مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٧٩) [الأنعام : ٧٨ ـ ٧٩].

والفاطر هو : المبتدئ الصانع ، والحنيف هو : المخبت (١) الخاشع ، فاستدل صلوات الله عليه بدلائل الله من سماواته وأرضه ، على أن الله صانع لذلك كله لا لبعضه ، وتبرأ صلى الله عليه من شرك كل من أشرك ، إذ رأى كل نجم منها إنما يسلك كما أسلك ، بما رآه بيّنا في جميعها ، من تدبير بديعها ، في الجيئة والطلوع ، والذلة الخشوع ، وعلم أنّه لا يكون ما رأى منها عيانا ، وأدركه فيها إيقانا ، من الطلعة والأفول ، إلا من مصرف ناقل غير منقول ، فقال صلى الله عليه : (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). الذين أشركوا بين المالك والمملوكين ، تجاهلا بما يعلمون ، ومكابرة لما يرون ، من التزايل والفرق ، بين الخالق والخلق ، والمبتدع والبدائع ، والصانع الصنائع.

وفي الدلالة على الله بدلائله ، وبما جعله دليلا عليه من جعائله ، ما يقول لهم صلى الله عليه ، فيما كانوا من الشرك فيه : (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)(٨٢) [الشعراء : ٧٥ ـ ٨٢]. فلما رأى صلى الله عليه ما رأى من عالم ومعلوم ، وكل ما أدركه وهم من الوهوم ، ملكا مربوبا ، وصنعا مغلوبا ، قال صلى الله عليه : (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ). الذي هو رب السموات كلها والأرضين.

ثمّ ابتدأ احتجاجا عليهم لله في معرفته ، بما لا يوجد سبيل إلى دفعه من صفته ، وما بان الله به من خصائص الأنعات ، التي لا توجد إلا فيما له من الصفات. قال صلى الله عليه : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)(٨٢). فهو الله الخالق الذي لا خالق سواه ، والهادي الذي لا يشبه هدى هداه ، والمطعم الساقي الذي لا يطعم ولا يشرب إلا من أطعمه وسقاه ،

__________________

(١) المخبت : المطمئن المتواضع.

٢٢١

والشافي من كل سقم الذي لا يشفى من سقم أبدا إلا من كشف عنه سقمه فشفاه ، والمميت المحيي الذي لا يموت أبدا ولا يحيا إلا من أماته وأحياه ، والغافر الذي لا يظفر بالمغفرة إلا من وهبها إياه ، لا تؤخذ المغفرة منه كرها ولا قسرا ، ولا ينالها إلا من كان الله (١) له مغتفرا.

ألا تسمع كيف يقول صلى الله عليه : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٨٢). ويوم الدين ففيه يغفر الله لمن يشاء أن يغفر له من المذنبين ، فاستدل صلوات الله عليه ودل بما عدد من هذا كله على رب العالمين ، وليس مما دل به صلى الله عليه من دليل صغير ولا كبير ، يدل أبدا مستدلا إلا على الله العلي الكبير ، فذكر إبراهيم عليه‌السلام مننا من الله لا يمنّ بها مآنّ ، وإحسانا من الله لا يمثّل به إحسان ، منها خلقه لأعضاء الانسان السليمة الظاهرة القوى ، التي ليس فيها لمدع من الأولين والآخرين دعوى ، والتي كلهم جميعا في الحاجة إليها سواء ، وكيف يصح في ذلك لمدع شيء لو ادعاه؟! وهو لا يقدر على أن يزيد (٢) مثقال ذرة في شيء من خلقه ولا قواه ، فكيف يعطي معط شيئا من ذلك أحدا سواه؟!

فهذا والحجة البالغة لله فما لا يمكن فيه الكيف ، ولا يتوهمه بصحة من الدعوى قوي من الخلق ولا ضعيف ، والحمد لله على ما أبان من برهانه وحجته (٣) ، لإبراهيم صلى الله عليه في محاجّته. وفي ذلك ما يقول سبحانه فيه ، لإبراهيم صلى الله عليه : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٨٣) [الأنعام : ٨٣]. وما ذكر صلى الله عليه من فعله به في المطعم والمشرب ، المشفي من المرض والوصب ، والموت والحياة ، والمغفرة للخطيئة والإساءة ، فما لا يدعيه مدع ولا يدّعى له أبدا بصدق ولا كذب ، ولا يوجد ما يرى من صنعه وتدبيره أبدا إلا للرب ، كما لا يرى صنع الأرض والسماوات ، وما بينهما من الفتوق والفجوات ، من صانع ولا خالق سوى الله ، فكذلك ما ذكر إبراهيم لا يكون إلا من

__________________

(١) سقط من (أ) : الله.

(٢) في (ب) و (ج) : يزداد.

(٣) سقط من (أ) : برهانه.

٢٢٢

الله ، فلو لا صنع الله سبحانه للسماء ، لما ارتوى أهل الأرض من الماء ، ولو لا ما صنع الله منها ومن الأرض والهواء ، لما اغتذى أحد أبدا ولا ارتوى ، ولخفت كل مغتذ مواتا ، ولمات إذا لم يغتذ خفاتا ، فاحتج إبراهيم صلى الله عليه في الدعاء إلى الله من صنعه وخلقه ، ورزقه وغير رزقه ، بما لم تزل أنبياء الله عليهم‌السلام قبله وبعده ، تحتج به لله على كل من أنكره وجحده.

