء حكمتهم ، ونعرف أنهم لا يفعلون شيئا من ذلك إلا لضرب من الحكمة يعرفونه ، ونعلم بأن المعوج والمستوي ، وكل زوج منها يصلح لعمل لا يصلح له الآخر ، فحينئذ وضعنا الحكمة في موضعها. فاعرف ذلك وتبيّنه ، تجده كما قلنا إن شاء الله تعالى.

فلما (٥) كانت أفعال الله كلها إحسانا ، أو داعية إلى الإحسان ، كان تبارك وتعالى

__________________

(١) في (ب) و (د) : ولم يكن بامتحان.

(٢) في (ه) : لأنه جل وعلا لو.

(٣) في (ه) : واعلم أنه ولو لم نعرف.

(٤) في (ه) : وكثرة بعضها. وقلة بعضها. وفي (ب) و (د) : فحكمنا على.

(٥) في (ب) و (د) : ولما.

٣١٢

بفعلها كلها حكيما ، إذ كل ذلك حسن في العقل.

فإن قلت : لم فعل الحسن في العقل؟

قيل لك : يفعل الحسن لحسنه ، ولو لم يفعل الحسن في العقل لحسنه ، لكان لا يترك القبيح لقبحه في العقل (١) ، وكفى بهذا القول قبحا.

[إرسال الرسل وحكمة التشريع]

قال الملحد : لقد أبلغت وقد بقيت لي مسائل.

قال القاسم عليه‌السلام : سل.

قال الملحد : ما الدليل على أن الصانع له رسول؟

قال القاسم عليه‌السلام : الدليل على ذلك أن الصانع حكيم ، محسن إلى خلقه ، وفي العقل أن شكر المنعم واجب ، فلما كان هذا في عقولنا واجبا ، وكان الله حكيما منعما على خلقه ؛ كان من كمال النعمة أن أرسل إليهم الرسل ، مع دلائل اضطرت العقول إليها ، ليبين لهم كيفية شكره ، لأن كيفية (٢) شكره ليس مما يعلم بالعقل ، ولا بالنفس ، ولا بالحس ، ولا بالظن ، وإن كان في العقل جوازه. فحينئذ أقام لهم معهم دلائل ومعجزات ، دل بها على صدقهم.

قال الملحد : كأنك تقول : إن شرائع الأنبياء خارجة عن العقول ، إذ قلت : لا يعلم كيفيتها بها (٣).

قال القاسم عليه‌السلام : أما قولك : إن شرائع الرسل خارجة عن العقول إذ ليس فيها كيفيتها. فإني لم أقل لك (٤) ليس فيها كيفيتها بتة ، بل اشترطت لك فقلت لك : إنه

__________________

(١) سقط من (ه) : في العقل.

(٢) في (ه) : كيف.

(٣) سقط من (ه) : بها.

(٤) في (ه) و (د) : أقل لك ليس فيها أن لا تكون بتة.

٣١٣

وإن لم يكن فيها كيفيتها ففيها جواز كونها.

قال الملحد : وكيف ذلك؟

قال القاسم عليه‌السلام : هو مثل ما تعرفه في الشاهد ، وذلك لو أن سيدا أمر عبده ببناء دار ، أو قطع شجرة ، أو إعطاء عبد الله ، أو ضرب زيد ، فإنه ليس في العقل أن السيد يأمر به (١) ، فإذا أمر به كان في العقل أن الايتمار به حسن ، وأن تركه قبيح ، إذا كانت (٢) لأمر سيده عاقبة محمودة ، ومرجع نفع إلى العبد ، فالعقل (٣) يجوّز الأمر بكل شيء على حياله ، ولا يوجب شيئا من ذلك دون شيء ، إذا كان ذلك الأمر مما ينتقل حاله في العقل ، وذلك أنه قد يكون المشي إلى موضع ما حسنا في العقل ، إذا كان للمشي معنى حسن ، فأما اللواتي يدرك حكمها في العقل ، فقد أدرك بأن (٤) الآمر بها لا يأمره إلا بما هو حسن ، ولا ينهى إلا عن ما هو قبيح عنده.

