مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

من الاعتقاد في جاهليتهم ، وقد يرفعونها ـ افتراء ـ إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو خطأ ، فأخذ التشبيه يتسرب إلى معتقد الطوائف ويشيع شيوع الفاحشة) (١).

ولم يهتم بنو أمية بالإسلام ولا برعاية شعوبهم دينيا ، بل كان لهم دور في فساد العقائد ، خاصة في مسألة الجبر التي تدعم سلطانهم ، فتسرب التشبيه والتجسيم لعقائد المسلمين. ودخل إلى الدين كمّ هائل من الأحاديث على يد مشبهة الرواة ، أجازوا فيها على الله التبعيض والجسمية ، والرؤية ، والمشي والنزول والمجيء ، واليدين والقدم والنفس والفوقية ، وصار دينهم جزأ أو شبيها بجزء كبير بدين اليهود (خلق آدم على صورة الرحمن) ، و (يضع الجبار قدمه في النار) ، و (قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن) ، وانظر في ذلك بحثا لي بعنوان (الصلة بين عقائد الوهابية والتوراة اليهودية) ، وكتاب (قراءة في كتب العقائد) للباحث السعودي حسن فرحان المالكي.

ويعلق الشهرستاني على هذه الظاهرة بقوله : إنهم أجروا لفظ هذه الأحاديث : (على ما يتعارف من صفات الأجسام ، وزادوا في الأحاديث أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وذهب الشهرستاني أن مصدر هذه الأحاديث هم اليهود فإن التشبيه فيهم طباع ، وأن التوراة مليئة بهذه التشبيهات الغليظة ، ويرد إلى التوراة حديث أطيط العرش : (إن العرش ليئط من تحته كأطيط الرحل الجديد ، وأنه ليفضل من كل جانب أربعة أصابع) (٢). ومن العجيب أن محدثا مشهورا كجبر بن مطعم يروي هذا الحديث ، ويرد عليه البيهقي (٣) في (الأسماء والصفات) بأن هذا الكلام ، إذا كان جرى على ظاهره فإن فيه نوعا من الكيفية ، والكيفية عن الله تعالى وعن صفاته منفية.

وأفحش الحشوية في مقالتهم فقالوا بقدم القرآن حروفه وأصواته ورقومه المكتوبة ، وأنها كلها قديمة أزلية ، وكان دليلهم على هذا بأنه لا يعقل كلام ليس بحرف ولا كلمة ولا كتابة له ، ورتبوا على ذلك نتيجة مشبوهة ، ظنوا أنها منطقية ، هو ما دام

__________________

(١) انظر مقدمة تبيين كذب المفتري للكوثري / ١٠ ـ ١١.

(٢) انظر الشهرستاني ١ / ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٣) انظر البيهقي : الأسماء والصفات / ٤١٧٣.

٨١

الكلام قديما أزليان فلا بد أن حروفه وكلماته وكتابته أزلية.

وضلع فريق من المفسرين في تفسير القرآن الكريم في ضوء الاسرائيليات والتي حملت ظلالا كثيفة من التشبيه ، ومن هؤلاء (مقاتل بن سليمان المتوفي سنة ١٥٠ ه‍) والذي أجمع مؤرخو المقالات على أنه كان من المشبهة والمجسمة (١) ، وكان يكذب ويأخذ من اليهود والنصارى ، وربما كانت حركة التأويل العقلي في الإسلام رد فعل لحركة مقاتل بن سليمان ، وهكذا أدى تطرف المشبهة إلى ظهور تطرف النفاة من أمثال جهم بن صفوان (٢) ، وما حديث أطيط العرش ، وغيره إلا من مرويات مقاتل بن سليمان (٣) ، وكذلك حديث المقام المحمود ، وشحن تفسيره بالحشو والتشبيه والأحاديث الواهية والموضوعة (٤) ، ولذلك ليس مستغربا أن نجد أبا حنيفة المتوفي سنة ١٥٠ ه‍ (٥) يلعن مقاتل بن سليمان ، والغريب أن نجد مفسرا من التابعين له دور كبير في نشر حديث المقام المحمود ، هو مجاهد بن جبر المتوفي ١٠٤ ه‍ (٦).

وجمع مقاتل بين مذاهب رديئة ومتطرفة منها الإرجاء الذي أجمع عليه الأشعري والشهرستاني ، بل زاد الأمر إلى القول بأن الإيمان قول فقط (٧) ، وتأتي بعد ذلك فتأخذ الكرامية بقوله (٨).

ويبدو أن مقاتلا جمع بين الإرجاء والتشبيه والتجسيم ، يقول المقدسي : إن مقاتل زعم أن الله جسم من الأجسام ـ لحم ودم ـ وأنه سبعة أشبار بشبر نفسه .. ويقول أيضا : إنه على صورة لحم ودم (٩) ، وحكى الأشعري مثل ذلك (١) ، وتبعه داود

__________________

(١) انظر الشهرستاني في الملل ١ / ١٥٤ ـ ١٥٨.

(٢) انظر المقريزي في الخطط ٢ / ٣٤٩ ، ٣٥١.

(٣) انظر الملطي في التنبيه والرد / ٥٥.

(٤) حققه وطبعه د / عبد الله شحاته ، إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب.

(٥) انظر ابن خلكان في وفيات الأعيان ٢ / ١٦٣.

(٦) انظر الذهبي في ميزان الاعتدال ٣ / ٩ ، وأبا نعيم في حلية الأولياء ٣ / ٢٧٩.

(٧) مقاتل بن سليمان في تفسيره ١ / ١٣ ، ١٥٠.

(٨) انظر الأشعري في المقالات ١ / ٢٠٥.

(٩) المقدسي في البدء والتاريخ ٥ / ١٤١.

٨٢

الجواربي الشيعي وأصحابه في مقالته : (إن الله أجوف من فيه إلى صدره ، ومصمت ما سوى ذلك له) (٢) ، وهذا يدل على أن التشبيه تشارك فيه مشبهة الحشوية والشيعة الحشوية المجسمة.

