مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

١

٢

مقدمة التحقيق

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

من حق العقيدة على الكتّاب وعلى الناس أن تتناولها الأقلام الجادة ، وأن تكثر فيها البحوث القيمة ، وأن تلقى من العناية ما يناسب جلال موضوعها.

وفي عصرنا هذا تصدر مطبوعات فوق الحصر لشغل الأعين والأذهان بالمسائل التافهة من لهو الحياة ولغوها ، وترف الحضارة ومجونها.

وهناك لا ريب كتب ضخمة تعالج حقائق العلم ومشكلات الوجود ، لكنها ـ للأسف ـ قلّما تتعرض بالاهتمام الواجب للإيمان بالله واليوم الآخر ، وما يستتبعه هذا الإيمان من تصحيح نظرتنا للدنيا وتفهّم رسالتنا فيها.

ولو كان الكلام عن الله وما ينبغي له من وقار ، ومن لقائه المنتظر ، وما يتطلبه من استعداد ، وعن رسله الأكرمين وما يجب لهم من اتّباع ... لو كان ذلك من النوافل التي يسوغ للمرء أن يتكاسل عنها ، ويزهد فيها ، لما كان علينا من بأس في غضّ النظر عن «العقيدة» وبحوثها!!

أما والأمر مقامرة خطرة النتيجة ، قد يربح الإنسان فيها حاضره ومستقبله ، وقد يخسرهما جميعا .. فلا بد من التفكير العميق في هذه المسألة وبذل الجهد في الوصول إلى قرار تستريح إليه النفس.

فلننظر إذن إلى الموضوع نظرة الإنسان العاقل إلى كل مشروع فيه هلاكه أو نجاته ، فهو يلتفت إليه بكل ما يملك من قوة وعزم.

وكثيرة هي الكتب التي تدفع بها المطبعة العربية في حقل الدراسات الإسلامية إلى أيدي القراء .. وعظيم ذلك الرواج الذي تلقاه الكتب التي تتصل بمباحث الإسلام بسبب وثيق أو ضعيف!

لكن هذه الظاهرة التي يسعد بها الكثيرون لا تحمل كل الإيجابيات الموضوعية الباعثة على السعادة والسرور؟!

فنحن أمة مستهدفة ، تواجه العديد من التحديات التي يفرضها عليها أعداء كثيرون ... وهذه التحديات منها ما هو ذاتي وموروث .. ومنها : ما هو خارجي ، أعد ليلعب دوره المعوق والمدمر على أرضنا ، وضمن المصادر الفكرية الموجهة لأمتنا ، وأيضا

٥

ليحرس وينمي قيود «التخلف ـ الذاتي ـ الموروث»!.

وإذا كان الإسلام هو الإيديولوجية الطبيعية لأمتنا الإسلامية ، والحصن الذي تحصنت به وهي تواجه التحديات التي فرضها عليها الأعداء منذ عصر الفتوحات ، وحتى توراتها التحررية الحديثة ـ وعبر تحدياتها مع التتار والصليبيين ـ ... فإن الكثير من المسمى إسلاما مما تحمله المطابع إلى القارئ المعاصر لا يمثل «الفكرية القادرة» على أن تكون البديل للتشوه المعرفي ، والمسخ الحضاري ، الذي تمارسه معنا الحضارة الغربية العنصرية الاستعلائية.

والكثير من هذا الذي يسمى «إسلاما» عاجز عن أن يمثل «الحصن» الذي يعين الأمة في موقفها الراهن ، على أن تحرز النصر فيما فرض عليها من مواجهات.

إن أمتنا لن تستطيع مواجهة الحضارة الغربية المادية ، ذات العقلانية المفرطة ، بفكر يغيّب دور العقل .. ويدعي أن هذا هو الإسلام!

ولن تستطيع أن تواجه قوة التقدم العلمي ، الذي يتسلح به الغرب ، بسيل من الكتب يغرق العقل في تفاصيل التفاصيل عن القصص الخرافي ، أو الإسرائيلي الذي يروجه البعض باسم الإسلام!

فإذا كنا جادين حقا في إعداد القوة المستطاعة ، الكافلة لإرهاب أعداء الله ، وأعداء الأمة ، والضامن حقا استخلاص الحقوق السلبية ، فلا بد لنا من الوعي بعوامل التقدم التي صنعت الازدهار الحضاري لأمتنا ، وبعوامل الضعف التي كانت سببا للتراجع والانحطاط.

