مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

فلا يكون إلا صنعا مفطورا ، لما يرى فيه من أثر الفطرة والصنع ، وذلك فدلالة لا تخفى على الصانع المبتدع ، وما أرسل تبارك وتعالى من الرياح بشرا بين يدي رحمته ، فلا بد من وجود مرسله وولىّ فطرته ، وما أنزل سبحانه من الماء ، من أجواء السماء ، فلا بد من منزله ، ومعرّف رحمته فيه وفضله ، لأن التفضيل لا يكون أبدا والرحمة ، إلا ممن له منّ ونعمة.

وفي الماء وإنزاله ، وحدره من المزن وإهطاله ، ما يقول سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) (٧٠) [الواقعة : ٦٨ ـ ٧٠].

وما أحيى بمنزل الماء من موات البلاد ، وما أسقاه من الأنعام وكثير العباد ، فلا يمتنع فكر عند وجوده كله ، من وجود محييه وساقيه ومنزله ، (١) وما مرج فحلّي من البحرين ، فرؤي ممزوجا رأي عين ، كل بحر منهما مخلا يمعج ، (٢) ولا ينقطع بعضه عن بعض ولا يعرج ، (٣) متصلا جميعا كله ، غير منقطع متصله ، يسير في قرار موضعه وبين أكنافه ، (٤) وفيما بين حدوده التي جعلت له وأطرافه ، (٥) قدر مسير مسافة شهر (٦) وربما كان أشهرا عدة ، يعلم (٧) ذلك من سمع بخبره أو رآه فأبصره عيانا مشاهدة ، فإذا انتهى إلى ما جعل الله له من الحد ووقف عند حده وحاجزه ، وما جعل بينه وبين البحر العذب الفرات من برزخه وحواجزه ، فلم يعد من حدوده كلها حدا ، (٨) ولم يجد له معه مطلعا (٩) ولا مصعدا ، وفيما جعله الله له موضعا ، ومقرا رحبا واسعا ، يرى طاميا

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : منزله.

(٢) المعج : الاضطراب ، وسرعة المرّ ، والسير في كل وجه.

(٣) العروج : الصعود ، والارتقاء والإقامة والميل. وهو المراد هنا.

(٤) في (ب) و (د) : أطباقه.

(٥) في (ب) : حتى جعلت أطرافه.

(٦) في (ب) و (د) : مسيرة شهر.

(٧) في (ب) و (د) : ويعلم.

(٨) سقط من (أ) و (ج) : حدا.

(٩) في (أ) : يجد له مطلقا.

٢٨١

فيه مشرفا ، (١) يركب بعضه بعضا (٢) ركوبا متعسفا.

فأي عجب أعجب ، وأي دليل أقرب ، لمن استدل بحقيقة من الحقائق ، على ما نرى من الصنع في الخلائق ، (٣) بين رؤية هذا وعيانه ، والعلم به وإيقانه.

وفي ذلك بعينه ، وفي دلالة تبيينه ، (٤) ما يقول الله سبحانه : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) [النمل : ٦١]. تذكيرا للمقرين بما يقرون ، (٥) واحتجاجا على المنكرين بما لا ينكرون ، إلا بمكابرة وجحد لما يعرفون ، من صنع الحاجز بين البحرين ، وما بيّن لهم منه بأوضح التبيين.

ولصنع ذلك وبيان جعله ، وما ذكر الله معه من صنع مثله ، ما يقول سبحانه : أم من جعل ما لا تنكرون جعله ، وإن كنتم لا تعرفون الجاعل له ، وإذ (٦) لا بد عندكم لكل مجعول من جاعله ، (٧) وكما يعرفون ذلك ولا ينكرونه في كل مجعول وأمثاله ، فلا يشكّون ولا يمترون ، في أن لكل ما ترون من ذلك وتبصرون ، جاعلا ببتّ (٨) إيقانا ، وإن لم تروه عيانا.

فمن جاعل الحاجز بين البحرين وفاطره؟! ومدبر ما يرى من ذلك ومقدّره؟ إلا من ليس له مثل ولا نظير ، ومن لا يلغبه (٩) تدبير ولا تقدير ، كما قال سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ)(٣٨)

__________________

(١) طاميا : مرتفعا. ومشرفا : عال.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : بعضا.

(٣) في (أ) و (ج) : الخالق. وفي (ب) و (د) : الحقائق. (مصحفة). ولعل الصواب ما أثبت والله أعلم.

(٤) في (أ) و (ج) : دلالة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أم من جعل .... مصحفة.

(٥) في (أ) و (ج) : يرون.

(٦) في (ب) : وإن.

(٧) في (أ) و (ج) : جاعل.

(٨) في (ب) و (د) : بآتا.

(٩) في جميع المخطوطات يغلبه. (ولعلها مصحفة). بدلالة الآية بعدها. والله أعلم. واللغوب : التعب والإعياء.

٢٨٢

[ق : ٣٨] ، وهل يدبر أو يفتطر أقل ما يرى من بدائع الله وصنعه ـ سوى الله ـ واهب أو موهوب ، (١) كلا لن يفتطره ، ويصنعه أبدا ويدبره ، سوى الله صانع ، معط ومانع (٢) وإنما صنع من (٣) سوى الله إذا صنع ، أن يعطي أو يمنع ، أو يفرق أو يجمع ، أو يرفع أو يضع ، بعض ما ولي الله ابتداعه صنعا ، أو كان من الله خلقا وبدعا.