ويقول الأشعري : إن داود الجواربي ومقاتل بن سليمان يذهبان إلى أن الله جسم وأنه جثة على صورة الإنسان .. لحم ودم وشعر وعظم ، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين) (٣).

وهكذا نجد أن الإمام القاسم الرسي كان يصارع تيارا عاتيا من التشبيه تمكن من العامة وبعض الخاصة في العالم الإسلامي ، والمهم أنه يعتبر المقاتلية أسلافا للكرامية ، ويعتبر مشبهة الحشوية كمضر وكهمس والهجيمي هم سلف الكرامية.

وموجز القول في مقاتل بن سليمان أنه كان مشبها ومجسما ، وقد احتفظ لنا التاريخ بتفسيره الذي يثبت تمام الإثبات تشبيهه وتجسيمه ، وقد سبقه مضر وكهمس وأحمد الهجيمي بلا شك أو عاصروه في التشبيه.

لقد تطرفت أفكار مقاتل حول الإلهية غاية التطرف ، فحولته إلى (صنم) وقابل ذلك تطرف جهم الذي كاد أن يعبد من شدة التنزيه عدما ، وهذا بعينه ما جعل التيارات المعتدلة يبغضون الفريقين جميعا ، وفي رسالتنا هذه نجد الإمام القاسم يرد على جهم في الشيء ، كما يرد على مقاتل في الرؤية والنفس وغيرهما ..

نبغ في مدسة التشبيه ولمع اسم محدث مشهور عند رواة الحديث وهو خشيش بن أصرم أبو عاصم (٤) (إن خشيشا ممن سطع نجمه بعد رفع المحنة في فتنة القول بخلق القرآن عن تقريب المتوكل العباسي النقلة) (٥).

ووصفه الكوثري بقوله : (كان يفوه بما ينبذه البرهان ، غير ساكت عما لا

__________________

(١) الأشعري في المقالات ١ / ١٥٣.

(٢) الشهرستاني في الملل ١ / ٢١٩.

(٣) الأشعري في المقالات ١ / ٢٠٩.

(٤) انظر الزركلي في الأعلام ٢ / ٣٠٦.

(٥) الذهبي في تذكرة الحفاظ ٢ / ١١٩.

٨٣

يعنيه) (١) ، فتورط أمثال هؤلاء في الحشو والتشبيه والتجسيم.

وجاء الملطي (٢) المتوفي سنة ٣٧٧ ه‍ ، وسقط في الحشو والتشبيه والتجسيم في كتابه (التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع) (٣) شاهد على ذلك ، فيروي عن خشيش صاحب كتاب (الاستقامة) والذي سبق الإشارة إليه ، ومحمد بن عكاشة (٤) وهو أحد القصاص ورواه الحشوية ، وإن كان للملطي فضل فهو في حفظ وثائق هذا الاتجاه إلهام في التراث الفلسفي الإسلامي.

وفي القرن الرابع الهجري ظهرت حركة كبيرة للحشو والتشبيه على يد المحدث المشهور بحر بن محمد بن الحسن بن كوثر بن علي البربهاري ، ولذلك نسبت إليها فقيل لها : البربهارية ، وهو ممن خلط في سماعه وأدائه فوجد في مروياته الحسن ، والرديء وانتهى للتشبيه ، يقول المقدسي : (أما البربهارية فإنهم يجهرون بالتشبيه والمكان ، ويرون الحكم بالخاطر ويكفرون من خالفهم ويتمسكون بحديث المقام المحمود) (٥).

ومهدت بيئة التشبيه والتجسيم إلى ظهور فكرة الحلول ، بل هي تنسب صراحة إلى مضر وكهمس وأحمد الهجيمي ، ويحكى الشهرستاني أنهم انتهوا إلى حد الاتحاد ، (من المشبهة من مال إلى مذهب الحلولية ، وقال يجوز أن يظهر الله تعالى بصورة شخص) (٦).

وفي مجال البيئة الصوفية ظهرت فكرة الحلول والاتحاد وفرضت نفسها على يد صوفية كبار كأبي حلمان الدمشقي (٧) ، والحسين بن منصور الحلاج (٨) المتوفي سنة

__________________

(١) الكوثري في مقدمة التنبيه والرد / ٥ ، ٦.

(٢) أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي المتوفي سنة ٣٧٧ ه‍ ، وانظر السبكي في طبقات الشافعية ٢ / ١١٢.

(٣) حققه الشيخ محمد زاهد الكوثري وطبعته المكتبة الأزهرية عدة طبعات.

(٤) يقول عنه الذهبي وضاع وضع آلاف الأحاديث ، انظر لسان الميزان ٥ / ٢٨٦.

(٥) المقدسي في البدء والتاريخ ٥ / ١٥٠.

(٦) انظر الشهرستاني في الملل ١ / ٢٠٣.

(٧) الطوسي في اللمع / ٣٦٢.

(٨) الذهبي في لسان الميزان ٢ / ٣١٤.

٨٤

٣٠٩ ه‍ ، وأبي عبد الله محمد بن سالم البصري.

فأما أبو حلمان الدمشقي فكان يعيش في دمشق ، وأظهر دعوته فيها ونادى بحلول الله في الأشخاص الحسنة ، وكان هو وأصحابه إذا رأوا صورة حسنة ، سجدوا لها ، متوهمين أن الله حل فيها ، وكانوا يستدلون على جواز حلول الله في الأجساد ، بقول الله تعالى للملائكة في آدم : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)(٢٩) [الحجر : ٢٩]. وأن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم ، لأنه حل فيه ، ولذلك كان في أحسن تقويم ، والله يقول : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٤) [التين : ٤].

ولم يكن حظ العراق من الحلولية بأقل حظا من الشام ، فقد ذكر ابن الجوزي أنهم انتشروا في العراق ، فيقول (حكى قوم من المشبهة بأنهم يجيزون رؤية الله بالأبصار في الدنيا ، وأنهم لا ينكرون أن يكون بعض من يلقاهم في السكك ، وأن قوما يجيزون مع ذلك مصافحته وملازمته وملامسته ، أو يدعون أنهم يزورونه ويزورهم ، وهم يسمون بالعراق أصحاب الباطن وأصحاب الوساوس وأصحاب الخطرات) (١).