والوعي كذلك بضرورة التفاعل الحضاري مع الآخرين .. وأهداف هذا التفاعل .. والضوابط والشروط التي تحول بينه وبين التحول إلى التبعية ، أو الارتداد إلى العزلة والانغلاق ...

وإذا كان صراع أمتنا ـ بعد ظهور الإسلام ـ مع التيارات الفكرية ، التي مثلت محاولات الاختراق المعادي ، قد تمخض عن صياغة عقلانيتنا العربية الإسلامية المتميزة ، التي تجسدت في علم الكلام ، فلسفة مؤسسة على الدين ، تفاعل فيها العقل والنقل ، وتآخت فيها الحكمة والشريعة ... فإن هذه العقلانية المتميزة هي التي صنعت حقبة

٦

الازدهار الحضاري التي أضاءت فيها حضارتنا أرجاء الكوكب الذي نعيش عليه.

كذلك كانت النصوصية الجامدة ، التي أخلت بالتوازن وبالوسطية الإسلامية ، عند ما انحازت لحشو النقل ضد العقل!!! وتعبدت بظواهر النصوص والمأثورات ـ هي البداية لحقبة الجمود والتراجع ، وتوقف الخلق والإبداع والاجتهاد.

ومما لا ريب فيه أن للزيدية الدور الأصيل والبارز في تحرير العقل ، من خلال نظريتهم وتصورهم التنزيهي لتوحيد الخالق ـ جل وعلا من الخرافة ، والشعوذة ... ومن العبودية لكل الطواغيت ...

وتحرير إرادة الإنسان من الجبرية والتواكل ، الذي يشل إرادة الأمة لحساب الأعداء الذي يفرضون عليها التحديات ، من خلال نظريتهم وتصورهم للعدل.

وفي تحرير الأمة من أنظمة الجور ، والفسق ، والضعف ، والفساد ، من خلال نظرية الجهاد والثورة ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ الأمر الذي يحيي الأمة إحياء حقيقيا ويضمن لها استجابة الدعاء.

* * *

٧

ترجمة المؤلف

هو أبو محمد القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام.

أبوه :

إبراهيم طباطبا بن إسماعيل لقّب (طباطبا) لأن أباه أراد أن يقطع له ثوبا وهو طفل فخيره بين قميص وقبا ، فقال : طباطبا. يعني : قباقبا. وقيل : بل السواد لقبوه بذلك. وطباطبا بلسان النبطية : سيد السادات.

أحد العلماء الكبار والفرسان الشجعان ، الذين كانت تخافهم الدولة العباسة ، كان ذا خطر وتقدم ، وهو ممن خرج مع الإمام الحسين الفخي ، وظل في حبس المهدي وموسى وهارون بعده حتى مات في الحبس.

قال الإمام القاسم العياني : كان أبوه إبراهيم بن إسماعيل بواد في شامي ينبع يسمى الغيص (١) يغمر بعض ضياعه ، وكانت قد ظهرت دعوته وشهر استحقاقه للمقام ، فكان الخليفة يخافه لذلك ، فلم يزل يعمل فيه حتى أرسل من أحاط به في ضيعته ، وهو في غفلة من امره فقبض عليه‌السلام ومضوا به حتى أوصلوه الخليفة ، فلما وصلوا جعلوه في السجن ـ والخليفة يومئذ ببغداد ـ في سجن العامة وطولوا سجنه ، وأثخنوه بالحديد.

وكان أخذه وولده القاسم حمل في بطن أمه ، فأقام في السجن سبع عشرة سنة ، ثم عمل فيه رجل من شيعته من أهل المدينة مع بعض الحباسين ، فلما أسعفه واستخرجه في ساعة غفلة من الناس ، وكان شيعيّه هذا حطّابا ، والحطب هنالك يجمع ويحتكر حتى ربما اجتمع عند صاحبه مثل التل ، فعمل وسط ذلك الحطب بيتا من الحطب ، وفيه مصالحه ثم أدخله إياه ، فلما فقد من الحبس طلب وحفظت أقطار الدنيا عليه ، وقلبت

__________________

(١) في المخطوط : الفيض ، وهو (العيص) من أودية المدينة. انظر مطلع البدور ، وفاء الوفاء ٤ / ١٢٧٠.

٨

المدينة كلها خرابها ودهاليزها ومنازلها ، فلم يجدوه مع ستر الله وعونه لوليه.