[استدلال نوح عليه‌السلام على الله]

فممّن (١) كان قبله ممن وهبه الله رسالته ، ودل على معرفة الله دلالته ، نوح صلى الله عليه ، إذ يقول لقومه فيما يدعوهم إليه ، من عبادة الله ومعرفته ، ويدلهم عليه بالخلق والصنع من صفته : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً)(٢٠) [نوح : ١٣ ـ ٢٠]. فأبان لهم صلى الله عليه فيما عدد كله أثر صنع الله برهانا واحتجاجا ، بخلقه لهم في أنفسهم أطوارا ، يريد بالأطوار طبقات ومرارا ، مرة من تراب وطين ، وطورا من ماء مهين ، ومرة مضغة وطورا علقة ، يصرّفهم سبحانه خلقة بعد خلقة ، ثمّ خلق الانسان عظاما ، ثمّ كسا العظام لحما ، ثمّ أنشأها خلقا آخر بشرا ، قد جعل له سمعا وفؤادا وبصرا ، كما قال سبحانه : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٢٤) [الملك : ٢٣ ـ ٢٤]. ومعنى ذرأكم : فهو كثّركم وأنماكم ، وكذلك فعل رب العالمين ، كما قال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤].

__________________

(١) في (أ) و (ب) : فمن.

٢٢٣

[استدلال يوسف عليه‌السلام على الله]

ومن دلائل من كان بعده من رسل الله وأنبيائه ، الذين جعلهم من ذرية إبراهيم عليهم‌السلام وأبنائه. قول يوسف صلى الله عليه ، لصاحبي السجن اللذين كانا معه فيه ، وهو يدلهما على ما تفرد الله به من الربوبية ، وما هو له لا لغيره سبحانه من الوحدانية : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [يوسف : ٣٩ ـ ٤٠]. يقول صلى الله عليه أأرباب (١) الربوبية بينهم ، ليست بخالصة لواحد منهم؟! خير في الربوبية أمرا ، وأعلى في الفضيلة قدرا ، أم (٢) تكون الربوبية لواحد خاصة ، ولرب لا لربين اثنين خالصة؟! فمن يمتنع من الأصحاء ، سمع أو لم يسمع من النصحاء ، أن الربوبية لرب واحد أفضل فضلا ، وفي رب واحد أكمل منها في اثنين وبين ربين وأعلى؟! لأنها لو كانت لاثنين كان كل واحد من الربين منقوصا ، وكل إله من الإلهين بالنقص مخصوصا ، فإن كانوا وهم أكثر عددا ، كان كل واحد منهم أنقص أبدا.

فكيف يكون المنقوص إلها أو يثبت ربا؟! وأين الأعلى من الأشياء كلها قدرا ممن له أضداد وأكفاء؟! وربنا فمعلوم في الألباب غير مجهول ، وثابت لا يدفع في العقول ، لأن (٣) كل اثنين فبينهما تباين لا يخفى في الأحوال ، يبين به أحدهما على صاحبه في الفضل والكمال ، وأن أفضلهما أبدا أحوالا ، وأكملهما في الفضل كمالا ، أولاهما (٤) بالأثرة والتقدمة ، وأحقهما بالطاعة والتكرمة. وإذا كان ذلك ، موجودا في العقل كذلك ، لم تصح الربوبية أبدا إلا لرب واحد ، وثبتت الحجة في التوحيد وإثبات الإلهية لله على كل ملحد ، وانقطع بين الموحّد والملحد في ذلك كله التشاغب ، وذهب ـ بصدق الحجة لله في ذلك كله ـ التكاذب ، ونفي الحق من الباطل وتبرأ ، فلم يعم

__________________

(١) في (ب) : أرباب.

(٢) في (أ) و (د) و (ه) : أو.

(٣) في (ب) و (ج) : أن.

(٤) في المخطوطات : وأولاهما. والصواب حذف الواو لأن (أولاهما) خبر أن.

٢٢٤

عنه إلا من لا يبصر ولا يرى ، فلا (١) يجيب إلى الحقائق لله داعيا ، ولا يسمع بالدعاء إلى الله مناديا ، كما قال سبحانه : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)(١٩٨) [الأعراف : ١٩٨].

[استدلال موسى وهارون عليهما‌السلام على الله]

ومن مقاول رسل الله بعد يوسف صلى الله عليه وعليهم ، واحتجاجهم لله على عباده بدلائله فيهم ، قول موسى وهارون ، إذ أرسلهما الله إلى فرعون : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦]. فقال فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٢٣]. قال موسى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)(٢٤) [الشعراء : ٢٤]. يقول صلى الله عليه إن كنتم ممن يوقن في غيب بيقين ، أو يستدل فيما غاب عنه بدليل مبين ، استدلال ذوي العقول والألباب ، على ما غاب عن أبصارهم بتوار واحتجاب. وإنما يدرك ما غاب من الأمور بالفكر واليقين ، ويدرك ما حضر منها بالحواس من العين أو غير العين ، وذلك فإنما هو درك البهائم الخرس ، التي لا تدرك شيئا إلا بحاسة من الحواس الخمس ، ولا توقن أبدا بغائب غاب عنها ، ولا تدرك إلا ما كان شاهدا قريبا منها ، فأما أهل الألباب والعقول ، فيستدلون موقنين على الجاعل بالمجعول ، وعلى الغائب المتواري الخفي ، بالحاضر الظاهر الجلي.

وكل ما عظم من الدلائل وازداد عظما ، ازداد به موقنوه يقينا وعلما ، فلما كانت السماوات والأرضون ، أعظم ما يرون من الدلائل ويبصرون ، دلهم بهما على ربهما ، وأخبرهم أنهم إن لم يوقنوه بهما ، لم يوقنوه بغيرهما ، لما فيهما من دلائل اليقين بصنعه وتدبيره(٢) ، ف (قالَ) ـ فرعون ـ (لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ)(٢٥) [الشعراء : ٢٥]. فسألوا موسى كما سأله الملعون ، وارتابوا في قوله كما ارتاب فرعون ، فقال موسى صلى الله عليه لهم : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)(٢٦) [الشعراء : ٢٦]. فأخبرهم أن

__________________

(١) في (أ) و (ه) : ولا.

