مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

يهتدي سبيله الجنين في ولادته ، والفرخ من بيضته.

ومتى هدي العالم إلى الفطرة ، هدي إلى الإسلام ، فإن الإسلام هو دين الفطرة.

ومعرفة الله سبحانه وتعالى مركوزة في كل طبع. واسمه الكريم معروف في كل لغة ، واختلاف الأجناس والألسنة لم يصرف الأفئدة والأفكار عن هذه الحقيقة الواحدة.

بيد أن هذه المعرفة المتصلة برب العالمين لم تأخذ امتدادها الكامل وسماتها الراشدة ، ولم تبرأ من الأوهام وتبعد عن الأهواء ، إلا عند ما تلقّاها الناس مصفّاة من ينابيع الوحي ، وسمعوا آياتها تتلى من أفواه الأنبياء.

ولكن ذلك لم يمنع الكثير ممن لم يدخلوا في نطاق الرسالات الأولى ، أو لم تبلغهم ـ على وجه صحيح ـ هدايات القرآن الكريم ، أن يفكروا في الله من تلقاء أنفسهم ، وأن يطلقوا لعقولهم عنان البحث.

والفلسفة الإلهية حافلة بالكثير من هذه الأفكار ، كما أن علماء الكون في العصر الأخير قد تكلموا عن الله في حدود ما هداهم إليه البحث المجرد في آفاق الطبيعة وأسرارها وقوانينها.

والفلاسفة القدامى أسموا الله : الصانع ، والعقل الأول ، وواجب الوجود ، وسبب الأسباب ، وغير ذلك من الأسماء التي اصطلحوا عليها.

كما أن للعلماء المحدثين تصورات في الألوهية التبس فيها الحق بالباطل كما سترى. وعلة هذا اللبس ، أن هداية السماء لم تصحب العقل في سيره. ومن ثمّ أقر العقل بالمبدإ الواجب ، وأخطأ في التفاصيل المتعلقة به.

المهم أن العقل الذكيّ ، والبحث النزيه ، والفكرة المبرّأة عن الغرض ، المستقيمة على النهج ، تتأدى بأصحابها ـ حتما ـ إلى الله ، وتقفهم خاشعين أمام الشعور الغامر بعظمته وجلاله.

ليس كمثله شيء

إن مخالفة الذات الإلهية لغيرها من المحدثات ظاهرة ، والبداهة تقضي بأن بين

١٠١

المخلوق والخالق أمدا بعيدا ، وأن الخالق لا يشبه شيئا من خلقه ، لا في ذاته ، ولا في صفاته.

وقد وصف الله عزوجل نفسه بصفات كثيرة ، من الصعب إدراك حقيقتها على النحو الذي ندرك به أمورنا المعتادة ، بل هذا مستحيل!

من أين للتّافه أن يعرف كنه العظيم؟

إن النملة لا تعرف حقيقة الإنسان ، فحدود عالمها الذي تعيش فيه تقفها دون ذلك.

والطفل ـ في المرحلة الأولى من عمره ـ لا يعرف ما هي الرجولة ، ولا ما يصحبها من سعة عقل ، واستحكام إدراك.

بل إن الإنسان عاجز عن إدراك حقيقة الوجود المادي الذي يعيش فيه ، فكيف يعرف ما وراءه من غيوب؟

إذا قيل : إن الله يسمع ، فليس ذاك بأذن كآذاننا. أو يرى ، فليس ذلك بعين كأعيننا. وإذا قيل : إنه بنى السماء ، فليس على النحو المألوف من تكليف بناة واستحضار أدوات. وإذا قيل : يده فوق أيدينا ، فليس الوصف لجارحة كأعضائنا.

والذي نوقن به ابتداء ، أن صفات المحدثين واحوالهم لا يجوز أن تنسب إلى الله ، فهو ـ سبحانه وتعالى ـ غير مخلوقاته.

وشأن الألوهية أسمى مما تتصور الأذهان الكليلة والعقول القاصرة.

وقد وردت في الوحي الكريم كلمات عن الوجه ، واليدين ، والأعين والاستواء على العرش ، والنزول إلى السماء ، والقرب من العباد ... إلخ ، حاول كثير من المسلمين استكناه دلالتها واستكشاف حقيقتها ، فلم يرجعوا إلا بالحيرة. حتى قال قائلهم :

نهاية إقدام العقول عقال

وآخر سعي العالمين ضلال!

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا!

وكم من جبال قد علا شرفاتها

رجال فبادوا والجبال جبال!

ولا غرو ، فإن البحث عبث فيما لا يملك المرء وسائل الخوض فيه.

