مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

يفكر ، لم يؤمن ولم يبصر ، وإنما يوقن من فكّر ، ويبصر من نظر ، كما قال سبحانه: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) [الأعراف : ١٨٤ ، الروم : ٨]. (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) [الأعراف : ١٨٥]. (أَوَلَمْ يَرَوْا) [النحل : ٤٨]. تنبيها من الله بذلك كله لهم على أن يوقنوا فلا يمتروا ، فيما عرفهم الله سبحانه من نفسه بآياته ، ودلهم على معرفته من غيب أموره بدلالاته ، فليس يوصل إلى معرفته واليقين به ، وما احتجب عن (١) العباد من غيبه ، إلا بما جعل من (٢) الدلالات ، وأرى من الآيات ، كما قال سبحانه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤) [فصلت : ٥٣ ـ ٥٤]. ولقاؤهم لربهم فهو مصيرهم ومرجعهم إليه ، وليس بلقاء رؤية ولا عيان ولا يمكن شيء من ذلك فيه(٣) ، لبعده سبحانه في ذلك وغيره من مماثلة الناس وغير الناس ، وبقدسه وتعاليه عن أن ينال أو يدرك بحاسة من الحواس ، وإنما تدرك معرفته وتنال ـ له القدس والكبرياء والجلال ـ بما بيّن من الدلائل والآيات لقوم يعقلون ، كما قال سبحانه : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [البقرة : ١١٨]. فليس بعد تبيين الله بيان ، يكون به معرفة ولا إيقان.

والحمد لله على ما بيّن من آياته ، وأوضح من دلالاته (٤) ، ونستعين بالله على اليقين بمعرفته ، ونعوذ بالله من الإلحاد في صفته.

وفي مدحة الله سبحانه للأبرار ، بما آمنوا به مما غاب عن الأبصار ، واستدلوا عليه بالنظر والأفكار ، عن (٥) غيب المعرفة بالله وإيقانه ، وما لا يدرك أبدا من الله برؤيته جهرا(٦) ولا عيانه ، وما لا يصاب فيه أبدا حقيقة العلم واليقين ، إلا بما جعل الله عليه

__________________

(١) في (أ) و (ج) : من.

(٢) في (ب) : جعل الله الدلالات.

(٣) سقط من (ب) و (د) : فيه.

(٤) في (ب) و (د) : دلائله.

(٥) في (ب) و (د) : من.

(٦) في (ب) و (د) : جهرة.

٢٦١

من الشواهد والدليل المبين ، هو أحق حقيقة ، وأوثق وثيقة ، وأثبت يقينا ، وأنور تبيينا ، من كل معاينة ـ كانت أو تكون ـ أو رؤية ، أو درك حاسة ضعيفة أو قوية ، ما يقول الله سبحانه : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة: ٢ ـ ٣]. تبرئة من الله لهم فيما غاب عنهم في جميع أموره من كل شك وريب.

[استدلال إبراهيم على وجود الله]

وفي الاستدلال على الله ، بما يرى ويبين (١) من آيات الله ، ما يقول أبوك إبراهيم خليل الله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) [الأنعام : ٧٤] ، احتجاجا على قومه في غيبه (٢) بما يرون من فطرة الله في سماواته وأرضه وتوقيفا. ويقول صلى الله عليه : (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) (٨١) [الشعراء : ٧٥ ـ ٨١]. فكل ما ذكر صلى الله عليه وعدد من خلق الله له وهداه ، وإطعام الله له وسقيه إياه ، وإبراء الله له من مرضه وشفائه ، وإماتة الله له وإحيائه ، فبدائع موجودة ، وأفعال بينة معدودة ، لا ينكر موجودها ، ولا يجهل معدودها ، من المدركين (٣) لها من أحد ، ألحد فيها أو لم يلحد ، وإنما ينكر من أنكر صنعها ، ويجهل من جهل بدعها ، فأما (٤) العدد لها والوجود ، فبيّن فيها محدود ، لا ينكره منكر ، ولا يتحير فيه متحيّر.

وكل ذي عدد ، وكلّ ما حدّ بحد ، فالدليل على صنعه تعديده ، وعلى أنه محدث

__________________

(١) في (أ) : ما نور وبيّن. وفي (ج) : بما نور وبيّن.

(٢) في (ب) و (د) : نفسه.

(٣) في (أ) و (ج) : المدعين.

(٤) في (ب) : وأما.

٢٦٢

تجديده ، وإذ (١) كان ذلك كذلك وجد الصانع المبدع عند وجوده ، والمحدّد له المحدث بما بان فيه من حدوده ، لأنه لا يكون أبدا حدث إلا من محدث موجود ، ولا يكون حد (٢) أبدا إلا من مفرّق محدود ، كما قد رأينا في ذوات الحدود ، من كل مفترق موجود ، لا يمتنع من درك ذلك ويقينه وعلمه (٣) ، إلا من كان مكابرا فيه لحسّه ووهمه.

وإنما أراد إبراهيم صلى الله عليه بما عدّد من ذلك وذكر ، ما ابتدع من ذلك كله وصنع وافتطر ، مما لا صنع فيه لصانع مع الله ، وما لم يوجد شيء فيه قط إلا من الله ، فأما ما يصنع العباد بعد صنع الله من أخذ وعطاء ، وما يدور في ذلك بينهم من الأشياء ، فلم يرده إبراهيم صلى الله عليه ، ولم يعدده ولم يذهب إليه ، وكل ما كان من العباد في ذلك من الصنائع ، فغير صنع الله في الابتداء والبدائع ، صنع الله سبحانه فابتداع ، وصنع العباد فاحتيال (٤) واصطناع ، وصنع الصّانع ، غير صنع الطبائع ، صنع الطبائع (٥) صنيعة مبتدعة مطبوعة ، وصنع الصانع فصنيعة معتملة مصنوعة ، والصنعة لا تكون إلا في مصنوع ، والطبيعة لا تكون إلا في مبدوع ، فما طبع من غير شيء ، وكان من غير أصل ولا بدي ، وذلك كله وأمثاله ، فما لا يصنعه إلا الله جل جلاله ، ولا يدركه أبدا ولا يناله ، صنع الخلق ولا احتياله.