فأقام في ذلك الحطب سنة ، فلما دار عليه الحول اكترى له صاحبه في الموسم محملا ، وجعل كراءه لامرأة فكان في ذلك المحمل يحجب ويصان كما تصان الامرأة ، حتى وصل مكة ودخل في الناس وتنكر وخرج يتلمس أهله وأولاده ، وكان ولده القاسم لما ولد بعده شبّ ونشأ أديبا لبيبا عالما جوادا فانتقل بأهله إلى جبال الأشعر (١) وتحرز فيها من الظالمين ، فلم يزل أبوه يسير حتى وصل منازل أهله ، فأتى فناء ولده ووجده قاعدا في حلقة في جماعة وهو فيهم منظورا إليه ، مردود مجلس الجماعة عليه ، فتوسّمه فقال : إن كان عاش ولدي فهو هذا ، فسلّم على الجماعة فردّوا أحسن التحية عليه ، وقال من أنت يا غلام؟

فقال : أنا القاسم بن إبراهيم.

قال : فأين أبوك؟

قال : في رحمة الله.

قال : فأنا هو.

قال : غلّطت!!

قال : ليس كما قلت إن له منذ قبض وقتل ما يداني العشرين السنة.

قال : فأنا هو قد حبست وطال ذلك وسلّم الله ، ثم أخلاه من الجماعة ثم سأله : أعاد عمتك فلانة ، وأمك فلانة ، وأختك ، وسأله عن أهله.

فقال له : دع عنك هذا فإنه ربما يأتي بعض مردة بني آدم بمثل هذا ، ولم يقربه إلى معرفة.

قال : امض إلى أهلك فأعلمهم بما ذكرت لك ، فمضى إلى أهله فأخبرهم بخبر أبيه ونكرته له ، فقالت له أمه : على أبيك علم لا ينكر. قالت : في صدره ضربتان بسيف معترضتان ، على ثديه أثرهما لا يغبأ ، فإن كان ذلك فهو أبوك فعاد إليه.

فقال له : في صدرك ضربتان أثرهما باد. فقال : نعم. فأراه ذلك فلما رآه [عرفه]

__________________

(١) الأشعر جبل جهينة ينحدر على ينبع. وفاء الوفاء ٤ / ١١٢٦.

٩

حق معرفته ، وتبادرت عيناه لذلك ، واعتنقه وقدّمه إلى أهله فلم ينكروه حين رأوه (١).

وعن فترة شباب الإمام ، قال الشهيد حميد المحلي : أخبرنا الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين أبو محمد عبد الله بن حمزة بن سليمان سلام الله عليه وعلى آبائه الأكرمين ، قال : روى القاضي العالم ابن عمار ، قال : أخبرني فقيه آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عصرنا الحسين بن حمزة ، قال : أخبرني أبي النفس الزكية ، والشيبة المرضية ، حمزة بن أبي هاشم الإمام الرضى ، يرفعه عن آبائه إلى شيخ من شيوخ آل الحسن ، كان يدرس عليه فتيان آل الحسن ، وكانوا إذا جاءوا قام في وجوههم وعظمهم ، وأقسموا عليه لا فعل.

وكان القاسم عليه‌السلام من شباب ذلك العصر ، وكان إذا أتى قام في وجهه وعظمه ، فقالوا له : أيها السيد إنا قد عذرناك وهذا الفتى لك أعذر.

فقال : لو تعلمون من حق هذا ما أعلم ، لاستصغرتم ما أصنع في حقه!!

فقالوا : وما تعلم؟

قال : هذا الفتى قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يخرج من ذريتي رجل مسروق الرّباعيتين ، لو كان بعدي نبي لكان هو (٢).

أمه :

هند بنت عبد الملك بن سهل بن مسلم بن عبد الرحمن بن عمرو بن سهيل بن عبد شمس بن عبد ود بن نضر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي.

ولادته :

ولد سنة (١٦٩ ه‍ ٧٨٥ م).

__________________

(١) سيرة الإمام القاسم بن علي العياني / ١٤٣. ورواه ابن أبي الرجال في مطلع البدور في ترجمة الإمام إبراهيم بن إسماعيل. نقلا عن الإمام القاسم العياني / ٥١ ـ ٥٢.

(٢) الحدائق الوردية ١ / ٢.

١٠

لم تحدد المصادر التاريخية مكان مولده ، ولعل ولد بالمدينة ، لأن بعض المصادر تقول: إنه نشأ بالمدينة وسكن جبال (قدس) بأطرافها.

صفته :

كان تام الخلق ، أبيض اللون ، كثّ اللحية ، وكانت لحيته كالقطنة لشدة البياض.

ولم يكن يحلق شاربه (١).