١٠٢

إن الكيميائي قد يعرف خواص سائل أو غاز يقلبه تحت يده ويجري عليه ما شاء من تجارب ، فكيف يجوز للعباد أن يتدخلوا بالبحث النظري في شأن الألوهية لينكروا أو ليثبتوا؟ وشأن الألوهية بالنسبة إليهم عزيز المنال.

إن اللغات من وضع الناس على مر الزمان.

فنحن العرب وضعنا كلمة أذن مثلا لهذا التجويف أيمن الوجه أو أيسره الذي نسمع عن طريقه الأصوات ونتبين الكلمات ...

وقد وضع غيرنا من أبناء اللغات الأخرى كلمات تدل على هذه الحاسة غير الكلمة المتداولة بيننا ، والمهم أن هذه الألفاظ الموضوعة استحدثها الناس لمفاهيم مادية أو معنوية مارسوها وألفوها ، ومن هنا فالمجيء بهذه الكلمات للدلالة على أمور مغيبة ليس إلا من قبيل التقريب للذهن ، ولا يمكن أن تكون هذه العبارات ـ التي صنعناها نحن بيانا للمحسوسات أو المعقولات المأنوسة لنا في عالمنا ـ وصفا حقيقيا لعالم ما وراء المادة.

على ضوء هذا الملحظ نفهم حديث أي لغة عن الله جل شأنه وعن صفاته العليا ، إن الأمر لا يعدو تقريب الحقائق المطلقة لو عينا المحدود.

والله أكبر من أن تحيط بعظمته عقولنا. أو تستوعب كمالاته أقدارنا.

وقال ابن أبي الحديد :

والله لا موسى ولا عي

سى المسيح ولا محمد

علموا ولا جبريل وهو

إلى محل القدس يصعد

كلا ولا النفس البسيطة

لا ولا العقل المجرد

من كنه ذاتك غير أنك

أوحديّ الذات سرمد

وجدوا إضافات وسلبا

والحقيقة ليس توجد

ورأوا وجودا واجبا

يفنى الزمان وليس ينفد

فلتخسأ الحكماء عن

حرم له الأفلاك سجّد

من أنت يا رسطو ومن

أفلاط قبلك يا مبلّد

ومن ابن سينا حين قرّ

ر ما بنيت له وشيّد

١٠٣

هل أنتم إلا الفرا

ش رأى الشهاب وقد توقّد

فدنا فأحرق نفسه

ولو اهتدى رشدا لأبعد

وقال :

فيك يا أعجوبة الكون

غدا الفكر كليلا

أنت حيّرت ذوي اللب

وبلبلت العقولا

كلما قدّم فكري فيك

شبرا فرّ ميلا

ناكصا يخبط في عميا

لا يهدى السبيلا

وقال :

فيك يا أغلوطة الفكر

تاه عقلي وانقضى عمري

سافرت فيك العقول فما

ربحت إلا أذى السفر

رجعت حسرى وما وقفت

لا على عين ولا أثر

فلحى الله الأولى زعموا

أنك المعلوم بالنظر

كذبوا إن الذي طلبوا

خارج عن قوة البشر (١)

وقد تناول الإمام القاسم مسألة التوحيد والعدل في جل كتبه ، إن لم أقل كلها بشكل موضوعي متميز ، وهي لديه القضية المركزية ، والمحور الأساس لقضايا العقيدة ، والشريعة بكل أصولها وفروعها.

* * *

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٥٠ ـ ٥١.

١٠٤

العدل

العدل الإلهي ـ عند المؤمنين بالله تعالى ـ قضية بديهية لا يرقى إليها شك ، ولا يعتريها ريب ، ولا تحوم حولها شبهة.

وكل الأديان السماوية ، وكل معطيات العقل السليم والمنطق العلمي مقرّان بذلك أتم اقرار ، ومذعنان له أكمل اذعان.

ولهذا لم يكن العدل الإلهي ـ بمعناه البحت المجرد ـ معضلة من المعضلات الفكرية المعقدة التي تحتاج إلى تجريد بحث خاص ، يعنى بتسجيل براهينها وايراد أدلتها ومناقشة ما قيل ويقال بشأنها من شبهات وشكوك. بل ربما يعتبر البحث فيها تافها إلى حد بعيد ، لأنه من قبيل الحديث عن توضيح الواضحات والاستدلال على المسلّمات.

ولكن المسائل الفكرية البديهية قد تحوطها ملابسات هامشية معينة ، وتضاف إليها تفريعات جانبية معقدة ، وتلقى عليها ظلال قائمة من التفاسير والشروح والتأويلات ، فيتكدر صفاؤها وينطمس إشراقها وينقلب وضوحها إلى لغز وجلاؤها إلى غموض ، ويصبح استكشاف الواقع ـ في هذه الحال ـ محتاجا إلى كثير من البحث والمناقشة والأخذ والرد ، لتظهر الحقيقة الضائعة جلية ناصعة ، لا يحجبها ضباب الحواشي والتفريعات ، ولا تطمس معالمها تلك الأكداس الهائلة من المجادلات العقيمة المطولة.

