مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

فصواب الظن في أنه قد (١) يصيب فيه سبحانه ، وخطأ الظن فيه فمنحّى (٢) عنه مقطوعة الأسباب فيما بينها وبينه.

والباب الخامس : من دركه سبحانه بالدلالة فموجود لا يعنف ، وصحيح ثابت في الألباب (٣) لا يختلف.

والباب السادس : من دركه سبحانه بحال واحدة مما عددنا ، ففاسد فيه تبارك وتعالى بما أفسدنا.

والباب السابع : من دركه سبحانه بكل ما عددنا وحددنا من الخلال ، فأحول ما يتوهم من وجوه المحال ، لما يجمع مما لا يجتمع في حس ولا عقل ولا وهم ، وفي ذلك أن يكون كذلك أعدم العدم!!

والباب الثامن : معرفته سبحانه بخلاف الأشياء كلها فلباب كل لباب ، وأصح ما يدركه به ـ سبحانه ـ من خلقه أولو الألباب ، لأنه إذا صح أنه غير مدرك سبحانه بدرك هذه الأشياء وأوصافها ، وكان لا بد لمن أدرك هذه الأشياء دركا صحيحا من أن يكون مدركا بصحة لخلافها ، بيقين ـ من دركه لها ـ مبتوت ، كدرك الحياة وخلافها من الموت ، ودرك الصحة وخلافها من السّقم ، ودرك الشباب وخلافه من الهرم ، وغير ذلك من اختلاف الأشياء كلها ، وما يوجد لها من الاختلاف في فرعها وأصلها ، وإذا كان ذلك كذلك ، وصح ما ذكرنا في النفوس من ذلك ، كان واجبا وجوب اضطرار ، وثابتا من النفوس في أثبت قرار ، دركه سبحانه ووجده عند دركها ووجودها ، إذ هو خلاف سبحانه لكل ما يوجد من موجودها.

فإن قال قائل : فلم لا تجعل خلاف الأشياء كلها العدم؟! فقد يحيط بخلافه للأشياء كلها الوهم؟!.

__________________

(١) في (أ) : فقد.

(٢) في (أ) : فتمنحى.

(٣) سقط من (ب) و (ج) و (د) : في الألباب.

٢٠١

قلنا : إن العدم ليس بمعنى موجود ، وليس مما له إنيّة (١) ولا حدود ، وإنما مطلبنا فيما قلنا ، للخلاف بين ما قد عقلنا ، من ذوات الإنّيّة الموجودة الثابتة بالحس ، أو الشهادة الباتّة من درك النفس ، أو ما يدرك خلافا لهما جميعا ، فيوجد أثر تدبيره بيّنا (٢) فيهما معا.

فأما ما ليس بذي أيس ، (٣) ـ ولا يدرك درك محسوس ، ولا يعرف بفرع ولا سوس(٤) ، ولا يبين عن نفسه بأثر من تدبير ، ولا يستدل على وجوده بدليل منير ـ فليس فيه لنا مطلب ، ولا لنا إليه بحمد الله مذهب ، وإنما قولنا في العدم ، إنه خلاف في الوهم ، لا في حقيقة للعدم موجودة ، ولا عين منه قائمة ولا محدودة ، وإنما (٥) يطلب خلاف الأشياء كلها في حقائق الأعيان ، بما يدرك في العقل والعلم من الاختلاف ببتّ الايقان ، وكذلك وجدنا الاختلاف الصّحيح اليقين يكون ، بين ما يحس أو يعقل من الأشياء التي لها كون ، فأما العدم الذي هو ليس (٦) ، والذي لم يتوهم له قط أيس ، فليس في بعده من أن يقال : مختلف بحقيقة أو مؤتلف وهم ، وليس لأحد علينا والحمد لله في اختلاف منه ولا ائتلاف متكلّم ، هو غير ذي شك عدم الأعدام ، ولا (٧) يرتفع عنه إلا بعبارة المنطق (٨) نطق الكلام.

__________________

(١) إنية الشيء : ذاته.

(٢) سقط من (ب) و (ج) : بيّنا.

(٣) أي : بذي وجود ، قال الخليل وإنما معناها كمعنى حيث هو في حال الكينونة والوجد. لسان العرب مادة أيس.

(٤) أي : أصل. لسان العرب مادة سوس.

(٥) في (أ) : فإنما.

(٦) أي : نفي معدوم.

(٧) في (أ) و (ه) : وما.

(٨) أي : لا يتبين إلا بالاسم ، وإلا فهو ليس بشيء موجود.

٢٠٢

[دلالة الآيات الكونية على وجود الله]

والحمد لله على ما جعل لنا من السبيل بما قلنا وغيره إلى معرفته ، ودلنا عليه في محكم القرآن منّا وإحسانا من صفته ، فقال سبحانه فيما عرفنا ، منه وثبّت لنا ، من أنه يعرف بالأعلام القائمة الدالة ، والشهادات القاطعة العادلة ، التي لم تبرح في الأنفس والآفاق شاهدة مشهودة ، ولم تزل في السماوات والأرض وما بينهما من (١) سالف الأحقاب قائمة موجودة ، تشير إلى معرفته بكف وبنان ، وتومئ إلى العلم بالله لكل من (٢) له قلب وعينان ، كما قال الله سبحانه : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ)(١٠٥) [يوسف : ١٠٥]. وقال سبحانه : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(٢٣) [الذاريات : ٢٠ ـ ٢٣]. وقال سبحانه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٣) [فصلت : ٥٣]. فمن شهادته سبحانه لها أنه (٣) لما كان منها مدبّر مريد ، ثمّ قرر لنا سبحانه شهادة دلائله ، بما أظهر في السماوات والأرض والأنفس من أثر جعائله ، بتوقيف منبّه لكل بصير حي ، وتعريف لا يجهل بعده إلا كل ضلّيل عميّ ، فقال سبحانه في توقيفه ، وما نبه من تعريفه : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ

__________________

(١) في (أ) و (ه) : في.

(٢) في (أ) : من كان له.