عاش في عهد الدولة العباسية وعاصر هارون الرشيد ، والأمين ، والمأمون ، والمعتصم ، والواثق بن المعتصم ، ثم أخاه جعفر المتوكل ، لذي قتل سنة / ٢٤٧ ه‍ ، والإمام القاسم توفي سنة (٢٤٦ ه‍).

أولاده :

ذكر له المؤرخون أحد عشر ولدا من الذكور (٢).

وذكر له السيد مجد الدين المؤيدي اثني عشر ولدا ذكرا ، كما يلي :

١ ـ محمد ٢ ـ الحسن ٣ ـ الحسين ٤ ـ سليمان ٥ ـ عيسى ٦ ـ موسى ٧ ـ علي ٨ ـ إبراهيم ٩ ـ يعقوب ١٠ ـ داود ١١ ـ إسماعيل ١٢ ـ يحيى (٣).

وذكر له ابن عنبة سبعة من الذكور الذين أعقب منهم ، السالفوا الذّكر ، عدا عيسى ، وعلي ، وإبراهيم ، ويعقوب ، وداود (٤).

وذكر له أبو نصر البخاري ستة : الحسن ، وإسماعيل ، وإبراهيم ، ويحيى ، وسليمان ، والحسين (٥).

__________________

(١) الإفادة / ١٢٠.

(٢) هداية الراغبين / ٤٣٥ ، والتحفة العنبرية / ٨٢.

(٣) التحف شرح الزلف / ٤٩.

(٤) عمدة الطالب / ٢٠١.

(٥) سر السلسلة العلوية / ٢٨.

١١

وذكر الإمام أبو طالب أربعة : محمد ، والحسن ، والحسين ، وسليمان (١).

ولم يذكر أي مؤرخ ـ فيما أعلم ـ بنتا من بناته.

وقد عمل على تربيتهم وتعليمهم وتفقيههم ، في تلك المنطقة البعيدة عن العمران ، والحياة الصاحبة ، حتى صاروا من أكمل الناس علما ودينا. حتى قال عنهم السيد الهادي بن إبراهيم الوزير : كل واحد منهم يصلح للإمامة (٢).

وقال ابن عنبة : وله عدة أولاد متقدمون (٣).

ولعل يحيى أكبرهم ومن أحبهم إليه ، توفي يحيى هذا في حياة أبيه. قال الإمام أبو طالب عن الإمام الهادي : ولد بالمدينة سنة خمس وأربعين ومائتين ، وكان بين مولده وبين موت جده القاسم عليه‌السلام سنة واحدة ، وحمل حين ولد إليه ، فوضعه في حجره المبارك ، وعوّذه وبرّك عليه ودعا له ، ثم قال لابنه : بم سميته؟ قال : يحيى. وقد كان للحسين أخ لأبيه وأمه ، يسمى : يحيى ، توفي قبل ذلك ، فبكى القاسم عليه‌السلام حين ذكره ، وقال : هو والله يحيى صاحب اليمن. وإنما قال ذلك لأخبار رويت بذكره وظهوره باليمن ، وقد ذكرها العباسي المصنف لسيرته عليه‌السلام (٤).

قال ابن عنبة : فأعقب من سبعة رجال : يحيى العالم الرئيس ، ... أما يحيى بن الرسي فكان رئيسا.

وقال : وأما الحسن بن الرسي وكان بالمدينة سيدا رئيسا (٥).

وقال : والحسين السيد الجواد ، وقال : وأما أبو عبد الله الحسين بن القاسم وكان سيدا كريما (٦).

__________________

(١) الإفادة / ١١٦.

(٢) هداية الراغبين / ٤٣٥.

(٣) عمدة الطالب / ٢٠١.

(٤) الإفادة / ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٥) عمدة الطالب / ٢٠١.

(٦) عمدة الطالب / ٢٠٤.

١٢

قال : وأما إسماعيل وكان رئيسا متقدما (١).

وقال الإمام القاسم : صحبت الصوفية أربعين سنة ، ودرت المشرق والمغرب ، ولم أر رجلا أشد ورعا من ابني محمد (٢).

مشايخه

أبوه إبراهيم بن إسماعيل.

أبو بكر بن أبي أويس المدني (٣).

إسماعيل بن أبي أويس (٤).

أبو سهل سعد بن سعيد المقبري (٥).

ولا شك أن مشايخه كثر سيما وقد طاف عواصم العلم والمعرفة في زمنه ، بيد أني ذكرت مشايخه الذين روى عنهم في الأحكام لحفيده الإمام الهادي.