المجبرة القدرية

الإيمان بالقضاء والقدر عقيدة من العقائد التي أسسها الإسلام على الإيمان بالله عزوجل ، وبناها على المعرفة الصحيحة لذاته العليا ، وأسمائه الحسنى ، وصفاته العظمى.

ولا ريب أن الإسلام قد أوجب لله نعوت الكمال ، وصفات الجلال والجمال ، ودواعي الحمد والتمجيد.

ووافق العقل النقل في ذلك كله ، ثم فصلت هذه الكمالات الواجبة لرب الوجود : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣)) [الأعلى : ٢ ـ ٣].

فكان في عداد ما ينبغي الإيمان به والاطمئنان إليه ، أن لله وحده صفات العلم

١٠٥

الواسع ، والإرادة الشاملة ، والقدرة الكاملة ، وأنه ـ سبحانه ـ فعال لما يريد ، عالم بما يفعل.

وعلى هذه الصفات قامت عقيدة القضاء والقدر. فكان الإيمان بها ـ لا ريب ـ جزءا متمما للإيمان بالله ، وعنصرا من حقيقته الواضحة المشرقة.

نعم إن الله وسع كل شيء علما ، وأحاط بكل شيء خبرا.

سواء في هيمنته : دبيب النمل في جحورها ، أو وثبات الأفلاك في مداراتها.

وشمول علمه يستغرق الأمكنة على تعدادها ، والأزمنة على تطاولها. فما تغيب عنه بقعة في المشرق أو في المغرب ، وما يغيب عنه يوم في الأزل أو الأبد.

وأحداث الحياة ـ وما أكثر ما يلوح في آفاق الحياة من خير وشر ، وبأس ورجاء ، وحزن وفرح ـ ذلك كله استوعبه العلم الإلهي عدا وإحصاء : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [يونس : ٦١].

وفي صفحات هذا الكتاب خطّت سطور القضاء والقدر ، وعرفت مصاير الأمور ، ووضّحت نهاياتها ، من شقاوة وسعادة. ولكن أنّى لنا علم بذلك؟

إنما الغيب كتاب صانه

عن عيون الخلق رب العالمين

ليس يبدو منه للناس سوى

صفحة الحاضر حينا بعد حين

ويتعلق القضاء والقدر بوقائع الحياة وأحداثها وأعمال الناس وتصرفاتهم على نحوين واضحين متميزين! لكل نحو منهما حكمه الخاص وآثاره التي تترتب عليه.

وبين كلا القسمين فواصل قائمة ، تجاهلها يوقع في الدين الغموض والاضطراب ، ولذلك سنوضح حدود كل قسم ومعالمه.

نحن مجبورون في هذا

هناك أمور تحدث وتتم بمحض القدرة العليا ، وعلى وفق المشيئة الإلهية وحدها ، وهي تنفذ في الناس طوعا أو كرها ، سواء شعر بها الناس أو لم يشعروا. فالعقول

١٠٦

ومقدار ما يودع فيها من ذكاء أو غباء ، والأمزجة وما يلابسها من هدوء أو عنف ، والأجسام وما تكون عليه من طول أو قصر ، وجمال أو قبح ، والشخصيات وما تطبع عليه من امتداد أو انكماش ، والزمان الذي تولد فيه والمكان الذي تحيى به ، والبيئة التي تنشأ في ظلها ، والوالدان اللذان ينحدر منهما ، وما تتركه الوراثة في دمك من غرائز وميول. والحياة والموت ، والصحة والمرض ، والسعة والضيق ، ذلك ومثله ، لا يد للإنسان به.

فأصابع القدر وحدها هي التي تتحرك ظاهرة وباطنة ، لتوجه الحياة كما يريد صاحب الحياة.

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)) [آل عمران : ٥ ـ ٦].

وغنيّ عن البيان ، أن شيئا من هذا ليس محل مؤاخذة ولا موضع حساب ، وإنما لفتنا النظر إليه لتعرف أن الجنسية التي تنتمي إليها ، واللغة التي تنطق بها ، بل نوع التكوين الذي يوجد الإنسان عليه ، ذكرا كان أو أنثى.

هذا شيء من الخصائص التي لا قبل لنا بها ، ولا سبيل لنا إليها ، وفي مثلها يساق قول القرآن الحكيم : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)) [القصص : ٦٨ ـ ٧٠].

والإيمان بهذا الضرب من القدر واجب ، والأدلة عليه متظاهرة من العقل والنقل.