وفي امتناع ذلك على المخلوقين ، ما يقول رب العالمين : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣)) [الحج : ٧٣]. فأقل بدائع صنع الله تبارك وتعالى فما لا يخلقه ولا يصنعه أبدا (٤) غالب من الخلق ولا مغلوب ، ثم زاد سبحانه بما ذكر من الآيات في سورة الفرقان من الدلالة والتبيين دلالة وبيانا وتبصيرا ، (٥) بقوله جل جلاله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً)(٥٤) [الفرقان : ٥٤]. والبشر الذين خلقه جل ثناؤه من الماء ، فهو ما لهم من الذرية والأبناء ، ومنهم ولهم ، وفيهم وبينهم ، جعل سبحانه النسب والصهر لانتساب بعضهم إلى بعض ، ومصاهرة بعضهم لبعض ، لأن كلهم ينتسب ، إلى أم أو إلى أب ، وليس آدم عليه‌السلام (٦) بمنسوب إلى نسب ، لأنه لم يخرج صلى الله عليه من رحم ولا صلب ، ولم يصاهر بصهر (٧) أبدا ، إذ كان كل البشر له ولدا ، والماء الذي خلق الله منه ولده ونسله ، فهي النطف التي لم تكن قبله ، وفي ذلك كله وتصريفه ، وعجيب صنعه وتأليفه ، أدل الدلائل على مصرّفه ، وصانعه ومؤلّفه ، وكل ما ذكر الله تعالى من ذلك ومعجبه ، فدليل على

__________________

(١) في (ب) : راهب أو مرهوب. (مصحفة).

(٢) في (ب) و (د) : ولا مانع.

(٣) في (أ) و (ج) : إنما صنع ما سوى الله أن يعطى.

(٤) في (أ) : فما لا يصنعه أبدا. وفي (ج) : فما لا يخلقه أبدا. وفي (ب) و (د) : مما لا يخلقه ولا يصنعه. ولفقت النص من الجميع.

(٥) في (أ) و (ج) : وتبصرة.

(٦) سقط من (ب) و (د) : عليه‌السلام.

(٧) في (ب) : صهرا أحدا.

٢٨٣

الله والحمد لله لا خفاء (١) به.

ومن الدليل على معرفة الله ، والدواعي لليقين بالله ، فما لا يجهله ، بعد الإحساس له ، إلا جاهل عصي ، (٢) ولا يحصيه من الخلق كلهم ـ ولو جهد كلّ جهد ـ محصي ، من خلق السماء والأرض ، وغيرهما من الصنع والخلق ، الذي في كل شيء منه على ناحيته وحياله ، آية ودلالة نيّرة على فطرته واجتعاله. والفطرة والاجتعال ، هما (٣) الوصلة والانفصال ، وليس من السماء والأرض وما (٤) فيهما ، ولا من كل ما يضاف من الخلق إليهما ، ما يخلو من تفصيل أو توصيل ، (٥) وفي ذلك على صنعه أدل الدليل. وآيات الله ، (٦) فهن الدلائل على الله ، والدلائل فهن (٧) العلامات المنيرات ، والعلامات فهن الشواهد الظواهر البينات ، وكل آية من آيات الله ، فهي علم بيّن للمعرفة (٨) بالله ، والدلائل على الله المنيرة الزاهرة ، والآيات في (٩) معرفة الله البينة الظاهرة ، في (١٠) كل ما تدركه حاسة من الحواس الخمس ، (١١) من عيان أو سمع أو شم أو ذوق أو لمس ، ومن تنزيل الله لذلك (١٢) وفيه ، ومن الشواهد لله عليه ، قوله سبحانه : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : لله لا خفاء.

(٢) في (ب) : عم. وفي (د) : غمر. مصحفة.

(٣) في (أ) : ومما.

(٤) في (أ) : ومما.

(٥) في (ب) و (د) : من توصيل وتفصيل.

(٦) في (أ) و (ج) : الله عزوجل.

(٧) في (ب) و (د) : فهي. وسقط من (ب) : والدلائل.

(٨) في (أ) و (ج) : بين من المعرفة. وفي (د) : بين المعرفة.

(٩) في (ب) و (د) : هي. مصحفة.

(١٠) في (أ) و (ج) : ففي.

(١١) سقط من (أ) و (ج) : الخمس.

(١٢) في (أ) و (ج) : ذلك.

٢٨٤

وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٦٤) [البقرة : ١٦٤].

وفي ذلك ما يقول جل جلاله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥)) [يونس : ٥]. فكان كما قال جل ثناؤه ، وصدق وعده وأنباؤه ، (١) خلق (٢) ما خلق في ذلك من الخلق ، مما ذكر في خلقه (٣) من الحقيقة والحق ، وفصّل فيه تبارك وتعالى كما قال : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) آياته تفصيلا ، فجعل كل شيء منه له آية وعليه دليلا ، فما ينكر ـ شيئا (٤) من ذلك بمكابرة ولا يجحده ، ولا يكابر الدليل فيه بمناكرة فيرده ، ـ إلا من لا يعقل ولا يعلم ولا يتقي ، ولقلة تقواه لله (٥) شقي بحيرته فيه من شقي ، وإنما يبصر ذلك ويتفكر فيه وينتفع به المتقون ، كما قال سبحانه : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٦) [يونس : ٦].