قال الملحد : فحدثني عن الصلاة والصيام وغيرهما من الشرائع ، هل له أصل في العقل (٥) تفرّع هذا منه؟

قال القاسم عليه‌السلام : أجل ، قد أخبرتك به آنفا ، وهو كالأمر بالمشي إلى موضع ما ، وكضرب زيد ، وإعطاء عبد الله ، ليس له أصل في العقل (٦) ، أكثر من الايتمار لأمر الحكيم ، ووجه الحكمة فيه أن الآمر إنما يأمر به لينظر هل يأتمر به المأمور فيجازيه لذلك؟ لا سيما إذا كان الآمر مستغنيا ، غير محتاج إلى ما يأمر به ، وإنما يأمرهم ليمتحنهم ، وليظهر بذلك أعمالهم ، فإن الأمر به حسن ، وعلى ذلك سبيل الشرائع كلها.

قال الملحد : خبرني عن كيفية معجزاتهم.

قال القاسم عليه‌السلام : هو قلب العادات ، وأن لا يترك العادات جارية على

__________________

(١) أي : بعينه.

(٢) في (ب) : كان.

(٣) في (ب) : فإن العقل.

(٤) في (ب) و (ه) : أن.

(٥) في (ه) : هل لأمر في العقل.

(٦) في (ه) : ليس له في الأصل في العقل.

٣١٤

مجراها ، فإذا جاء أحدهم وقال له قومه : ما الدلالة على صدقك ، قال : الدليل أن الله يقلب عاداتهم ، في كذا ، وكذا ، إلى كذا وكذا ، فحينئذ يعرفون صدقه ، ويضطرون إلى قبول قوله ، وهذه سبيل المعجزات كلها ، وبمثل ذلك (١) يفرق بين النبي والمتنبي ، وبين (٢) الصادق والكاذب.

[الحكمة من الموت والبعث]

قال الملحد : فإنه (٣) بقي في قلبي شبهة ، فأحب أن تقلعها بحسن رأيك ونظرك.

قال القاسم عليه‌السلام : هاتها لله أبوك!

قال الملحد : أخبرني عن الله عزوجل ، لم يميت الإنسان ، ويصيّره ترابا ، بعد أن جعله ينطق بغرائب الحكمة ، وبعد هذه الصورة العجيبة البديعة؟! ولم يفني العالم كله؟! أرأيت لو أن إنسانا بنى بناء فنقضه لا لمعنى ، هل يكون حكيما؟!

قال القاسم عليه‌السلام : ليس الأمر كما ظننته ، أرأيت لو أن إنسانا بنى بناء للشتاء فلما جاء وقت الصيف نقضه وبناه للصيف ، هل يكون حكيما؟

قال [الملحد] : نعم.

قال [القاسم] عليه‌السلام : ولم؟

قال [الملحد] : لأن الذي اتخذه للشتاء ، لا يصلح للصيف ، وكذلك الذي اتخذه للصيف لا يصلح للشتاء.

قال القاسم عليه‌السلام : وكذلك الله عزوجل ، خلق الدنيا وما فيها (٤) للابتلاء ، فإذا انتهى إلى أجله وحينه ، أفناها (٥) ، ويعيدها ثانيا (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما

__________________

(١) في (ب) : وبذلك.

(٢) سقط من (ه) : بين.

(٣) في (ب) و (د) : إنه قد.

(٤) سقط من (ه) : وما فيها.

(٥) سقط من (أ) و (ج) و (ه) : وحينه. وفي (ب) و (د) : يفنيها.

٣١٥

عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١)) [النجم : ٣١]. ولا يكون ذلك خروجا من الحكمة ، بل الحكمة أن لا يضيع الثواب والعقاب.

قال الملحد : إن التوحيد ، والتعديل ، والرسل ، قد تكلم فيه ناس من أهل الملل (١) وكل يشك في الميت ، هل يحيى أم لا؟ وكلّ يجيء في ذلك بشيء ، فإن دللت على ثباته ، وكيفيته ، لم تبق لي مسألة ، وحينئذ آمنت بربي.

قال القاسم عليه‌السلام : أما الدلالة على ثباتها (٢) فإني وجدت الله تبارك وتعالى حكيما ، قد امتحن خلقه ، وأمرهم ، ونهاهم ، وكان قول من يقول بإزالة الامتحان ، داعيا (٣) إلى الإهمال ، والإهمال داع إلى أن الله غير حكيم ، وإذا (٤) جاز أن يكون العالم قديما. لأنه لا فرق بين أن يفعل من (٥) ليس بحكيم هذا الصنع العجيب ، وبين أن يقع فعل لا من فاعل ، والأشياء موجودة ، فتكون قديمة أزلية ، لا فاعل لها.