ولو كان ـ ما صنع وابتدع تبارك وتعالى ، من ذلك من (٦) الأرضين والسماوات العلى ، وجعل من الليل والنهار ، وما مزج بقدرته من البحار ، وما أرسى من الجبال ، صنع أكفّ واحتيال ـ إذا لما قدر بذلك على صنع أقله ، فضلا عن صنع جميعه وكله ، في وقت من الأوقات وإن طال أبدا ، بل إن كان الوقت منه ممتدا سرمدا (٧) ، ولكنه

__________________

(١) في (ب) و (د) : وإذا.

(٢) في (ب) و (د) : حدا. مصحفة.

(٣) في (أ) و (ج) : وعلمه ويقينه. مقلوبة.

(٤) في (أ) : فاختيار. مصحفة.

(٥) سقط من : (أ) و (ب) و (د) : صنع الطبائع. ولعلها سقطت لظن التكرار.

(٦) في (ب) : ومن.

(٧) في (ب) و (د) : وإن كان الوقت فيه ممتدا سرمدا.

٢٦٣

تبارك وتعالى صنعه وأنشأه ، فابتدعه كله وفطره فطرة واحدة فبراه (١) ، كما قال سبحانه : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧) [البقرة : ١١٧]. (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١) [الشورى : ١١]. وفي أقل ما ذكر الله من ذلك وجعل ، لمن فكر ونظر فاستدل (٢) ، دليل مبين ، وعلم يقين.

وأي دليل على الله؟! وعلى اليقين بالله؟! من افتطار الله للسماوات والأرض ، وما جعل منا ومن الأنعام أزواجا بعضها لبعض ، فجعل سبحانه ما ذكر من الأزواج أصولا ، أنسل منها بقدرته نسولا ، لا يحصيها أبدا غيره ، ولا يمكن فيها إلا تدبيره ، فأي دليل أدل؟ لمن فكر فاستدل ، على اليقين بالله؟! مما (٣) يراه عيانا من صنع الله ، للأزواج المجعولة المحدثة ، وما خولف به في ذلك بينها من الذكورة والأنوثة ، فجعل ذكور الأزواج غير إناثها ، دلالة بذلك على جعلها وإحداثها ، وكان ما (٤) عوين بعدها من ذروّ نسلها وتكثيره ، دليلا على حكمة صانعها وتدبيره ، وآية أبانها منيرة مضيّة ، ودلالة بينة جلية ، لمن فكر ونظر ـ فأحسن ـ بقلبه ، على الله خالقه وربه ، فأيقن لفكره فيما يراه ببصره ، وما يدركه بمشاعره بالله (٥) مقدّره ومدبّره ، فظفر باليقين والهدى ، وسلم من الحيرة والردى ، فاستراح ووثق واطمأن ، واعتقد المعرفة بالله وأيقن ، فخرج (٦) بيقينه من الظلمة والمرية والشك (٧) ، إذا أيقن بالله مليك كل ذي ملك.

وفي مثل ذلك من الخلق والإحداث ، لما ذكر الله من صنعه للذكور والإناث ، ما

__________________

(١) برأه : خلقه.

(٢) في (ب) و (د) : واستدل.

(٣) في (ب) : بما.

(٤) في (أ) و (ج) : مما.

(٥) في (ب) و (د) : فالله.

(٦) في (ب) و (د) : فيخرج بنفسه.

(٧) في (أ) و (ج) : والشك والحيرة. (زيادة).

٢٦٤

يقول سبحانه : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) [الشورى : ٤٩ ـ ٥٠]. فملك جميعهما ، وما يرى من بديعهما (١) ، فمعاين موجود لا يخفى ولا يتوارى ، عن كل من يعقل ويبصر فيرى ، وكل ملك صح دركه رؤية وإيقانا ، فلا بد من درك مالكه باليقين وإن لم ير جهرة عيانا. وكل مفترق في الخلقة والصنع والفطور ، مما ذكر سبحانه من الإناث والذكور ، فوجد كما وجد (٢) افتراقه ، وبان فطرة صنعه وفطرته واختلاقه ، فلا بد له اضطرارا ، إذ وجد كذلك (٣) جهارا ، من مميّز فارق ، ومفتطر خالق ، لا يشك في ذلك ولا يجهله ، إلا من لا عقل له.

فلخلق الله تبارك وتعالى لما شاء ، فرّق بين ما خلق من الذكور والإناث وأنشأ ، فوهب لمن يشاء إناثا ووهب لمن شاء ذكورا ، وجعل كلا على حياله خلقا مفطورا ، غير مشبه بعضه لبعض ، كما السماء غير مشبهة للأرض ، ووهب لمن شاء ذكورا وإناثا معا ، فجمع ذلك له بموهبته فيه جميعا ، وجعل من شاء من الرجال والنساء عقيما لا يلد ولدا ، ولا يكون (٤) منه ولد أبدا ، إلا بعد تبديله الإعقام وتغييره ، وبحادث (٥) يحدثه في ذلك من صنعه وتدبيره ، (٦) كما فعل سبحانه في امرأة زكريا ، وما وهب لهما (٧) من يحيى ، صلى الله عليهما وعليه ، وما منّ به عليهما من ذلك وفيه. وما وهب لإبراهيم صلى الله عليه من الولد بعد يأسه منه ، وكبره صلى الله عليه عنه (٨) ، وفي ذلك ما يقول عليه‌السلام ذكرا ، وحمدا وشكرا ، بما وهب له تبارك وتعالى ، في ذلك من الموهبة والنعماء : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي

__________________

(١) في (أ) و (ج) : جميعها وما يرى من بديعها.