ألا ترى أنه ليس من المتحيرين في ذلك ولا من المنكرين ، ولا من الجاحدين له المكابرين ، من يرى (٦) أصغر صنع الصانعين بأكفهم ، لوهنهم عن الابتداع وضعفهم ، فليمتنع من الإقرار بصنعه وصانعه ، وإن كان صانعه بريا عندهم من ابتداعه ، ومن أنكر ذلك عنده ، وكابر فيه فجحده ، خرج بإنكاره لأقله ، (٧) من العقل وصفة أهله ، وقيل : ماله ـ ويله ـ ما أعماه؟ وأجهله بما لا يجهله (٨) أحد صحيح العقل فيما ظنه ورآه؟!

__________________

(٢) في (أ) و (ج) : ونباؤه. وفي (ب) و (د) : يخلق.

(٣) في (ب) و (د) : خلقه له.

(٤) في (أ) و (ج) : شيء.

(٥) في (ب) : ولقلة تقوى الله.

(٦) في (ب) و (د) : والمكابرين. وفي (ج) : من برّ. لعلها مصحفة. والحرف الأول مهمل.

(٧) في (ب) و (د) : أو كابر فيه وجحده. وفي (ب) : خرج من إنكاره. وفي (ج) : بإنكاره ولأقله.

(٨) في (ب) و (د) : لا يجهله (أحد صح عقله فما يرى ويعاين من ببصره ويراه ، ما هذا بصحيح العقل فيما يظنه ويراه) ، ويبدو لي أن هذه الفقرة (زيادة سهو). والله أعلم.

٢٨٥

فكيف أنكر وتحيّر؟ وأبى مكابرة عن أن يقر؟ بما يرى من الصنع والتدبير ، في أكثر ما يراه أحد من الصنع الكبير ، (١) الذي لا خفاء فيه من القدرة والتدبير ، والصنعة البينة والتأثير المنير ، مما تقصر (٢) عنه الأفكار ، وتنحسر (٣) فيه الأبصار ، من الأرض والسماء ، وما بينهما من الأشياء ، التي يدل اضطرار دركها ، على من يدبرها ويملكها ، وعلى أن من صنعها وأنشأها ، إنما فطرها وابتداها ، فابتدعها صنعا ، وخلقها بدعا ، يدل على ذلك فيبينه ، (٤) ويوضح ذلك فينيّره ، (٥) ما يرى من كثرة ذلك وسعة أقداره ، وما يعاين من بعد ما بين أطرافه وأقطاره ، مع ما فيه من لطيف التقدير والإحكام ، وماله من طول البقاء والإقامة والدوام ، فكل صنعه ولطيف (٦) تدبيره وتقديره وإحكامه ، وما ذكرنا من بقائه وإمساكه وإقامته ودوامه ، دليل بيّن على صانعه ومحكمه ، وممكسه بحيث هو ومديمه ، وذلك الله العزيز الحكيم ، والمتقن لما يشاء والممسك المديم ، كما قال سبحانه : (* إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)(٤١) [فاطر : ٤١] ، فكل ذلك فقد جعله الله بحلمه (٧) ومغفرته قدرا مقدورا ، ولا يكون القدر وهو القدر المقدور ، (٨) إلا وهو لا بد لربنا (٩) صنع وخلق مفطور ، ولا يجحد ذلك أبدا ولا ينكره ، إلا من عمي قلبه وفكره.

فاسمع يا بني : ـ هداك الله ـ لما بيّن في ذلك برحمته لما خلقه الله من الآيات الجليات ، والدلائل المضيّات ، ففي أقل استماعه ، وفهمه عن الله واتباعه ، ما أغنى من

__________________

(١) في (أ) و (ج) : الكثير.

(٢) في (ب) : ما قصر.

(٣) في (ب) : وتتحيّر.

(٤) في (أ) : ويبينه.

(٥) في (أ) : وينيره.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : ولطيف.

(٧) في (ب) و (د) : بحكمه. تصحيف. بدلالة الآية قبلها.

(٨) في (ب) و (د) : القدرة والمقدور.

(٩) سقط من (ب) : لا بد لربنا. ومن (د) : لربنا.

٢٨٦

فهمه وكفاه ، (١) وأبراه من كل داء حيرة وشفاه ، كما قال تبارك وتعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(٥٧) [يونس: ٥٧] ، فإنّك يا بني : إن تفهم أقل آياته وما دل به على نفسه في ذلك (٢) من دلالته حق فهمه تكن من الموقنين.

فمن ذلك ـ فافقه مقالته جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله ـ (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (١٣) [الملك : ١٣].