وعلى المؤمن أن يوقن ـ من أعماق قلبه ـ أن هذه أمور مفروغ منها ، مفرقة على ذويها ، من قديم جفت الأقلام بها فلا راد لها.

هذه أمور علمها الحق وأرادها ، ونفذها استقلالا ، ولسنا منها في قليل ولا كثير.

وقد أحسن سلفنا الصالح الإيمان بها فكان أثرها في مسلكهم رائعا.

وإذا علم الواحد منهم أن أجله مكتوب لا ينقصه الإقدام ولا يزيده الإحجام ،

١٠٧

أدى واجبه على وجهه الأكمل ، وفي أذنيه دويّ التوجيه الإلهي.

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)) [التوبة : ٥١].

ومواضع الرجوع إلى القضاء والتسليم لله فيما أراد ، كثيرة متنوعة ، وهي تعطي المسلم صلابة وقوة واندفاعا ، وتملؤه عزيمة وتحملا وجلادة.

هنا إرادتنا حرة

أما القسم الثاني من متعلقات القضاء والقدر ، فهو يتصل بأعمال على عكس الأولى.

ونحن نشعر حين أدائها بيقظة عقولنا ، وحركة ميولنا ، ورقابة ضمائرنا.

فما مدى صلتنا بها؟ وما معنى نسبة القدر إليها؟

الخطب سهل جدا ، وسنجيب على هذا التساؤل بما يذر شبه المشوشين هباء إن شاء الله.

إننا نحسّ باستقلال إرادتنا وقدرتنا فيما نباشر من أعمال تقع في دائرتهما ، وكان يكفي هذا الإحساس دليلا على حريتهما لو لا أن هناك من يزعم أن الإحساس يكذب أحيانا.

ولكننا نطمئن إلى صدق هذا الإحساس ونكذب ما يغض من قيمته بعد أن نرجع إلى القرآن الكريم نستفتيه في ذلك.

ونحن نجد القرآن يؤكد هذا الإحسان البديهي ، وينوه بحرية الإرادة الإنسانية.

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩]. ولا يخليها من المسئولية الواضحة على ما يصدر منها : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨)) [يونس : ١٠٨].

بل إن طبيعة الدين ـ وهي التكليف والابتلاء ، لا تتحقق البتة مع استعباد الإرادة وتقييدها ..

١٠٨

وإيقاع الجزاء كذلك لا يتوجه ويقر إلا في هذا الجو الطلق الفسيح.

وليس هنا موضع سرد الآيات الشاهدة لذلك. فالقرآن كله شواهد بينات ودلائل واضحات.

فما موقف العلم الإلهي من هذا النوع من الأعمال؟ هو الإحاطة التامة والشمول الكامل : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢].

ولكن كيف يتفق القول بحرية الإرادة والقول بأن أعمالنا لن تخرج عن دائرة العلم الإلهي المحيط الشامل؟

والجواب سهل : قف أمام مرآة مجلوة صافية وأنت عابس الوجه مقطب الجبين فما ذا ترى؟ سترى صورتك كما هي عابسة مقطبة.

أيّ ذنب للمرآة في ذلك؟ إن مهمتها أن تصف وأن تكشف وهي قد صدقت فيما أثبتت لك ، ولو كنت ضاحك الوجه لأثبتت لك على صفحتها خيالا ضاحكا لا شك فيه.

كذلك صفحات العلم الإلهي ومرائيه لا تتصل بالأعمال اتصال تصريف وتحريك ، ولكنه اتصال انكشاف ووضوح ، فهي تتبع العمل ولا يتبعها العمل.

غاية ما يمتاز به العلم ، أنه لا يكشف الحاضر فقط ، ولكنه يكشف ـ كذلك ـ الماضي والمستقبل.

فيرى الأشياء على ما كانت عليه ، وعلى ما ستكون عليه ، كما يراها وهي كائنة ، سواء بسواء؟

بقي بعد ذلك تفسير ما قررناه من شمول الإرادة العلياء ، ومن هيمنة القدرة العلياء على الخلائق كافة ، فما معنى ذلك وكيف يتفق مع حرية الإرادة الإنسانية؟

معنى (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)

الخطب في ذلك سهل كذلك ، ولن نذهب في بيانه إلى أبعد من كتاب الله لمن شاء أن يفهم. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧)) [القمر : ١٧].

١٠٩

ونحن نجد أن إطلاق المشيئة في آية ، تقيّده آية أخرى يذكر فيها الاختيار الإنساني صريحا.

أي أن إضلال الله لشخص ، معناه : أن هذا الشخص آثر الغيّ على الرشاد ، فأقره الله على مراده ، وتمم له ما يبغي لنفسه ..

(فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [الصف : ٥].