(٢) في (أ) و (ج) : وجدنا.

(٣) في (أ) و (ج) : ذلك.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : يكون.

(٥) في (أ) و (ج) : ولحادث.

(٦) سقط من (ب) : وتدبيره.

(٧) في (ب) و (د) : لها.

(٨) سقط من (أ) و (ج) : عنه.

٢٦٥

لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)) [إبراهيم : ٣٩].

وفي محاجّة الملك ، بالمكابرة والإفك ، لإبراهيم (١) خليل الله ، إذ يقول عليه صلوات الله (٢) : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ـ فقال الملك بالمكابرة والكذب ـ : (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨]. وإنما قال إبراهيم عليه‌السلام من ذلك صدقا ، ونطق به (٣) في محاجّته للملك بما نطق حقا ، لا شك فيه ولا مرية ، ولا شبهة ولا ظلمة مغشية ، لأنه لمّا وجدت الحياة يقينا والموت ، وجد بوجودها اضطرارا المحيي (٤) المميت. ولما لم يجد الملك ـ صاغرا لليقين بهما والاضطرار ـ سبيلا لنفسه بحدثهما إلا المكابرة فيهما والإنكار ، (٥) كابر لدادا ، ومباهتة وجحادا ، فقال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ). وكيف يكون محييا أو مميتا ، من لا يملك لنفسه حياة ولا موتا؟!

وفي مثل ذلك ، ومن كان كذلك ، ما يقول الله سبحانه : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) [الفرقان : ٣]. وفيما اتخذوا (٦) من تلك الآلهة الملائكة المقربون ، وعيسى بن مريم عليه‌السلام وما كان من آلهتهم يعبدون ، فقال تعالى : (آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً)(٣) [الفرقان : ٣]. فلما كابر الملك إبراهيم عليه‌السلام من قوله بما كابره به مباهتة وإفكا وزورا ، (٧) فقال صلوات الله عليه ورضوانه : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٧].

وتأويل بهت هو : صمت وسكت عن الإفك والمباهتة والجحود ، إذ قرره صلى

__________________

(١) في (ب) و (د) : لأبيك إبراهيم.

(٢) في (أ) و (ج) : صلوات رب العالمين.

(٣) سقط من (ب) و (د) : به.

(٤) في (ب) و (د) : المجيء والمميت.

(٥) في (أ) و (ج) : وإن كان. مصحفة.

(٦) في (ب) و (د) : اتخذه.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : وزورا.

٢٦٦

الله عليه بأمر معاين موجود ، لا ينكره إلا بمكابرة فاحشة عقل الملك ولا عقل غيره ، لما فيه من بيّن أثر تدبير الله وتقديره ، من تدليل (١) الملك والتسخير ، من دءوب (٢) التحرك والمسير ، جيئة وذهوبا ، وطلعة وغروبا ، فهي طالعة وغائبة لا تقصر ، وجائية (٣) وذاهبة لا تفتر ، مختلفا (٤) بها ما جعل الله من الليل والنهار ، وما قدّر (٥) بمسيرها من الأوقات والأقدار ، وبما بان من ذلك وأنار لكل أحد ، بهت الذي كفر فلم يكابر ولم يجحد.

[استدلال موسى على وجود الله]

وكذلك قال موسى عليه‌السلام إذ قال لفرعون ، حين قال له ولأخيه هارون : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)) [طه : ٤٩ ـ ٥٠] ، فدله صلى الله عليه على ربهما بأدل دلائل الهدى ، من عطائه سبحانه لخلقه من نعمه ما أعطاهم ، وما منّ به جل ثناؤه من هداهم ، لكل رشد (٦) في دينهم ودنياهم.

وفيما ذكر موسى صلى الله عليه من عطية الله لخلقه ، ما أعطاهم من هداه لهم ورزقه ، ما يقول سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩]. ويقول سبحانه : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣) [الجاثية : ١٣]. وفي هدايته لهم ما يقول سبحانه : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٧٨) [النحل : ٧٨]. ولفرعون ما

__________________

(١) في (ب) و (د) : بدليل.

(٢) في (ب) و (د) : في دؤب. وفي (أ) و (ج) : من دون. مصحفة.

(٣) سقط من (ب) و (د) : وجائية.

(٤) في (ب) و (د) : مخلفاتها. مصحفة.

(٥) في (ب) و (د) : قدر الله.

(٦) في (ب) و (د) : للرشد.

٢٦٧

يقول موسى عليه‌السلام إذ (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)) [الشعراء : ٢٣ ـ ٢٤]. فلما أن قال له ذلك : (قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥)) [الشعراء : ٢٥]؟! يريد ما تقولون؟ فقالوا لموسى ما قال ، وسألوه عما سال ، (١) فقال عليه‌السلام رب العالمين : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)(٢٦) [الشعراء : ٢٦] ، دلالة لهم على أن الله ربهم ورب آبائهم الأولين ، بما بيّن (٢) لهم ولغيرهم من تدبيرهم وإنشائهم ، الذي لا يمتنعون (٣) من وجوده في أنفسهم ، وفي كل عضو من (٤) أعضائهم ، بالنشأة البينة فيهم والتقدير ، والهيئة الظاهرة عليهم والتصوير ، فلما قطعه وقطعهم ، من حجة الله بما أسمعه (٥) وأسمعهم ، خرج فرعون في المسألة والمجادلة ، إلى غير ما كان فيه من الجدال والمقاولة ، فقال العميّ الملعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)(٢٧) [الشعراء : ٢٧]. فرد عليه موسى عليه‌السلام قوله ، بتبيين الحجة القاطعة له ، فقال له ولمن حوله كلهم أجمعين ، فيما كانوا يتقاولون (٦) أو يتجاهلون ويجهلون ، (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨)) [الشعراء : ٢٨] ، فالمشرق (٧) والمغرب وما بينهما كله فمربوب لا يشك فيه إلا الجاهلون ، (٨) لما يرى فيه ، ويتبين عليه ، من أثر الصنع (٩) والتدبير ، والهيئة البينة والمقادير.

