مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [فاطر : ١٨].

والنفس المثقلة بالخطايا ـ ولو كانت لرجل من المصلّين ـ لا يفوتها جزاؤها كما رأيت في حديث الرسول. وهو يصف أمته عند اجتيازها الصراط.

والظاهر أن الشفاعة التي يرجوها النبي الكريم إنما تدرك صنفا من الناس تأرجحت موازين الحق والباطل في أعماله فهو بين السقوط والنجاح.

ونحن في حياتنا ننظر إلى التلامذة الذين يقتربون من النهاية الصغرى للنجاح نظرة رأفة. ونميل إلى منحهم درجة أو درجتين جبرا لنقصهم.

أما الذين يبتعدون عن المستوى الأدنى للنجاح مسافة بعيدة فإننا نحكم بسقوطهم فورا.

فلعل الشفاعة المنسوبة للرسول الكريم تنقذ أمثال هؤلاء المقاربين للنجاة وبهذا التفسير يتم الجمع بين النصوص.

وقد يكون المقصود من هذه الشفاعة التنويه بمكانة النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله والإشادة بمنزلته الكبرى عند الله ..

ومثال ذلك في مجتمعنا أنه في مناسبات خاصة ـ كعيد ميلاد الملك أو عيد الفطر المبارك ـ يفرج عن طوائف المسجونين الذين قضوا أغلب المدد المحكوم عليهم بها ، ويراد إشعارهم بفضل المناسبة التي ستسوق لهم العفو والحرية.

وهذه الحرية الممنوحة بالعفو العام ، لا تخدش أصل العقوبة المقررة.

ولا يفهم منها أنه لا ضرورة لسن القوانين وبناء المحاكم وتعيين القضاة. كما يريد أن يفهم ذلك عوام المسلمين من أحاديث الشفاعة المنسوبة لنبيهم ، والتي تشير إلى أن الله قد يجيب دعاء نبيه وهو جاث بين يدي ربه يسأل الصفح عن الأمم الغفيرة من الأولين والآخرين ، التي أدركها خر الموقف المعنت ، وألهب عصاتها شواظ من النار المستعرة ، فهي تضرع إلى الله أن يرفع غضبه وتتردد على أنبيائه جميعا كيما يشاركوهم الرجاء والدعاء.

على أنه مهما بلغت منزلته عند الله فلن يتجاوز في الله حد الزلفى لمولاه ، وما كان لنبي أن يفرض رأيا أو يقرر حكما : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ

١٢١

حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)) [سبأ : ٢٣].

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨)) [النبأ : ٣٨].

فلا كلام إلا بإذن ، ولا كلام إلا بصواب ، ومردّ الأمر لله وحده.

فإذا كان من الناس من يقترف الموبقات المهلكة اعتمادا على شفاعة موهومة ، فليذكر قول الحق في أهل النار : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٤٨) [المدثر : ٤٢ ـ ٤٨].

إن أتباع الدين يجب أن يعرفوا أن الحساب الإلهي لا يغفل الذرة من الخير أو الشر. وأن هذه الدقة تنفي كل تصرف ينطوي على الفوضى ، وكيل الجزاء جزافا.

وقد ندد القرآن الكريم باليهود ، لما سرت بينهم هذه الآراء الغريبة ، حتى ظن عامتهم أن الجنة حكر لهم ولذرياتهم ـ لأمر ما ـ فأقبلوا على ملذات العيش الأدنى ينتهبونها ويقولون ـ في يقين ـ سيغفر لنا!!

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٦٩) [الأعراف : ١٦٩].

والمؤسف أن هذا القطع بين العمل والجزاء رسب في أوهام العامة ، فأساءوا به إلى أنفسهم وإلى دينهم ، ثم إن عوج سلوك المنسوبين إلى الدين وقلة فقههم ، وسوء ذوقهم ، مكّن للإلحاد في الأرض ، ورفع الثقة من الأديان وممثليها جملة.

والعجب للمسلمين ، يصابون بهذه اللوثة وهم يقرءون قول الله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٢٣) [النساء : ١٢٣].

١٢٢

حكم وآداب وأخلاق

إن الإسلام جاء لينتقل بالبشر خطوات فسيحات إلى حياة مشرقة بالفضائل والآداب ، وإنه اعتبر المراحل المؤدية إلى هذا الهدف النبيل من صميم رسالته ، كما أنه عدّ الإخلال بهذه الوسائل خروجا عليه وابتعادا عنه.

فليست الأخلاق من مواد الترف ، التي يمكن الاستغناء عنها ، بل هي أصول الحياة التي يرتضيها الدين ، ويحترم ذويها ..

وقد أحصى الإسلام بعدئذ الفضائل ، وحث أتباعه على التمسك بها واحدة واحدة.

ولو جمعنا أقوال صاحب الرسالة في التحلي بالأخلاق الزاكية لخرجنا بسفر لا يعرف مثله ، لعظيم من أئمة الإصلاح.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شيء ، وإن أحسن الناس إسلاما ، أحسنهم خلقا) (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أكمل المؤمنين إيمانا ، أحسنهم خلقا) (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ألا أخبركم بأحبكم إلي ، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة؟ ـ فأعادها مرتين أو ثلاثا ـ قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : أحسنكم خلقا) (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، إن الله يكره الفاحش البذيء ، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة) (٤).

هذا التصريح لو صدر عن فيلسوف يشتغل بشئون الإصلاح الخلقي فحسب لما

__________________

(١) أخرجه أحمد ٥ / ٨٩ (٢٠٨٦٣).