وانظر إلى قيمة التنويه بالاتجاه البشري المعتاد.

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) [النساء : ١١٥].

فهل بقي غموض في إطلاق المشيئة؟ لا.

إن معنى قوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) [الرعد : ٢٧ ، النحل : ٩٣ ، فاطر : ٨] لا يعدو قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) [البقرة : ٢٦ ـ ٢٧].

وكذلك الحال في (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

انظر إلى قيمة الإرادة الإنسانية في قول الحق وهو يتكلم عن إرادته : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)) [الرعد : ٢٧ ـ ٢٨].

فهو يهدي إليه من أناب (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [المنافقون : ٦].

اجعل أيها القارئ هذا المصباح بين يديك ، وسر في نوره بين شتى السور ، فلن تجد في دين الله قلقا أو اضطرابا.

وإنما القلق والاضطراب في عقول الحمقى ، وقلوب الغافلين.

وهنا قد يسأل البعض عن حدود الإرادة الدنيا والعليا في الأعمال. ومع أن هذا السؤال لا مبرر له ، فنحن نتبرع بالإجابة عنه حتى يظهر السر في نسبة الهداية والإضلال ، تارة لله ، وتارة للإنسان.

هل تعرف ما يفعله الفلاح في حقله؟ إنه يلقي البذر ، ويتعهده بالسّقي وعلى الله

١١٠

الإنبات والإثمار.

تستطيع أن تسمي الفلاح زارعا ـ وأنت صادق ـ لقيامه بالسبب.

وتستطيع أن تسمي الحق سبحانه زارعا لقيامه بالعمل.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) [الواقعة : ٦٣ ـ ٦٥].

فما للإنسان في سعيه مثل ما للفلاح في زرعه.

فازرع عمرك ـ إن شئت ـ خيرا ، فإن يد القدرة سوف تنميه لك وردا يانعا.

أو ازرعه ـ إن شئت ـ شرا ، فإن يد القدرة تنميه شوكا رائعا.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة : ١٠٥].

إن الصورة التي يرسمها الجبريون للعالم لا ترمز إلا إلى الفوضى المطلقة والخلط الشائن.

ولما كان البشر ـ في نظرهم ـ يقومون بأدوار لا خيرة لهم فيها ، فيهم لا يفرقون بين بر وفاجر.

وإنك لتسمع في كلام بعض الناس ممن يدينون بهذا المذهب الباطل ، تسوية بين آدم وإبليس ، وبين موسى وفرعون ، إذ الكل ـ في نظرهم ـ مدفوع إلى عمل ما قدّر عليها أزلا.

وليست الحياة إلا رواية يقوم أفرادها بما فرض عليهم من مواقف ، وينطقون بما لقّنوا من كلمات.

هذي الحياة رواية لممثل

الليل ستر والنهار الملعب

وإنك لو نقبت لرأيت هذه الصورة مرتسمة في أذهان الكثيرين ، بعضهم يعلنها مصارحا ، وبعضهم يطويها مستحييا وإن كان يدين بها.

وانهيار الدولة الإسلامية راجع إلى فشوّ هذه الضلالة بين الناس فشوّا جعل المنكر ينتشر بلا نكير ، وجعل الواجبات تهمل بلا نصيح.

وأساس الإصلاح يعتمد أول ما يعتمد على تصحيح الفهم في عقيدة القضاء

١١١

والقدر ، حتى تعود كما كانت.

الدافع الأعظم على التضحية والفداء ، والوازع الأول على ترك الشر وفعل الخير ، قياما بواجب الإنسان نحو نفسه ، وتنفيذا لأوامر الله جل شأنه.

أما الآيات والأحاديث التي وردت توهم بظاهرها أن الإرادة الإنسانية غير حرة ، فليست كما يظن الواهمون.

إن هذا الفهم العجيب نضحت به العقول المعوجة ، ولم توح به نصوص الدين.

إذ قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦)) [البقرة : ٦].

فليس إنذارهم وعدمه سواء ، لأن نفوسهم صيغت بحيث لا تقبل الحق من تلقاء ذاتها!! فهي أوعية للكفر برغم أنوفها. كلا!!

وإنما القصد صرف همة الرسول عن قوم طالما دعاهم وبذل جهوده لإنقاذهم من غوايتهم. فأصرّوا على تنكّب الصراط المستقيم بمحض اختيارهم.

المرجئة

اعتبرت كلمة «الإسلام» علما على الدين الذي جاء به صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتعارفت الأجيال هذه الحقيقة.

فإذا ذكر الإسلام ، عرف من هذا العنوان أنه الدين الذي يقوم على اتباع القرآن الكريم والسنة المطهرة.

ويدخل فيه من شاء من بابه الرئيسي المعروف «كلمة التوحيد» ثم يؤدي بعد ذلك ما يفرض عليه من تكاليف شتى.