(٣) سقط من (أ) : أنّه.

٢٠٣

خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٩٩) [الأنعام : ٩٥ ـ ٩٩]. ففلق (١) الحب ـ يا بني ـ والنوى والاصباح ، وإخراج (٢) الحي من الميت والميت من الحي بأوضح الايضاح ، وما جعل من الليل سكنا ، ولباسا مكنّا (٣) ، ومن الشمس والقمر حسبانا معدودا ، وما جعل في النجوم للسارين من الهدى ، وإنشاء البشر من نفس واحدة ، فما لا تنكره فرقة ملحدة ولا غير ملحدة. وما استودع منهم في الأرحام والأصلاب ، وما استقر ـ منهم في قرار الأرض وعلى متن التراب ، وما أنزل من الماء ، من جو السماء ، وما أخرج به من خضر الألوان المختلفة ، وأصناف الحبوب المتراكبة المتصنفة ، وما أخرج به من النخل وطلعها ، وقنوانها الدانية عند ينعها ، وما أخرج به من جنات الأعناب ذوات الألوان ، وما تشابه أو لم يتشابه من الزيتون والرمان ـ فمعاين كله بما قال الله فيه مشهود ، بيّن فيه كله أثر صنع الله موجود ، لا يقدر أحد له بحجة على إنكار ، ولا يمتنع حكيم على الله فيه من إقرار.

ومن توقيفه سبحانه المكرّم ، وتعليمه تبارك وتعالى المحكم ، قوله : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢)) [يونس : ٣١ ـ ٣٢].

وكل ما ذكر الله سبحانه من هذا كله (٤) فقد علمنا بيقين ، وأدركنا بقلب وعين ، أنه مرزوق غير رازق ، ومخلوق ليس لنفسه بخالق ، ومملوك غير مالك من نفسه بشيء ، ومخرج ومحيا غير مخرج لنفسه ولا محيي ، وكل أمر السماء والأرض فقد يعاين

__________________

(١) في (ب) و (ح) : ففلق.

(٢) في (ب) و (ح) : وأخرج.

(٣) أي : ساترا.

(٤) سقط من (أ) : كله.

٢٠٤

مدبّرا غير مدبّر ، ويرى أثرا ـ بأبين شواهد التأثير ـ من مؤثّر ، فلا بد ببت اليقين من رازق ما يرى من الأرزاق ، ومدبّر ما يعاين من أثر التدبير في السماوات والآفاق ، ومالك ما يرى مملوكا غير مالك من السمع والأبصار ، ومخرج الحي من الميت والميت من الحي بمواقيت وأقدار ، ولا بد من مدبّر الأمر الأعم الكلي ، ولن يوجد ذلك (١) إلا الله الأعلى فوق كل عليّ.

ومن ذلك أيضا فقوله تبارك وتعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩)) [الواقعة : ٥٨ ـ ٥٩]. فالله سبحانه هو الخالق ونحن الممنون ، ليس لنا في ذلك غير إمناء المني من صنع ، ولا نقدر بعده لما قدّر بيننا من الموت على منع ، فتقدير صنعنا كله وتدبيره ، وتبديل خلقنا إن شاء خالقنا وتغييره ، إلى من تولاه دوننا ، وكان منه لا منا ، كما قال سبحانه : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢)) [الواقعة : ٦٠ ـ ٦٢]. فقرر سبحانه بمعلوم غير مجهول ، وذكّر بما لا ينكره سليم العقول ، من نشأة الصنع الأولى ، فتبارك الله العلي الأعلى.

ثمّ قال سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٦٤) [الواقعة : ٦٣ ـ ٦٤]. فالله هو الزارع ونحن الحارثون. ليس لنا في الزرع سوى حرثه من حيلة موجودة ولا معدومة ، ولا نقدر بعد الحرث له على إنشاء منه لسنبلة محمودة ولا مذمومة ، وقدرتنا فإنما هي على الحرث والاعتمال ، وعلى خلافهما من الترك والاغفال ، وكذلك فلله من القدرة بعد على إبطال الزرع وبلائه ، مثل الذي كان له من القدرة قبل على تثميره وإنمائه ، ولا يقدر على أمر إلا من يقدر على خلافه ، وعلى فعل كل ما كان من نوعه وأصنافه ، فمن لم يكن كذلك ، وتصح صفته بذلك ، كان بريا من القدرة عليه ، وكان العجز في ذلك منسوبا إليه ، كما قال سبحانه ، في الزرع بعد إكماله : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)(٦٧) [الواقعة : ٦٥ ـ ٦٧]. وكذلك إعذاب الماء ، وما

__________________

(١) سقط من (أ) : ذلك.

٢٠٥

يعاين من تنزيله من جو السماء ، فلا يقدر على إعذاب الماء وإنزاله ، إلا من يقد على إيجاجه (١) وإقلاله ، كما قال الله سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ)(٧٠) [الواقعة : ٦٨ ـ ٧٠]. وكل فعل فرع لا يتم إلّا بأصله ، ففاعل الأصل أولى بفعل فرع أصله ، كشجرة (٢) النار ، وأصول الأشجار ، التي هي من الأرض والماء ، والجو والسماء.

فصنع هذه الفروع لمن كان له صنع الأصول ، لا ينكر ذلك منكر ولا يدفعه إلا بمكابرة فطر (٣) العقول ، كما قال الله سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ)(٧٣) [الواقعة: ٧١ ـ ٧٣]. فكل ما نبه به (٤) من هذا ودل عليه ، فداع من معرفته سبحانه إلى ما دعا إليه.

ومن ذلك أيضا ، فقوله تبارك وتعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٧) [الحديد : ١٧]. فإذا كانت حياة الأرض بعد موتها موجودة ، وميتتها التي كانت تعلم قبل حياتها مفقودة ، فلا بد اضطرارا ثابتا ، ويقينا لا تدفعه النفوس باتّا ، من إثبات مميتها ومحييها ، إذ بان أثر تدبيره فيها ، بأكثر مما (٥) يعقل من الآثار ، وأكبر مما (٦) تعرفه النفوس من الأقدار ، مما لم ير له في (٧) الحياة قط مؤثّر ، ولم يوجد له (٨) من المدبرين قط مدبّر ، إلا من يزعم أنه من الله لا منه ، ومن يقر أنه منه يقر أنه من الله دونه ، مثل المسيح بن مريم ، وغيره ممن أعطيه من ولد آدم.