(٢) لعل هنا سقطا.

٢٢٥

كلهم وكل من كان قبلهم عبد لله مربوب ، إذ كلهم وكل من كان مثلهم (١) مصرف مقهور مغلوب ، يسقم ويفنى ويموت ، ويحل به السقم والموت ، فقال لهم فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)(٢٧) [الشعراء : ٢٧]. فقال لهم موسى صلى الله عليه إذ عاودوا يسألون : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(٢٨) [الشعراء: ٢٨]. فقررهم صلى الله عليه من ذلك بما لا ينكرون ، إن كانوا يوقنون بغائب أو يعقلون ، ودلّهم على الله سبحانه بدليل مبين ، فيه لمن أيقن أدل الدلائل وأيقن اليقين.

وكذلك قال الله سبحانه للقوم (٢) الذين لا يعلمون ، إذ سألوا من رؤيته ما لا يمكن ولا يكون ، إذ يقول سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(١١٨) [البقرة : ١١٨]. فأخبر سبحانه أن بيانه إنما هو للذين يعقلون ، ويوقنون من الغيب بما لا يرون ولا يبصرون ، فأما أشباه البهائم الذين لا يعلمون ، إلا ما يرون ويبصرون ، فإن الله سبحانه انتفى من البيان لهم ، وتبرأ من ذلك إليهم (٣) ، وذلك فمما يدل على علم الله وحكمته ، ولطيف خبره بأحوال بريته.

ومن ذلك قوله سبحانه لكفرة قريش والعرب ، ولمن كان معهم من كل ذي لسان معرب : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) * قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ٩ ـ ١٠]. الذي يستدل عليه منهما بكل شيء فيهما من كل أو بعض ، فقالت رسلهم في ذلك لهم ، ما قالت الرسل لأممهم قبلهم ، واحتجوا لله عليهم ، بمثل حجج نوح وإبراهيم

__________________

(١) في (أ) : إن كلهم وكل ما كان قبلهم. وكان هذه هي التامة. وفي (أ) و (ه) : قبلهم.

(٢) في (أ) : في القوم.

(٣) سقط من (أ) و (ه) : من ذلك إليهم.

٢٢٦

فيهم ، ودلّوهم على الله بدلائله ، من فطره (١) صنعه وفعائله ، وتعجّبوا من شكهم!! وما هم فيه من شركهم!! مع ما يرون من الدلائل في السماء والأرض ويبصرون ، مما يوقن بأقله فيما غاب عنهم الموقنون.

[استدلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الله]

ومن ذلك وفيه ، ومن الدلائل عليه ، قول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى الطيبين من آله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ)(٢٠) [إبراهيم : ١٩ ـ ٢٠] ، فنبه سبحانه في ذلك من دلائله على ما فيه لمن اعتصم به من الشك فيه أحرز الحرز الحريز. ثمّ قال سبحانه في هذه السورة ، تكريرا بحججه (٢) المنيرة : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٣٤) [إبراهيم : ٣٢ ـ ٣٤]. يقول سبحانه الذي خلق ذلك كله وصنعه ، لا صانع فيه غيره ولا صانع له معه ، فذلك كله وإن كابروا فما لن يدّعوه ، وإن لم يأتهم فيه قصص الله ولم يسمعوه ، كما قال تبارك وتعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١١) [لقمان : ١٠ ـ ١١]. فصدق الله لا شريك له ، في أن من لم يعرف هذا كله ، صنعا له وخلقا ، وحقا يقينا صدقا ، فهو في أبين الضلال ، وأخبل صاغر الخبال ، والحمد لله كثيرا رب العالمين ، على ما أبان من حججه على الملحدين.

__________________

(١) أي : خلقه.

(٢) في (أ) : بالحجة. وفي (ب) و (ج) : للحجة.

٢٢٧

فكيف ـ يا ويله ـ يلحد ملحد؟! أو يهن أو يضعف لله موحّد؟! ودرك السماوات والأرض وما بينهما من الخلق بالعيان ، والعلم بالله سبحانه فمدرك بأوضح من ذلك من العلم والايقان ، واليقين بالله فما لا يشاركه ولا يختلط به أبدا شك ، وعلم الأبصار والعيان والحواس فعلم بين الانسان والبهائم مشترك ، وقد تعلم البهائم وتدرك بما جعل الله لها من حواسها من السمع والبصر ، كل ما يدرك مدرك بالحواس من جميع البشر.

وكيف ـ ويلهم ـ يرتابون أو يلحدون؟! أو يعتقدون من الشك في الله والشرك بالله ما يعتقدون؟! والله يقول جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٥) [السجدة : ٤ ـ ٥]. والولي فهو النصير المانع ، والشفيع فهو الطالب الشافع.

فأخبر سبحانه أن تدبيره وصنعه من العرش لما بعد عنهم ، كتدبيره وصنعه لما قرب في الأرض منهم ، وأن بعد ما بين العرش ـ وهو ذرى السماوات العلى ـ وبين ما تحتهن مما ترى أعينهم من الأرض الأولى ، مقدار ألف سنة كاملة مما يعدون ، وأن الأشياء كلها لا تبعد عنه كما يستبعدون ، وكيف يبعد عليه (١) سبحانه من الأشياء شيء ، وإنما ينشئ منها ما ينشئ ، إذا أراد له إبداء أو إعادة (٢) ، بأن يريده سبحانه إرادة بعد إرادة ، كما قال سبحانه : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠) [النحل : ٤٠].