على حين توسع العرف العالمي في كلمة «الإيمان».

فهناك إيمان مسيحي ، وآخر يهودي ، وآخر وثني ، وآخر شيوعي ... إلخ ، وهذا العرف العام لا يغض من قيمة الحقيقة الشرعية التي ذكرناها آنفا.

فمتعلقات الإيمان ، والدائرة التي يتسع لها في ديننا ، تجعله لا يصح في نظرنا ، إلا إذا

١١٢

كان مرادفا للإسلام ، أو ملازما له.

ولكن هذا العرف الشائع يؤكد أن الإسلام يرفض رفضا حاسما أي مسلك ينطوي على الاستهتار بالأعمال المطلوبة ، والتمرد على شارعها جل شأنه.

ولذلك نعد رفض الخضوع لله خروجا على الإسلام ، ومروقا عن الدين ، وهدما للإيمان ، مهما زعم هذا الرافض من معرفة ويقين.

لقد كان إبليس يعلم أن الله واحد لا شريك له ، وكان يعلم أن مصيره إليه يوم يبعثون.

بيد أنه لما صدر إليه الأمر : أن اسجد ، فقال ـ مستكبرا جاحدا ـ : لا .. عدّ كافرا ولم تشفع له معرفته بوحدانية الله ، لأن المعرفة المجردة عن مبدأ الخضوع المطلق لرب العالمين لا وزن لها.

والمعصية التي يقارنها هذا التمرد تخلع صاحبها من الإيمان خلعا.

والمعروف في دراستنا النظرية أن الدين عقائد وعبادات وأخلاق ، وأن الصلة بالله هي القائد الأول لبقية الشرائع ، وأن صحة هذه الصلة ضمان للنجاة ، وإن قلّت حظوظ المرء من بقية التكاليف الشرعية ...

ونريد أن نتوقف قليلا لنناقش هذا التفكير ، فلا نجوّز على أصل الإيمان ، ولا نجوز على مجموعة الأعمال المرتبطة به والناشئة عنه.

من حق علمائنا الأقدمين أن يهدروا كل خير يصنعه الكافر ، وأن ينوّهوا بثقل كلمة التوحيد في ميزان الصالحات.

إن وجهة نظرهم واضحة فإن الذي يرتكب في عصرنا جريمة الخيانة العظمى ، تعصف جريمته بكل خير فعله من قبل.

ويوم يقال : فلان خان وطنه وباعه للأعداء ، فلن ترى إلا الازدراء والمقت والإجماع على استحقاق أقسى العقاب.

ولو قيل : إن هذا الشقي كان برا بأمه ، أو كريما مع خدمه ، أو لطيفا مع أصدقائه ، فإن هذه الخصال جميعا تطوى في صمت ، وتزم دونها الشفاه! ولا تغني عن حكم

١١٣

الموت المادي والأدبي الذي يستحقه هذا الخائن.

والواقع أن سلفنا نظروا إلى الكافر بالله نظرة العصر الحاضر إلى الخائن لأمته ، ورفضوا الاعتراف بأي خير يفعله ، أو الإقرار بأي ميزة له.

والكافر ـ في نظرنا ـ أهل لهذا الهوان.

والجاحد لوجود الله ، الخائن لنعمته ، المنكر للقائه ، يرتكب بهذه الخلال أشنع جرائم الخيانة العظمى ، وليس له ما يدفع عنه ، مهما صنع : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج : ١٦].

إلا أن هذه الحقيقة تولّد عنها خطأ شائع ، ألحق بالإيمان وأهله ضررا بليغا.

فقد فهم العامة أن حسن الصلة بالله ـ وهو فضيلة بيقين ـ قد يجبر النقص في بقية الواجبات المفروضة.

ثم تدرّج هذا الفهم إلى أن هذه الواجبات يمكن أن تتلاشى ويغني الإيمان المجرد عنها.

وانضم إلى هذا الوضع أن الذين انحرفوا عن الإيمان ، ونسوا الله ، أتقنوا طائفة من الأعمال الإنسانية ، والفنون الحيوية ، وسبقوا بها سبقا بعيدا.

وعند ما قام في العالم هذا التناقض ، اهتزت قضايا الدين ، وتخاذلت صفوف المؤمنين ، ونجمت في أرجاء الدنيا فتن عاصفة.

إن المعنيين بالتربية الدينية قد يسيئون إلى الإيمان ، حين يتصورونه منديلا يمسح فيه الخطّاءون عيوبهم ، فهم يعثرون والإيمان يغفر ، ويكسرون والإيمان يجبر.

وكثير من أتباع الأديان السماوية ظنوا التمسك بأصل الدين كافيا في النجاة مهما صنعوا.