فلما وقّفه وإياهم على الآيات فلم يقفوا ، وعرّفهم الدليل والبينات فلم يعرفوا ، وأمسكوا عن المسألة والمقال خاسئين محسورين ، قال فرعون : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً

__________________

(١) سال بدون همز ، لغة حجازية فصيحة.

(٢) سقط من (ب) و (د) : الأولين. وفي (أ) و (ج) : يبيّن.

(٣) في (أ) و (ج) : لا يسمعون. وفي (ب) و (د) : يمتنعون. ولفقت النص من الجميع.

(٤) في (أ) و (ج) : غوامض. مصحفة.

(٥) سقط من (ب) و (د) : أسمعه.

(٦) في (أ) و (ج) : يقولون.

(٧) في (ب) و (د) : المشرق.

(٨) في (أ) و (ج) : جاهل.

(٩) في (أ) و (ج) : آثار. وفي (ب) : الصنعة.

٢٦٨

غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩)) [الشعراء : ٢٩]. قال موسى عليه‌السلام توقيفا له ولهم (١) وتعريفا ، وتقريرا للحجة (٢) عليهم وتعطيفا : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (٣٢) [الشعراء : ٣٠ ـ ٣٢].

وبمثل احتجاج إبراهيم صلى الله عليه وموسى عليه‌السلام على من ألحد وجحد وأشرك ، لم تزل رسل الله تحتج على من تحيّر في الله أو ارتاب أو شك ، وذلك (٣) فبيّن والحمد لله فيما نزل من كتبه كثير (٤) ، وقولهم في الاحتجاج على من جحد أو ألحد أو أشرك فواضح منير ، لا يطفأ له سراج ، ولا يشبهه احتجاج ، ولا ينكره من الخلق كلهم رشيد ، ولا يأبى قبوله من الخلق إلا شيطان مريد.

وما لم يزل الله برحمته وفضله ، (٥) يدل به من هذا ومثله ، في كتبه (٦) وعلى ألسن رسله ، فكثير عن الذكر له والاستقصاء ، والتعديد والإحصاء ، في كتابنا هذا وأمثاله ، فنحمد الله على منّه فيه وإفضاله ، ونسأل الله أن يجعلنا وإياك ـ بما بصّر ـ من المبصرين ، وفيما أمر بالفكر فيه من المفكرين.

اسمع يا بني (٧) : فقد سألت أرشدك الله للهدى ، وجعلك رشيدا مرشدا ، عن أولى ما سأل عنه سائل أراد لنفسه أو لغيره رشدا وهدى ، أو لمبطل كان فيما سألت عنه متحيرا أو ملحدا متمردا.

فجعلنا الله وإياك فيما سألت عنه ، من القائلين بما يرضى منه ، ووهبنا من البصائر بدلائله وآياته ، ما وهب للقائلين في ذلك من محبته ومرضاته ، فانه لن يصيب في ذلك

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : ولهم.

(٢) في (ب) : وتكرير الحجة. وفي (د) : وتكريرا للحجة.

(٣) في (أ) و (ج) : في ذلك.

(٤) سقط من (ب) و (د) : كثير.

(٥) في (ب) و (د) : وفضله يؤتي فضله.

(٦) في (أ) و (ج) : كتبهم. مصحفة.

(٧) سقط من (ب) و (د) : اسمع يا بني.

٢٦٩

هداه ، إلا من أرشده وهداه ، ولن يظفر فيه ببغيته وطلبته ، إلا من كان متحريا لإرادة (١) الله فيه ومحبته.

وبعد : فاعلم يا بني : نفعك (٢) الله بعلمك فكم من علم غير نافع ، ومنادى (٣) له وإن كان صحيحا سمعه غير سامع ، وناطق في عداد البكم ، إذ ينطق بغير رشد في الهدى ولا علم ، (٤) وكم من ناظر لا يبصر (٥) ولا يرى ، كما قال الله سبحانه وتعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)) (١٩٨ [الأعراف : ١٩٨]. وقال سبحانه : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)) [البقرة : ١٧١]. فليس كل من علم انتفع ولا اتبع ، ولا كل من نودي به سمع ولا استمع ، ولا كل من نطق فكر ، ولا كل (٦) من نظر أبصر ، ولا كل من له قلب فقه ولا عقل ، إذا (٧) هو أعرض وترك وغفل.

وفي أولئك ، ومن هو كذلك ، ما يقول سبحانه : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)(١٧٩) [الأعراف : ١٧٩] ، فكفى رحمك الله بما نرى من هذا ومثله في كثير من الناس بيانا وآيات لقوم يعقلون.

[عظة بليغة]

وكيف لا يكون عند من يعلم أو يعقل كالأنعام ، من لا يهتم إلا بما لها من الهم

__________________

(١) في (أ) و (ج) : بغيته وطلبته ، إلا من كان متحريا إرادة الله.

(٢) في (ب) : ينفعك.

(٣) في (ب) و (د) : له بعد علمه وإن. (زيادة).

(٤) في (أ) و (ج) : إذ نطق بغير رشد إلى الهدى ، وكم.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : لا يبصر.

(٦) سقط من (ب) و (د) : كل.

(٧) في (أ) و (ج) : إذ.