وكيف يشك ملحد في صنع الله للأشياء كلها ، أو في ما يرى من دقّ الأشياء أو جلها؟! وقد يرى كيف أحكمت فاستحكمت ، وانقادت للصنعة فتقوّمت ، وذلّت على ما فطرت (٣) ، واضطرت كما اضطرت ، فكلها مصرّف مضرور ، وجميعها بدع

__________________

(١) في (أ) : عنه.

(٢) في (ب) و (ج) : وإعادة.

(٣) في (ب) و (ج) : على ما فطرت عليه.

٢٢٨

مفطور ، لا يمتنع من القهر والذلة والخشوع ، ولا عن ما أبان الله فيه من أثر صنعة كل مصنوع ، لا ينظر منه ناظر إلى طرف ، ولا يلتفت إلى كنف (١) ، إلّا وجد أثر الصنع فيه واضحا بيّنا ، ووجده بصنع الله له مخبرا مبيّنا.

ولما ثبت اضطرارا بما لا تدفعه العقول مما لا مرية فيه ، وبما جميع العقول كلها مجمعة عليه ، أن لكل ما يرى أو يسمع أو يشم ، أو يذاق أو يلمس أو يتخيل فيتوهم ، مدبرا لا يخفى تدبيره ، ومؤثّرا بيّنا ـ لكل ذي (٢) عقل ـ تأثيره ، ثبت وجود (٣) خلاف المدبّر مدبّرا غير مدبّر ، ووجود (٤) خلاف المؤثّر مؤثّرا غير مؤثّر ، لا يمكن غير ذلك علما ، ولا يتخيل خلاف لذلك فهما ، لأنّه لما كان ما وجد من الأشياء كلها مدبّرا وصنعا ، وخلقا مفتطرا بدعا (٥) ، احتيج إلى علم مدبره ومفتطره ، وثبت يقينا وجود المفتطر المدبّر بما وجد من تدبيره ومفتطره ، فلا بد كيفما كان النظر في ذلك فارتفع أو لم يرتفع ، من أن يثبت مدبر صانع لم يدبّر ولم يصنع ، وذلك فما لا يوجد أبدا غير الله جل ثناؤه ، وتقدست بكل بركة أسماؤه ، فهو الله الصانع غير المصنوع ، والأول المبتدع غير المبدوع.

ولما كان ـ كل عزيز من ذلّ ، إنما يعز في بعض لا في كل ، كان العز كلا وبعضا ، ولم يوجد العز كله لواحد محضا ـ أيقنّا أن بعض العز مملوك لمليك ، وأيقنا أن كل العز لمالك غير ذي شريك ، لأنه لو كان له فيه شريك ، أو له معه مليك ، لكان إنما له ، بعضه لا كله ، فرجعنا إلى الخطة الأولى ، وعاد العز ذلا ، إذ كان مشاركا فيه ، لأنه إنما له أحد شطريه ، وذلك يرده إلى أن يكون عزيزا ذليلا ، وأن يكون ما يستكثر (٦) من عزه قليلا ، لأن نصف العز أقل من ضعفه ، وضعف العز أكثر من نصفه ، وما ملك غيره من أحد شطري العز ، فليس له بملك ولا عز معز ، ولكنه لمالكه دونه ، ليس له شيء

__________________

(١) أي : جانب.

(٢) سقط من (أ) : ذي.

(٣) في (أ) : وجوده.

(٤) في (أ) : ووجد.

(٥) سقط من (أ) : بدعا.

(٦) في (أ) و (ه) : يستكثره.

٢٢٩

منه ، فكلاهما ذليل وإن عز ، وغير محرز من العز إلا لما أحرز ، وجميعهما قليل عزّه ، إذ لم يملك العز كله فيحرزه ، فليس العزيز الذي لا يذل ، إلا من له العز الذي لا يقل ، بأن تشاركه فيه الشركاء ، أو أن تتقسمه بملكها له الملكاء ، وذلك فهو الله العزيز الأعلى ، يهب لمن يشاء عزا ويذل من يشاء إذلالا ، (بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الملك : ١] ، كما قال سبحانه : (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج : ٧٨]. مع ما في القرآن من هذا ومثله ، مما يكثر عن أن يحيط كتابنا هذا بتفسيره أو جمله.

[تنزه الله عن شبه الخلق]

فأما دلائله لنا سبحانه على أنه خلاف للأشياء ، ولكل ما يعقل في جميعها من العجزة والأقوياء ، فقوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. وما ليس كمثله شيء ، فهو خلاف لكل شيء ، وقوله سبحانه في سورة التوحيد والإفراد ، بعد تنزهه فيها سبحانه عن الوالد والأولاد : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤) [الإخلاص : ٤]. ومن لم يكن له كفوا أحد ، فهو خلاف لكل أحد ، وما كان خلافا للآحاد كلها ، كان خلافا اضطرارا لأصلها ، لان الأصل في نفسه وتحداده ، فهو غير شك جميع آحاده ، فالله سبحانه هو خلاف الآحاد المعدودة ، وجميع ما يعقل من الأصول الموجودة (١) ، وهو الله الصمد الحق الذي ليس من ورائه مصمد (٢) يصمد إليه صامد ، والله الملك القدوس الذي ليس من ورائه ملك ولا قدوس يجده واجد ، والله الأول قبل الأوائل المتقدمة (٣) ، والعظيم قبل جميع الأشياء المعظمة ، فليس قبله أول موجود ، ولا بعده معظّم معمود ، ومن وراء كل عظيم عظيم ، حتى ينتهي إلى الله الذي ليس من ورائه عظيم ، وفوق كل ذي علم عليم ، حتى ينتهي إلى الله الذي

__________________

(١) في (ب) و (ج) : المحدودة.

(٢) في (ب) و (ج) : صمد.

(٣) في (ب) و (ج) : المقدمة.