تلامذته

لقد كان الإمام القاسم مرجعا لسائر الديانات السماوية ، والطوائف الإسلامية في عصره ، فلقد كان مجلسه دائما عامرا بالعلماء والباحثين ، من الملاحدة والمسيحيين ، ومن علماء المعتزلة وغيرهم ، في مصر والعراق والحجاز وأينما حل ، يأتيه المسترشدون من العراق وطبرستان ، ومصر والحجاز ، كل هذا أثناء دعوته وجهاده.

ثم صار بعد استقراره في بادية الرس بالمدينة ، وتفرغه للتعليم والتأليف صار مقصدا للباحثين وقبلة للمسترشدين ، قال العلامة أحمد بن موسى الطبري ـ من أصحاب

__________________

(١) عمدة الطالب / ٢٠٢.

(٢) التنبيه والدلائل للإمام القاسم العياني / ٢٨٢ (مخطوط).

(٣) الأحكام ١ / ٣٤٦.

(٤) الأحكام ١ / ٣٥٢.

(٥) الأحكام ٢ / ٥٢٩.

١٣

حفيده الهادي ـ : ولحق بالحجاز ولزم جبلا يقال له : الرس ، فأقبل على تعليم الناس ، حتى أظهر دين جده ، ووفد إليه خلق كثير من آفاق الدنيا (١).

حدثنا أبو محمد ، عبد الله (٢) بن أحمد ، قال : أخبرني أبي رحمه‌الله أحمد ، بن محمد ، بن الحسين ، بن سلام قال : أنفذ إلينا أبو محمد ، القاسم بن إبراهيم ، بن إسماعيل ، بن إبراهيم ، بن الحسن ، بن الحسن ، بن علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى أهله الأئمة الأكرمين ، أول ما أنفذ إلينا من كتبه ، كتابا يقال له : سياسة النفس.

قال أبي رحمه‌الله : فلما قرأنا الكتاب وكنا لا نرحل إليه ، ونرحل إلى غيره من أهل البيتعليهم‌السلام ، فأسفنا على ما فاتنا منه ، وقلنا ليس من حق علوي يحسن أن يقول مثل هذا ، إلا أن نكون جواب كتابه. فرحلنا إليه ، فأقمنا عنده في أول رحلتنا إليه سنة ، ثم بعد ذلك كنا نرحل إليه في الأوقات ، ثم سمعنا منه هذا الكتاب وأوله .. (٣).

وممن حفظ لنا التاريخ ذكرهم ممن أخذوا عليه ، أولاده وأهل بيته جميعا.

ومحمد بن منصور المرادي ، والحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي ، ويحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله العقيقي صاحب (كتاب الأنساب) ، وله إليه مسائل ، وعبد الله بن يحيى القومسي العلوي الذي أكثر الناصر الأطروش الرواية عنه ، ومحمد بن موسى الحواري العابد روى عنه فقها كثيرا ، وعلي بن جهشيار ، وأبو عبد الله أحمد بن محمد بن الحسن بن سلام الكوفي صاحب فقه كثير ورواية غزيرة ، وجعفر بن محمد النيروسي ، ومحمد بن موسى الخوارزمي ، وعبد الله بن الحسن الإيوازي الكلاري ، وأبو عبد الله الفارسي ، وغيرهم كثير (٤).

__________________

(١) المنير / ١٠٠ (مخطوط).

(٢) أحمد بن محمد ، أحد أعيان الناصر ، ثم الداعي ، وكان عالما ديّنا ورعا ، توفي بعد العشر والثلاث مائة. وأحمد بن محمد بن سلّام الكوفي من ثقاة محدثي الشيعة ، وممن صحب الإمام القاسم وروى عنه ، وعن ابن عيينة ، ومحمد بن راشد ، وعباد بن يعقوب ، والحسن بن عبد الواحد القزويني ، وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الله ، ومحمد بن منصور ، وعلي بن أبي سليمان ، ومحمد بن بلال.

(٣) المكنون.

(٤) انظر الإفادة / ١١٦ ، ١٢٠ ، ١٢٥. وهداية الراغبين / ٤٣٥.

١٤

نشأ نشأة آبائه الأكرمين في أحضان الفضيلة والعلم والزهد والورع والجهاد.

خرج أخوه محمد بن إبراهيم على المأمون العباسي في الكوفة يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى سنة (١٩٩ ه‍) ، وبث الدعاة في سائر النواحي ، وأنفذ أخاه القاسم بن إبراهيم إلى مصر للدعاء إليه وأخذ البيعة له ، وكان عمر الإمام القاسم يومئذ (٢٧) أو (٢٦) سنة.