وقالوا : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ ...) [البقرة : ١١١].

وقد فنّد القرآن الكريم هذه المزاعم ، ورسم طريق النجاة الحقيقي ، وهو مزيج من الإيمان الحي ، والإحسان في العمل والإخلاص لله (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ

١١٤

صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)) [البقرة : ١١١ ـ ١١٢].

وبعض الوعاظ القصار النظر قد يقعون على آثار دينية محدودة المعنى والمجال ، فيسيئون فهمها وتطبيقها ، ويتجاهلون بها ـ جملة ـ الكتاب والسنة ، بل طبيعة الإيمان نفسه.

تلك الطبيعة التي تخلق من الموات حياة ومن الفوضى نظاما.

خذ مثلا حديث البطاقة عن عبد الله بن عمرو من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (إن الله تعالى سيخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر له تسعة وتسعون سجلا ، كل سجل مثل مد البصر ، ثم يقول : أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول : لا يا رب.

فيقول تعالى : بلى : إن لك عندنا حسنة ، فإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فيقول : يا رب ، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات! فقال : فإنك لا تظلم.

فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة ، ولا يثقل مع اسم الله شيء) (١) ...

هذا حديث مثير الدلالة ، ويضع عن الناس شتى التكاليف الإلهية ، ويبطل قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)) [يونس : ٨١ ـ ٨٢].

إن إطلاق هذا الحديث وأشباهه بين العوام أو بين الناشئة هدم للدين كله ، وهو الأساس لتكوين طوائف من المتدينين ، تحط من قدر الإيمان وأثره.

* * *

__________________

(١) أخرجه الترمذي ٥ / ٢٤ (٢٦٣٩) ، وابن ماجة ٢ / ١٤٣٧ (٤٣٠٠) ، وأحمد ٢ / ٢١٣ (٦٩٩٤) ، وابن حبان ١ / ٤٦١ (٢٢٥) ، والحاكم ١ / ٤٦ (١٩).

١١٥

الإيمان والعمل

صلة الإيمان بالعمل كصلة الخلق بالسلوك.

فإذا آمن الإنسان بالله العظيم ، وأيقن باليوم الآخر ، وصدّق بما جاء به المرسلون ، دفعه ذلك ـ لا محالة ـ إلى استرضاء ربه ، والاستعداد للقائه ، والاستقامة على صراطه.

كما أن الشجاع في ميادين الخطر يقدم ، والكريم في مواطن البذل ينفق ، والصادق في أداء الحديث يتحرى الحق .. إلخ.

بيد أن أعداء الإسلام ـ وقد عجزوا عن هزيمته في ساحات القتال ـ لم تعيهم الحيل لسحقه في عقر داره.

فدسوا على المسلمين من يصور لهم الإسلام كلمة لا تكاليف لها ، وأماني لا عمل معها.

وفي ظل هذا الفهم المعوج ترى المسلم واليهودي والمسيحي يتعاشرون سنين عددا ، فلا تستطيع أن تميز أحدهم من الآخر في شيء.

الكل لا يدخل مسجدا ، ولا يقيم فريضة ، ولا يحترم لله شعيرة.

والكل يشرب الخمر ، ويأكل الربا ، ويفجر بالأعراض.

وغاية ما بينهم من فوارق ، أن اليهودي يقدس يوم السبت ، وقد يذهب المسيحي إلى كنيسته خلسة.

أما ذلك المسلم المزعوم فليس يربطه بالإسلام إلا اسم سجّل في شهادة الميلاد فحسب.

والمؤسف أن أقواما ـ من أهل العلم الديني ـ لا يكترثون بذلك.

فالمرء إذا غمغم بين شفتيه بكلمة التوحيد ، تحصّن وراءها ، فأصبح يسيرا عليه ، ألا يقوم إلى واجب ، وألا ينتهي عن محرم.

وقد زعم هؤلاء المغفلون : أن الدين ينص على ذلك! ألا ساء ما يصنعون.

١١٦

ولو فرضنا أن حزبا ما ، تقدم إلى الناس وقد أضاف إلى جملة المواد التي تبين للجماهير منهاجه وتوضح أغراضه ، مادة أخرى تصرّح أو تلمّح ، بأن لكل منتم للحزب ألا يعمل بمبادئه وألا يتقيد بتعاليمه ، لقال الناس أجمعون : هذا هو العبث والمجون!

فكيف نتهم الإسلام بأنه يحمل في ثناياه ما يهدمه؟

وكيف ننطلق إلى نصوصه نبحث بينها عن (المادة) التي تبيح الخروج عليه واللعب به؟

وكيف ندعي أن الأعمال أمر كماليّ بحت ، لا يضير نقصانه؟

أولئك هم الحمقى : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [الأعراف : ٥١].