٢٧٠

والاهتمام ، في مأكل أو منكح ، أو لعب أو متمرّح ، فعلمه علمها ، وهمته همتها ، فهو مكبّ عليها ، لا يرغب إلا فيها ، ولا تنازعه نفسه إلا إليها ، فلها يجتهد ويشقى ، وبها يدعو ويدعى ، غافلا عما شيب بمحابه فيها من الأذى والمكاره ، غير متّعظ بشيء ولا معتبر ولا متنبه ، وقد يوقن إيقانا ، ويرى بعينه عيانا ، أن ما يحب من دنياه وحياتها مشوب بموتها ، وما يشوبه من دركها مقرون بفوتها ، فكم من مدرك من (١) بعد دركه فائت ، وحي بعد حياته مائت ، قد تبدد شمله ، وأعرض عنه أهله ، الذين كان يعدّهم له أحبابا ، ويكد لهم في حياته بجهده اكتسابا ، بما حل من المكاسب أو حرم ، أو حمد من المطالب أو ذم ، وكم قبل موته عنهم ، كان من مسخط له (٢) منهم ، قليل له شكره ، سيئ له ذكره ، ورثه ما جمع غير شاكر ولا حامد ، يقول : لقد كان فلان غير مهتد ولا راشد ، كما يقول أعدى الأعداء ، وأبعد البعداء ، يعجّب بعض من يجالس بعد موت شخصه ، بما كان يرى من كده قبل موته وحرصه ، وكم كان له قبل موته من خليل حبيب مقارن ، (٣) أسلمه عند وفاته لموته إسلام البعيد المباين ، ولهى بعده ، بخليل جدّده! فكأن لم يكن لمن مات (٤) خدينا! ولم يعدّه بعد موته قرينا! بل كم من أب والد ، أو ولد حبيب واحد ، تعزى فسلا ، عمن مات وتولى ، واشتغل من بعده بأشغاله ، وأقبل على ما يعنيه من حاله ، وقال هلك أبي ومات! أو ذهب ابني وفات! فما عسيت أن أصنع؟! وهل لي في الجزع منتفع؟! تسهيلا في مصابه لما دهاه ، وتفرغا بمقاله لدنياه ، فهذا في الوالد والولد ، وهما سلالة النفس والجسد ، كما تعلم وترى ، فكيف بغيره من الأمور الأخرى ، من المال والأثاث ، والفكاهات والأعباث؟!

وفي الولد رحمك الله وفي المال ، ما يقول ذو الكبرياء والجلال ، لمحمد عبده ورسوله،صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥)) [التوبة : ٨٠]. فجعل

__________________

(١) في (أ) و (ج) : بعد من دركه. وسقط من (ب) و (د) : من. وما أثبت اجتهاد.

(٢) سقط من (ب) : له.

(٣) في (ب) و (د) : مقارب. مصحفة.

(٤) في (ب) و (د) : مات إذ مات.

٢٧١

سبحانه المال والولد لهم عذابا في حياتهم وهما عندهم آثر ما يؤثرون (١) ، وما قال سبحانه من ذلك فقد رأيناه يقينا ، وأدركناه فيهم ظاهرا مبينا ، لا يشك فيما ذكر الله منه سبحانه ولا يمتري ، ولا يجهله منا إلا من لا يعقل ولا يدري!! أو ليس قد علمنا أن العذاب ، ألم ونصب وأتعاب ، وقد رأينا من نصب أهل الأموال والأولاد فيهما ، وبشفقتهم ومحافظتهم عليهما ، (٢) ما يكثر به السهر والسهاد ، ويقل معه الخفض (٣) والرقاد ، فأيّ ألم أوجع لفؤاد أو جسم ، أو ادعى لمرض أو سقم ، من السهر والنصب والاهتمام؟! وقد يترك له كثير من الشراب والطعام!!

والمال والولد فإنما هما كما قال الله سبحانه فتنة ، والفتنة قد يعلم كل ذي لب أنها ابتلاء (٤) وتمحيص ومحنة ، وفي الأزواج رحمك الله والأولاد ، وهما أحب الأشياء إلى جهلة العباد ، ما يقول رب العالمين ، لمن قال له من المؤمنين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٥) [التغابن : ١٤ ـ ١٥]. فكل ما تسمع (٥) آيات بينات ، ودلائل على الله متيقنات ، فليس لمن يعقل الحياة الدنيا وحال أهلها وسكانها ، مع ما وصفنا من حال أحبائها وقرنائها وخلانها ، أنس ولا ثقة ، ولا توكّل ولا حقيقة ، إلا بالله وحده ، وبالرغبة فيما عنده ، وليس يأنس أبدا بالله ، إلا من صح يقينه ومعرفته لله ، ولا يعرف الله جل ثناؤه فيوقنه ، إلا من يجد أنسه بالله وأمنه ، فيكون عليه جل جلاله ، معتمده واتكاله ، فتقر عينه ، ويسلم دينه ، ويعز فلا يرى خزيا (٦) ولا ذلا ، ما كان على الله سبحانه متوكلا.

__________________

(١) في (ب) : يرون.

(٢) في (ب) : فيها بشفقتهم ومحافظتهم عليها. وفي (د) : فيها شفقتهم عليها ومحافظتهم عليها. وفي (أ) و (د) : فيهما وشفقتهم ومحافظتهم عليها. ولفقت النص من الجميع.

(٣) الخفض : الدعة ، والسكون.

(٤) في (ب) و (د) : بلوى.

(٥) في (ب) و (د) : ما ذكر الله.

(٦) في (أ) و (ج) و (د) : حزنا.

٢٧٢

[التوكل على الله]

ولما جعل الله من ذلك في التوكل عليه ، أمر رسوله عليه‌السلام به ودعاه إليه ، فقال سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى وآله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)) [التوبة : ١٢٩]. والعرش العظيم (١) فهو السلطان والملك ، الذي ليس لأحد مع الله فيه نصيب ولا شرك (٢).

والتوكل فهو الاعتماد عليه والثقة به ، وأصل توكل كل متوكل فهو اليقين والمعرفة بربه.

وفي التوكل على الله وذكره ، وما عظّم الله من التوكل عليه وقدره ، ما يقول تبارك وتعالى لقوم يؤمنون : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٣) [التغابن : ١٣] (٣). (وفي التوكل على الله ، ما يقول رسل الله (٤) : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (١٢) [إبراهيم: ١٢] فمن (٥) توكل على الله كفى بالله واستغنى ، وعاش في دنياه مسرورا آمنا ، غير مشوبة كفايته ولا غناه ، بحاجة ولا فقر في آخرته ولا دنياه ، ولا مشوب سروره بحزن ، ولا أمنه بخوف ولا وهن ، كما قال سبحانه : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)) [يونس : ٦٣ ـ ٦٤].