٢٣٠

ليس فوقه عليم ، والصمد فهو النهاية القصوى في الوجود ، وفيما يرغب إليه (١) فيه في الآخرة والدنيا من كل محمود ، والأحد فما ليس له قبل ولا بعد يفترقان فيه ، وما لا تجري مدد الدهور والأزمان عليه ، لأنه إن افترق فيه القبل والبعد ، زال من صفة الأحد والصمد ، إذ هما فيه اضطرارا مفترقان ، فهما عليه بالمقارنة لا شك متداولان ، لا خلوة له من أحدهما ، يجري عليه من المقارنة ما يجري عليهما من حدهما ، ويزول عنه من الوحدانية ما زال عنهما ، ولا يتوهّم أبدا خاليا منهما.

وكذلك ما جرت عليه مدد الأزمان والدهور ، غيّرته (٢) تغييرها لغيره من الأمور ، كما قال الله سبحانه : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣) [الحديد : ٣]. فأوّليّته سبحانه آخريته ، وباطنيته ظاهريته ، لا يختلف من ذلك ما وصف به ، كما لا يختلف سبحانه في نفسه.

وكذلك أسماؤه كلها الحسنى ، وأمثاله كلها العلى ، فأسماء (٣) لا تتناهى مرسلة مطلقة(٤) ، مجتمعة كلها فيه سبحانه لا مفترقة ، ليس لاسم منها حد محظور ، ولا لمثل منها حصار محصور ، فيكون الحد حينئذ للمحدود ثانيا ، وما حضر (٥) بالحد من المحدود متناهيا ، ولكنه كما قال سبحانه : (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥] ، ولا لن يوجد له سمي إذ لا تجد الألباب له كفيا ، كقوله تبارك وتعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [الروم : ٢٧] ، وكذلك هو سبحانه إذ لا تجد له الألباب مثلا ، وما قلنا به في هذا من دلالة التفاضل ، فموجود والحمد لله لا ينكره عقل عاقل ، ومضطرة الألباب إلى علمه لا يدفعه إلا متجاهل ، مع ما لا نأتي عليه وإن بلغ (٦)

__________________

(١) في (أ) و (ب) : وفيما يرغّب الله فيه.

(٢) في (ب) و (ج) : وغيرته.

(٣) في (د) و (ه) : فاسماءه أسماء. وفي (أ) : فاسماءه لا تتناهى.

(٤) يؤخذ للإمام من هذا أنه يرى جواز إطلاق أسماء على الله ، وإن لم يرد بها أذن من الشرع ما دامت تفيد مدحا وتعظيما.

(٥) في (أ) : وما حظر.

(٦) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) و (ه) : ما لا يأتي عليه وإن بولغ.

٢٣١

تعديدنا ، ولا نستقصيه (١) وإن جهد تحديدنا ، من لطيف شواهد معرفة الله سبحانه وجلائلها ، وما جعل الله من شواهد المعرفة به (٢) ودلائلها.

وكفى بما ذكرنا لمعرفة الله عزوجل علما منيفا شامخا ، وعلما بالله يقينا في النفوس ثابتا راسخا ، لا يدفعه إلا بمكابرة للعقول ملحد ، ولا يصدف (٣) عن الاقرار به إلا معاند ملد(٤) ، والحمد لله الذي لا يهتدي للخير أبدا إلا من هداه ، ولا يصيب الرشد إلا من آتاه إياه ، كما قال سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١)) [الأنبياء: ٥١]. وقال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)) [الأنعام : ٧٥].

[الايمان قول وعمل واعتقاد]

فقلب الإيمان من كل عصيان اليقين بالله وبعلمه (٥) ، وإبراء الضمائر من توهّمه ، فإنه لا تجول أوهام المتوهّم ، إلا في كل ذي صورة وتجسّم ، ومن توهم الله جسما ، فلم يصب بالله علما ، ولم يقارب من اليقين بالله شيئا ، ولذلك كان حشو (٦) هذه العامة من اليقين بالله براء ، ولما التبس بقلوبهم وأنفسهم من ذلك واعتقاده ، اقتادهم وليّهم إبليس بالمعصية في قياده ، فحثوا له بالعصيان لله سراعا عنقا (٧) ، وآثروا رضاه على رضى الله إذ لم يؤمنوا (٨) به فسقا ، فبدلوا معالم أموره ، وعموا عن ضياء نوره ، ثمّ لم

__________________

(١) في (أ) و (ه) : ولا يستقصيه.

(٢) سقط من (ب) و (ج) : به.

(٣) أي : يعرض ويميل.

(٤) المتمادي في اللجاجة.

(٥) في (أ) : وعلمه. وفي (د) : وتعليمه.

(٦) الحشوية : طائفة جبرية مشبهة ، وسميت حشوية : لحشوهم الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. الحور العين / ٢٥٨.

(٧) نوع من السير السريع.

(٨) في (ب) و (ج) : يوقنوا.

٢٣٢

يزدادوا في العمى عن الله إلا تماديا ، ولم يجيبوا له إلى الهدى من الهادين إلى الله داعيا ، وعدوا إساءتهم فيما بينهم وبين الله إحسانا ، وكفرهم بالله ورسله وكتبه إيمانا ، وجعلوا لله مثل السوء ولهم المثل الأعلى ، فتبارك الله عما قالوا به عليه وتعالى ، ونسبوا إلى الله سبحانه جور الحكم ، وبرءوا أنفسهم من الجور والظلم ، وهم بما نسبوا إليه سبحانه من الجور والظلم أولى ، وله سبحانه لا لهم المثل الأعلى ، ومثل السوء فلهم كما قال سبحانه : وهم كاذبون ، (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) [النحل : ٦٢]. وقال سبحانه : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)) [النحل : ٦٠].