أما الحسين بن منصور الحلاج الذي قتل سنة ٣٠٩ ه‍ ، فقد اختلف في تكفيره الفقهاء والصوفية ، بسبب آرائه في الحلول وقوله على الله ، أما المتكلمون فقد أجمعوا على تكفيره (٢) ، أما الحشوية من المنايلة والسالمية فقد احتفلوا بآرائه وقبلوها (٣) ، يقول البغدادي (وقبله قوم من متكلمي السالمية بالبصرة ونسبوه إلى حقائق معاني الصوفية) (٤).

__________________

(١) ابن الجوزي في تلبيس إبليس / ١٧٣.

(٢) انظر الأسفرايني في التبصير / ١٣٠ ـ ١٣٢.

(٣) المصدر السابق.

(٤) البغدادي في أصول الدين / ٣٢٢.

٨٥

الكرامية

ثم ظهرت الكرامية على يد محمد بن كرام المتوفي سنة ٢٥٥ ه‍ (١) في بلاد ما وراء النهر ، ووجدت لها ناصرا في الدولة الغزنوية ومحمود بن سبكتكين سلطانها (٢) ، وصار لها أشياع وأتباع بالآلاف في عصر مؤسسها ، وظل المذهب موجودا ، وله أتباع الآن بالملايين ، فلما ذا؟ ..

لما عاش المذهب وناصره العامة ، ودافع عنه في عصره وبعده الحنابلة ، يبدوا أن ما يحمله من عقائد تشبيهية وتجسيمية أقرب إلى قلوب العامة من غيره.

يقول الشهرستاني : (شبع رجل متنمس بالزهد من سجستان ، يقال له أبو عبد الله بن كرام ، قليل العلم ، قد قمش من كل ضغثا ، وأثبته في كتابه ، وروجه على اغتام غزنة وغور وسواد بلاد خراسان ، فانتظم ناموسه وصار ذلك مذهبا ، وقد نصره سبكتكين السلطان ، وصب البلاء على أصحاب الحديث والشيعة من جهتهم وهو أقرب مذهب إلى مذهب الخوارج ، وهم مجسمة ، حاشا محمد ابن الهيصم ، فإنه مقارب) (٣).

إذا نحن أمام مذهب تكوّن من فضلات أفكار كونت ثوبا مرقعا من التشبيه والتجسيم في التوحيد اقتربوا به من الخوارج وورثوا بها مدرسة مقاتل بن سليمان ، وداود الجواربي من المجسمة.

وتتلخص آراء الكرامية في العقيدة في أن الله جسم لا كالأجسام والغلو في إثبات الصفات الخبرية والعقلية ، فقالوا بالعرشية والجسمية والتحيز والنزول والمجيء .. إلخ (٤).

ويقول الشهرستاني عنه : (إن الله أحدي الذات ، أحدي الجوهر) ، والله عزوجل بذلك جسم لا كالأجسام ، وله وجود وبقاء وذات لا كغيره ، ويتناهى من جميع

__________________

(١) انظر الشهرستاني في الملل ١ / ٢١ ، ١٠٦ ، ١٢٤ ، ١٢٩.

(٢) انظر ابن كثير في البداية والنهاية ٢ / ٢٧ وما بعدها.

(٣) الشهرستاني السابق ١ / ١٠٦.

(٤) انظر الأشعري في المقالات ١ / ٢٠٥ وما بعدها.

٨٦

جوانبه ، وله مكان هو العرش ، ويرى في جهة فوق (١)! .. إلى آخر ما ذكره أصحاب الفرق (٢).

وانتهى التشبيه والتجسيم بمدرسة تقي الدين ابن تيمية المتوفي ٧٢٨ ه‍ الحنبلي ، وقد نشأ في بيئة يحيط بها التشبيه من جوانبها ، ليؤدي هذا الفكر حتى هذا العصر ، والذي يؤمن بمذهبه ملايين المسلمين!

هذا هو الفكر الذي كتب الإمام القاسم بن إبراهيم ليرد عليه في كتابه المسترشد ، ليعلم مدى أهمية هذه الرسالة في الدفاع عن العقائد الإسلامية صافية خالصة ، بعيدة عن التأثيرات الفلسفية الوافدة ، أو الأفكار التراثية الساذجة ، وحتى لا ينتهي أمر العقيدة إلى بقايا أديان مختلفة لا علاقة للإسلام بها.

وهذا هو الفرق بين منهج ومنهج ، وفكر وفكر ، من هو الأصيل منهما ، ومن هو الدخيل ..؟ لقد أصل الإمام القاسم لمنهج إسلامي خالص في الفكر الكلامي.

* * *

__________________

(١) الشهرستاني مصدر سابق ١ / ١٢٤.

(٢) الأشعري مصدر سابق ١ / ٢١٥.

٨٧

منهج الإمام القاسم في الرد على المشبهة

١ ـ يرد الإمام القاسم في هذه الرسالة على المشبهة والمجسمة ، وقد زعموا أن الله في السماء واستدلوا على ذلك بالنص القرآني ، فرد عليهم بأن هذه النصوص هناك نصوص مثلها تدل على أنه ليس في السماء ، فأيهما أولى بالتصديق وأيهما أولى بالرد ، فللصعود معان في اللغة ، وللفاء معان أيضا تحتملها لغة العرب الذي نزل بها القرآن ، على غير ما قصد المشبهة من المكانية ، والتي هي ممتنعة على الله ، وعقب على ذلك بقوله : (فالمعنى في ذلك كله المشاهدة والتدبير ، لا على أنه في شيء يحويه ، ولا على أنه مع شيء ملازق له ، ولا على أنه على شيء ، كما الإنسان على السرير وعلى السطح ، قد خلا منه ما هو أسفل من ذلك!).

٢ ـ وكذلك نفى كونه تعالى على العرش ، لأن العرش ليس بأحق من غيره من الأماكن ليوجد فيه الله ، وهو ما يعلن بالتحيز والجهة ، وكل ذلك منفي عن الله عقلا ونقلا ، وكيف يمكن الجمع بين كونه تعالى في السماء ، والعرش نفسه فوق السماوات على حد قولهم؟ ..