فأخبرهم سبحانه من إنشائه لهم بما يرون عيانا ويبصرون ، وما لا يقدرون على إنكاره إلا بالمكابرة (٣) لما يرون ، إذ الجعل والإنشاء ، إنما هو الزيادة والنماء ، ولا خفا عندهم ، ولو جهدوا جهدهم ، بما يرونه والحمد لله عيانا من زيادتهم ، في أنفسهم وسمعهم وأبصارهم وأفئدتهم ، كما قال سبحانه لهم في ذلك ، فإنما كانوا على ما وصفهم كذلك ، يزيدون وينمون ، وينشون ويتمون ، (٤) حتى عادوا رجالا بعد أن كانوا أطفالا ، وصاروا كثيرا مذكورا ، بعد أن كانوا قليلا محقورا ، كما قال سبحانه : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١)) [الإنسان : ١]. وقد أتى عليه أن كان ترابا ثم نطفة ثم علقة ، ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة ، وفي ذلك ما يقول الله تعالى ذكره : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ

__________________

(١) في (ج) : وكفى.

(٢) في (ب) و (د) : من ذلك.

(٣) سقط من (ب) : إلا بالمكابرة.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : وينشون ويتمون.

٢٨٧

اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) [الحج : ٥ ـ ٦]. كما أحيا الأرض بعد همودها ، (١) وكذلك الله لا شريك له فموجود بما ذكر من الخلائق ووجودها ، لا ينكر (٢) إلا بمكابرة ولا يجحده ولا يدفعه ، من دلّه على صانع من الصانعين ما كان وإن غاب صنعه.

ألا ترى يا بني : أن من رأى كتابا علم أن له كاتبا ، وإن كان من كتبه عنه غائبا ، وكذلك من رأى أثرا ، أو صورة ما كانت أيقن أن لها مصوّرا ، أو سمع منطقا علم أن له ناطقا ، وكذلك ما يرى من هذا الخلق العجيب فقد يوقن من نظر وفكر أن له خالقا ، ليس له مثل ولا شبيه ، كما ليس بين صنعه وصنع غيره تمثيل ولا تشبيه ، (٣) كما قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الحج : ٧٣] ، (٤) يخبر تبارك وتعالى أن لن يفعل أحد فعله ، وكيف يفعل ذلك من ليس له بمثال ، (٥) وإنما يكون تشابه الأفعال بين النظراء والأمثال.

وفيما وقّف الله تبارك وتعالى عليه الإنسان بيانا ، من رؤيته لصنع (٦) الله فيه وخلقه له عيانا ، قوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ). والنطفة فهي : الماء المهين ، (فَإِذا هُوَ) ، بعد أن كان نطفة وماء مهينا (خَصِيمٌ مُبِينٌ) (٧٧) [يس : ٧٧] ، والمهين فهو المهان ، الذي لا قدر له ولا شان ، وكذلك النطفة في صغرها ، ومهانتها وقذرها. وخلق الله لها فهو تهيئته (٧) وتصريفه جل ثناؤه إياها ، الذي قد رآه من الناس كلهم من رآها ، من نطفة وماء مهين إلى علقة ، ومن علقة إلى مضغة مخلقة وغير مخلقة ، وتخليق المضغة فهو تهيئتها ، وتقدير الصورة الآدمية لها وتسويتها ، التي لا

__________________

(١) في (ب) و (د) : موتها.

(٢) في (أ) : ما لا ينكره.

(٣) سقط من (ب) : كما ليس بين صنعه وصنع غيره تمثيل ولا تشبيه.

(٤) في (ب) و (د) : أكمل الآية.

(٥) في (ب) و (د) : ليس مثله.

(٦) في (ب) و (د) : لرؤيته. وفي (أ) و (ج) : بصنع.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : فهو.

٢٨٨

يكون أصغر صغير رؤي (١) منها إلا بخالق مهيئ ، مقدّر حكيم مسوّي ، (٢) لا يشك فيه ولا يمترى ، وإن خفي عن (٣) العيون فلا يرى ، وذلك فهو الله الذي (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٠٣) [الأنعام : ١٠٣] ، وكيف تدرك الأبصار من ليس له مثل ولا ند ولا كفؤ ولا نظير؟! لا كيف إلا عند جاهل عمي! شاك في جلال الله ممتري ، (٤) لا يعرف ما بينه وبين الخلق ، من المباينة والفرق.

فكل (٥) ما تسمع يا بنى بتعريف ، (٦) وتبصير وتوقيف وتصريف ، من الله الحكيم ، الخبير العليم ، الرحمن الرحيم ، لدرك معرفته ، واليقين به ، من حجج الفكر (٧) والاعتبار ، وحجج الرؤية والمعاينة بالأبصار.

وفي ذلك ما يقول تبارك وتعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩)) [العنكبوت : ١٩]. فابتداؤه جل ثناؤه له (٨) فهو ابتداعه وزيادته وإنماؤه ، وإعادته فهو إلى ما كان عليه وهو محقه وتقليله وإفناؤه ، وذلك كله فقد يراه ويعاينه ، ويبصره ويوقنه ، من كان حيا ، (٩) مبصرا سويا ، كما قال لا شريك له ، لا يجهله إلا من تجاهله ، ولا يخفى إلى على من أغفله! ممن لعنه الله وخذله! أو لم تسمع كيف يقول سبحانه : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)) [العنكبوت : ٢٠]. وتأويل بدأ ، (١٠) فهو كان ونشأ ، ونما فصار ناميا زائدا ، ثم رجع إلى

__________________

(١) في (أ) و (ج) : درك.

(٢) في (أ) : فسوى.

(٣) في (أ) : من.

(٤) في (ب) و (د) : جاهل غمر! شاك في جلال الله ممتر.

(٥) في (أ) و (ج) : وكل.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : بتعريف و.