__________________

(١) أي : إملاحه.

(٢) في (أ) و (ب) : كشجر.

(٣) جمع فطرة.

(٤) في (أ) : له.

(٥) في (ب) و (ج) : ما.

(٦) في (ب) و (ج) : ما.

(٧) في (أ) و (ب) و (ج) : من.

(٨) في (ب) و (ج) : في.

٢٠٦

ومن تعريفه القريب ، وتوقيفه العجيب ، قوله سبحانه : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٨٥) [المؤمنون : ٨٤ ـ ٨٥]. فلما كانت الأرض مملوكة ومن فيها ، بما تبيّن من أثر الملك عليها ، ثبت مالكها عند معاينتها غير مدفوع ، ووجد صانعها باضطرار غير مصنوع.

ومن توقيفه ، أيضا وتعريفه ، قوله سبحانه : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦)) [المؤمنون : ٨٦]. فلما وجد ـ ما وقّف الله سبحانه عليه من ذلك ـ مربوبا غير متمنع ، بما تبيّن فيه من شواهد كل مربوب متخشّع ، وجد ربها كلها بيقين مبتوت عند وجودها ، وشهد له بالربوبية ما شهد بالصنع عليها من شهودها.

ثمّ قال سبحانه لتوقيفه وتعريفه مردّدا ، وعليهم بما لا تدفعه النفوس من الشهود (١) مستشهدا : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٨٨) [المؤمنون : ٨٨]. فلما كان كل شيء يحس بحس ، أو يعقل إن لم يكن محسوسا بنفس ، في قبضة محيطة به من قدرة وملكوت ، بما لا يدفعه (٢) عن نفسه من بلاء أو موت ، كان مليك الملكوت للأشياء كلها معلوما باضطرار ، من يجير ولا يجار عليه إذ الملكوت كلها له غير ممتنعة منه (٣) بجار.

ومما يقظ به سبحانه لمعرفته ، ودلّ منه بأوضح دليل على ربوبيته ، وما تفرد به من صنع البدائع ، وتوحّد بابتداعه من بدع الصنائع ، قوله سبحانه : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)(١١) [فاطر : ١١].

فلما أن كان خلق أبينا ، الذي هو أول إنشائنا ، وهو آدم ، الأب المقدم ، مما ذكر الله تبارك وتعالى أنه ابتدأه منه من التراب ، كنا مخلوقين مما خلق منه وإن نحن جرينا بعده نطفا في الأصلاب.

__________________

(١) سقط من (ب) و (ج) : من الشهود.

(٢) في (أ) : يدفع.

(٣) في (ه) : عنه.

٢٠٧

والدليل البتّ اليقين ، الشاهد العدل المبين ، على أن آدم عليه‌السلام بدئ من التراب وخلق ، مصير نسله ترابا إذا بلي وفرّق ، وكل مركّب انتقض من الأشياء ، فعاد إلى شيء عند (١) تنقضه بالفرقة والبلى ، فمنه ركّب وخلق غير شك ولا امتراء ، كالثلج والجليد ، والبرد الشديد ، الذي يعود كل واحد منهما إذا انتقض وفرّق ، إلى ما ركّب منه من المياه وخلق ، وكمركّب الأشجار والحبوب وغيرهما من ضروب الأغذية ، التي تعود عند بلائها إلى ما ركّبت منه من الأرضين والمياه والنيران والأهوية.

وآدم عليه‌السلام في أنه من تراب ـ وإن كان كمالا وأبا ـ كأولاده ، يجري عليه في أنه من تراب ما يجري على أجزائه وآحاده (٢) ، وما يعاين من معاد أنساله ، التي هي أجزاؤه من كماله ، إلى الرفات الجامد ، والتراب الهامد ، يلحق به مثله ، إذ هم جزؤه ونسله ، وما لحق بالأجزاء ، من الموت والبلاء ، فلا حقّ لا محالة بالكمال ، والكمال (٣) والأجزاء فجارية منه على مثال ، إذ كانت أشباها متماثلة ، وأمثالا لا يجهل تماثلها متعادلة! وأما يقين خلقه إيانا سبحانه من نطفة ، وما جعل منا أزواجا مختلفة ، في الخلقة غير مؤتلفة ، فمعاين فينا معلوم ، لا تدفعه العيان ولا الحلوم. ألا ترى أن النطفة لو لم تكن لما كنت ، ولو عدمت إذن لعدمت. وما كان إذا عدم عدمت ، فمنه غير شك خلقت وقوّمت. ألا ترى أن كون المرعى والأشجار ، مما ينزل الله لها من المياه والأمطار ، فإذا عدم الماء والمطر ، هلك المرعى والشجر ، أولا ترى أن كل ثمرة فمن شجراتها ، فإذا عدمت الشجرات عدمت ثمراتها.

وما عجّب الله به سبحانه من صنعه في تكثيره منه للقليل المفرد ، ونشره تبارك وتعالى للكثير من واحد العدد ، فأعجب عجاب ، عجب له من خلقه أولو الألباب ، بينا نحن تراب ميت إذ أحيانا ، ونطفة واحدة إذ كثرنا فأثرانا ، فجعل سبحانه منا بنطفة تمنى ، ذكرا يعاين وأنثى ، حكمة منه سبحانه لا عبثا ، كما قال تبارك وتعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً

__________________

(١) في (أ) : بعد.

(٢) في (ج) و (ه) : وأوحاده.

(٣) سقط من (ب) و (ج) : الكمال.

٢٠٨

فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)(٤٠) [القيامة : ٣٦ ـ ٤٠].