ووجدت (٦) هذا القول داعيا إلى التجاهل ، فلما كان ذلك كذلك ، صح أن الله حكيم ، والحكيم لا يهمل خلقه ، وإذا لم يهمل خلقه ، لم يكن بد من أمر ونهي ، ولم يكن بد من (٧) مؤتمر ، وغير مؤتمر ، وكان من حكم العقل أن يفرق بين الولي ، والعدو ، ووجدنا أولياءه وأعداءه مستوية الأحوال في الدنيا ، لأنه كما أن في الأعداء من هو موسر صحيح ، ففيهم من هو معسر مريض ، وكذلك الأولياء ، فلما كانت في الدنيا أحوالهم مستوية ، ولم يكن بدّ من التفرقة بينهما (٨) ، صح أن دارا أخرى فيها يفرق بينهم ، وفيها ينشرون ، إذ قد وجدت هذه الحال قد اشتملت الكل ، الولي والعدو.

__________________

(١) في (ب) : الملل والرسل. وفي (ج) : أهل العلل. مصحفة.

(٢) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) : حياتها.

(٣) في (ب) و (د) : داعية.

(٤) في (ه) : فإذا.

(٥) في (ه) : ما.

(٦) في (ب) و (ه) : وجدت.

(٧) سقط من (ه) : لم يكن بد من.

(٨) سقط من (ه) : بينهما.

٣١٦

وذلك قوله عزوجل : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)) [ص : ٢٨].

وأما قولك : أخبرني عن كيفيتها؟ فإن الله عزوجل جعل الروح لجسد الإنسان حياة له ، كالأرض إذا اهتزت بالماء ، وتحركت بالنبات ، كذلك الروح إذا صار في الإنسان ، صار حيا متحركا ، إذا امتزج أحدهما بصاحبه.

قال الملحد : وكيف يمتزج الروح بالبدن (١) وقد صار ترابا؟

قال القاسم عليه‌السلام : وكيف يمتزج الماء بالأرض الهامدة؟ إذا صارت قاحلة يابسة.

قال الملحد : هو أن يمطر عليها ، أو يجري فيها فيتصل أجزاء الأرض بأجزاء الماء ، بالمشاكلة التي بينهما ، فعندها تهتز وتتحرك.

قال القاسم عليه‌السلام : وكذلك الروح ، يرسل (٢) إلى ذلك التراب ، فيماسه ويمازجه ، فحينئذ يحيى الإنسان ويتحرك. أولا ترى إلى بدء خلق الإنسان ، كيف كان؟! أو ليس (٣) تعلم أنه كان ترابا ، فلما جمع الله بينه وبين روحه صار إنسانا ، فأصل خلق الإنسان يدلك على آخره ، أولا تسمع قوله سبحانه : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠)) [يس: ٧٩ ـ ٨٠].

قال الملحد : إنه ليس بين الروح والتراب مشاكلة ، فيما يعرف!

قال القاسم عليه‌السلام : فهل تعلم (٤) بين النار والشجر الأخضر مشاكلة؟

قال الملحد : نعم. وهي أنها مجموعة (٥) من الطبائع الأربع إحداهن

__________________

(١) في (ب) و (د) : بالجسد.

(٢) في (ه) : يوصل.

(٣) في (ه) : أولست.

(٤) في (د) و (ه) : تعرف.

(٥) في (ه) : مخلوقة.

٣١٧

النار (١). قال القاسم عليه‌السلام : الله أكبر هل تعلم بين النار وبين (٢) ثلاثتها مشاكلة؟

قال الملحد : لا.

قال القاسم عليه‌السلام : فكيف اجتمعن؟ إنه لما جاز أن تجتمع النار مع الماء ، والأرض والأهوية ، بلا مشاكلة بينهن (٣) جاز للروح مثل ذلك.

فقال الملحد عند ذلك : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق ، وتعست أمة ضلت عن مثلك. وأسلم وحسن إسلامه ، وكان يختلف إلى الإمام أمير المؤمنين القاسم عليه‌السلام ، ويتعلم منه شرائع الإسلام.

تمت المناظرة وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

* * *

__________________

(١) الطبائع الأربع هي : التراب ، والماء ، والنار ، والهواء.

(٢) سقط من (ه) : وبين.

(٣) سقط من (ه) : بينهن.

٣١٨

مجموع الإمام القاسم عليه‌السلام

الرد على الزنديق

ابن المقفع

٣١٩
٣٢٠