وهناك من المشبهة من قال بأن الله تعالى نفس كنفس الإنسان ، فرد عليهم ، وبيّن لهم أن للنفس معان مختلفة في اللغة العربية يليق بعضها بذات البارئ. فلم حمل المشبهة معنى النفس في القرآن على أنها نفس كنفوس بني آدم؟!

يرجع الإمام القاسم ذلك إلى جهلهم بالخطاب الإلهي وعدم معرفتهم بحقيقة التوحيد ، وجهلهم بلغة العرب الذي نزل القرآن بها.

٣ ـ المسألة الثالثة كانت في رده على من زعم أن الله نور كالأنوار المخلوقة ، وهو عين مذهب المجوس والثنوية ومذهب المانوية في كونه تعالى نورا ، والشيطان هو الظلمة ، أو أن العالم ما هو إلا النور والظلمة وقد حدث من امتزاجهما ، إلى آخر ما قالوا وردّ عليهم بتفصيل أكبر في رسالته التي رد فيها على ابن المقفع.

فبيّن الإمام القاسم أن النور المقصود في قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) [النور : ٣٥] ليس ذلك ، ولا يمكن أن يكون هو بحال من الأحوال. والله

٨٨

(استنار لنا بتدبيره من غير مشاهدة منّا له ، ولا إحاطة به ، ولا إدراك من حواسنا له).

فمن عرف الله وتعرّف عليه وأدركه ، كان ذلك (بتدبيره ونوره وعلاماته ، لا بمجاهرة منهم له ولا بالمشاهدة والملاقاة). وللنور تأويلات أخرى مختلفة بحسب معانيها في اللغة العربية ، منها ما يليق بذات البارئ تعالى ، أما ما قصده الملاحدة فلا ، وكذلك معنى (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) [النور : ٣٥] لا ينبغي صرفها إلى ظاهرها الذي يعني التشبيه والتجسيم ، وإنما اللائق بذات الله هو أن يكون مثل نور النبي الذي جاء به مثلا ، أو قلب المؤمن في نور إيمانه ، أو ما شاء الله من المعاني المصروفة إلى غير معنى التشبيه ، ويصدق ذلك أيضا على قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) [النور : ٣٥] ، وغيرها من المعاني الشريفة.

٤ ـ وكذلك صيّر المشبهة مفهوم الشيء فمالوا إلى التجسيم ، أما الجهمية فقد مالوا إلى أقصى التنزيه فأنكروا الشيئية في حق الله عزوجل ، وهكذا مال قوم إلى التشبيه فأفرطوا ، وآخرون إلى التنزيه ففرطوا ، وكلاهما حاد عن سواء القصد فهو ذميم! ..

فالله تعالى ، وسم المعاني بأن قال : هي شيء ، لإخراجه لها من العدم إلى الوجود ، وهذا يعني أن الشيء هو الموجود في مقابل العدم ، (والله شيء لا يشبه الأشياء) ، وهو خالق الأشياء ومشيئها ، ولا يشبه شيئا من خلقه ، وفي غير ما مثلية ، فالتشبيه لا يجوز إلا على ضد ومثل.

ف (الله شيء واحد كريم ، والله شيء عزيز ، والله شيء ليس كالأشياء ، فيكون ذلك مدحة ، ولا يذكر العبد التقي ربه إلا وهو فيما ذكر من أسمائه مادح).

٥ ـ أما المسألة الخامسة فكانت في الرد على من أنكر أن يكون الله واحدا ليس بذي أبعاض ، لقد نقض الإسلام التصور الأرضي للإله ، ذي القدرات الخاصة (السّوبر) وأكد على قيوميته تعالى وفردانيته ووحدانيته ، فلا ثاني معه ، ولا مثل له في صفة ولا في ذات ولا في قول ولا فعل ولا معنى من المعاني ... والواحد له معان كثيرة في اللغة منها الأول الفرد ، وهو العدد الحسابي ، أو بمعنى أنه أول الأشياء ، والله واحد لا من عدد وليس له في وحدانيته شبيه ولا نظير في ألوهيته ولا في ربوبيته.

٨٩

ورفض الإمام القاسم التبعيض على الله ، فالله ليس بجسم ، والأعضاء من خصوصيات الأجسام ، فلا يد له كأيدينا ولا رجل له كأرجلنا ، ولا على مثالنا ، الكون لا يقوم إلا بمكوّن ، والطول لا يقوم إلا بمطوّل ، والأبعاض لا تكون ولا تقوم إلا باتصال بعضها ببعض ، والله على غير هذا ، ولا تقوم إلا باتصال بعضها ببعض ، والله ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير (ليس يشبه معاني البشر ، ولا الحساب ، وهو إسقاط الثاني ، وليس ثان مع الله ولا واحد غيره في معناه ، كهو وإثباته واحدا تعطيل الثاني ، وفي تعطيل الثاني توحيد الأول ، والواحد الباقي الذي ما سواه ثان).

٦ ـ المسألة السادسة كانت رده على من زعم أن لله وجها كوجه الإنسان ، وإذا كان الله أنزل القرآن بلغة العرب وهي لغة الإيجاز والبلاغة ، فقد جعل الله بيان القرآن في هذه اللغة وفي تصاريفها ، وهو مما يعلمه ويدركه العلماء الراسخون ، والمشكلة فيمن نحّى اللغة جانبا ، وبدأ فهم النص من عندياته ، فهلك وأهلك وضل وأضل ، وقد ذكر الله الوجه في أكثر من موضع ، فهل يعني هذا أنه ذكر بعضه على وجه التحقيق؟!

هذا ما نفاه كل بصير ، وجاء الإمام القاسم ليرد بشدة على هذا الزعم ، وقد ذكر لذلك تأويلا وتفسيرا مقبولا على معاني ما جاء في اللغة العربية ، لا يحمل معنى التبعيض أو التشبيه والمثلية وكذلك يليق بذات الله تعالى ، وقد يكون وجه الله هو العمل الصالح والقول الحسن والثواب ..