(٧) في (أ) و (ب) و (ج) : بين حجج. وفي (ب) و (د) : الفكرة.

(٨) في (ب) و (د) : فابتداؤه له جل ثناؤه.

(٩) في (أ) و (ج) : حييا.

(١٠) في (أ) و (ج) : أبدا.

٢٨٩

الفناء عائدا ، فقلّ بعد زيادته ، وبلي بعد جدّته. فمن يعمى (١) بعد عيان هذا اليقين بربه ، إلا من خذله الله فأسلمه إلى عمى قلبه ، فكابر عيانه ، وأنكر إيقانه ، (٢) وهو يرى النور لائحا لا يخفى ، (٣) والبيان ظاهرا واضحا لا يطفأ.

ومن البيان فيما قلنا من ذلك ، ومن (٤) الدليل على أنه كذلك ، قوله سبحانه : (*اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)(٥٤) [الروم : ٥٤] ، والضعف والشيب فهو الإفناء والتدمير.

تم كتاب الدليل الصغير ، وصلواته وسلامه على رسوله سيدنا محمد النبي البشير النذير ، وعلى أهله المخصوصين بالمودة والتطهير.

* * *

__________________

(١) في (ب) و (د) : تعامى.

(٢) في (أ) و (ج) : عيانا وأنكر إيقانا.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : لا يخفى.

(٤) في (أ) و (ج) : من الدليل.

٢٩٠

مجموع الإمام القاسم عليه‌السلام

مناظرة مع ملحد

٢٩١
٢٩٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[مدخل إلى المناظرة]

قيل : كان وافى (١) مصر رجل من الملحدين فكان يحضر مجالس فقهائها ، ومتكلميها ، فيسألهم (٢) عن مسائل الملحدين ، وكان بعضهم يجيب عنها جوابا ركيكا ، وبعضهم يزجره ويشتمه ، فبلغ خبره القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام ، وكان بمصر متخفيا (٣) ، في بعض البيوت فبعث صاحب منزله ليحضره عنده ، فأحضره ، فلما دخل عليه قال له القاسم رضي الله عنه : إنه بلغني أنك تعرضت لنا ، وسألت : أهل نحلتنا (٤) ، عن مسائلك ، ترجو أن تصيد أغمارهم (٥) بحبائلك (٦) ، حين رأيت ضعف علمائهم عن القيام بحجج الله ، والذب عن دينه ، ونطقت على لسان شيطان رجيم لعنه الله : (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً)(١١٨) [النساء : ١١٤].

فقال الملحد : أما إذا عبت أولئك ، وعيّرتهم بالجهل فإني سائلك ، وممتحنك ، فإن أجبت عنهم فأنت زعيمهم (٧) ، وإلا فأنت إذا مثلهم.

فقال القاسم عليه‌السلام : سل عما بدا لك ، وأحسن الاستماع ، وعليك بالنّصفة (٨) ، وإياك والظلم (٩) ، ومكابرة العيان ، ودفع الضرورات (١٠) ، والمعقولات ، أجبك عنه ، وبالله أستعين ، وعليه أتوكل ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

__________________

(١) في (ب) و (د) : كان في.

(٢) في (ب) : ويسألهم.

(٣) في (ب) و (د) : مستخفيا.

(٤) الانتحال : ادعاء الشيء وتناوله. مفردات الراغب ٤٨٥ ، وهو هنا بمعنى أهل ملتنا.

(٥) أغمار : جمع غمر بالضم : من لم يجرب الأمور.

(٦) الحبائل : جمع حبالة بالكسر : ما يصاد بها من أي شيء كان ـ النهاية ١ / ٣٣٣.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : أجبت عنهم فأنت زعيمهم.

(٨) النّصفة بالتحريك : الإنصاف والعدل.

(٩) الظلم : هو تعدي وتجاوز الأمر الواضح المدلول عليه عقلا بزيادة منه أو نقصان.

(١٠) أي : بدائه العقول.

٢٩٣

[إثبات وجود الصانع وحدوث العالم]

فقال الملحد عند ذلك : حدثني ما الدلالة على إنية الصانع؟ (١)

قال القاسم عليه‌السلام : الدلالة على ذلك قوله في كتابه عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)) [الحج : ٥ ـ ٧].

ووجه الدلالة في هذه الآية فهو : كون الإنسان ترابا ، ثم نطفة ، ثم علقة ، لا تخلو هذه الأحوال من خلتين :

إما أن تكون محدثة ، أو قديمة ، فإن كانت محدثة فهي إذا من أدل الأدلة على وجود إنّيّته ، لعلل :

منها : أن المحدث متعلق في العقل بمحدثه ، كما كانت الكتابة متعلقة في العقل (٢) بكاتبها ، والنّظم بناظمه. إذ لا يجوز وجود كتابة لا كاتب لها ، ووجود أثر لا مؤثر له في الحس ، والعقل.

ومنها : أن المحدث هو ما لم يكن فكوّن ، فهو في حال كونه (٣) لا يخلو من أحد

__________________

(١) الإنّية : تحقق الوجود العيني من حيث مرتبته الذاتية ، وقال الراغب : أنية الشيء ، وإنيته : كما يقال ذاته ، وذلك إشارة إلى وجود الشيء ، وهو لفظ محدث ليس من لغة العرب. المفردات / ٢٩. وفي المعجم الفلسفي / ٢٧ : إنية منطقيا : الوجود الفردي المتعين ، مقابل الماهية.