ولعمري ما آمن بالآخرة مصدقا ، ولا وجد لما حقق الله منها محققا ، من أكذب وعدها ووعيدها ، وأنكر من جزاء المحسن والمسيء عتيدها (١) ، والله يقول سبحانه : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٤) [يونس : ٤].

ويقول سبحانه : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)(٣١) [النجم : ٢٩ ـ ٣١].

ويقول سبحانه : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤)) [النساء : ١٢٣ ـ ١٢٤].

ويقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ

__________________

(١) العتيد : المعد الحاضر.

٢٣٣

كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠)) [النساء : ٢٩ ـ ٣٠].

ويقول سبحانه : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩)) [الكهف : ٢٩]. وعدا من الله ووعيدا ، وجزاء من الله للفريقين عتيدا ، لا تكون الآخرة أبدا إلا وهو معها ، ومن أنكره ودفعه أنكر الآخرة اضطرارا ودفعها ، وله جعلت الآخرة وثبتت ، وثبت باقيا معها أبدا ما بقيت ، ولو أمكن فناؤه لأمكن فناؤها ، وما بقيت الآخرة بقي معها جزاؤها ، فبقاء كلّ بكل معقود ، وكلّ من الله فوعد موعود ، لا يدخله أبدا كذب ولا خلف ، ولا يزول من أوصاف الله فيه بصدق الوعد وصف.

ولا أكفر بالآخرة وأمرها ، وما ذكر الله من بعث الأمم وحشرها ، ممن زعم أن الله يحكم يومئذ فيها بغير العدل ، فيقضي (١) بين أهلها فيها بغير قضاء الفصل ، فيعذب من عذب فيها ، بأمور هو حمل المعذّب عليها ، حتى لم يجد من ارتكابها بدا ، ولا عما ارتكب منها مصدا ، وإن عمل (٢) ما شاء الله فيها وارتضى ، وحكم الله به منها وقضى ، عذّب بألوان العذاب ، وعوقب (٣) بأشد العقاب.

فوصفوا الله بإخلاف الميعاد ، ونسبوا إليه ما تبرأ منه من ظلم العباد ، فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)) [النساء : ٤٠]. وقال : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)) [يونس : ٤٤]. وقال تبارك وتعالى : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ١٦]. وقال سبحانه فيما قالوا به عليه من إخلافه في الوعد والوعيد : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) [النساء : ١٢٢]. وقال سبحانه : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ

__________________

(١) في (أ) و (د) و (ه) : ويقضي.

(٢) في (ب) : وأنه على. وفي (ج) و (د) : وإن عملا. وفي (ه) : وإن علا.

(٣) في (ب) و (ج) و (د) و (ه) : عاقب.

٢٣٤

الْمِيعادَ (٢٠)) [الزمر : ٢٠]. وقال تبارك وتعالى في حكمه يوم القيامة بين الخلق بعدله ، وقضائه يومئذ بين العباد بعدل فصله : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠)) [غافر : ١٧ ـ ٢٠]. وقال سبحانه : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩)) [المرسلات : ٣٨ ـ ٣٩]. يقول تبارك وتعالى هذا (١) يوم القضاء بالعدل الذي كنتم به تكذبون : (* احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) (٢٥) [الصافات : ٢٢ ـ ٢٥]. فلعدله سبحانه في الحكم ، وتعاليه عن كل ظلم ، وقّفوا فعرّفوا ، وبعد المسألة (٢) صرفوا ، إلى ما استحقوا من الجحيم ، واستوجبوا من العذاب الأليم.

فاستقبل حشو هذه (٣) العامة ما بيّن الله من هذا كله بجحده ، وجاهروا الله وأولياءه علانية برده ، فكلما دعاهم المهتدون ليهتدوا ، استكبروا عن الهدى وصدوا ، وكلما ذكروهم بالله ليذكروا ، أعرضوا عن تذكيرهم بالله وفروا ، فكلهم مصرّ مستكبر ، مولّ عن الهدى مدبر ، كأنهم في ذلك بفعلهم ، وما أصروا عليه من جهلهم ، قوم نوح إذ يقول فيهم ، صلى الله عليه لا عليهم : (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧)) [نوح : ٥ ـ ٧]. فكلهم عدو للصادقين على الله (٤) مكذب ، وفؤاد كل امرئ منهم

__________________

(١) سقط من (ب) و (ج) : هذا.

(٢) في (أ) و (ج) و (د) : المسألة ما صرفوا.

(٣) سقط من (أ) و (د) و (ه) : هذه.

(٤) في (أ) : عدو الصادقين. وفي (ه) : عدوا للصادقين. وسقط من (ب) : على الله.

٢٣٥

عن الايمان بالحق منقلب ، وذلك إذ لم يؤمنوا به أول مرة ، وكانوا به إذ سمعوه عند الله من الكفرة ، ألم تسمع إلى قوله سبحانه : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) * وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (١١١) [الأنعام : ١١٠ ـ ١١١]. فقوله سبحانه (يَشاءَ) إنما هو خبر عن قدرته عليهم ، وقوة سلطانه تبارك وتعالى فيهم ، ولو أنه شاء لمنعهم من المعصية فكانوا (١) به مؤمنين ، إذ كان الإيمان عندنا إنما هو أمان من عصيان العاصين ، ومن منعه الله من المعصية جبرا فمأمون عصيانه ، وإذن كان الاحسان في ذلك المنع إحسان الله لا إحسانه ، وكان فيما منع منه من المعصية غير مطيع لله ، ولا مستوجب لثواب من الله ، إذ منع من المعصية بجبر ، وحمل على الإيمان منه (٢) بقسر.