(٢) أخرجه أبو داود ٤ / ٢٢٠ (٤٦٨٢).

(٣) أخرجه أحمد ٢ / ١٨٥ (٦٧٣٥).

(٤) أخرجه الترمذي ٤ / ٣٦٣ (٢٠٠٣).

١٢٣

كان مستغربا منه ، إنما وجه العجب أن يصدر عن مؤسس دين كبير ، والأديان ـ عادة ـ ترتكز في حقيقتها الأولى على التعبد المحض.

ونبي الإسلام دعا إلى عبادات شتى ، وأقام دولة ارتكزت على جهاد طويل ضد أعداء كثيرين ، فإذا كان ـ مع سعة دينه ، وتشعب نواحي العمل أمام أتباعه ـ يخبرهم بأن أرجح ما في موازينهم يوم الحساب ، الخلق الحسن. فإن دلالة ذلك على منزل الخلق في الإسلام لا تخفى ...

والحق أن الدين إن كان خلقا حسنا بين إنسان وإنسان ، فهو في طبيعته السماوية صلة حسنة بين الإنسان وربه ، وكلا الأمرين يرجع إلى حقيقة واحدة.

إن هناك أديانا تبشر بأن اعتناق عقيدة ما ، يمحو الذنوب ، وأن أداء طاعة معينة يمسح الخطايا.

لكن الإسلام لا يقول هذا ، إلا أن تكون العقيدة المعتنقة محورا لعمل الخير ، وأداء الواجب ، وأن تكون الطاعة المقترحة غسلا من السوء ، وإعدادا للكمال المنشود. أي أنه لا يمحق السيئات إلا الحسنات التي يضطلع بها الإنسان ، ويرقى صعدا ، إلى مستوى أفضل.

وقد حرص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على توكيد هذه المبادي العادلة ، حتى تتبينها أمته جيدا ، فلا تهون لديها قيمة الخلق ، وترتفع قيمة الطقوس.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة ، وأشرف المنازل ، وإنه لضعيف العبادة ، وإنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درجة في جهنم) (١).

وحسن الخلق لا يؤسس في المجتمع بالتعاليم المرسلة ، أو الأوامر والنواهي المجردة ، إذ لا يكفي في طبع النفوس على الفضائل أن يقول المعلم لغيره : افعل كذا ، أو لا تفعل كذا. فالتأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة ، ويتطلب تعهدا مستمرا.

ولن تصلح تربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة ، فالرجل السيئ لا يترك في

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الكبير ١ / ٢٦٠ (٧٥٤).

١٢٤

نفوس من حوله أثرا طيبا.

وإنما يتوقع الأثر الطيب ممن تمتد العيون إلى شخصه ، فيروعها أدبه ، ويسبيها نبله ، وتقتبس ـ بالإعجاب المحض ـ من خلاله ، وتمشي بالمحبة الخالصة في آثاره.

بل لا بد ـ ليحصل التابع على قدر كبير من الفضل ـ أن يكون في متبوعه قدر أكبر ، وقسط أجل ...

والإسلام ـ كسائر رسالات السماء ـ يعتمد في إصلاحه العام على تهذيب النفس الإنسانية قبل كل شيء ، فهو يكرس جهودا ضخمة للتغلغل في أعماقها ، وغرس تعاليمه في جوهرها حتى تستحيل جزءا منها.

وما خلدت رسالات النبيين وكونت حولها جماهير المؤمنين إلا لأن (النفس الإنسانية) كانت موضوع عملها ومحور نشاطها ، فلم تكن تعاليمهم قشورا ملصقة فتسقط في مضطرب الحياة المتحركة ، ولا ألوانا مفتعلة تبهت على مر الأيام .. لا .. لقد خلطوا مبادئهم بطوايا النفس ، فأصبحت هذه المبادئ قوة تهيمن على وساوس الطبيعة البشرية ، وتتحكم في اتجاهاتها.

وربما تحدثت رسالات السماء عن المجتمع وأوضاعه ، والحكم وأنواعه ، وقدمت أدوية لما يعرو هذه النواحي من علل.

ومع ذلك فالأديان لن تخرج عن طبيعتها في اعتبار النفس الصالحة هي البرنامج المفضل لكل إصلاح ، والخلق القوي هو الضمان الخالد لكل حضارة.

وليس في هذا تهوين ولا غض من عمل الساعين لبناء المجتمع والدولة ، بل هو تنويه بقيمة الإصلاح النفسي في صيانة الحياة وإسعاد الأحياء.

فالنفس المختلة ، تثير الفوضى في أحكم النظم ، وتستطيع النفاذ منه إلى أغراضها الدنيئة ، والنفس الكريمة ، ترقع الفتوق في الأحوال المختلة ويشرق نبلها من داخلها ، فتحسن التصرف والمسير ، وسط الأنواء والأعاصير.

إن القاضي النزيه ، يكمل بعدله نقص القانون الذي يحكم به ، أما القاضي الجائر فهو يستطيع الميل بالنصوص المستقيمة. وكذلك نفس الإنسان حين تواجه ما في الدنيا من تيارات وأفكار ، ورغبات ومصالح.

١٢٥

ومن هنا كان الإصلاح النفسي ، الدعامة الأولى لتغليب الخير في هذه الحياة.

فإذا لم تصلح النفوس أظلمت الآفاق ، وسادت الفتن حاضر الناس ومستقبلهم.