(٢) سقط من (ب) و (د) : في العقل.

(٣) أي : وجوده.

٢٩٤

أمرين :

إما أن يكون هو كوّن نفسه ، أو غيره كوّنه (١)!!

فإن كان هو الذي كوّن نفسه لم يخل أيضا من أحد أمرين :

إما أن يكون كوّن نفسه وهو معدوم ، أو كوّنها وهو موجود! فإن كان كوّنها وهو معدوم ، فمحال أن يكون المعدوم أوجد نفسه وهو معدوم. وإن كوّنها وهو موجود ، فمحال أن يكون الموجود أوجد نفسه وهو موجود. إذ وجود نفسه قد أغناه عن أن يكوّنها ثانيا. فإذا بطل هذا ثبت أن الذي كوّنه غيره ، وأنه قديم ليس بمحدث ، إذ (٢) لو كان محدثا كان حكمه حكم المحدثات.

وإن كانت الأحوال قديمة فذلك يستحيل ، لأنا نراها تحدث شيئا بعد شيء في حين واحد ، في نفس واحدة ، فلو كانت (٣) كلها مع اختلافها في أنفسها وأوقاتها قديمة ، لكانت الترابية نطفة مضغة دما علقة عظما لحما إنسانا ، في حالة واحدة ، إذ القديم هو الذي لم يكن ، ولم يزل (٤) وجوده ، وإذا لم يزل وجود هذه الأحوال ، كان على ما ذكرت وقلت ، من كونه ترابا مضغة لحما عظما إنسانا ، في حالة واحدة ، إذ الأحوال لم يسبق بعضها بعضا ، لأنها قديمة ، ولأن كل واحد منها (٥) في باب القدم سواء ، فإذا استحال وجود هذه الأحوال معا في حين واحد ، في حالة واحدة ، وثبت (٦) أن الترابية سابقة للنطفية ، والنطفية (٧) سابقة للحال ، التي بعدها (٨) ، صح الحدوث ، وانتفى عنها

__________________

(١) في (أ) و (ج) : كون نفسه وهو معدوم أو غيره كونه.

(٢) في (أ) و (ج) : إذا لو كان.

(٣) في (أ) و (ج) : ولو كانت.

(٤) الأزل : استمرار الوجود في الأزمنة غير المتناهية ، والأزلي : هو من لا يكون مسبوقا بغيره. التعريفات / ٣٢ ، المعجم الفلسفي / ٩.

(٥) في (ب) و (د) : ولأن كلها.

(٦) في (ب) و (د) : فصح.

(٧) في (ب) : والنطفة.

(٨) في (أ) و (ج) : التي معهما. وفي (ه) : للحالتين اللتين بعدها.

٢٩٥

القدم (١) ، وإذا صح الحدوث فقد قلنا بديّا : إن المحدث متعلق في العقل بمحدثه.

قال الملحد : وما أنكرت أن تكون (٢) الأحوال حديثة ، وأن العين ـ التي هي الجسم ـ قديمة.

قال القاسم عليه‌السلام : أنكرت ذلك من حيث لم أره منفكا عن هذه الأحوال بتة ، ولا جاز أن ينفك (٣) (فلما لم أره منفكا من هذه الأحوال ولا جاز أن ينفك) ، كان (٤) حكم العين كحكم الأحوال في الحدوث.

قال الملحد : ولم؟

قال القاسم عليه‌السلام : من قبل أنها ـ أعني العين ـ إذا كانت قديمة وكانت الأحوال محدثة ، فهي لم تزل تحدث فيها الأحوال ، وإذا قلت لم تزل تحدث فيها ناقضت ، لأن قولك : لم تزل خلاف قولك : تحدث. والكلام إذا اجتمع فيه إثبات شيء ونفيه في حال واحد استحال. وذلك أنها إذا لم تزل تحدث فيها ، فقد أثبتها قديمة (٥) لم تزل تحدث فيها ، وإذا كان هذا هكذا فهي لم تسبق الحدث ، فقد صار الحدث قديما ، لأنه صفة الجسم الذي هو قديم ، وإذا كانت صفته استحال أن تكون صفة القديم الذي لا يخلو (٦) منها ولا يزول عنها محدثة (٧) ، وهذا محال بيّن الإحالة ، لأن فيه تثبيت المحدث قديما ، والقديم محدثا.

قال الملحد : فما أنكرت أن تكون هذه الأعيان هي التي فعلت الأحوال؟

قال القاسم عليه‌السلام : بمثل ما أنكرت زيادتك الأولى ، لأنه لا فرق بين أن

__________________

(١) في (أ) : العدم مصحفة.

(٢) في (أ) و (ج) : ما أنكرت أن تكون الأحوال. وفي (ه) : ما أنكرت أن هذه الأحوال. وفي (د) : ما أنكرت هذه الأحوال.

(٣) سقط من (ب) : ولا جاز أن ينفك.

(٤) سقط من (و) : ما بين القوسين. وفي (ه) و (و) : فكان.

(٥) في (أ) و (ب) : قديما.

(٦) في (د) : لم يخلو.