٧ ـ أما المسألة السابعة فكانت في نفي الرؤية ، والرد على من زعم أن الله تدركه الأبصار وتحيط به الأعين ، تعالى عن ذلك ، بما تعنيه من إحاطة وجهة وتحيز ، وقدم الإمام القاسم معان كثيرة للرؤية سوى ما يفهم من الجهة والإحاطة وغيرها.

ثم قدم تفسيرا لمعنى الرؤية عن رسولين كريمين هما إبراهيم وموسى عليهما‌السلام ، فيقول الإمام القاسم : (إبراهيم وموسى في سؤالهما وقولهما لم يسألا ربهما أن يرياه جهرة ، بمعنى ما يرى البشر البشر ، لأن ذلك شرك ..).

فلم يحدث الله في الجبل رؤية ، ولا كان للجبل عين ولا عقل يدرك الرؤية ، أما معاني التجلي الإلهي على الجبل فقد أفاض فيها الإمام القاسم.

وقدم الإمام القاسم مفهوما للرؤية في الآخرة ، غير مفهوم المشبهة ، فقال : (يراه

٩٠

أولياؤه وينظرون إليه نظر مخلوقين إلى خالق ، ينتظرون ثوابه ويرون تدبيره ، لا كنظر مخلوقين إلى مخلوق ؛ لأنه ليس كالمخلوقين ، ويجوز أن يقال : نظر إلى من ليس كالمخلوق كما ينظر إلى المخلوق ..! وفي الخلق ما لا يرى وهو الروح والعقل وما أشبههما ، فلا يقال : إن شيئا من ذلك يرى كما ترى الأشخاص!).

وكذلك ينظر أولياؤه إليه لا بمعنى جهرة وإحاطة منهم به ، ولكن ينظرون إليه على خلاف التحديد والإحاطة.

وكلما كان من ثواب الله في الجنة فلا يعلم كيف هو إلا الله ، إلا أنا نعلم أن معنى الدرك له في الجنة ليس بتحديد ولا إحاطة ، فاعرف معاني الدرك واعرف فضل الدرك الذي يكون في الآخرة ، على فضل الدرك الذي يكون في الدنيا ، ولو أمدّ الله عزوجل الأبصار بالمعونة ، حتى تدرك أقل قليل نقطة من القطر في مدلهم ليل عاتم تحت الأرض السفلى ، من أبعد غايات السماوات العلى ، ما أدركت الأبصار الله ، وكذلك لو أمدّت الحواس كلها بالمعونات حتى تدرك كل محسوس ما هجم منها شيء على الله سبحانه ، تبارك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

إذا الخلاف بينه وبين من يثبت الرؤية في الآخرة خلاف جوهري ، فهو يصرفها عن معنى الرؤية التي يفهمها بشر من بشر ، وهم يثبتون هذه الرؤية الحسية ، وقد أفاض الإمام القاسم في نفي الرؤية على معنى ما ذكر قوم موسى عليه‌السلام ، ونفى أيضا اتهام موسى بأنه طلب الرؤية الحسية ؛ يقول الإمام القاسم : (لو كانت مسألة موسى على ما يتوهم المشبهون ، لنزلت به من العقوبة مثل ما نزل بغيره ، ولغلّظ الله عليهم تغليظا يعلم العباد أنه أكبر من الصغائر ، وفي تكفير الله عزوجل الذين قالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] ، إخراج مسألة موسى عليه‌السلام من معنى رؤية الجهرة ، وإخراجه من جهل القوم بالله).

كما رفض الإمام القاسم روايات المشبهة في الرؤية ، لأنها تتعارض مع روايات أخرى تنفيها ، مع ما تحمله هذه الروايات من إثبات ما لا يليق بمقام الألوهية ، من التحيز والجهة والتبعيض والجسمية ، والعرض كاللون والهيئة.

وأوّل الإمام القاسم معنى (لقاء الله) ، وكذلك (حجاب الكفار) عنه يوم القيامة،

٩١

وفسّر النظر بمعنى الدعاء ، ونفى أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد رأى ربه في الإسراء والمعراج ، وإنما رأى جبريل عليه‌السلام على حقيقته وهيئته التي خلقه الله عليها ، أما الإدراك فهو بمعنى المشاهدة والملاقاة جهرة ، أو ما يرد على القلب ، وهو يتفاوت بتفاضل المؤمنين بعضهم عن بعض.

وفي آخر هذا الرد يقدم مفهوما لإدراك الله في الدنيا ، يرد على قلوب العارفين الصالحين من عباد الله ، تبدو به سمات شخصيته الروحية والصوفية العارفة ، ومعايشته للإيمان تجربة ومنهاجا.

الرافضة

يرد الإمام القاسم بن إبراهيم على الروافض في زعمهم أنه لم يخل قرن من القرون إلا وفيه له وصي نبي أو وصي من وصي ، يقيمه الله تعالى حجة على عباده ، له علم خاص وحال خاصة ومن جهله ضل ، وطاعته مفروضة ، ومعرفته مفروضة على جميع أهل زمانه.

وبدأ الإمام القاسم في نقض هذه المقالة من وجوه عديدة ، منها : أين كان هذا الوصي الحجة في الفترات التي خلت من الرسل ، وإن كان موجودا لم لم يعرّف بنفسه أو يدع قومه إلى الإيمان به وتوحيد الله تعالى ، وما الحاجة للرسل إذا كان هؤلاء الأوصياء موجودين في كل زمان؟!

ويرد على الروافض دعواهم بأنها تكذيب للرسل وإلحاد بالكتب ، ولا يفوه بمثل هذه الدعوى إلا كافر عنيد وخصم ألد ، فلا الله تعالى بث في عباده حججا هي أوصياء على خلقه ، ولا الأنبياء غابوا عن عباده برسالته الهادية إلى توحيده وتفريده.

والآيات المحكمات من نص كتاب الله دالة على بعث الله للرسل والكتب ، وأنهم سرج هداية للبشر ، ولم يقم لغيرهم حجة على خلقه.

ويدعي الروافض أن النبي عليه أن يتعرف على وصي زمانه ويأخذ الإذن منه! ..

وأن الوصي خير من النبي .. وغير ذلك من ترهات كفرية أحصاها عليهم الإمام القاسم.