فصرّفنا بعد خلق خلقا ، ترابا ثمّ نطفة ثمّ تارة علقا ، تصاريف لا يدّعي على الله فيها مدع دعوى ، فيعلن بدعواه فيها ولا يسر (١) بها نجوى ، تبريا إلى الله الخالق منها ، وتضاؤلا في جميع الأشياء عنها.

وكل هذه التصاريف فلا بد لها من مصرّف ، وما عدّد من شتيت الأصناف فلا بد لها من مصنّف ، لا تدفع الألباب وجوده ، ولا يكذّب إلا كاذب شهوده.

وما ذكر سبحانه من حمل كل أنثى ووضعها بعلمه ، فما لا ينكره أحد وهبه الله حكمة من حكمه ، وما لا يأباه منقوص بعد التقرير إلا بمكابرة منه لعقله ، مع الاقرار منه لنا صاغرا راغما بمثله ، وإذا كان بمثله مقرا ، كان بإنكاره له مكابرا ، بل يعطى فيأبى (٢) ، إلا مجانة وألعابا ، إنما هو أصغر صغرا ، وأيسر أضعافا قدرا ، من حمل الأنثى ووضعها ، وتأليف أعضاء الولدان وجمعها ، وما فيها من حسن التصوير ، وداخل معها في (٣) لطيف التدبير ، لا يقوم معتدلا ، ولا يبقى متصلا ، طرف (٤) عين ، بأيقن يقين ، إلا بعلم من عليم ، وتدبير متقن من حكيم ، لا تلمّ به سنة ولا نوم ، ولا تنازعه الأشغال ولا الهموم.

وكذلك تعمير المعمّر ، وما ينقص له من عمر ، فلا يكون أبدا إلا في كتاب ، إذ كانت الأيام والليالي بحساب ، ولا يكون نقص العمر وزيادته ، إلا لمن به قوامه ومادته ، ممن (٥) يدبر الأيام والليالي ، ولن يوجد ذلك إلا عن الله الكبير المتعالي ، ولا (٦) يكون كتاب ذلك الذي ـ هو علمه ـ على من وسع الأشياء كلها تدبيرا ، إلا خفيفا ـ لا

__________________

(١) في (أ) : يسير.

(٢) في جميع المخطوطات : فلا يأبى. والكلام غير مستقيم وأشار في (أ) إلى نسخة بأن (فلا) محذوف ، ولعل ما أثبت هو الصواب والله أعلم.

(٣) في (أ) و (ه) : من.

(٤) في (ب) و (ج) و (د) : طرفة.

(٥) في (أ) : فمن.

(٦) في (أ) : ولن.

٢٠٩

يؤده ـ حفظه ـ عليه تبارك وتعالى كما قال : يسيرا ، ثمّ أخبر سبحانه صدقا ، ونبّأ في كتابه حقا ، بقدرته على أن يخلق من الأشتات المختلفة ، واحدا غير مختلف في الصفة ، لأنه من قدر على خلق الأشتات من المؤتلف الذي لا يختلف ، قدر على خلق الواحد المشتبه من الأشتات التي لا تأتلف ، كخلقه سبحانه لأحدان (١) ، ما خلق من الدر واللحمان ، من مختلف البحار وأشتاتها ، بأبين اختلاف من أجاجها وفراتها. فجعل سبحانه منها ، مع خلافه بينها ، لحما واحدا مشتبها طريا ، ولباسا واحدا من الدر حسنا بهيا ، وحمل سبحانه على ظهورها ، مع خلافه بينها في أمورها ، الفلك المشحون السائر ، وردها بعد التفريغ فيه مواخر (٢) ، ليعلم ـ من عجيب تدبير أمرها ، واختلاف (٣) الحال في مسيرها ، إذ تسير شاحنة مالية ، كما تسير ماخرة خالية ، وإذ تسير بحاليها جميعا في أجاج البحار ، كما تسير بهما في فرات الأنهار ـ أن لها لمسيّرا لا تختلف في قوته الأشياء ، ومدبرا قويا لا تساويه الأقوياء ، وأن تسييرها مقبلة ومدبرة ، وشاحنة في البحرين وماخرة ، إلى من يدبر ما سارت به من مختلف الرياح المسيّرات ، ومن يملك ما جرت فيه من الماء الأجاج والفرات ، ومن له ملك ما لو لا هو لم تكن الرياح الجاريات ، ولم يوجد الملح (٤) من المياه ولا الفرات.

ومن إيلاجه سبحانه الليل في النهار ، وما قدر بهما من المواقيت والأقدار ، وتسخيره سبحانه للشمس والقمر ، اللذين بهما دبّر مسير الفلك في البحار كل مدبّر ، كان لتدبيره ـ في المسير بهما في بحر ـ حكمة ، أو فيهما (٥) لفلك بعد الله من نجاة عصمة ، لما جعل سبحانه فيهما من الضياء ، وبصّر بهما في المسير من القصد للأشياء ، وبصّر تبارك وتعالى بغيرهما ، إذ فقد (٦) في ظلم الليل ما جعل من البصر بتسخيرهما ، من

__________________

(١) في (د) : الاحداث ، مصحفة. والأحدان : جمع أحد ، واللحمان : جمع لحم.

(٢) جاريات.

(٣) في (أ) : عجيب تدبيرها ، وباختلاف.

(٤) في (د) : المالح.

(٥) في (أ) و (ج) و (د) : فيه.

(٦) في (أ) إذا افقد. وفي (د) : إذ أفقد.

٢١٠

النجوم السّيّر التي جعلها الله هدى للسارين (١) في الظلمات ، سروا في البحار أو كان سراهم في الفلوات. كما قال الله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧)) [الأنعام : ٩٧].