لهذا وضع الإمام القاسم عليه‌السلام دستورا في الأخلاق والحكم والآداب وعلم النفس ، عالج فيه كل الاختلالات التي تحدث جراء التفلت من وثاق الأخلاق ، وقدّم رؤى متقدمة في علم النفس من منظور إسلامي قلّ أن تجد لها نظيرا في ما كتب في هذا السبيل ، في كتابين يعدان قطعة أدبية متميزة ، هما كتاب (المكنون) ، وكتاب (سياسة النفس) ، والكتابان من عنوانيهما لهما دلالة عميقة ، فهما لا يهتمان بالأخلاق الظاهرة والإصلاح القشري للإنسان ، ولكنهما يتجهان إلى أعماق النفس البشرية ليلامسا فيها نوازع الخير فينميانها ، ونوازع الشر فيقتلعانها ، بحكمة الحكيم المفكر ، وأناءة الحليم المستبصر.

وكنت قد أزمعت على نقل فقرات من الكتابين لضرب الأمثلة ، إلا أني عدلت عن هذا خشية إثقال المقدمة بالنصوص.

* * *

١٢٦

رؤى علمية

للإمام رؤى ونظريات علمية ثاقبة سبق بها عصره بحوالي ألف سنة.

كروية الأرض وحركتها وجاذبيتها

قال متحدثا عن استقرار الأرض وتثبيتها بالجبال ، وعن الجاذبية الأرضية التي تحفظ توازن الأرض ، والبحار والأنهار أن تتفجر ، ناقدا النظريات الساذجة والتصورات الخاطئة عن الأرض والأفلاك والنجوم ، مبينا الصواب في ذلك بنظره الثاقب وعلمه بالكون والطبيعة وأسرار الفضاء : وما جعل الله سبحانه في الأرض من رواسي الجبال ، وغيرها مما ثقّلها به من الأثقال ، كيلا تميد بمن عليها من الانسان ، وغيره من أنواع الحيوان ، الذي لا بقاء له ولا قوام مع الميدان ، فموجود بأيقن الايقان ، إذ توجد بالعيان الأفلاك تمر من تحت الأرض دائرة ، وتخفى بممرها تحتها وتظهر عليها سائرة ، ولا يمكن أن يكون مسيرها ، تحتها ومقبلها ومدبرها ، إلا في خلاء أو عراء ، أو هواء أو ماء ..

وقال حشو هذه الأمة المختلف ، الذي لا يفقه ولا يتصرف ، قرار الأرض زعموا على ظهر حوت ، ونعتوا حوتها في ذلك بألوان من النعوت ، وأشبه هذه الأقوال عندنا بالحق ، وأقرب ما قيل به فيها من الصدق ، أن يكون ما تحت الأرض خلاء منفهقا ، وهواء من الأهوية منخفقا ، ليس فيهما لسالكهما رد يرده ، ولا للمقبل والمدبر فيهما صد يصده ، لقول الله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)) [الأنبياء : ٣٣].

المطر من نجار البحار

قال مبينا نظرية تبخر الماء من البحار والأنهار ، وانتزاع السحاب له ، ثم تحويله مرة أخرى إلى ماء ورجوعه إلى الأرض على شكل مطر. وهي من الحقائق العلمية التي لم تكتشف إلا في عصرنا الحديث ، قال : قال الله سبحانه : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤)

١٢٧

فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)(٥) [النازعات : ١ ـ ٥].

النازعات فيما أرى ـ والله أعلم ـ : فهن السحائب المنتزعات لماء الأمطار من البحار والأنهار ، ومما في الأرض من الندوة والبخار ، وكذلك صح في الروايات والأخبار. وهذه الرؤية تصدقها الآية الكريمة : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١)) [الطارق : ١١].

عناصر الأشياء

قال متحدثا عن أصول العناصر الأربعة ، التراب والماء والنار والهواء : والدليل البتّ اليقين ، الشاهد العدل المبين ، على أن آدم عليه‌السلام بدئ من التراب وخلق ، مصير نسله ترابا إذا بلي وفرّق ، وكل مركّب انتقض من الأشياء ، فعاد إلى شيء عند تنقضه بالفرقة والبلى ، فمنه ركّب وخلق غير شك ولا امتراء ، كالثلج والجليد ، والبرد الشديد ، الذي يعود كل واحد منهما إذا انتقض وفرّق ، إلى ما ركّب منه من المياه وخلق ، وكمركّب الأشجار والحبوب وغيرهما من ضروب الأغذية ، التي تعود عند بلائها إلى ما ركّبت منه من الأرضين والمياه والنيران والأهوية.

العقل

للعقل عنده مكانة عالية ودور متميز ، وهو أعظم نعمة منّ بها الله على خلقه ، ولذلك تراه يقدسه أيما تقديس ، ويدعو إلى استعماله والنظر به.

قال في تعريف العقل : والعقل روحاني لا يرى بالعيون ، لأنه ليس بشبح ولا لون ولا جسم.

وقال : وسألته : عن العقل في الإنسان أطبع هو أم مستفاد؟

فقال : هو الحفظ والفكر ، وأصل العقل فطرة وخلقة.

وقال أيضا : فهذه ثلاث عبادات من ثلاث حجج ، احتج بها المعبود على العباد ، وهي : العقل ، والكتاب ، والرسول. فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود ، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد ، وجاء الرسول بمعرفة العبادة. والعقل أصل الحجتين الآخرتين ، لا

١٢٨

نهما عرفا به ولم يعرف بهما.

وقال أيضا : والعقل آمن أمين ، وأفضل قرين ، فاستأمنه على أحوالك ، وجميع خلالك ، واعرف ما عرفك ...