٩٢

فليس بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجة أو حجج على خلقه غيره صلى لله عليه وآله ، وغير القرآن المنزل من قبل رب العالمين ، وكل رسول هو لله حجة ، وكلهم شهداء لله على خلقه وعباده ، وأمناؤه في أرضه وبلاده ، وتهدد الله وتوعد من ينكر رسالة رسله أو يحاربهم ، أو يسعى في الأرض فسادا ، هاجرا شرعه وتاركا لتوحيده.

أما لفظ الإمام في القرآن فكان لأتباع الأنبياء وخلفائهم في خلقه ، يهدون بهداهم ويدعون بدعوتهم ويحكمون بشريعتهم ، ليس لهم علم ظاهر ولا باطن يخالف ما جاءوا به أو يفوق ما جاءوا به.

ويسخر من الروافض إغراقهم في التشبيه والتجسيم وسيرهم وراء زعماء السوء من أمثال هشام بن الحكم بن سالم الجواليقي ، وداود الجواربي ، وغيرهم ، ثم ادعاؤهم على الله واختلاقهم شخصية الولي الوصي ، أو الوصي الولي والحجة على خلقه في كل زمان!

فشبهوا الله بصورة آدم وقالوا منكرا عظيما ، يدل على جهلهم بصفة ربهم وخالقهم ، فهو جسم ، وطوله ستون ذراعا ، وهو نور ، وهو على العرش ، وهو لحم ودم ، تعالى الله عن مقالتهم علوا كبيرا.

ويعذرهم الإمام القاسم في جهلهم في صفة ربهم لعدم قصد أكثرهم التجسيم ، ولكنهم تبعوا زعيما لهم فأضلهم ، إلا مقالة الولي الوصي فشدد عليهم النكير لكون مقالتهم معاندة لحقائق وبديهات العقول ، وإنكارا للرسالة وما فيها ، وتهوين شأن الرسل ووحي السماء.

ويرجع كلام الروافض لتأثرهم بالبرهمية الهندية في إنكارهم للرسل ، وقولهم نكتفي برسالة آدم وهو كذب وزور وضلال ، لإنكارهم رسالة الرسل ونبوة الأنبياء ، وردهم الكتب ووحي السماء. والغريب أنهم قالوا بوصية آدم لشيث ابنه!

ولو وجد هذا الوصي ما كانت هناك فترات ولا رسل ولا جاهلية أبدا ، ورسالة الله منة ورحمة ولطف بعباده ، وما زالت الرسل تترى والوحي يتتابع حتى ختمت بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٩٣

وأرجع الإمام القاسم أمر الهدى والضلال والكفر والإيمان لله وحده ، فمن آمن واهتدى خرج من الكفر والضلال وسكن إلى سكينة ربه وطمأنينته ، وليس المرجع لإمام وصي معصوم من علمه اهتدى ، ومن جهله ضل كما يزعمون : «والله سبحانه يخبر أنهم كانوا كلهم في ضلال وعمى ، وقد كانوا جميعا جهلة بدينه لا علماء ، والرافضة تزعم أنه قد كانت فيهم يومئذ الأوصياء ، وأنها قد كانت تعلم من الدين حينئذ ما كانت تعلمه الأنبياء ..».

وما تزعمه الروافض هو من القول المتناقض المستحيل (إذ وصفوا بعضهم بالهدى مع وصفهم بالتضليل!).

ثم ذهب إلى الاحتجاج عليهم من باب الإلزام ، ليسألهم عن الوصي الذي كان مع سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنه «معلوم عند كل أحد من الأمم غير مجهول ، أنه لم يكن في العرب بعد عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رسول ولا مدع يومئذ».

وإن كان هناك وصي فلم لم يعرفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أم يا ترى تعرف الروافض ما لا يعرفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهل ضل النبي بجهله إمام زمانه ووصي عصره؟! ..

وهذا الوصي أين كان لما قال إبراهيم عليه‌السلام : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام : ١٦٣] ، وكذلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومسألة وجوب علم الوصي ومعرفته بعينه في كل زمان وفي زمن الإمام القاسم المتوفي سنة (٢٤٦ ه‍) ، والدعاوي التي أطلقها الروافض في أوجها .. وعليه أن يعرف وصي زمانه ويؤمن به ليهديه ويرشده! .. مما رد عليه الإمام القاسم في رسالته.

ويقارن بين النبوة ودعوى الوصاية فيبطلها ويكذبها من وجوه عديدة عقلية ونقلية ، ويذهب إلى أبعد المدى فيكفر الروافض بمقالتهم هذه ، ولذلك أرجو أن ينتفع المسلمون بهذه الرسالة ، وتسد حاجة في مكتبة العقيدة ، وتساعد الدارسين على فهم حقيقة موقف الزيدية من الروافض.

٩٤

المعتزلة

وها هم أئمة المعتزلة في عصره ، يفدون عليه في مجلسه ، محاورين ومستفهمين ، فهذا (حفص الفرد) ـ وهو علم من أعلام المعتزلة في عصره ـ يحضر مجلسه كما سبق.

وهذا (جعفر بن حرب) ـ علم من أعلام المعتزلة ـ يفد عليه مستفهما ومحاورا.

قال الإمام أبو طالب : حدثني أبو العباس الحسني رحمه‌الله ، قال : سمعت أبا بكر محمد بن إبراهيم المقانعي ، يذكر عن أبي القاسم [البلخي] عبد الله بن أحمد بن محمود ، عن مشايخه ، أن جعفر بن حرب ـ بغدادي من أئمة المعتزلة توفي سنة (٣٣٦ ه‍) ـ دخل على الإمام القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام ، فجاراه في دقائق الكلام ، فلما خرج من عنده قال لأصحابه : أين كنا عن هذا الرجل فو الله ما رأيت مثله (١)؟!

* * *

__________________

(١) الإفادة / ١١٥.