وتسخير ما ذكر الله سبحانه من الشمس والقمر ، وتسخيره لغيرهما من النجوم السّيّر ، فظاهر بحمد الله غير متوار ولا خفي ، يبصره عيانا كل ذي عقل حيي ، لما فيها من آيات التسخير ، وبيّن ما (٢) معها من دليل التدبير ، بتفاوت نورها ، وغيره من أمورها ، في السرعة والإبطاء ، والظهور والخفاء ، والرجوع والتّحيّر ، والدأب (٣) في التدوّر ، فهي راجعة في المسير ومتحيّرة ، ومقبلة بالدءوب (٤) ومدبرة ، فهذه حال المسخّر غير مرية ولا شك ، جرى بها فلكها أو كانت جارية بأنفسها في الفلك. والتفاوت بينها (٥) في الضياء ، فكغيره من التفاوت بين الأشياء ، ولا يقع حكم التفاوت ، أبدا بين متفاوت ، إلا كان له وفيه ، من فاوت (٦) بينه في حاليه ، وكان مملوكا اضطرارا غير مالك ، وكان ملكه لمن أسلكه من التفاوت في تلك المسالك. وكذلك حال (٧) تفاوت هذه النجوم ، يجري من الله فيه (٨) بحكم محكوم ، ولله سبحانه من (٩) ملك كل نجم وفلك ماله من ملك كل مملوك ، والحمد لله إله الآلهة وملك الملوك ، ومدبر كل نجم وغيره ، بما لا يخفى من أثر تدبيره ، في الهيئة والتصوير ، والمقام والتحيير والتيسير ، ذلك قوله سبحانه فيما وصفنا من قدرته على خلق الواحد المشتبه من شتيت الأصناف ،

__________________

(١) في (أ) : للسائرين.

(٢) في (أ) و (د) و (ه) : وبين معها.

(٣) التحيّر : من الحور. أي : الرجوع. عطف تفسيري. وفي (ب) و (ج) و (د) : الدءوب.

(٤) في (أ) : للدوب.

(٥) في (ج) : وتفاوت ما بينها في الضياء ، فكغيره من تفاوت ما بين الأشياء.

(٦) في (ج) : يفاوت.

(٧) في (ج) : حكم.

(٨) في (ج) : فيها.

(٩) في (ج) : في.

٢١١

وخلقه للكثير المختلف من الواحد الذي ليس بذي اختلاف ، وما ولي الله سبحانه من تدبير النجوم وتسخيرها ، وإجراء الفلك في مختلف البحار وتسييرها ، وإيلاجه سبحانه الليل في النهار ، وتقديره لذلك كله بأحسن الأقدار ، (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)(١٣) [فاطر : ١٢ ـ ١٣]. فصدق الله تبارك وتعالى ، ذو الملك والقدرة والأمثال العلى ، إنه لهو الله ربنا ، ومنّا منه كان خلقنا وتركيبنا ، له الملك ومنه عجيب التدبير ، ومن دعي معه أو دونه فما يملك من قطمير ، والقطمير : فأصغر ما يملكه متفرد به مالك ، أو يشرك مليكا في ملكه مشاركه.

فكل ما ذكر الله من هذه الأمور ، فنيّر (١) بيّن غير مستور ، يشاهده ويحضره ، ويعاينه ويبصره ، من آمن بالله شكرا ، أو صد عن الله كفرا.

أو لا تسمع قوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٣٣) [الأنبياء : ٣٠ ـ ٣٣]. ففتق السماوات والأرض فيهن ظاهر لا يتوارى ، يراه ويعاينه كل ذي عين ترى ، وما يعاين فيهن ويرى فتقا ، فشاهد على أنهن كنّ قبله رتقا ، إذ لا يكون فتق إلا لمرتتق ، كما لا يكون رتق إلا لمفتتق ، ولا فتح إلا لمنغلق. ولا بد يقينا لكل مفتوق من فاتقه ، كما لا بد لكل مفتوح من فاتح أغلاقه (٢) ، وما جعل الله من الماء من

__________________

(١) في (د) و (ه) فبين بين. وفي (ج) : فمنير بأثر التدبير من الله غير مستور.

(٢) في (أ) : علاقه.

٢١٢

الحيوان ، فموجود ما ذكر الله منه بالعيان ؛ لأن كل شجرة حية قائمة (١) ، أو دابة ناطقة أو بهيمة ، فمن الماء جعلتها ، وبه قامت جبلتها.

ألا ترى أن الشجرة إذا فقدت من الماء غذاءها ، وفارق الماء قلبها ولحاها (٢) ، يبست فماتت ، وانحطمت فتهافتت ، فذلك (٣) الدليل على أن من الماء جعلت ، إذ كانت إذا عدم الماء عدمت.

أولا ترى أن لو لا مياه الذكران والإناث التي هي النطف ، إذا (٤) لما وجد من البشر والبهائم طارف يطرف ، فذلك الدليل على أنهم من الماء جعلوا ، إذ كان الماء إذا عدم عدموا ، وذلك قوله سبحانه : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ)(٧) [الطارق : ٥ ـ ٧]. وقوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) [الفرقان : ٥٤].

[حكمة خلق الجبال]

وما جعل الله سبحانه في الأرض من رواسي الجبال ، وغيرها مما ثقّلها به من الأثقال ، كيلا تميد بمن عليها من الانسان ، وغيره من أنواع الحيوان ، الذي لا بقاء له (٥) ولا قوام مع الميدان ، فموجود بأيقن الايقان ، إذ توجد بالعيان الأفلاك تمر من تحت الأرض دائرة ، وتخفى بممرها تحتها وتظهر عليها سائرة ، ولا يمكن أن يكون مسيرها ، تحتها ومقبلها ومدبرها ، إلا في خلاء أو عراء ، أو هواء أو ماء ، وأي ذلك ما كان مسيرها مقبلها ومدبرها (٦) فيه ، احتاج من على الأرض من ساكنها إلى ما جعلهم

__________________

(١) كل المخطوطات قدمت كلمة (قائمة) على (حية) وتأخيرها اجتهاد مني.

(٢) لحاها : قشرها.

(٣) في (ج) : وذلك.

(٤) في (أ) و (د) و (ه) : بحذف إذا.

(٥) في (أ) : التي لا بقاء لها.