وقاتل الإمام محمد بن إبراهيم العباسيين قتالا شديدا وقتل منهم مقتلة عظيمة في وقعات عدة ، حتى قيل إنه قتل منهم مائتين ألف جندي (٢٠٠ ، ٠٠٠). ثم إنه أصيب بسهم وطعن في بعض وقعاته فاعتل ، ثم مات عليه‌السلام يوم السبت لليلة دخلت من رجب سنة (١٩٩ ه‍) ودفن في الكوفة.

البيعة الأولى سنة (١٩٩ ه‍):

علم الإمام القاسم باستشهاد أخيه محمد بن إبراهيم وهو بمصر ، فدعا إلى نفسه وبث الدعاة وهو على حال الاستتار ، فأجابه عالم من الناس من بلدان مختلفة ، وجاءته بيعة أهل مكة ، والمدينة ، والكوفة ، وأهل الري (طهران حاليا) ، وقزوين ، وطبرستان ، والديلم ، وكاتبه أهل العدل من البصرة ، والأهواز ، وحثوه على الظهور وإظهار الدعوة ، فأقام بمصر نحو عشر سنين.

وذاع صيته هنالك وانتشر خبره ، وكان بيته ملتقى للعلماء والباحثين والمناظرين ، ومناظرة الملحد كانت في مصر ، وتناهى إلى سمع المأمون خبره وخافه خوفا شديدا وضيق عليه ، وتتبع أخباره وبعث الجواسيس عليه وعلى كل من يشك أن له به صلة.

ذكر الطبري : أن رجلا من إخوة المأمون قال له : يا أمير المؤمنين ، إن عبد الله بن طاهر ـ وكان والي مصر يومئذ ـ يميل إلى ولد علي بن أبي طالب ، وكذا كان أبوه من قبله.

قال : فدفع المأمون ذلك وأنكره ، ثم عاد بمثل هذا القول ، فدس إليه رجلا ثم قال له : امض في هيئة القراء والنساك إلى مصر فادع جماعة من كبرائها إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبا ، واذكر مناقبه وعلمه وفضائه ، ثم صر بعد ذلك إلى بعض بطانة عبد

١٥

الله بن طاهر ، ثم ائته فادعه ورغّبه في استجابته له ، وابحث عن دفين نيّته بحثا شافيا ، وائتني بما تسمع منه.

قال : ففعل الرجل ما قال له ، وأمره به ، حتى إذا دعا جماعة من الرؤساء والأعلام ، قعد يوما بباب عبد الله بن طاهر ، وقد ركب إلى عبيد الله بن السري بعد صلحه وأمانه ، فلما انصرف قام إليه الرجل ، فأخرج من كمّه رقعة فدفعها إليه ، فأخذها بيده ، فما هو إلا أن دخل فخرج الحاجب إليه ، فأدخله عليه وهو قاعد على بساطه ، ما بينه وبين الأرض غيره ، وقد مدّ رجليه ، وخفّاه فيهما ، فقال له : قد فهمت ما في رقعتك من جملة كلامك ، فهات ما عندك ، قال : ولى أمانك وذمة الله معك؟ قال : لك ذلك.

قال : فأظهر له ما أراد ، ودعاه إلى القاسم ، وأخبره بفضائله وعلمه وزهده ، فقال له عبد الله : أتنصفني؟ قال : نعم. قال : هل يجب شكر الله على العباد؟ قال : نعم. قال : فهل يجب شكر بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة والتفضل؟ قال : نعم. قال : فتجيء إلي وأنا في هذه الحالة التي ترى ، لي خاتم في المشرق جائز وفي المغرب كذلك ، وفيما بينهما أمري مطاع ، وقولي مقبول ، ثم ما التفتّ يميني ولا شمالي وورائي وقدّامي إلا رأيت نعمة رجل أنعمها عليّ ، ومنة ختم بها رقبتي ، ويدا لائحة بيضاء ابتدأني بها تفضلا وكرما ، فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان ، وتقول : اغدر بمن كان أولا لهذا وآخرا ، واسع في إزالة خيط عنقه وسفك دمه! تراك لو دعوتني إلى الجنة عيانا من حيث أعلم ، أكان الله يحب أن أغدر به ، وأكفر إحسانه ومنته ، وأنكث بيعته! فسكت الرجل ، فقال له عبد الله : أما إنه قد بلغني أمرك ، وتالله ما أخاف عليك إلا نفسك ، فارحل عن هذا البلد ، فإن السلطان الأعظم إن بلغه أمرك ـ وما آمن ذلك عليك ـ كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك.