وكيف يخاف أو يحزن؟! ولا يأنس فيأمن ، (٦) من كان الله معه! ومن حاطه ومنعه! وإن مكر به الماكرون ، وخذله من قرابته الناصرون!!

__________________

(١) سقط من (أ) و (ب) و (ج) : العرش العظيم.

(٢) في (أ) و (ج) : ولا شريك.

(٣) في جميع المخطوطات : المتوكلون. والآية كما أثبت.

(٤) في (ب) و (ج) : رسل الله عليهم‌السلام. وما أثبت اجتهاد.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين. وفي (ب) و (د) : ومن.

(٦) سقط من (ب) : فيأمن.

٢٧٣

وفي ذلك ما يقول الله سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(١٢٨) [النحل : ١٢٧ ـ ١٢٨]. وأول التقوى والإيمان ، والبر والنهى (١) والإحسان ، فهو حقيقة المعرفة بالله والإيقان ، فمن أيقن بالله وعرفه أنس واستراح ، وجمع بمعرفته لله السرور والأفراح ، وقلّت وحشته وأحزانه ، وعظمت راحته وأمانه.

ومعرفة الله لمن أبصر سبيلها ، واستدل دليلها ، فأقرب قريب يرى علانية جهارا ، أو يستدل عليه بدليل من دلائله اعتبارا ، فالحمد لله الذي قرّب إلى معرفته واليقين به السبيل ، وأقام فيها وعليها برحمته الآيات والدليل ، فسبيلها من الله سهل يسير ، ودليلهما (٢) والحمد لله فظاهر منير ، ينطق بهما البكم (٣) الخرس ، في كل ما تدركه فكرة أو حس ، من كبائر الخلق وصغائره ، وعوالن (٤) الصنع وسرائره ، فلا يتعنت (٥) في أوصاف ذلك واصف ولا متعنت ، (٦) ولا يلتفت إلى شيء منه كله ملتفت ، إلا رأى منه عيانا بعينه ، أو سمع منه سماعا بإذنه ، أو ذاق منه ذوقا بفمه ، أو لمس منه لمسا بجسمه ، أو شم منه شما بأنفه ، ما يدل على تغيّره وتصرفه ، وعلى أنه مصنوع في نفسه ، لدرك المدرك له بحسه. إذ كل محسوس يحس ، من الجن كان أو من الإنس ، فمركّب لا بد مجموع ، وكل مركب فهو لا محالة مصنوع ، وصانعه ومدبره ومركّبه فغيره ، إذ (٧) وضح صنعه وتركيبه وتدبيره ، وما سوى الإنس والجان ، من كل موات أو حيوان ، (٨) فقد يدرك أيضا بحاسة من الحواس الخمس ، وما يدرك بمباشرة الفكر له من كل نفس ،

__________________

(١) في (أ) و (ج) : والتقى.

(٢) في (أ) : ودليلها.

(٣) في (أ) : بها. وفي (أ) و (ج) : إليكم. مصحفة.

(٤) في (ب) و (د) : وعوالي. مصحفة.

(٥) في (ب) و (د) : ينعت. مصحفة.

(٦) في (ب) و (د) : ولا يسغب. مصحفة.

(٧) في (ب) : إذا.

(٨) في (ب) و (د) : وحيوان.

٢٧٤

فمركّب لا يخفى على من فكّر فيه تركيبه ، وسواء في الفكر عنده بعيده وقريبه.

[قوى النفس]

والنفس فالدليل على تركيبها أنها ذات قوى شتى ، مختلفة وتبدّل (١) وتنقّل وتصرّف لا تخفى ، فمن قواها ، وإن كنا لا نراها ، بهيئة تبين ولا صورة ، أنها ذات ذكر وفكرة ، ومفكرها فغير ذاكرها ، وإذا ثبت ما ذكرنا من تغايرها ، صح بذلك أن لها قوى ، كانت لذلك أقساما وأجزاء ، وكل ذي قسم وأجزاء متغايرة ، مصوّرة كانت أو غير مصوّرة ، فهو مركّب غير شك ، ومدبّر في قدرة وملك ، ولتركيبها تصرفت وتنقلت ، فعلمت مرة وجهلت ، فتغيرت من جهل وطلاح ، إلى علم وصلاح ، ومن حزن وترح ، إلى سرور وفرح.

وقوى النفس فكثيرة أقسام ، ليس للنفس بغيرها تتمة ولا قوام ، ولا يزول قسم من أقسام النفس عنها ، إلا كان في زواله فناء ما كان موجودا منها ، فقوة النفس الأولى فهي القوة الغاذية ، (٢) وقوة النفس الحاسة فهي قوتها الثانية ، وقوتها الثالثة ، فهي الناهضة المتقابضة ، وقوة النفس الرابعة فهي (٣) المالكة من الشهوة والغضب بالفكر لما ملكت ، وأي هذه القوى كلها فني من النفس وهلك فنيت النفس بفنائه وهلكت ، وكل قوة من هذه القوى ، فمقسمة أقساما أجزاء.

ومن الدلالة على أن قوى النفس غير واحدة ، وأنها قوى كثيرة ذوات عدة ، ما ذكرنا من اختلاف أحوالها ، وتغيّرها وانتقالها ، وكل متغير ، فتركيبه نيّر (٤) والتركيب

__________________

(١) في (ب) و (د) : وتبدل. والظاهر أنها مصحفة. والأفعال الثلاثة أفعال مضارعة محذوفة التاء تخفيفا.

كقوله تعالى : (وَلا تَفَرَّقُوا). أي : تتفرقوا.

(٢) في (ب) و (د) : العادية.