وقال ناعيا على الذين لا يفكرون ، ولا يؤمنون إلا ما لمسوه أو رأوه بأعينهم ، مشبها لهم بالبهائم : وإنما يدرك ما غاب من الأمور بالفكر واليقين ، ويدرك ما حضر منها بالحواس من العين أو غير العين ، وذلك فإنما هو درك البهائم الخرس ، التي لا تدرك شيئا إلا بحاسة من الحواس الخمس ، ولا توقن أبدا بغائب غاب عنها ، ولا تدرك إلا ما كان شاهدا قريبا منها ، فأما أهل الألباب والعقول ، فيستدلون موقنين على الجاعل بالمجعول ، وعلى الغائب المتواري الخفي ، بالحاضر الظاهر الجلي.

وقال أيضا : فأخبر سبحانه أن بيانه إنما هو للذين يعقلون ، ويوقنون من الغيب بما لا يرون ولا يبصرون ، فأما أشباه البهائم الذين لا يعلمون ، إلا ما يرون ويبصرون ، فإن الله سبحانه انتفى من البيان لهم ، وتبرأ من ذلك إليهم.

التفكير شرط لفهم الدين

قال مؤكدا على أهمية التفكير في الإسلام : وقد زعم بعض أهل الحيرة والنقص ، ومن لا يعرف عين النجاة والتخلص ، أن الإلطاف في النظر ، يدعو صاحبه إلى الخيلاء والبطر ، وإنما يكون ذلك كذلك عند من يريده للترؤس ، لا لما فيه وما جعله الله عليه من حياة الأنفس ، فانفوا مثل هذا عن ضمائركم ، وسدوا ثلمة عيبه في سرائركم.

واعلموا أن البحر لا يجاز يقينا بتّا إلا بمعبر ، وأنه يحتاج الشجاع المحارب السلاح في الحرب فكيف بالعيّ المغتر ، فلا يتعاط أحد سبيل التقوى ، وما قرن الله بها من التمحيص والبلوى ، إلا وقد تحصّن بالعلم والبصر والنظر ، الذي ميز الله به بين أهل الخير والشر ، فلا تدعوا رحمكم الله حسن النظر في الأمور ، والاستضاءة في ظلمها بما جعل الله في العلم من النور.

١٢٩

الإسلام

قال عن الإسلام : وأيّ دين أحسن نظاما ، وأعدل أحكاما ، وأقل تناقضا ، وأرضى رضى ، من دين قامت دعائمه ، واعتدلت قوائمه ، على الأمر فيه بالعدل والاحسان ، ونهت نواهيه عن كل فحشاء وعدوان ، فلم يترك لمحسن ثوابا ، ولم يضع عن مسيء فيه عقابا ، بمقادير من قسط عادلة ، وموازين من عدل غير مائلة ، لولاه لفسدت الأرض خرابا ، وعدمت الصالحات ذهابا.

تشويه الحكام للإسلام

قال : ولكني أراه ظن ديننا ، وتوهم أحكام ربنا ، أحكام معاوية بن أبي سفيان ، وما سن بعد معاوية ملوك بني مروان ، من تناقض أحكامها ، وجورها في أقسامها ، وأولئك فأعداء ديننا ، وحكم أولئك فغير حكم ربنا ، وحكم ديننا فالحكم الذي لم يخالطه قط جور ، وأموره من الله فالأمور التي لا يشبهها أمور ، ويحق بذلك أمر وليه أحكم الحاكمين ، وحكم جاء من رب العالمين.

الملوك وراء نشأة المذاهب

قال : وليس لقلة ذلك ولا عسره ، ولا لملتبس لبس من أمره ، ضل القوم عنه ولا تاهوا ، ولكن لما سنّ فيهم ملوك بني أمية وشبهوا ، ولقهر بني أمية لهم وغلبة سلطانهم ، قوي عليهم فيه سلطان شيطانهم ، فألفوه حتى أنسوا به لطول الصحبة ، وعز فراقه في أنفسهم لما كان يكون في خلافه من الأنكال المعطبة ، ولمّا كان من جهله يومئذ لديهم منكلا محروما ، عاد مجهوله يومئذ فيهم بعد جهله معلوما ، ثمّ خلفت من بعدهم أخلاف السوّ ، التي أتت عداوتها للاسلام من وراء عداوة كل عدو ، فكانت أكلف بما سنّ لها أسلافها كلفا ، وأسرف في الاحتجاج للباطل سرفا.

الجهاد والثورة

فهم الإمام القاسم القرآن فهما جهاديا ثوريا ، يرفض الذلة الخنوع ، والانكفاء

١٣٠

على الذات ، فقال : وقال سبحانه فيما أذن به من قتل المعتدين باعتدائهم ، وبسط أيدي المؤمنين للعدوان من سفك دمائهم ، (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١٩٥) [البقرة : ١٩٤ ـ ١٩٥]. فأمرهم سبحانه للعدوان لا لغيره بقتالهم ، ونهاهم عن أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة باستسلامهم لهم ، وأمرهم بالإنفاق في جهادهم سبحانه والإحسان ، وأخبرهم أنهم إن لم يفعلوا فقد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة لأهل العدوان. وصدق الله العزيز الحكيم الأعلى ، الذي لا يرضى لأوليائه أن يكونوا أذلاء ، والذي لم يزل سبحانه يحوط العز لهم حوط العليم الخبير ، وينصرهم عند القيام بأمره نصر العزيز القدير ، وأي تهلكة أهلك لهم؟! من استسلامهم لمن يريد قتلهم!!