فلما أيس الرجل مما عنده جاء إلى المأمون ، فأخبره الخبر ، فاستبشر وقال : ذلك غرس يدي ، وإلف أدبي ، وترب تلقيحي ، ولم يظهر من ذلك لأحد شيئا ، ولا علم به عبد الله إلا بعد موت المأمون (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ / ٦١٥ ـ ٦١٦.

١٦

وشدد المأمون على الإمام القاسم وواليه في مصر حتى رصدا الجوائز لمن يدل على الإمام القاسم.

قال السيد أبو طالب : عن أبي عبد الله الفارسي ـ خادم القاسم وملازمه في السفر والحضر ـ قال : ضاق بالإمام القاسم عليه‌السلام المسالك واشتد الطلب ، ونحن مختفون معه خلف حانوت إسكاف ـ صانع الأحذية ـ من خلصان الزيدية ، فنودي نداء يبلغنا صوته : برئت الذمة ممن آوى القاسم بن إبراهيم ، وممن لا يدل عليه ، ومن دل عليه فله ألف دينار ، ومن البز كذا وكذا. والإسكافي مطرق يسمع ويعمل ولا يرفع رأسه ، فلما جاءنا قلنا له : أما ارتعت؟! قال : من لي بارتياعي منهم! ولو قرضت بالمقاريض بعد إرضاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله عني في وقايتي لولده بنفسي (١).

«واشتد الطلب له هناك من عبد الله بن طاهر فلم يمكنه المقام ، فعاد إلى بلاد الحجاز وتهامة ، وخرج جماعة من دعاته من بني عمه وغيرهم إلى بلخ ، والطالقان ، والجوزجان ، ومروروذ فبايعه كثير من أهلها ، وسألوه أن ينفذ إليهم بولده ليظهروا الدعوة ، فانتشر خبره قبل المتمكن من ذلك ، فتوجهت الجيوش في طلبه نحو اليمن ـ يعني جهة اليمن ـ فاستنام ـ أي انحاز ـ إلى حي من البدو واستخفى فيهم. وأراد الخروج بالمدينة في وقت من الأوقات ، فأشار عليه أصحابه بأن لا يفعل ذلك ، وقالوا : المدينة والحجاز تسرع إليهما العساكر ، ولا يتمكن فيهما من الميرة.

ولم يزل على هذه الطريقة مثابرا على الدعوة صابرا على التغرب والتردد في النواحي والبلدان ، متحملا للشدة ، مجتهدا في إظهار دين الله.

ولقد حاول المأمون كثيرا في مصافاة الإمام القاسم ليأمن جانبه ، فلم يحصل على طائل.

حكى الإمام الهادي يحيى بن الحسين عن أبيه ، أن المأمون كلف بعض العلوية أن يتوسط بينه وبين القاسم عليه‌السلام ويصل ما بينهما ، على أن يبذل له مالا عظيما ،

__________________

(١) الإفادة / ١٢٥ ـ ١٢٦.

١٧

فخاطبه في أن يبدأ بكتاب أو يجيب عن كتابه ، فقال القاسم : لا يراني الله تعالى أفعل ذلك أبدا!!

وحمل الحروي ـ وهو حي من جذام ـ إلى الإمام القاسم سبعة أبغل عليها دنانير فردها ، فلامه أهله على ذلك ، فقال :

تقول التي أنا ردء لها

وقاء الحوادث دون الردى

ألست ترى المال منهلّة

مخارم أفواهها باللهى

فقلت لها وهي لوامة

وفي عيشها لو صحت ما كفى

كفاف امرئ قانع قوته

ومن يرض بالعيش نال الغنى

فإني وما رمت في نيله

وقبلك حب الغنى ما ازدهي

كذي الداء هاجت له شهوة

فخاف عواقبها فاحتمى (١)

ولما اجتمع أمره وقرب خروجه بعد وفاة المأمون وتولي محمد بن هارون الملقب بالمعتصم ، تشدد محمد هذا في طلبه ، وأنفذ الملقب ببغا الكبير وأشناش في عساكر كثيرة كثيفة في تتبع أثره ، وأحوج إلى الانفراد عن أصحابه ، وانتقض أمر ظهوره» (٢).