وعلى رءوسهم يقع التفريط الهائل في إقامة حدود الله وأداء فرائضه.

وما أصاب المسلمين من كوارث ونكبات عند ما فهموا دينهم على ذلك النحو الأبتر.

أمة تعتبر العمل من (الكماليات) الخفيفة ، كيف يقوم لها دين؟ أو تقوم بها دنيا؟

إن الله ـ عزوجل ـ جعل العمل رسالة الوجود ووظيفة الأحياء ، وجعل السباق في إحسانه سر الخليقة ودعامة الحساب.

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (٢) [الملك : ٢].

وما من آية في كتاب الله ذكرت الإيمان مجردا ، بل عطفت عليه عمل الصالحات ، أو تقوى الله ، أو الإسلام له ، بحيث أصبحت صلة العمل بالإيمان آصرة لا يعروها وهن.

فإذا عقدت مقارنة بين الهدى والضلال ، جعل الإيمان والعمل جميعا في كفة ، وجعل الكفر في الكفة الأخرى.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) [غافر : ٥٨].

١١٧

وكثيرا ما يشار إلى الإسلام وحقيقته الشاملة بمظاهر عملية واضحة محدودة.

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ)(١٦) [البلد : ١١ ـ ١٦].

بل إن العلامة التي ينصبها القرآن دليلا على فراغ النفس من العقيدة وخراب القلب من الإيمان ، هي في النكوص عن القيام ببعض الأعمال الصالحة.

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ)(٣) [الماعون : ١ ـ ٣].

وقد ينظر إلى الإيمان على أنه وصف يلحق الأعمال ويطرأ على السلوك الإنساني المعتاد ، فيصلحه ويصله بالله ، فيذكر العمل أولا كما هي مرتبة وجوده ، ثم يذكر الإيمان ثانيا ، على أنه شرط صحته وقبوله.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) (٩٤) [الأنبياء : ٩٤].

ثم ما الذي يوزن في الدار الآخرة؟ أليست الأعمال التي تميل بالإنسان إلى النعيم أو الجحيم ، أو الدعاوى والمزاعم؟

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)) [الأعراف : ٨ ـ ٩].

إننا نعرف تاريخ أمم هلكت بسوء عملها. ونعرف أن الله نقم على قوم لوط ـ مثلا ـ لارتكابهم الفاحشة ، وعلى قوم شعيب ـ مثلا ـ لبخسهم المكيال والميزان ، وقد عرفنا مصاير أولئك الفاسقين.

فهل أمتنا ـ وحدها ـ هي التي تريد أن ترتكب السيئات ، دون حذر أو وجل؟

ليس الإسلام بدعا من الشرائع السابقة ، فيوجب الإيمان دون العمل.

بل إن القرآن الكريم ليقص علينا عبر السابقين لنتّعظ منها ، ثم لنسمع قول الله بعد

١١٨

ذلك : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)) [يونس : ١٣ ـ ١٤].

هكذا نمتحن وتراقب تصرفاتنا ، ويكلفنا الله بالإيمان والعمل جميعا ثم ينظر وفاءنا بما حملنا من أعباء!

* * *

١١٩

الشفاعة

يغلط عوام المسلمين بأحاديث واردة في شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعض العصاة.

وتعلّق أولئك العوام بأحاديث الشفاعة يخيل إليك أن قوانين الجزاء بطلت. وأن نيران الجحيم توشك أن تتحول بردا وسلاما على عصاة المؤمنين.

وكثيرا ما يفرط هؤلاء الجهال في الفروض ، ويقعون في أوخم الذنوب ثم يقولون : أمة محمد بخير!

وهذا مسلك ساقط.

ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أول من يستنكره ويحارب أصحابه ، وينذرهم بأنهم أصحاب الجحيم.

فأما أن الجزاء حق ، وأنه يتناول الذرة من الخير والشر. وأنه يعم الناس أجمعين ، فذلك صريح القرآن.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [الزلزلة: [٧ ـ ٨].

والقول بأن قوانين الجزاء توقفت بالنسبة لأتباع نبيّ ما سخف فارغ ، وقد كذّب القرآن الكريم في مواضع شتى مزاعم الأولين والآخرين لمّا جمحت بهم أمانيهم إلى هذا الوهم الباطل.

فليس للشفاعة هذا النطاق الواسع الذي يبرر به الخطاءون إصرارهم ، وما تفيدهم أمانيّهم فيها شيئا.

وقد بيّن الله سبحانه أن الشفاعة لا تجدي على كافر ، ولا على فاسق مثقل بالخطايا.

قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)) [البقرة : ٤٨].

وقال كذلك : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا

١٢٠