٩٥

الإمامة

يعد مبحث الإمامة نموذجا صالحا لمعرفة كيف تعامل المتكلمون مع واحدة من أهم مسائل الإسلام السياسي ، وإمكان اتخاذ هذه الآراء كقاعدة لتأسيس منهج جديد لعلم الكلام في تعامله مع القضايا المطروحة الآن في الساحة السياسية ، كالإسلام والديمقراطية ، والإسلام والثورة ، والإسلام والتعددية الحزبية ، والإسلام والآخر كأهل الذمة والغرب ، والإسلام والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان كالعدل والمساواة والإخاء والحرية ، والإسلام وحقوق المرأة ، والإسلام والإبداع ، والإسلام والمعارضة السياسية ، والإسلام والنظم العالمية ، إلى آخر هذه القضايا الساخنة في الساحة الفكرية المحلية والعالمية ، والتي تمثل تحديا لتاريخنا الفكري وواقعنا الحضاري في البقاء أو التنحي ، والتي تبدأ بجدية التناول والطرح وعمق الأفكار والنظريات التي يقدمها المسلمون لإنسان القرن القادم ، وعصر الكونية والعولمة والفضاء وما بعد الفضاء! ..

ولا يعقل أن نتنكر لها لتبقى القضايا السياسية أو المتعلقة بالإسلام وأصول الحكم ، كما هي دون تغيير من حيث النظرية أو التطبيق. فما موقف الإسلام من الإرهاب ، وما الحلول التي يقدمها من أجل حماية الشعوب من إرهاب الدولة وإرهاب الجماعات المسلحة على حد سواء؟! وما موقف الإسلام من الاقتصاد المحلي والعالمي ، وما الذي سيقدمه للعرب في ظل نظريات الجات وانفتاح السوق ، وما الإسهام الذي سيقدمه العلماء والباحثون من أجل الوحدة العربية والإسلامية في مقابل أوربا موحدة ، وغرب موحد ، كما أن الصراع الحضاري يفرض نفسه ، فمن نظرية صمويل هانتجتون الأستاذ بجامعة هارمز الأمريكية في كتابه «صدام الحضارات» ، والذي يصور لنا مستقبلا يحل فيه صراع الحضارات محل الحرب الباردة والمعارك الإيديولوجية ، ومحل الفاشية والشيوعية والديمقراطية ، التي سيطرت على معظم هذا القرن ، ويتوقع أن يميل الناس إلى تعريف أنفسهم وفقا لانتماءاتهم الحضارية : الغربية ، الإسلامية ، الصينية ، الأمريكية ، اللاتينية ، الأرثوذكسية ... إلخ. وأن هذا الصراع سيظهر عند نقاط التقاطع!

أما الصراع الإسلامي الغربي فهو أكثر نقاط الصراع استمرارية وسخونة ، أما

٩٦

الصراعات الأخرى فربما كانت أقل قابلية للتفاقم ، وأكثر قابلية للحلول الوسط. أي أنه لا هدنة ولا سلام مع المسلمين والإسلام.

فالحركات الإسلامية صارت مبعث قلق للغرب بدورها المتصاعد ، لا سيما البعيدة عن التطبيق السياسي ، والتي يصور بعض قادتها الإسلام في مقابل الديمقراطية ، والغرب قلق بطبعه لعدم معرفته بالاتجاهات التنويرية في الفكر الإسلامي ، والتي تنطلق من تاريخية أصيلة وتراث متفوق في الممارسات والنظريات ، وكذلك قلق لإيمانه بأن العلمانية الكاملة هي شرط التحول الديمقراطي.

يأتي بعد ذلك مفكرون غربيون ليقفوا من نظرية صمويل هانتجتون على النقيض ، ليقرروا أن العلمانية المتطرفة ، كانت هي العامل الأساسي وراء ظهور الأصولية كرد فعل. كذلك عدم وجود رد فعل حقيقي فكري وشعبي للتعريف بالإسلام السياسي ، جعل تقارير العملاء وأنصاف العملاء من الصحفيين الأمريكان وغيرهم ينفخون في نظريات جديدة ليس لها ظل من الواقع «كالمؤامرة الإسلامية» والتي تقوم على الخلط بين الاتجاهات والأحداث.

أما تعبير «الأصولية الإسلامية» والذي لا يساوي بحال البيئة الحقيقية التي نقل منها هذا اللفظ البروتستانتية الأمريكية ، لوصف الوضع الإسلامي الداخلي فهو تعبير غير لائق ولا ملائم ، ويضلل الغرب ، الذي لا يعرف حقائق الإسلام السياسي ، تجاه فكرية خرجت ـ بقصد ـ من أدراج البنتاجون والمخابرات الأمريكية.

وعموما الغرب يرد على الغرب فقد كتب جون اسبوزيتو كتابا عن «التهديد الإسلامي : أسطورة أم حقيقة؟» ، ورد فيه مزاعم التصور الغربي للإسلام السياسي والجماعات العاملة على الساحة الإسلامية.

أما مقالة «تحدي الإسلام الجهادي» لجودفري جانس ، فقد بينت عدم جدوى المواجهة مع الجماعات الإسلامية ، في ظل الفساد وعدم الكفاءة. ومقاومة التأييد المتنامي للإسلام السياسي يدعو الغرب إلى حملة جهاد غربية ضد ما يسمى بخطر الأصولية الإسلامية.

وإذا كان لنا تعليق على الوضعية الفكرية في الغرب للإسلام وأهله ، فإنا نناشدهم

٩٧

التعامل مع الإسلام بمنظور جديد ، وكذلك نناشد الحكومات الإسلامية إلى تطبيق الفكر الإسلامي السياسي بمعاييره الواضحة والديمقراطية لقطع خط الرجعة على الجماعات المسلحة، وكذلك قطع خط الرجعة على التعصب والعصبية الغربية في مواجهة الإسلام. ويؤكد خطورة الموقف في العالم الإسلامي ما ذكره غسان سلامة من : «أن المعايير المزدوجة للغرب وسياسة التدخل العسكري الانتقائية ، والتركيز على الجانب الأمني في التوجه الغربي ، نحو العالم الإسلامي ، قد يدفع بدون شك في سبيل وصول الإسلاميين للسلطة» (١) ولعل دعوة السيد محمد خاتمي رئيس جمهورية إيران الإسلامية إلى (حوار الحضارات) تعد نموذجا رائعا من الحلول التي يقدمها الإسلام والمسلمون في سبيل التعايش السلمي بين الشعوب والاعتراف بالآخر.