وسئل : عن التهلكة؟

فقال : إن ذلك هو الاستسلام للعدو الظالم ، الذي لا يخاف الله في ارتكاب المظالم.

الصلاة

قال عن الصلاة : الصلاة صلة بين العبد والرب ، وستر للعيب وكفارة للذنب ، الصلاة صلة بلا مسافة ، وطهارة كل خطيئة وآفة ، الصلاة مواصلة ومصافاة ، ومداناة ومناجاة ، المصلي يقرع باب الله ويطمع في ثوابه ، وهو على بساط الله عزوجل.

الصلاة شرح الصدور ، وفرج من جميع الأمور ، الصلاة نور في الفؤاد ، وسرور يوم المعاد ، الصلاة للقلوب منهاج ، وللأرواح معراج ، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ...

وقال أيضا : واعلموا أن الصلوات ، ليست بطرب الأصوات ، ولكنها بالباطن الظاهر ، والفكر المنير الزاهر ، والنية الصادقة ، والضمائر المحققة ، فاستعملوا ضمائركم بصحيح الاستعمال ، ولا تميلوا إلى ظاهر المراءاة باللسان ، تكن أعمالكم مطيبة زاكية ، وضمائركم لله خالصة نقية.

وله نظريات عميقة في العرفان والتزكية تمزج بين بصيرة العقل وعاطفة القلب في

١٣١

حرارة دافقة وعقلانية متجردة.

مثل العالم والمتعلم

قال : ومثل العالم والمتعلم مثل نور الشمس ونور العينين.

افهم لو أن رجلا بصير العينين بقي في بيت مظلم قد سدّ عليه بابه ، وهو لا يهتدي إلى شيء فيه مخرجه ، أليس يكون متحيرا لا ينتفع ببصر عينيه ما دام البيت مظلما ، حتى إذا فتح عليه الباب ، وخرج ورأى ضوء الشمس ، انتفع ببصر عينيه عند ضوء الشمس. كذلك المتعلم يكون في بيت الجهل موثقا عليه بابه ، لا يهتدي إلى الخروج حتى يفتح عليه العالم العارف ، لأن المتعلم يستضيء بنور العالم.

مثل علماء السوء

قال : والعلم شفاء وزين ، لا يدخل معه داء ولا شين ، وليس العلم علم اللسان ، المعلق على ظاهر الإنسان ، الخالي عن القلب ، وإنما مثله كمثل شبكة الصياد التي ينثر عليها الحب للطير ، وليس يريد بذلك منفعة الطير ، ولكنه يريد أن يصطادها بذلك الحب المنثور على الشبكة.

كذلك عالم السوء لا يريد بعلمه رضي الله ، ولكن يريد رضي نفسه ومنفعتها ، وقد جعل هذا علمه شبكة ، ليصطاد حطام الدنيا.

* * *

١٣٢

نظرة إلى القرآن

القرآن عند الإمام هو ما بقي من وحي في هذه الدنيا ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فهو محفوظ بحفظ الله ، وهو العزاء الوحيد عن ضياع مواريث النبوات الأولى ، ففيه الهداية والنور.

قال : فمن اعتصم بنور كتاب الله وبرهانه ، واتبع ما فيه من أموره وتبيانه ، أدخله الله كما قال سبحانه مدخلا كريما ، وهداه به كما وعد صراطا مستقيما ، ومن أبصر به واهتدى ، لم يعم بعده أبدا ، ومن عمي عنه فلم ير هداه ، وتورط من غيّه ورداه ، في بحور ذات لجّ من الجهالات ، وتخبط في غور لجج من الضلالات ، لا يخرج من تورط فيها من ضيق غورها ، ولا ينجو غريق بحورها ، من نار تبوبها ، وحيرات سهوبها ، فلا صريخ له فيها ينقذه من تبّ ، ولا هاد يهديه منها في سهب ، فهو في لج بحورها في تبوب ، ومن ضلالات غورها في سهوب ...

القرآن كتاب حياة

وقال الإمام القاسم عن القرآن : نور أعين القلوب المبصرة ، وحياة ألباب النفوس المطهرة ، إلف فكر كل حكيم ، وسكن نفس كل كريم ، وقصص الأنباء الصادقة ، ونبأ الأمثال المتحققة ، ويقين شكوك حيرة أولي الألباب ، وخير ما صحب من الأصحاب ، سر أسرار الحكمة ، ومفتاح كل نجاة ورحمة ، قول أرحم الراحمين ، وتنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، فأيّ منزّل سبحانه ونازل وتنزيل ، لقد جل سبحانه وتنزيله عن كل تمثيل ، وطهر وتقدس ـ إذ وليه بنفسه ، ونزل به روح قدسه ، ـ عن قذف الشياطين وأكاذيبها ، وافتراء مردة الآدميين وألاعيبها ، فأحكم عن خطل الوهن والتداحض ، وأكرم عن زلل الاختلاف والتناقض ، فجعل بآياته مترافدا ، وبضياء بيناته متشاهدا ، غير متكاذب الأخبار ، ولا متضايق الأنوار ، بل ضحيان النور ، فيحان الأمور ، سيحان الأنهار بالحياة المنجية ، واسع الأعطان والأفنية ، ساطع النور والبرهان ، جامع الفصل والبيان ، فأنواره بضيائه زاهرة ، وأسراره لأوليائه ظاهرة ، فما إن يواري عن أهله الذين استودعوا علمه من سرائر سريرة ، ولا يدع ما وضح من نوره في

١٣٣

قلوبهم من مشكلة حيرة ، بعزائم حكماته المنزلة ، ودلائل آياته المفصّلة.