(٦) سقط من (أ) و (ج) و (ه) : مقبلهما ومدبرها. وفي (ب) و (ج) : قدم كلمة (فيه) على قوله ـ

٢١٣

محتاجين إليه ، من تثقيل قرارهم بما ثقّله الله من رواسي الجبال ، وغيرها مما ثقلها به سبحانه مما عليها من الأثقال ، لكيما تكون كما قال الله : قرارا ، ولما جعله الله خلالها أنهارا ، ولو لم تكن سكنا قارا ، لما احتملت من أنهارها نهرا ، ولو مادت لاضطربت غير مستقرة ولا هادية ، ولو لم تستقر وتهدأ لكانت أنهارها متفجرة غير جارية ، لا ينفع ما جعل الله حاجزا وبرزخا ، وحبسا ثابتا مرسخا ، بين (١) منسبح عذب مياهها وملحه ، ومفسد أمورها ومصلحه ، فاختلط فراتها بأجاجها ، وبطل ما جعل فيها من سبل منهاجها ، حتى لا يكون لفلك فيها سبيل مسير ، ولا لطامي جم مياهها صوت خرير ، ولو كان ذلك ، فيها كذلك ، لكان فيها من فساد التدبير ، وجفاء الفعل في حسن التقدير ، ما لا يجهل ولا يخفى ، لكنه تبارك وتعالى ألطف في التدبير لطفا ، وأعلم بالأمور كلها علما ، من أن يدبر إلا محكما. ألم تسمع لقوله سبحانه : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١)) [النمل : ٦١].

فإن قال قائل : فما جعل من الأثقال عليها والجبال لا يزيدها إلا ثقلا ، وكل ما ازداد ثقلا هوى وذهب سفلا ، فنحن إذن نهوي سافلين ، وقد نرانا بالعيان عالين ، فهذا من القول تناقض واختلاف ، لا يصح لذي لب به إقرار ولا اعتراف؟!

قلنا : قد قيل فيما تحت الأرض وما يحملها ، ويمسكها بحيث هي ويقلها ، أقوال كثيرة غير واحدة ، قالتها فرق ملحدة وغير مخلدة.

فمنهم من قال تحت الأرض خلاء ، ومنهم من قال تحتها هواء ، ومنهم من قال تحتها لج ماء ، ومنهم من قال ليس تحتها شيء من الأشياء ، وهي غاية الثقل ومنتهاه ، وكل ثقيل فإليها انتهاه ، فليس لجرم من الأجرام ثقلها ، ولا شيء من الأشياء في الثقل مثلها ، فهي أثقل الأثقلين ، وأسفل الأسفلين ، وما كان وهو أخف منها ، فغير شك أنه مرتفع عنها ، أو قار عليها ، أو داخل فيها ، وقرارها بحيث هي زعموا قرار طبيعي ، ومنهم من قال إن قرارها بحيث هي قرار موضعي ، وإنها إنما ثبتت بحيث هي من

__________________

مقبلهما ومدبرها ، والأوفق لنسق الكلام ما أثبت.

(١) في (أ) : من.

٢١٤

موضعها ، واستقرت ثابتة في موقعها ، لأنها زعموا معتدلة في الوسط ، غير مائلة إلى جهة من الجهات بفرط ، مستوية كاستواء كفة الميزان ، ممتنعة لاستوائها عن الميلان ، يمينا أو شمالا ، أو علوا أو سفالا (١) ، وقال حشو هذه الأمة المختلف ، الذي لا يفقه ولا يتصرف (٢) ، قرار الأرض زعموا على ظهر حوت (٣) ، ونعتوا حوتها في ذلك بألوان من النعوت ، وأشبه هذه الأقوال عندنا بالحق ، وأقرب ما قيل به فيها من الصدق ، أن يكون ما تحت الأرض خلاء منفهقا ، وهواء من الأهوية منخفقا (٤) ، ليس فيهما لسالكهما رد يرده ، ولا للمقبل والمدبر فيهما صد يصده ، لقول الله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)) [الأنبياء : ٣٣].

وليس أحد من هذه (٥) الفرق كلها التي وصفنا ، وإن قالوا من مختلف الأقوال بما ألفنا ، إلا مقر لا يناكر ، ومعترف لا يكابر ، أن الشمس والقمر يسلكان بأنفسهما ، أو يسلك فلكهما بهما ، فيما يرى من دورهما ، ويعاين في كل حين من مرورهما ، من تحت الأرض لا من فوقها ، يعرف ذلك بغروب الشمس في كل يوم وشروقها ، لا يسلكان

__________________

(١) في (أ) و (ب) : سفلا. وفي (د) : أسفالا.

(٢) في (أ) : يصرف. وفي هامش (د) : يتعرف. ولعله الصواب.

(٣) أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، والخطيب في تاريخه ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس ، قال : إن أول شيء خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : يا رب وما أكتب؟ قال : اكتب القدر ، فجرى من ذلك اليوم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، ثم طوي الكتاب وارتفع القلم ، وكان عرشه على الماء ، فارتفع بخار الماء ففتقت منه السماوات ثم خلق النور فبسطت الأرض عليه ، والأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون ، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ، فإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة ، ثم قرأ ابن عباس : (ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ). الدر المنثور ٨ / ٢٤٠.

وقد ذكره المسعودي في مروج الذهب ١ / ٢٨ ، واستنكره محققه الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد.

ولا شك أن هذه من الخرافات والدسائس الإسرائيلية التي غزت كتب الحديث والتفسير عند المحدثين.

(٤) أي : متحركا. وفي (أ) : متخفقا. وفي (ب) و (ج) و (ه) : متحققا.

(٥) سقط من (ب) و (ج) : هذه.