(٣) في (ب) و (د) : فهو.

(٤) في (أ) و (ج) : بيّن. مصحفة.

٢٧٥

فحدث (١) بيّن ، ولا بد لكل حدث من صانع محدث ، لا ينكر ذلك إلا كل مكابر متعبّث، (٢) ولا يكون حدث مصنوع مثل محدثه وصانعه أبدا ، ولا مشبها له في شيء من الأشياء ولا ندا ، لأنه أبدا (٣) إن أشبه المصنوع الصانع في معنى واحد من معانيه ، جرى في ذلك من المعنى على الصانع من الحدث ما يجري عليه ، صغر ذلك المعنى أو كبر ، وقلّ فيما يدرك منه أو كثر ، ولذلك جل الله سبحانه وتبرأ ، من أن يكون مشبها من خلقه لشيء مما يرى أو لا يرى ، ألا تسمع كيف يقول سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(١٠٣) [الأنعام : ١٠٣]. و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)) [الشورى : ١١]. ويقول جل جلاله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٣]. فنفى سبحانه من قليل مشابهة خلقه في السّنة ما نفى من كثيرها ، تقدسا وتعاليا عن صغير المماثلة لخلقه وكبيرها ، فتعالى من ليس له مثل يكافيه ، ولا ند من الأشياء كلها يساويه ، ولا يشك فيه ولا يمتري (٤) إلا من جهل نفسه فهي أقرب الأشياء إليه ، وما يرى من السماوات والأرض خلفه وبين يديه.

[الدلائل على الله]

وفي أولئك ، ومن كان كذلك ، ما يقول رسل الله صلى الله عليهم ، لمن أرسله جل ثناؤه إليهم : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ٦]؟. تعجبا وإكبارا ، وتفحشا (٥) وإنكارا ، لشك الشاكّين ، مع ما يرون من فطرة الله في السماوات

__________________

(١) في (ب) و (د) : محدث.

(٢) في جميع المخطوطات متعنت. مصحفة. والصحيح ما أثبت. والله أعلم.

(٣) سقط من (ب) و (د) : أبدا.

(٤) في (ب) و (د) : ولا يمتري ولا يشك فيه.

(٥) في (أ) و (ج) : أو تفحيشا.

٢٧٦

والأرضين ، التي لا تخفى ولا تتوارى ، عن كل من يبصر بعين أو يرى ، (١) أو يحس بحاسة حسّا ، أو يتوجس توجسا ، لأن كل أحد من الناس ، لا يخلو من حس أو إيجاس ، والإحساس ما يحس المحس (٢) بحواسه ، والتوجس فما يكون بالنفس (٣) بالتوهم من إيجاسه ، (٤) فكل ذي نفس ، أو درك يحس بحس ، أو بحسوس أثر بالأرض (٥) والسماء ، وبماله (٦) من الأعضاء ، ففي إحساسه أو إيجاسه بأقلّ درك ، (٧) بغير ما مرية ولا شك ، ما دله على الصنع (٨) والتركيب ، وعلى ما لله في ذلك من التدبير العجيب ، الذي لا يكون أبدا أصغره ، إلا وهو دليل مبين على من دبّره ، لا ينكر ذلك أو يجحده ، من يحسه ويجده ، إلا بمكابرة ليقين نفسه ، ومكابرة لدرك حسه ، ومن صار إلى تلك من الحال ، خرج من حدود المنازعة والجدال ، ولم ينازعه بعد ذلك (٩) ويجادله ، إلا من هو في الجهل مثله. ولذلك ما يقول الله جل ثناؤه لرسوله : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠) [النجم : ٢٩ ـ ٣٠]. فأخبر سبحانه أن مبلغ من أعرض عن ذكره وتولى ، ولم يرد ـ كما قال الله جل ثناؤه ـ إلا الحياة الدنيا ، في فهمه وعلمه بدنياه ، وما يريده منها ويرضاه،(١٠) مبلغ البهائم في علمها بدنياها ، (١١) وما تريده البهائم فيها من متعتها ومرعاها ، ومن أجل ذلك ولذلك ،

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : أو يرى.

(٢) في (ب) و (د) : والإيجاس. وفي (ب) و (د) : ما يحس الحاس.

(٣) في (ب) و (د) : من النفس.

(٤) في (أ) و (ج) : اتجاسه.

(٥) في (ب) و (د) : أو توجيس أثر. وفي (أ) و (ج) : أثر الأرض.

(٦) في (أ) : وبمسه من. وفي (ج) : وتملله. (مصحفة).

(٧) في (أ) و (ج) : اتجاسه بأقل. وفي (أ) و (ج) : بأقل ذلك.

(٨) في (ب) و (د) : فأدلة. وسقط من (د) : الصنع.

(٩) في (ب) و (د) : ولا ينازعه بعد تلك.

(١٠) في (ب) : وما يرضاه.

(١١) في (ب) و (د) : علم دنياه. وفي (أ) و (ج) : عملها بدنياها. ولفقت النص من الجميع.

٢٧٧

وإذ (١) كانوا سواء كذلك ، مثّلهم الله من البهائم بأمثالهم ، وجعلهم أضل من البهائم في ضلالهم ، فقال سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥)) [الفرقان : ٤٤ ـ ٤٥]. ثم جعل سبحانه الاستدلال (٢) عليه بذلك بينا منيرا ، فقال تعالى ذكره في قبضه للظل : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) (٤٦) [الفرقان : ٤٦]. يعني سبحانه تيسيرا هيّنا ، (٣) ظاهرا لا يخفى بيّنا. وقبض الظل فهو فناؤه ، وذهابه وانطواؤه ، ولا ينقبض ويفنى ، ويذهب ويطوى ، شيء مما كان أبدا ، جميعا كان أو فردا ، إلا كان قابضه ومفنيه ، ومذهبه وطاويه ، موجودا يقينا بلا شك ولا مرية فيه ، وشاهدا بصنعه لصانعه ، ودليلا عليه مكفيا من (٤) علم غيب صانعه ، وإن لم ير بدرك اليقين ، (٥) من درك مشاهدة كل حاسة من عين أو غير عين ، وزيادة الظل ومده ، فلا يكون (٦) إلا بمن يزيده ويمده ، وإذا كان زائده ومادّه ومدبره ، لا تدركه العيون ولا تبصره ، وإنما تقع العيون على صنعه وفطرته ، كان أدل على جلاله وقدرته.