(٧) في (ب) و (د) : يزال عليها. وفي (و) : يزد. وفي (أ) و (و) : محدثا.

٢٩٦

تكون هي الفاعلة ، وهي لم (١) تسبق فعلها ، أو تكون هي قديمة وهي لم تسبق صفاتها (٢) ، لأن الفاعل سابق لفعله متقدم له ، وكذلك القديم الذي لم يزل ، سابق للذي لم يكن ، لأن في إثبات الفعل له إثبات حدث فعله ، وإذا لم يسبق فعله فقد جمعت بينهما في حال واحد ، وثبّتّ للشيء الواحد القدم والحدوث في حالة واحدة ، وهذا محال بيّن الإحالة.

[نظرية الهيولى والصورة وحدوث الأشياء من بعضها]

قال [الملحد] : فإني لم أر كون شيء إلا من شيء ، فما أنكرت أن تكون الأشياء لم تزل يتكون بعضها من بعض؟ وما أنكرت أن يكون الشيء الذي هو الأصل قديما؟

قال القاسم عليه‌السلام : أنكرت ذلك أشد الإنكار ، وذلك أن الشيء الذي هو الأصل لا يخلو من أن يكون فيه من الأحوال والهيئات والصفات مثل ما في فرعه ، أو ليس كذلك؟! فإن كان فيه مثل ما في فرعه ، فحكمه في الحدث كحكمه ، وقد تقدم (٣) الكلام في هذا المعنى بما فيه كفاية ، على أنا نجد الصور والألوان والهيئات والصفات بعد أن لا نجدها فيه (٤) ، ووجود الشيء بعد عدمه هو أدل الدلالة على حدثه!!

فحدثني عن الصورة (٥) من أي أصل حدثت (٦)؟ فإن قلت إنها قديمة أحلت ، وذلك أنها لا تخلو من أمور.

__________________

(١) في (أ) : لمن. مصحفة.

(٢) في (أ) و (ج) : أو تكون قديمة لم تسبق صفاتها.

(٣) في (ه) و (و) : تم.

(٤) في (ب) : لم نجدها. وسقط من (أ) : فيه.

(٥) في (ه) : عن الصور. والصورة : العرض ، وهي ما قابل المادة وقد عنى أرسطو بهذا التقابل وبنى عليه فلسفته كلها ، وطبقه في الطبيعة وعلم النفس والمنطق. والإله عنده صورة بحتة ، والنفس صورة الجسم ، ولا يتم وجودها إلا بالفعل دون وجود ما حلت فيه. انظر : المعجم الفلسفي / ١٠٧ ، التعريفات / ١٧٨.

(٦) في (ج) : من أي شيء حدثت.

٢٩٧

أحدها : أن الصورة لو كانت قديمة لكانت في هذا المصوّر (١) الذي ظهرت فيه الصورة ، أو في عنصره الذي تسمونه" هيولى" (٢) ، فإن كان في هذا المصوّر بان فساد قولكم ودعواكم ، إذ قد نجده بخلاف (٣) هذه الصورة ، وإن كانت في الذي تسمونه" هيولى" ، فلا بد إذا ظهرت في هذا المصوّر أن تكون قد انتقلت عنه إلى هذا (٤) فإن قلت : انتقلت. أحلت ، لأن الأعراض (٥) لا يجوز عليها الانتقال ، على أن في الصورة ما يرى بالعيان ، فإن كانت منتقلة فما بالها خفيت عند الانتقال ، وظهرت عند اللبث؟!

وفيه خلة أخرى وهي : أنها (٦) لو كانت في الأصل (٧) ، ثم انتقلت عنه إلى فرعها (٨) ، فقد جعلت لانتقالها غاية ونهاية ، وإذا جعلت لها غاية ونهاية (٩) فقد صح حدث (١٠) الذي انتقلت عنه هذه الأحوال (١١).

فإن قلت : لم تزل تنتقل. كان الكلام عليك في هذا المعنى ، كالكلام الذي قدمناه آنفا في" باب لم تزل تحدث".

__________________

(١) المصوّر : الجسم ، أيّ جسم.

(٢) الهيولى : القطن. وشبه الأوائل طينة العالم به. وهو السديم. والسديم هو الضباب الرقيق. وهو في اصطلاحهم موصوف بما يصف به أهل التوحيد الله تعالى أنه موجود بلا كمية ولا كيفية ، ولم يقترن به شيء من سمات الحدث ثم حلت به الصنعة ، واعترضت به الأعراض ، فحدث منه العالم.

(٣) في (ب) و (د) : على غير.

(٤) أي : عن الهيولى إلى المصوّر. وسقط من (ه) : عنه إلى هذا.

(٥) أي : الصّور.

(٦) أي : الصورة.

(٧) يعني : الهيولى.

(٨) لعله : فرعه ، أي فرع الأصل الذي هو الهيولى وفرعه المصوّر.

(٩) في (ب) : جعلت الانتقال لها غاية ونهاية.

(١٠) سقط من (ب) : صح.

(١١) لأنها قد تخلفت عنه فدل ذلك على أنها غير ذاتية ، لأن ما بالذات لا يتخلف ، ودل ذلك على جواز ثبوتها له وانتفائها عنه ، وإذا جاز ذلك لم يصح أن يثبت له إلا لفاعل أو علة قديمة موجبة ، والثاني باطل كإثباتها له لذاته ، فدل ذلك على أنها لفاعل ، وأنها محدثة وأن ملازمتها للجسم دليل حدوثه. تعليقة للسيد بدر الدين الحوثي.