٢١٥

يمينا ولا يسارا ، ولا يختلف مسلكهما تحتها ليلا ولا نهارا ، والشمس والقمر فجسمان ، مدركة جسميتهما بالعيان ، يذرعان ذرع الأجسام ، وينقسمان بأبين الانقسام ، لهما أوساط وأطراف ، وفيهما كل وأنصاف ، والأرض فذات جسم مصمت معلوم ، لا يمكن أن يسلكه جسم مثله من النجوم ، ولا يمكن أن يسلك جسم (١) إلا في هواء أو خلاء ، أو فتق إن سلك في أرض أو ماء ، أو في جو من الأجواء ، وإن كان مسلكه من الأرض أو الماء ، إنما يكون في فتق ففي الخلاء يسلك أو الهواء ، وإن هو احتجب عن العيون فلم ير. وإن كان مسلكه في فتق (٢) من أرض أو ماء ، لا فيما قلنا به من هواء أو خلاء ، انتقض ما أجمعوا عيانا عليه ، واجتمعت أقوالهم جميعا فيه ، من أن مسلك النجوم ، من وراء قاصية التخوم.

وما جعل الله في الجبال الرواسي ، وغيرها من القنان (٣) الشّمّخ الطوال العوالي ، من فجاج السبل ، ومن الطرق الذّلل ، فما لا يمتري ـ في وجود صنعه وتقديره ، بما يرى فيه من إحكام الصنع وتدبيره ـ منصف أنصف في نظر لنفسه ، قاض على الأمور كلها (٤) بحقيقة درك حسّه ، لأنه قد أدرك بحسه دركا بتا (٥) ، وأيقن بقلبه إيقانا (٦) مثبتا ، أن أصغر ما يرى من هذه الفجاج سبيلا ، لم يتهيأ لسالكه سلوكه ولم يمكنه حتى ذلّل تذليلا ، وأن هذه الفجاج التي جعلت سبيلا ، وهيّئت مع صعوبتها طرقا ذللا ، لم تتأت وتتواطأ ، سبلا وصرطا (٧) ، في حزون (٨) الجبال الشوامخ ، وبطون البيدان (٩)

__________________

(١) في (ب) : ولا يمكن الجسم أن يسلك. وفي (ج) : ولا يمكن جسما.

(٢) في (ب) و (ج) : من الأرض وماء. وفي (د) : وإن كان مسلكه بين الأرض والماء.

(٣) القنان : جمع قنة ، والقنة قمة الجبل.

(٤) في (ب) و (ج) و (د) : الأمور فيها.

(٥) في (أ) : باتا.

(٦) في (ب) و (ج) و (ه) : يقينا.

(٧) الصراط : جمع صراط.

(٨) والحزون : جمع حزن ما غلظ من الأرض.

(٩) البيدان : جمع بيداء. الصحراء.

٢١٦

الرواسخ ، إلا بقوة أيد من قوي شديد ، وتدبير رشيد (١) من عزيز حميد ، لا يؤده حفظ شيء ولا صنعه ، ولا يمتنع منه قوي وإن عز تمنّعه (٢) ، ذلك الله العزيز الأقوى ، ومن لا يماثل في شيء ولا يساوى ، فيصعب عليه ما يصعب على الأمثال ، من صنع فجاج رواسي الجبال ، وما جعل فيها من السبل المسهلة ، وما منّ به في ذلك من النعم المفضلة ، التي لا يمن بمثلها مآنّ (٣) ، ولا يحتملها سوى إحسان الله إحسان ، ولا يدعي المنة فيها مع الله أحد ، ولا يقوم بها سوى مجد الله مجد.

ومن ينكر إلا بمكابرة لنفسه ، أو إكذاب لحقائق درك حسه ، أن السماء جعلت كما قال الله سبحانه : (سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء : ٣٢]. وقد يعاين سمكها عيان عين مرفوعا ، وآياتها من نجومها دائبة غروبا وطلوعا ، ونرى السماء كما قال الله سبحانه محفوظة في مكانها ثابتة غير زائلة ، ونرى الشمس والقمر وغيرهما من نجومها مقيمة على هيئة واحدة غير حائلة ، ونعلم يقينا ، ونوقن تبيينا (٤) ، أنه مستنكر مدفوع ، ومقبح في اللب مشنوع ، أن يتوهّم حفظ مثل (٥) ما ذكرنا ، ودوام ما قد عاينا وأبصرنا ، دائما ثابتا مقيما ، ومن البلاء والزوال سليما ، إلا بحافظ عزيز ، وحرز من الحفيظ حريز ، لا تحيط (٦) به الملالات (٧) ، ولا تلتبس به الغفلات ، ذلك الله العزيز الحكيم ، المقتدر العليم ، ومن يشك فيما قال الله من إعراض الناس عن آيات السماء ، وهم بكل ما فيها من آياتها أجهل الجهلاء ، لا يعتبرون من عبرها (٨) بظاهر مقيم ، لا ولا بسائر دائب مديم ، لا يني في مسيره ولا يفتر ، يخفى في مسيره مرة ويظهر ، مدبر لما (٩) يحث حثا ، لا يحتمل

__________________

(١) سقط من (ب) و (ج) : وتدبير رشيد.

(٢) في (أ) : بمنعة.

(٣) في (أ) و (ه) : منان.

(٤) في (أ) : بتا.

(٥) سقط من (أ) و (ه) : مثل.

(٦) في (أ) و (د) و (ه) : تختلط.

(٧) الملالات : جمع ملالة ، وهي السئم.

(٨) في (ب) و (ج) : غيرها.

(٩) في (ب) : بما. وسقط من : (أ) و (د) و (ه).

٢١٧

غفلة ولا عبثا ، في رجوع ولا مقام ولا مسير ، ولا في شيء مما له من صنع ولا من تدبير.

ومن تنبيهه أيضا قوله تبارك وتعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)(٢٠) [الغاشية : ١٧ ـ ٢٠]. فخلق الإبل الذي هو صنعها (١) فيه موجود ، ورفع السماء معها معاين مشهود ، ونصب الجبال أوتادا ، وسطح الأرض مهادا ، متيقن معلوم ، ومعاين مفهوم ، وهذه كلها فقد ثبتت صنعا ، وثبت كل صنع بدعا ، بما بان فيها ، وشهد عليها ، من دلائل الصنع وتدبيره ، ومعالم البدع وتأثيره.