ويرى في الحروف المقطعة في أوائل السور علوما وأسرارا مكنونة ، قال : كيف بما في حواميمه؟! من غرائب حكمه ، وما في طواسينه ، من عجائب مكنونه ، وما في (ق) ، و (طه) ، و (يس) ، من علم جمّ للمتعلمين ، وفي كهيعص وألم والذاريات ، من أسرار العلوم الخفيات ، وما في المرسلات والنازعات ، من جزم أنباء جامعات ، لا يحيط بعلمها المكنون ، إلا كل مخصوص به مأمون ، فسر ما نزل الله سبحانه من الكتاب ، فخفيّ على كل مستهزئ لعّاب.

وأسراره برحمة الله لأوليائه فعلانية ، وأموره لهم فظاهرة بادية ، فهو الظاهر الجلي المجهور ، والباطن الخفي المستور ، وهو بمنّ الله المصون المبذول ، والجزم الذي لا يدخل شيئا منه هذر ولا فضول ، بل قرنت فيه لأهله مجامع كلمه ، وسهّلت به لهم مسامع حكمه ، فقرعت من قلوبهم مقارع ، ووقعت من أسماعهم مواقع ، لا يقعها من غيرها عندهم واقع ، ولا يسمع مثل تفسيرها أبدا منهم سامع ...

سماويّ أحله الله برحمته أرضه ، وأحكم به في العباد فرضه ، فلا يوصل إلى الخيرات أبدا إلا به ، ولا تكشف الظلمات إلا بثواقب شهبه ، من صحبه صحب سماويا لا يجهل ، وهاديا إلى كل خير لا يضل ، ومؤنسا لقرنائه لا يملّ ، وسليما لمن صحبه لا يغلّ ، ونصيحا لمن ناصحه لا يغشّ ، وأنيسا لمن آنسه لا يوحش ، وحبيبا لمن حابّه لا يبغض ، ومقبلا على من أقبل عليه لا يعرض ، يأمر بالبر والتقوى ، وينهى عن المنكر والأسواء ، لا يكذب أبدا حديثا ، ولا يخذل من أوليائه مستغيثا ، إن وعد وعدا أنجزه ، أو تعزّز به أحد أعزه.

لا تهن لأوليائه معه حجة ، ولا تبلى له ما بقي أبدا بهجه ، ولا يخلقه كرّ ولا ترداد ، ولا يلمّ به وهن ولا فساد ، ولا يعي به وإن لكن لسان ، ولا يشبه فرقانه فرقان ، ومن قبل ما صحب الروح الأمين ، والملائكة المقربين ، فكان لهم هاديا ومبينا ، وازدادوا به من الله يقينا.

فاتخذوه هاديا ودليلا ، واجعلوا سبيله لكم إلى الله سبيلا ، حافظوا عليه ولا ترفضوه ، واتخذوه حبيبا ولا تبغضوه ، فإنه لا يحب أبدا له مبغضا ، ولا يقبل على من

١٣٤

كان عنه معرضا ، ولا يهدى إليه من عاداه ، ومن تعامى عنه أعماه ، ولا يبصر ضياءه إلا من تأمّله ، ولا يعطي هداه إلا أهله ، من ضل عنه أضله ، يقلّد جهله من جهله ، إن أدبر عنه أدبر ، أو أقبل عليه بصّر ، جعله الله يتلوّن في ذلك بألوان ، ويتفنن فيه على أفنان ، فهو الهادي المضل ، وهو المدبر المقبل ، وهو المسمع المصم ، وهو المهين المكرم ، وهو المعطي المانع ، وهو القريب الشاسع ، وهو السر المكتوم ، وهو العلانية المعلوم ، فمرّة يهدي إليه من اصطفاه ، ومرّة يضل من أبى قبول هداه ، ومرّة يقبل على من أقبل إليه ، ومرة يدبر عن من التوى في الهدى عليه ، ومرّة يسمع من استمع منه ، ومرّة يصم من أعرض عنه ، ومرّة يهين الأعداء ، ومرّة يكرم الأولياء ، يعطي من قبل عطاه ، ويمنع من أبى قبول هداه ، يقرب لمن ارتضاه ، ويشسع عمن سخط قضاه ، يعلن لأوليائه ويظهر ، ويكتتم عن أعدائه ويستر ، نور هدى على نور ، وفرقان بين البرّ والفجور ، أرشد زاجر وآمر ، وأعدل مقسط ومعذّر ، يوقظ بزجره النّوماء ، ويعظ بأمره الحكماء ، ويحيي بروحه الموتى ، ولا يزيد من مات عنه إلا موتا ، يعدل أبدا ولا يجور ، وكل أمره فقدر مقدور ، ظاهره ضياء وبهجة ، وباطنه غور ولجّة ، لا يملك حسن أنواره ، ولا يدرك باطن أغواره ، فمن ظهر لظاهر مناظره ، رأى أعاجيبه في موارده ومصادره ، ومن بطن لمستبطنه ، رأى مكنون محاسنه ، من غرائب علمه ، وأطائب حكمه ، لباب كل لباب ، وفصل كل خطاب ، وحكمه من حكم رب الأرباب ، اكتفى به منه في هداه لأوليائه ، واصطفى به من خصّه الله سبحانه باصطفائه ، فمصابيح الهدى به ، تزهر واهجة ، وسبل التقوى به إلى الله تلوح ناهجة ، يحتاج إليه ولا يحتاج ، سراجه أبدا بنوره وهّاج ، يعلّم ولا يعلّم ، ويقوّم ولا يقوّم ، فهو المهيمن الأمين ، والفاصل المبين ، والكتاب الكريم ، والذكر الحكيم ، والرضى المقنع ، والمنادي المسمع ، والضياء الأضوى ، والحبل الأقوى ، والطود الأعلى ، الذي يعلو فلا يعلى ، ولا يؤتى لسورة من سوره أبدا بمثل ولا نظير ، ولا يوجد فيه اختلاف في خبر ولا حكم ولا تقدير ، فصل كل خطاب ، وأصل كل صواب.