ربما نكون قد أوضحنا مدى خطورة الموقف السياسي في العالم الإسلامي ، إن لم نقدم على إصلاح حقيقي كالذي حدث في الغرب ، فالشورى ضرورة ملحة ، والديمقراطية ضرورة ملحة ، وتطبيق الدستور ، والتخلي عن الأحكام العرفية ضرورة ملحة.

وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان ضرورة ملحة ، وإلا جعلنا للجمعيات المراقبة في الداخل والخارج ، بتقاريرها المشبوهة في الغالب ، يدا طولى على مؤسساتنا السياسية بما تفعله في الغرب ، وما تعطيه له من مسوغات للتدخل في شئوننا الداخلية. وما حدث أخيرا ينذر بتحفز الغرب ضد الشرق الإسلامي.

وكثيرا ما يعتريني الخوف من الخلط المقصود الذي صوره د / مظهر في كتابه «الإسلام لا الشيوعية» عن تصور الغرب لنا إذ يقول : «سمعت بعضهم يقول : لقد شبعنا من الإسلام ، فلا نعود إلى حكم الإسلام ، ذلك بأنهم لم يعرفوا الإسلام ، ولم يتفقهوا في ما ينبغي أن تكون عليه دولة الإسلام.

فكل الحكومات التي قامت على الاستبداد والجور والفسق واللصوصية في ديار الإسلام ، ثم انحلت وماتت ، هي عندهم وليدة الإسلام لا وليدة المسلمين ، مسكين هذا

__________________

(١) انظر تقرير د / ألفت حسن آغا في : الأصولية الإسلامية بالإعلام الغربي العدد ٢٥ ـ يناير ١٩٩٥ ـ الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

٩٨

الإسلام ، باسمه تؤخذ الدنيا وباسمه تزول ، ومن وراء الأخذ والزوال لصوص بعيدون عن الإسلام ، يلتمس هم بعض المغفلين الأعذار ؛ بأنهم لو لا الإسلام ، لما أصبحوا لصوصا!! .. ولو لا الإسلام لما انقلبوا جهلة مارقين ، ولو لا الإسلام لما زالت دولة اللصوصية من أيديهم ، فهل وراء ذلك من جهل!» (١).

لقد تعرض التاريخ الإسلامي السياسي منه والثقافي والديني ، لتفسيرات واجتهادات مختلفة ، ومع تباين البيئات وتفاوتها في كل عصر استطاع المفكرون الإسلاميون أن يضعوا اجتهادات ثاقبة وفريدة ، وعالجوا مشكلات عديدة ذات مستوى راق ، يشهد لذلك هيجل في مؤلفه «محاضرات من تاريخ الفلسفة» يصف التاريخ السياسي للعالم الإسلامي بقوله إنه «مجرد معرض للتغيرات الدائمة» (٢).

فهل لنا أن نواصل مسيرة الإصلاح السياسي في ظل هامش الديمقراطية المتاح دون التفات للخلف أو انتكاس للوراء؟! .. مع توعية الشعب المسلم بخطورة الجماعات الإسلامية التي تعتمد العنف والإرهاب في مقرراتها ، فهي إن لم تكن عميلة للغرب وخرجت من أدراج مخابراتها ، فهي على الأقل تعمل لتزكية مصالحه في بلادنا.

والبديل من ذلك ، زيادة الوعي الشعبي بحقيقة الإسلام السياسي من خلال القنوات الشرعية والمؤسسات الثقافية ، لأن إهمال هذا الجانب يؤدي إلى عواقب وخيمة.

* * *

__________________

(١) الإسلام لا الشيوعية / ٥١ وما بعدها.

(٢) روز نتال في : مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي / ١٣ ترجمة د / انيس فريحة ، دار الثقافة ١٩٦١ بيروت.

٩٩

التوحيد

إن وجود الله تعالى وتوحيده من البداهات التي يدركها الإنسان بفطرته ، ويهتدي إليها بطبيعته. وليس من مسائل العلوم المعقدة ، ولا من حقائق التفكير العويصة.

ولو لا أن شدة الظهور قد تلد الخفاء ، واقتراب المسافة جدا قد يعطل الرؤية ، ما اختلفت على ذلك مؤمن ولا ملحد.

(أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ١٠].

وقد جاءت الرسل لتصحيح فكرة الناس عن الألوهية. فإنهم وإن عرفوا الله بطبيعتهم إلا أنهم أخطئوا في الإشراك به ، والفهم عنه. (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [إبراهيم : ٥٢]. (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد : ١٩].

والبيئة الفاسدة خطر شديد على الفطرة ، فهي تمسخها وتشرّد بها ، وتخلّف فيها من العلل ما يجعلها تعاف العذب وتسيغ الفجّ.

وذاك سر انصراف فريق من الناس عن الإيمان والصلاح ، وقبولهم للكفر والشرك! مع منافاة ذلك لمنطق العقل وضرورات الفكر وأصل الخلقة.

(إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، فأتتهم الشياطين ، فاجتالتهم عن دينهم ، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم ..) (١).

وقد اقترنت حضارة الغرب ـ التي تسود العالم اليوم ـ بنزوع حاد إلى المماراة في وجود الله ، والنظر إلى الأديان ـ جملة ـ نظرة تنقّص ، أو قبولها كمسكنات اجتماعية لأنصارها والعاطفين عليها.

ولا شك أن المحنة التي يعانيها العالم الآن أزمة روحية ، منشؤها كفره بالمثل العليا التي جاء بها الدين ، من الحق ، والإنصاف ، والتسامح ، والإخاء.

فلا نجاة له مما يرتكس فيه إلا بالعودة إلى هذه المثل ، يهتدي إليها بفطرته ، كما

__________________

(١) أخرجه مسلم ٤ / ٢١٩٧ (٢٨٦٥) ، وأحمد ٤ / ١٦٢ (١٧٥١٩) ، وابن حبان ٢ / ٤٢٢ (٦٥٣).

١٠٠