فأين خالق الإبل وصانعها؟! وممسك السماء ورافعها؟! وناصب الجبال وموتدها؟! وساطح الأرض وممهدها؟! إذ لا بد اضطرارا لكل مصنوع من صانع ، ولكل مرفوع من الأشياء كلها من رافع ، ولكل منصوب موتد من ناصبه وموتده ، ولا بد لكل مسطوح ممهّد (٢) من ساطحه وممهده ، ذلك الله رب العالمين ، وصانع الصانعين ، الذي جعل الأرض والإبل والجبال صنعا له مصنوعا ، والسماء سقفا بحفظه له ثابتا محفوظا مرفوعا.

ومن توقيفه وتفهيمه ، وتنبيهه وتعليمه ، قوله سبحانه : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها)(٣٢) [النازعات: ٢٧ ـ ٣٣]. فلا بد في كل حس وعقل ، لا عند مضرور بخبل (٣) ، لكل بناء ـ غاب أو حضر ـ من بانيه ، ولا بد لكل مرفوع ومسوّى من رافعه ومسوّيه ، ولا بد لكل ليل مغطش من مغطشه ، كما لا بد لكل عرش معروش من

__________________

(١) في (ب) : صنعه.

(٢) في (ب) و (ج) : وممهد.

(٣) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) و (ه) : فلا بد في حس ولا عقل ولا عند مضرور بخبل إلا أنه شكّل في (د) على كلمة (لا) في قوله : ولا عقل. وفي نسخة أشار إليها المحقق ب (ص) فلا بد في كل حس وعقل فحذفت الواو من قوله (ولا عند) ليستقيم المعنى.

٢١٨

معرشه ، ولا بد لإخراج الضحى ، من مخرج وإن كان لا يرى ، ولا بد لدحو الأرض من داحيها ، لما تبيّن من شواهد الدحو عليها ، ولا بد لمخرج المرعى والماء من مخرجه ومرعيه ، ولا بد لما أرسي من الجبال من مرسيه ، لما فيها بيّنا من علم كل مرسى ، وإن كان هذا كله يدرك عقلا وحسا ، فلا بد من صانع السماء وبانيها ، ورافع سمكها ومسويها ، ومغطش ليلها ومخرج ضحاها ، ولا بد ممن خلق الأرض ودحاها ، وأخرج منها ماءها ومرعاها ، ومن نصب الجبال وأرساها ، ثمّ لا بدّ إذ (١) لم يوجد ذلك شيئا مما وجد (٢) بالحواس الخمس ، ولا شيئا مما أدرك بالعقول (٣) من كل نفس ، أن يثبت بأثبت الثبت ، وأيقن اليقين البتّ ، أن صانع ذلك كله ، ومن تولى فيه إحكام فعله ، خلاف سبحانه لكل محسوس ، ولكل ما يعقل من النفوس.

[استدلال إبراهيم عليه‌السلام على الله]

ومن ذلك وفيه ، ومن الدلائل عليه ، قول إبراهيم عليه من الله أفضل الصلاة والسلام(٤) ، فيما دار بينه وبين قومه في الله من الجدال والخصام ، قوله تعالى : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)(٥٦) [الأنبياء : ٥٢ ـ ٥٦]. فشهد صلى الله عليه شهادة الحق لله رب العالمين ، ونبههم بشواهد الله ودلائله ، بما قد يرونه رأي عين من صنعه وجعائله.

أو لا يعلم من يعمى ويجهل؟! فضلا عمن يبصر ويعقل ، أن لو كانت ـ هذه

__________________

(١) في (ب) : إذا.

(٢) في (أ) و (ج) : وجدنا.

(٣) في (ب) و (ج) : يدرك بالعقول.

(٤) في المخطوطات : والتسليم. ولعل ما أثبت أصوب لتوافقه مع كلمة (الخصام) بعده.

٢١٩

البدائع والأصول ، وما تدركه منها عيانا العقول ، على ما يقول به فيها الجاهلون أنها كانت وجاءت ، كما أرادت وشاءت ـ لما فضل بعضها أبدا بعضا ، ولما كانت الأرض سفلا وأرضا ، ولما قصر أوضع الأشياء وأدناها ، عن درجة أرفع الأشياء وأعلاها ، ولكانت الأشياء جميعا سواء ، ولما كان بعضها من بعض أقوى ، حتى يكون كلها شيئا واحدا ، وحتى لا يوجد شيء لشيء منها ضدا. وقد يوجد باليقين من تضادها ، ويتبين (١) من صلاحها وفسادها ، لكل حاسة من الحواس الخمس. ومن سلمت له حواسه من جميع الإنس ، فقد يستدل بما يرى فيها من الاختلاف والنقائص ، على أن لها صانعا خصها بما أبان فيها من الاختلاف والخصائص ، بريء تبارك وتعالى من شبهها في النقص والاختلاف ، متعال عما يوجد فيها أو في واحد منها من الأوصاف.

فدل سبحانه على صنعه للأشياء كلها ، بما أبان فيها من تصرف (٢) أحوالها وتنقلها.

واحتج إبراهيم صلى الله عليه (٣) ، عند محاجّته لقومه فيه ، ومنازعته لهم فيما كانوا يعبدون من النجوم معه ، وإنما هي صنع من الله صنعه ، بأفول النجوم التي كانوا يعبدون والكواكب ، ووقفهم على أن كلها صنع الله مغلوب غير غالب ، بما أراهم صلى الله عليه من الأفول فيها والزوال ، وبما أبان عليها من أثر التّبدّل (٤) والانتقال ، وتصرف ما لا ينكرونه فيها من الأحوال ، فلما أراهم أنها من الزائلين ، قال لهم : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : ٧٦]. يقول صلى الله عليه عند أفول الكواكب : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ). (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)(٧٧) [الأنعام : ٧٧]. وكذلك قال : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ). قال الله : (فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ

__________________

(١) في (أ) : ويبين.

(٢) في (ب) و (ج) : تصريف.

(٣) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) : عليه‌السلام. وفي هامش (ه) : صلى الله عليه ، وهو الأوفق لنسق الكلام.

(٤) في (ب) و (ج) : التبديل.

٢٢٠