ثم أتبع ما صنع من مده سبحانه للظل وقبضه وتدبيره ، بما ذكر وفطر وخلق وجعل من غيره ، فقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) ...* وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ

__________________

(١) في (ب) و (د) : وإذا.

(٢) في (أ) و (ج) : استدلالا.

(٣) سقط من (أ) : يعني سبحانه تيسيرا.

(٤) في (ب) و (د) : مكتفا في.

(٥) في (أ) : باليقين. وفي (ب) و (د) : النفس.

(٦) في (ب) و (د) : فلا يكونان.

٢٧٨

مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً)(٥١) [الفرقان : ٤٧ ـ ٥٤]. فقرّر سبحانه بذكر آيات الظل ودلائله ، ما يسمع من ذكر آيات خلقه وفطره وجعائله ، رحمة منه ورأفة بعباده ، وزيادة منه برحمته لهم من إرشاده ، للمعرفة به والإيقان ، إذ لا يدرك بحاسة ولا عيان ، ولا يعرف ماله من الكبرياء والجلال ، إلا بالشواهد والآيات والاستدلال ، وكان دركه سبحانه بذلك أصح الدرك ، وأنفاه لكل (١) مرية وشك ، لأن درك الاستدلال واليقين ، لا يدخل عليه ولا فيه ما يدخل من الشك في درك العين ، لأن العين ربما رأت الشيء شيئين ، كالهلال تراه (٢) هلالين ، كالشيء الصغير إذا بعد تراه كبيرا ، وكالكبير إذا كان كذلك تراه صغيرا ، ودرك اليقين (٣) والاستدلال والأفكار ، فدرك بريء من كل شبهة وشك واحتيار ، لا يزداد بالنظر والفكر إلا استيثاقا ، ولا يتيقنه (٤) فيما أيقن به من الأمور كلها إلا استحقاقا ، فدركه الدرك البتّ اليقين ، وعلمه العلم المثبت (٥) المبين.

فمن تفهّم يا بني ـ أرشدك الله ـ يسيرا قليلا ، مما ذكرنا (٦) لله من آياته عليه دليلا ، اكتفى بقليل ذلك ويسيره ، كفاية كافية بإذن الله من كثيره ، وكان في اقتصاره على اليسير القليل ، كفاية له من (٧) التبيين والدليل ، ومن (٨) ازداد في ذلك من الآيات والدلائل كان له في ذلك من المزيد ، أكثر ـ والحمد لله ـ مما يريد (٩) في ذلك من كل مزيد ، ولم يتقدم في الاستدلال فترا ، (١٠) إلا وجد منه شبرا ، ولا في حسن النظر ذراعا ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : من كل.

(٢) في (أ) و (ج) : ترى.

(٣) في (ب) و (د) : النفس.

(٤) في (ب) : استيقافا. وفي (د) : اشثياقا. مصحفة. وفي (ب) و (د) : ولا بيقينه.

(٥) في (أ) : المنبث.

(٦) في (ب) و (د) : بما ذكره.

(٧) في (ب) و (د) : في.

(٨) في (أ) و (ج) : وما.

(٩) في (ب) و (ج) : يزيد.

(١٠) الفتر : ما بين طرف الإبهام وطرف المسبحة.

٢٧٩

إلا وجد بعدها باعا ، بل يجد أبدا سرمدا ، زيادة في الدلالة ومددا ، (١) يمده (٢) بما استمده ، ويدله على الله وحده ، لما وسّع الله في ذلك للمقربين برحمته ، ووهب فيه للمستدلين من نعمته.

ألا ترى كيف يقول سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً) [الفرقان : ٤٧]. ولباس الشيء فهو ما غشيه وواراه ، ونوم النائم فهو ما أسبته وأهداه (٣) ، وكلّ فقد نعلمه ونراه (٤).

[الله خالق الكون]

والدليل على أن الله صنعه وأنشأه ، أن لا يعلم له صانع ولا منشئ سواه ، وأن نشأته بيّنة ، وصنعته نيّرة ، بما تبيّن فيه ، ويشهد بتّا عليه ، بالنشأة والتدبير ، والصنع (٥) والتقدير ، من جيئته تارة وذهابه ، ومفارقته وإيابه ، وكل ما جاء وذهب ، وفارق وتأوّب ، دل ذلك من حاله ، على تصريفه واجتعاله ، وثبت مصرفه بما ثبت من تصريفه ، وبما يرى بيّنا من اختلافه وتأليفه ، ولم يكن مصرّف أبدا إلا من مصرّف ، ولا تأليف ما كان إلا من مؤلّف ، (٦) وكذلك اللباس فلا يكون أبدا (٧) إلا من ملبس للباس ، ولا النوم والسبات إلا من مسبت منيم بغير ما شبهة ولا التباس ، لأن ذلك كله ، وآخر ما يدرك من ذلك وأوله ، صنع وجعائل ، لا تكون إلا من صانع جاعل ، وفطرة وفعائل ، لا تكون إلا من مفتطر فاعل ، وكذلك ما جعل الله سبحانه من النهار نشورا ،

__________________

(١) .....

(٢) في (ب) و (د) : وممدا. وفي (ب) : يمداه.

(٣) السبت : الراحة. وأهداه : من الهدوء.

(٤) في (ب) : يعلمه ويراه.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : الصنع.

(٦) في (ب) و (د) : لمؤلف.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : أبدا.

٢٨٠