[أول الواجبات معرفة الله]

فابتدئ يا بني ـ في طلب فعل الصالحات ، واكتساب الخيرات ، إذا ابتدأت ـ بطلب اليقين بالله ، وحقيقة العلم لله ، فإنك إن تفعل اهتديت لكل بركة وخير ، وظفرت بالحظ الكبير ، وأمنت بإذن الله من العمى ، ورويت بمعرفة الله من الظماء ، وشاركت الملائكة المقربين في عبادتهم ، وازددت مما يمكنك من فعل كل خير مثل زيادتهم (٣) ، وأنّسك يقينك (٤) بالله من كل وحشة مرعبة ، واكتفيت بصحبة الله من كل صاحب وصاحبة ، وخف عليك من عبادة الله عبء الأثقال ، فكنت إماما للصالحين في صالح الأعمال ، فدانت (٥) بالبر أعمالك ، وصدّق قولك في الخير فعالك ،

__________________

(١) في (أ) : وكانوا.

(٢) في (أ) و (د) و (ه) : منها.

(٣) في (أ) : كزيادتهم.

(٤) في (ب) و (ج) : وأنست نفسك.

(٥) في (ب) و (ج) : فدامت.

٢٣٦

فكنت إلى الله حبيبا مخبتا ، وكان سمت (١) الصالحين لك سمتا ، ومن والى الله من أوليائه لك وليا (٢) ، وما رضيه من الأشياء عندك رضيا (٣) ، ورأيت السوء حيث كان سوءا ، واتخذت عدو الله عدوا ، وكنت من خاصة الله وخلصانه ، وأهل العلم بالله وإيقانه ، وانفتحت لك بعد اليقين بالله أبواب العلوم ، وكنت في الأرض قيما من قومة الحي القيوم ، فقرّت بالله عينك ، وتزيّد بالله يقينك ، وانشرح بمعرفته صدرك ، و؟ ع؟ بأمره سبحانه أمرك ، فلم تهب ولم تخش غيره ، ولم ترج من الخير إلا خيره ، وعلمت أنّه سبب الخيرات الأول ، وأن بيده الفضل الكبير الأطول ، فأمنت بإذن الله مسكنة الفقراء ، وامتلأت يداك من الغنائم الكبرى ، وكنت على ملوك الدنيا ملكا ، ونجوت بإذن الله من هلكة الهلكى.

ففي طلب اليقين بالله يا بني فادأب ، ومن رجوت عنده على اليقين بالله عونا فقارن (٤) واصحب ، فإنهم ألفاء كلّ رحمة ، وقرناء كل حكمة ، لا يرغب لبيب إلا فيهم ، ولا تنزع نفس حكيم إلا إليهم ، فمن لم يكن منهم فأعرض عنه واتركه ، ومن كان منهم فاشدد به يديك (٥) وامسكه ، فإنه بلغني أن حكيما من الحكماء ، قال لبعض من كان له علم كثير من القدماء : يا هذا لا ترينّ أنك علمت شيئا وإن علمت كل شيء ، ما لم تكن عالما بالله الأول الحي ، الذي هو سبب كل خير كان أو يكون ، والذي تعالى عن أن يلحق به حركة أو سكون. ثمّ قال : يا هذا إني كنت قبل أن أعرف الله أروى وأظمأ بالطباع ، ولما عرفت الله رويت بغير طباع.

نعم روي فشفي بالهدى!! من حرّ الغلّة والصدى (٦)! ولما صار إلى اليقين بالله تبارك وتعالى ، الذي هو سبب الخيرات الأول الأعلى ، غني بالله غنى الأبد ، وصار إلى

__________________

(١) السمت : القصد والمذهب والسير على الطريق.

(٢) أي : وكان من وإلى الله ... إلخ.

(٣) في (ب) و (ج) : مرضيا.

(٤) في (ب) و (ج) و (د) : فقارب.

(٥) في (أ) : به يدك. وفي (ب) و (ج) : يدك به.

(٦) الغلة : شدة العطش. والصدى : العطش.

٢٣٧

الغنى الباقي المخلد ، وسكن اضطراب نفسه وقلقها ، إذ علمت يقينا أن الله هو ربها وخالقها.

وبلغني أن حكيما آخر من حكماء الأولين ، كان في أمة تعبد الأصنام من الأمم الخالين ، كان يقول : من أيقن بالله إيقانا نقيا ، لم يزل بالله في عاجل الدنيا ما بقي غنيا ، وأيقن ليقينه بالله بكل حقيقة علم معلومة ، وأدرك ليقينه بالله من العلوم كل ذات سر مكتومة ، فاطلع بما ينوّر الله من قلبه على خفي سرها ، وأمن أن تتعبده الدنيا برقّ مسكنتها وفقرها!.

وبلغني أيضا عن بعض من تقدم وخلا ، من الأمم السالفة الأولى ، أنه كان يقول : لا يشك أحد ولا يمتري ، ممن خلا ولا ممن بقي ، في أن من جهل الصانع كان للعقوبة مستوجبا مستحقا ، نعم ولم يؤمن عندي أن لا يكون ممن يعرف من الحقوق كلها حقا ، إلا معرفة فاسدة مختلطة ، مقصرة عن التحقيق أو مفرطة ، لأن من جهل ما كثرت دلائله وشهوده ، ووجد بمتظاهر الآيات فلم يدفع وجوده ، حريّ حقيق ، وجدير خليق ، أن يكون بكل شيء جاهلا ، وأن لا يعتقد من علم شيء طائلا.