وآثرت نقل هذا النص رغم طوله لبلاغته وجزالة ألفاظه ، وللتعريف بمكانة القرآن عن الإمام القاسم خاصة والزيدية عامة.

١٣٥

تحريف الطغاة للقرآن

ولقد كان ينعى على الطغاة وعلماء السلاطين التحريف في تأويله ، لتطويعه لتضليل الأمة وإبقائها خانعة للعسف والجور ، باسم القرآن والإسلام ، بل يصل بهم الأمر إلى وضع الأحاديث التي تمجد الحاكم الظالم ، وتدعو الأمة إلى الصبر والخنوع ، وتحريم الثورة والجهاد المسلح ، لاستعادة الحقوق ، والحكم بالمنهج الإلهي ، قال :

على ما بلي به قديما من تلبيس ملوك الجبابرة ، وأتباعها من علماء العوّام المتحيّرة ، في توجيهها له على أهوائها وتصريفه ، وتأويلها له بخطئها على تحريفه ، حتى عطّل فيهم قضاؤه ، وبدّلت لديهم أسماؤه ، فسمّيت الإساءة فيه إحسانا ، والكفر بالله إيمانا ، والهدى فيه عندهم ضلالا ، وعلماء أهله به جهالا ، ونور حكمه ظلما ، وبصر ضيائه عمى ، بل حتى كادت أن تجعل فاؤه ألفا ، وألفه للجهل بالله فاءا ، تلبيسا على الطالب المرتاد ، وضلالة من العامة عن الرشاد ، فنعوذ بالله من عماية العمين ، والحمد لله رب العالمين.

فلو لا ما أبدى الله سبحانه من كتابه وحججه ، وأذكى سبحانه من تنوير سرجه ، لأباد حججه ـ بتظاهرهم ـ المبطلون ، ولأطفأ سرجه الظلمة الذين لا يعقلون ، ولكن الله سبحانه أبى له أن له أن يطفى ، وجعله سراجا لأوليائه أبدا لا يخفى ، ولذلك ما يقول سبحانه : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢)) [التوبة : ٣٢].

مصحف علي عليه‌السلام

وقال متحدثا عن عدم اختلافه كما روى الهادي عليه‌السلام : حدثني أبي عن أبيه عن جده ، أنه قال : قرأت مصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عند عجوز مسنة ، من ولد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، فوجدته مكتوبا أجزاء ، بخطوط مختلفة ، من أسفل جزء فيها مكتوب : وكتب علي بن أبي طالب ، وفي أسفل آخر : وكتب عمار بن ياسر ، وفي أسفل آخر : وكتب المقداد ، وفي آخر : وكتب سلمان الفارسي ، وفي آخر : وكتب أبو ذر الغفاري ، كأنهم تعاونوا على كتابته. قال جدي القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه : فقرأته فإذا هو هذا القرآن

١٣٦

الذي في أيدي الناس حرفا حرفا ، لا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ، غير أن مكان : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣] اقتلوا الّذين يلونكم من الكفّار ، وقرأت فيه المعوذتين (١).

أقول : لعل هذه الشريفة هي نفيسة بنت الحسين المذكور ، وهي مشهورة بالفضل والعبادة والزهد والكرامات المشهورة ، ومشهدها بمصر مشهور مزور. ولدت سنة ١٤٥ ه‍ ، وتوفيت سنة ٢٠٨ ه‍. أو لعلها عمتها نفيسة بنت زيد بن الحسن. وكانت بمصر وتوفيت قبل وفاة السيدة نفيسة.

* * *

__________________

(١) المجموعة الفاخرة / ٥٤٩.

١٣٧

نظرته إلى السنة

قال الإمام القاسم بعد أن جعل الحجج ثلاث حجج ، حجة العقل ، والكتاب ، والرسول : وأصل السنة التي جاءت على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما وقع عليه الإجماع بين أهل القبلة ، والفرع ما اختلفوا فيه عن الرسول. فكل ما وقع فيه الاختلاف من أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو مردود إلى أصل الكتاب والعقل والإجماع (١).

وقال : وإن سنة رسول الله صلى الله عليه ما كان لها ذكر في القرآن ومعنى (٢).

قيل لهم : فمن أين قلتم ذلك وما بينتكم عليه؟! ولن تجدوا سبيلا إلى إثبات اللون إلا من وجه الرواية ، فيعارضون بأضداد رواياتهم ، فإن جعلوا الرواية حجة لم يصح لهم دعوى ولا لنا ، لأنهم رووا خلاف ما روينا وروينا خلاف ما رووا ، ولا بد أن يكون أحدنا محقا والآخر مبطلا ، وفي إبطال قول أحدنا إبطال أحد الأثرين ، وفي إبطال أحد الأثرين إخراج الأثر الشاذ من الحجة ، لأن الشاذ من الأثر لا يكون مثل كتاب الله ولا سنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

نظرته إلى أهل البيت

وقال متحدثا عن أهل البيت ونعمة انتسابهم إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن فضلهم وعلمهم ، وعن من يأخذ الناس منهم إذا اختلفوا :

والحمد لله الذي جعلنا لخاتم المرسلين ، وبقية من مضى من رسله الأولين ، عترة وبقية ، وآلا وذرية ، ابتداء لنا في ذلك بعظيم فضله ، ومنّا علينا فيه بولادة خاتم رسله ...