مآسي أهل البيت

روى السيد أبو العباس الحسني بسنده ... قال : حدثنا محمد بن زكريا العلابي ، قال: صرت إلى أحمد بن عيسى بن زيد وهو متوار بالبصرة ، فسألته أن يحدثني بأحاديث؟ فقال لما طلبنا هارون (٣) خرجت أنا والقاسم بن إبراهيم ، وعبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن ، فتفرقنا في البلاد فوقعت في ناحية الري ، ووقع عبد الله بن موسى بالشام ، وخرج القاسم بن إبراهيم إلى اليمن ، فلما توفي هارون اجتمعنا بالموسم

__________________

(١) الإفادة / ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٢) الإفادة / ١٢١ ـ ١٢٢.

(٣) قال في هامش المخطوط : أراد بهارون هارون الواثق بن المعتصم بن الرشيد ، والله أعلم.

١٨

فتشاكينا ما مر علينا ونالنا.

فقال القاسم : أشد ما مر بي أني لما خرجت من مكة أريد اليمن صرت في مفازة لا ماء فيها ، ومعي ابنة عمي وهي زوجتي وبها حمل ، فجاءها المخاض في ذلك الموضع ، فحفرت لها حفرة لتتولى أمر نفسها ، وضربت في الأرض أطلب لها ماء ، فرجعت وقد ولدت غلاما وجهدها العطش ، فألححت في طلب الماء فرجعت إليها وقد ماتت والصبي حي ، فكان بقاء الغلام أشد علي من وفاة أمه ، فصليت ركعتين ودعوت الله أن يقبضه ، فما فرغت من دعائي حتى مات.

وشكا عبد الله بن موسى أنه خرج في بعض قرى الشام وقد حث عليه الطلب وأنه صار إلى بعض المسالح ، وقد تزيا بزي الأكره والملاحين ، فسخّره بعض الجند ، وحمل على ظهره وأنه كان إذا أعيى فوضع ما على ظهره للاستراحة ضربه ضربا مبرحا ، وقال لعنك الله ولعن من أنت منه.

وقال أحمد بن عيسى وكان من غليظ ما نالني أني صرت على ورزنين ومعي ابني محمد فتزوجت إلى بعض الحاكة هناك وتكنيت بأبي جعفر الجصاص ، فكنت أغدو فأقعد مع بعض من آنس به من الشيعة ، ثم أروح إلى منزلي كأني قد عملت يومي ، وأولدت المرأة بنتا ، وتزوج ابني محمد إلى بعض موالى عبد القيس هناك ، وأظهر مثل الذي أظهرته ، فلما صار لابنتي نحو عشر سنين ، طالبني أخوالها بتزويجها من رجل من الحاكة له فيهم قدر ، فضقت ذرعا لما دفعت إليه ، وخفت إظهار نسبي وألحّ القوم علي في تزويجها ، ففزعت إلى الله تعالى وضرعت إليه في أن يختار لها ويقبضها ، ويحسن علي الخلف ، فأصبحت والصبية عليلة ثم ماتت من يومها ، فخرجت مبادرا إلى ابني محمد أسرّه ، فلقيني في الطريق وأعلمني أنه ولد له ولد فسميته عليا ، فهو بناحية ورزنين لا أعرف له خبرا ، للاستتار الذي أنا فيه (١).

والملاحظ على هذه الرواية ذكر هارون الرشيد مع أنه توفي في جمادى الآخرة سنة (١٩٣ ه‍) ، يعني قبل خروج محمد بن إبراهيم بست سنوات ، وأيضا فإن عبد الله بن

__________________

(١) تتمة المصابيح / ٣٢١. ونحوه في أمالي أبي طالب / ٩٩.

١٩

طاهر كان واليا على مصر للمأمون وقبله أبوه طاهر بن الحسين ، وهو الذي ضيق على الإمام القاسم كما تقول الرواية السابقة ، وأنه توجه إلى اليمن.

وأيضا فإن هذه الرواية تفيد أنه تم اللقاء بين أحمد بن عيسى بن زيد ، والإمام القاسم بن إبراهيم ، وعبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن في الموسم ، يعني الحج.

ومثل هذا اللقاء وقع في الكوفة في بيت محمد بن منصور المرادي عند ما بايعوا الإمام القاسم البيعة الثانية سنة (٢٢٠ ه‍) ، يعني بعد وفاة المأمون بسنتين ، لأنه توفي كما تؤكد المصادر التاريخية سنة (٢١٨ ه‍) ، يعني أنه بويع في زمن المعتصم محمد بن هارون الرشيد.

كل هذا يؤكد أن ذكر هارون الرشيد في الرواية السابقة سهو ، وإنما هو المأمون بن هارون الرشيد.

* * *

٢٠