٢٩٨

وفيه معنى آخر وهو : أنك إذا جعلت الأشياء في وهمك شيئين ، إذا أفردت كل واحد من صاحبه نقص ، وانتهى إلى حد ما وقلّ ، وإذا جمعت كل واحد إلى صاحبه زاد ، وانتهى إلى حد ما وكثر ، أفليس (١) إذا انتهى في حال ، وزاد فكثر أو نقص فقلّ ، فالنقص والزيادة يخبران بالنهاية عنه (٢)؟! وإذا ثبت فيه النهاية ، ثبت فيه الحدوث (٣)!!!

[نظرية الكمون والظهور]

قال الملحد : ما أنكرت أن تكون صورة التمرة والشجرة كامنة في النواة ، فلما وجدت ما شاكلها ظهرت؟!

قال القاسم عليه‌السلام : إن هذا يوجب التجاهل ، وذلك أنا لو تتبعنا أجزاء النواة لم نجد فيها ما زعمت.

وشيء آخر وهو : أنه لو جاز هذا لجاز أن يكون الإنسان كامنة فيه (٤) صورة الخنزير ، والحمار ، والكلب ، وإذا كان ذلك كذلك ، كان (٥) الإنسان إنسانا في الظاهر ، كلبا ، حمارا ، خنزيرا ، فيلا ، في الباطن!! فإن قلت ذلك ، لحقت بأصحاب سوفسطاء (٦).

__________________

(١) في (ه) : فليس.

(٢) في (أ) : عنه بالنهاية.

(٣) وهذا يوافق قول زين العابدين عليه‌السلام في جوابه على الخارجي : كيف يستحق الأزل من لا يمتنع من الحدث. أي : الحوادث المنقضية.

(٤) في (أ) : في.

(٥) في (أ) و (و) : والكلب ، فيكون الإنسان.

(٦) في (ه) و (و) : أصحاب. والسوفسطائيون : جماعة يونانية اتخذت من التدريس مهنة لها ، وكان همها تعليم الشباب اليوناني الفضيلة ، ويعنون بالفضيلة مقدرة الشخص على أداء وظيفته في الدولة ، وكان ابتداء وجودهم حوالي ٤٨٠ ق م ، أما كتب المقالات الإسلامية فتقسمهم إلى ثلاث فرق واصطلحت على تسميتهم بالعنادية ، والعندية ، واللاأدرية ، فالأولى تنكر في الأصل حقائق الأشياء ، فليس ثمّة حقيقة مؤكدة. والثانية الحقيقة هي ما تبدو لها فحسب ، فإذا كان في يدي قلم فإنه قلم ، وقد يكون عندك شيء آخر. والأخيرة اتخذت من كلمة لا أدري منهجا ، فإذا ما سئلوا عن شيء فإنهم ـ

٢٩٩

فإن شئت تكلمنا فيه. على أنه قد ظهر من حمقهم لأهل العقول ما يزعهم (١) عن القول بمقالتهم.

قال الملحد : وكيف يجوز أن يكون الإنسان إنسانا في الظاهر ، وكلبا حمارا خنزيرا فيلا (٢) ، في الباطن؟! قال القاسم عليه‌السلام : كما جاز أن تكون صورة التمرة والنخلة كامنة في النواة!!

قال الملحد : فإن بين التمرة والنخلة والنواة مشاكلة ، وليس بين الإنسان والكلب مشاكلة.

قال القاسم عليه‌السلام : لو كان بين التمرة والنخلة والنواة مشاكلة مع اختلاف الصورة ، لجاز أن يكون بين الإنسان والكلب مشاكلة!!

قال الملحد : فإن النواة إذا انتقلت من صورتها ، انتقلت إلى صورة النخلة (٣).

قال القاسم عليه‌السلام : وكذلك الإنسان إذ تفرقت أجزاؤه جاز أن يكون كلبا في الطبع والقوة والهيولية عندك ، فمهما أتيت به فيه من شيء (٤) تريد الفرق بينهما فهو لي عليك ، أو مثله.

ووجه آخر وهو : أن الصورة لو كانت في الأصل نفسه ، لكان الأصل نفسه هو التمرة ، لأن التمرة إنما بانت من (٥) سائر المصورات ، وعرفت من غيرها بالصورة ، فعلى هذا يجب أن يكون أصلها التمرة ، وهذا مكابرة العقول ، لأنه لو كان هذا هكذا ، لكان

__________________

لا يدرون ، وإذا ما شكوا فإنهم يشكون في أنهم شكوا.

(١) في (ب) و (د) : يرغبهم.

(٢) سقط من (ه) و (و) : فيلا.

(٣) سقط من (أ) : قول القاسم وجواب الملحد عليه.

(٤) في (أ) و (ج) : فمهما أثبت به من شيء. وفي (ب) : فمهما ثبت من شيء. وفي (د) : فمهما أثبت به فيه من شيء. وفي (ه) : فمهما أثبت به من شيء. وفي (و) : فمهما أثبت به شيء. ولفقت النص من الجميع.

(٥) في (ب) و (د) : عن.

٣٠٠