وقال أيضا : فأيّ ضياء أضوى ، أو حجة لمحتج أقوى؟ في إثبات الصفوة والفضل ، لأبناء المنتجبين من الرسل.

__________________

(١) أصول العدل والتوحيد.

(٢) الأصول الخمسة.

(٣) انظر المسترشد.

١٣٨

وقال أيضا : فليسأل عنها ، وليطلب ما خفي فيه منها ، عند ورثة الكتاب ، الذين جعلهم الله معدن علم ما خفي فيه من الأسباب ، فإنه يقول سبحانه : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)) [فاطر : ٣٢]. ولتكن مسألته منهم للسابقين بالخيرات ، فإن أولئك أمناء الله على سرائر الخفيات ، من منزل وحي كتابه ، وما فيه من خفي عجائبه ، فقد سمعت قول الله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل / ٤٣ ، الأنبياء / ٧] (١).

ولم يلقوا ـ فيما اشتبه منه ، ـ من جعلهم الله معدنه ، فيكشفوا لهم الأغطية عن محكم نوره ، ويظهروا لهم الأخفية من مشتبه أموره ، الذين جعلهم الله الأمناء عليها ، ومنّ عليهم بأن جعلهم الأئمة فيها.

وقال محمد بن القاسم : وسألته : عن الاختلاف الذي بين أهل البيت؟

فقال : يؤخذ من ذلك بما أجمعوا عليه ولم يختلفوا فيه ، وأما ما اختلفوا فيه فما وافق الكتاب والسنة المعروفة فقول من قال به فهو المقبول المعقول.

نظرته إلى الحجة

الحجج الأصلية عند الإمام ثلاث حجج ، العقل ، والكتاب ، والسنة ، وفي كل حجة منها أصل وفرع ، ويجب رد الفروع إلى الأصول.

قال : ثلاث عبادات من ثلاث حجج ، احتج بها المعبود على العباد ، وهي : العقل ، والكتاب ، والرسول. فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود ، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة

__________________

(١) المراد بأهل الذكر آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، روى فرات الكوفي عن أبي جعفر عليهما‌السلام في الآية قال : نحن أهل الذكر ، وفي رواية : هم آل محمد. وعن زيد بن علي عليهما‌السلام قال في الآية : إن الله سمى رسوله في كتابه ذكرا فقال : (أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً) [الطلاق / ١٠] ، وقال (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). وكلاهما مصحفتان ، تفسير فرات ٢ / ٢٣٥ ، وأخرج الرواية الأولى محمد بن سليمان الكوفي في المناقب ١ / ١٣٠ (٧١) ، والثعلبي في تفسيره والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ / ٣٣٥ (٤٦٠).

١٣٩

التعبد ، وجاء الرسول بمعرفة العبادة. والعقل أصل الحجتين الآخرتين ، لانهما عرفا به ولم يعرف بهما ، فافهم ذلك.

ثم الإجماع من بعد ذلك حجة رابعة مشتملة على جميع الحجج الثلاث ، وعائدة إليها.

ثم اعلم أن لكل حجة من هذه الحجج أصلا وفرعا ، والفرع مردود إلى أصله ، لأن الأصول محكّمة على الفروع ، فأصل المعقول ما أجمع عليه العقلاء ولم يختلفوا فيه ، والفرع ما اختلفوا فيه ولم يجمعوا عليه. وإنما وقع الاختلاف في ذلك لاختلاف النظر ، والتمييز فيما يوجب النظر ، والاستدلال بالدليل الحاضر المعلوم ، على المدلول عليه الغائب المجهول. فعلى قدر نظر الناظر واستدلاله يكون دركه لحقيقة المنظور فيه ، والمستدلّ عليه ، فكان الإجماع من العقلاء على ما أجمعوا عليه أصلا وحجة محكّمة على الفرع الذي وقع الاختلاف فيه.

وأصل الكتاب فهو المحكم الذي لا اختلاف فيه ، الذي لا يخرج تأويله مخالفا لتنزيله. وفرعه المتشابه من ذلك فمردود إلى أصله ، الذي لا اختلاف فيه بين أهل التأويل.

وأصل السنة التي جاءت على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما وقع عليه الإجماع بين أهل القبلة ، والفرع ما اختلفوا فيه عن الرسول. فكل ما وقع فيه الاختلاف من أخبار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو مردود إلى أصل الكتاب والعقل والإجماع.

نهاية المطاف

ولما لم يجد الإمام القاسم الأنصار على الجهاد ولم تواته الفرصة للصمود أمام جبروت الدولة العباسية ، انتقل إلى الرس في آخر أيامه ـ وهي أرض اشتراها وراء جبل أسود بالقرب من ذي الحليفة بالمدينة المنورة قريبة من أبيار علي ـ من حيث يحرم للحج الخارجون من المدينة ، وإلى جبل الرس نسب الإمام. وبنى هناك لنفسه ولولده ، وتفرغ للعلم والتأليف ، وتوفي بها ، وقد حصل له ثواب المجاهدين من الأئمة السابقين سنة (٢٤٦ ه‍ ٨٦٠ م) ، وله سبع وسبعون سنة ، ودفن فيها. وقد حاولنا

١٤٠