أما رأيت العامة لما (١) هي فيه من الجهل بالله الأعلى ، إذ جهلت ما قلنا مما كثر الله على معرفته الأدلاء ، كيف قلّت بحقائق الأمور علومها ، وضلّت بعد جهلها بمعرفته حلومها(٢) ، فقالت في دينها بكل قول متناقض مذموم ، لا يصح لفحش تناقضه في الألباب ولا الحلوم ، فهي فيه دائبة تخبط كل عشوى (٣) ، وصادة عن سبيل كل تقوى ، ترى معتقد باطلها فيه حقا ، وزور قولها فيه على الله صدقا ، وقبيحها فيه حسنا جميلا ، وجهلها به علما جليلا.

فمن جهل الله تبارك وتعالى ، فلن يدرك بحقيقة من الأشياء إلا شبها أو خيالا ، ولن

__________________

(١) سميت العامة : عامة لالتزامهم بالعموم. الذي اجتمع عليه أهل الخصوص ، وهم الذين يقولون بالأصول ، ولا يعرفون شيئا من الفروع ، ويقرون بالله ، وبرسوله ، وكتابه ، وما جاء به رسوله على الجملة ، ولا يدخلون في شيء من الاختلاف. الحور العين ٢٥٨. وفي (أ) و (د) و (ه) : بما.

(٢) عقولها.

(٣) في (ه) : تخبط خبط عشوى. والعشوى : الناقة التي لا تبصر أمامها.

٢٣٨

يزال متحيرا في الأمور خبّاطا ، ومقصرا في حقائق العلوم أو مفراطا (١) ، لا يقرّ به قرار علم فيسكن ، ولا يذل لمحق في حجته (٢) فيذعن ، ولا يزال مفتريا على المحقين كذبا ، ومدعيا من الباطل دعوى عجابا ، ليس لها من الله سبحانه تصديق ، ولا يشهد لها في الألباب من برهان تحقيق ، وإن كانت في نفس مدعيها ذات حقيقة وبرهان ، فإنها في حقائق الأمور كسراب القيعان ، كما قال الله سبحانه : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠) [النور : ٣٩ ـ ٤٠]. انظر كيف يمثله لإغفاله ، فيما يراه حقا من باطله بأمثاله ، من ذوي الظمإ ، وبمن ينظر في الظلماء ، فلا يرى يده ولا يكاد ، فكيف يقود أو ينقاد له في الظلماء منقاد ، إلا أن يكون مثله عميا ، لا يرى لعمى قلبه شيا ، فهو ينقاد في ظلمة وعشوى ، لمن لا يبصر ولا يرى ، ولمن آثر الضلالة على الهدى ، فهو متورط في ورطات الردى ، يركب بعضه في كل هوة بعضا ، رافض لكل حقيقة (٣) علم رفضا ، لا يسمع لكتاب الله به نداء ، ولا يقبل من الله فيه هدى ، مخبّة (٤) به في خبوت الضلال ركائبه ، عظيمة عليه في هلكة الدين والدنيا مصائبه ، غير متحفظ من هلكاته بحفظ ، ولا متعظ من عظات الله بوعظ ، غلق (٥) بين إطباق خطيئاته ، غرق في بحور عماياته ، لما عطل من يقين علم الكتاب ، ورضي من صحبته بشكوك الارتياب (٦) ، فبالله يا بني : فعذ من موالاته ، والرضى بما

__________________

(١) في (أ) : حقائق الأمور أو مقرا بما.

(٢) في (أ) : حجة.

(٣) في (أ) : لحقيقة كل.

(٤) أي : مسرعة.

(٥) أي : مرتهن.

(٦) في (أ) و (د) و (ه) : ورضي بصحبته من شكوك الارتياب. وفي (ب) : ورضي من صحبته من سلوك. وفي (ج) : ورضي بصحبته من سلوك. وما أثبت اجتهاد مني والله أعلم بالصواب.

٢٣٩

رضي به من تعطيل ما عطل من كتاب (١) ربه وآياته.

[الاصغاء لحديث القرآن]

وإذا أردت أن ترى عجائب الأنباء والأنبياء ، وتعلم فضل عدل حكم الله في الأشياء ، فاسمع من الكتاب ولا تسمع عليه ، واكتف بحكم الله على العباد فيه ، فإنك إن تسمع صوتا عنه بأذن واعية ، ثم تقبل عليه منك بنفس لحكمته راعية ، تسمع منه بالهدى صيّتا ، وتعرف من جعله الله حيا ممن جعله ميتا ، فلعلك حينئذ عند معرفتك به (٢) للأشياء ، تهرب من الميتين وتلحق بالأحياء ، فتجد طيب طعم الحياة ، وتثق بالقرار في محل النجاة ، فتنزل يومئذ منازل العابدين ، وتأمن الموت حينئذ أمن الخالدين ، ففي مثل ذلك فارغب ، وله ما بقيت فانصب ، فللرغبة فيه ، وللحرص (٣) عليه ، استنزل إبليس أباك آدم فأغواه ، وبالخلد في معصيته (٤) الله منّاه ، فقال له ، ولزوجه (٥) معه : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) [الأعراف : ٢٠]. وفي ذلك : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلَّاهُما) ـ كما قال الله ـ (بِغُرُورٍ). [الأعراف : ٢١ ـ ٢٢]. وكذبهما فيما منّاهما به من الأمور ، فأعقبا برجائهما في المعصية لله ندما ، ونسي آدم صلى الله عليه ولم (٦) يجد الله له عزما ، كما قال سبحانه : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥) [طه : ١١٥]. فلو لم يعص الله للبث فيها أبدا ، ولو أطاع الله في الشجرة لبقي فيها مخلدا.

__________________

(١) في (ب) و (ج) : كتب.

(٢) سقط من (ب) ، ج ، (د) : به.

(٣) في (أ) و (د) : والحرص.

(٤) في (أ) : معصية الله.

(٥) في (أ) و (د) و (ه) : ولزوجته.

(٦) في (أ) : فلم.

٢٤٠