نوادر المعجزات في مناقب الأئمّة الهداة عليهم السلام

أبي جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري الإمامي الصغير

نوادر المعجزات في مناقب الأئمّة الهداة عليهم السلام

المؤلف:

أبي جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري الإمامي الصغير


المحقق: الشيخ باسم محمّد الأسدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-397-205-4
الصفحات: ٤٦٤

وتساقط الرطب من النخلة اليابسة حسب ما ورد في التفسير معجز ـ إلى أن قال ـ ومن ذلك قوله سبحانه : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (١) فأتى به كذلك وهذا معجز باهر لوصيّ سليمان عليه‌السلام.

ومن ذلك ما أجمع المسلمون عليه من ظهور المعجزات على تلاميذ المسيح عليه‌السلام وليسوا بأنبياء.

ولا انفصال من ذلك بقولهم إنّ معجز آصف لسليمان عليه‌السلام ، والتلاميذ للمسيح عليه‌السلام ؛ لأنّ المعلوم تخصيص المعجز بمن ذكرناه تصديقا لهم وتشريفا دالا على علوّ منازلهم عنده سبحانه ، ولا يجوز العدول به عنهم.

وبعد فما لهم منعوا من ظهور المعجز على من ليس بنبيّ ، وهو يقتضي المنع من ظهوره على من انتفت عنه النبوّة ، فإذا ثبت ظهوره على من ذكرنا وليسوا بأنبياء سقط معتمدهم.

على أنّهم إذا أجازوا ظهور المعجز على غير النبيّ ونسبته إلى نبيّ الوقت أو الملة ، جاز لنا مثل ذلك في أئمّتنا ، لكونهم أوصياء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحفظة شرعه ، كآصف من سليمان عليه‌السلام والتلاميذ من عيسى عليه‌السلام ، بل هم أعلى رتبة عند الله وأجلّ منزلة (٢).

وبعد كلّ ما تقدّم بيانه نقول :

هل من الواجب على النبيّ أو الإمام أن يقيم أو يظهر المعجزة لإثبات نبوّته أو إمامته أم لا؟

في معرض الجواب على هذا السؤال ننقل هنا بعض آراء العلماء :

__________________

(١) النمل : ٤٠.

(٢) الكافي للحلبي : ١٠٢ ـ ١٠٣.

٢١

١ ـ قال الشيخ الطوسي : الإمام إذا لم يدّع الإمامة والصالح إذا لم يدّع الصلاح لا يجب إظهار المعجز على يده ، وإذا لم يظهر لا يجب نفي الصلاح عنه ولا نفي الإمامة ، بل لا يمتنع أن نعلمه إماما أو صالحا بغير المعجز ، وليس كذلك النبيّ ، لأنّه لا طريق لنا إلى معرفته إلا بالمعجز ، فإذا لم يظهر على يده المعجزة طعنّا على كذبه إن كان مدّعيا ، وإن لم يدّع علمنا أنّه ليس بنبيّ ، لأنّه لو كان نبيّا لوجب بعثته ووجب عليه ادّعاؤه ولوجب ظهور المعجز عليه.

فعلى هذا لا يلزم أن يظهر الله على يد كلّ إمام معجزا لأنّه يجوز أن يعلم إمامته بنصّ أو طريق آخر ، ومتى فرضنا أنّه لا طريق إلى معرفة إمامته إلّا المعجز وجب إظهار ذلك عليه وجرى مجرى النبيّ سواء ، لأنّه لا بدّ لنا من معرفته كما لا بدّ لنا من معرفة النبيّ المحتمل لمصالحنا.

ولو فرضنا في نبيّ علمنا نبوّته بالمعجز أنّه نصّ على نبيّ آخر لأغنى ذلك عن ظهور المعجز على يد النبيّ الثاني ، بأن نقول : النبيّ الأول أعلمنا أنّه نبيّ ، كما يعلم بنص إمام على إمامته ولا يحتاج إلى معجز (١).

٢ ـ قال قطب الدين الراونديّ : إنّ الطريق إلى معرفة صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والوصيّ عليه‌السلام ليس إلا ظهور المعجز أو خبر نبيّ ثابت نبوّته بالمعجز (٢).

٣ ـ قال أبو الصلاح الحلبيّ : ولا طريق إلى معرفته ، إلّا ظهور المعجز عليه ، أو نص من علم صدقه عليه (٣).

__________________

(١) الاقتصاد للشيخ الطوسي : ١٥٩ ـ ١٦٠.

(٢) الخرائج والجرائح ٣ : ٩٧٤.

(٣) الكافي للحلبي : ١٦٨.

٢٢

٤ ـ قال المحقّق الحلّيّ : والدلالة على نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه ادّعى النبوّة وظهر المعجز على يده ، مطابقا لدعواه ، وكلّ من كان كذلك فهو نبيّ (١).

٥ ـ قال العلّامة الحلّيّ : وطريق معرفة صدقه ظهور المعجز على يده وهو إثبات ما ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى (٢).

٦ ـ قال السيّد الخوئيّ : إنّ السفارة الإلهيّة من المناصب العظيمة التي يكثر لها المدّعون ، أو يرغب في الحصول عليها الراغبون ، ونتيجة هذا يشتبه الصادق بالكاذب ، ويختلط المضلّ بالهادي ، وإذن فلا بدّ لمدّعي السفارة أن يقيم شاهدا واضحا يدلّ على صدقه في الدعوى ، وأمانته في التبليغ ، ولا يكون هذا الشاهد من الأفعال العادية التي يمكن غيره أن يأتي بنظيرها ، فينحصر الطريق بما يخرق النواميس الطبيعيّة (٣).

إشكال :

قد يقال ـ وحسب الروايات المتواترة من الفريقين ـ : إنّ المسيح الدجّال قد تظهر على يديه من الآيات العظام حتّى يصدّقه ويؤمن به بعض الناس ، وأنتم تقولون : إنّ المعجزات تظهر عند الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام فكيف ذلك.

الجواب :

إنّ الأنبياء والأوصياء لا يدّعون الربوبيّة كما يدّعيها المسيح الدجّال ، بل يدّعون الرسالة ، والأوصياء يدّعون إتمام الرسالة ، وعلى هذا فإنّ الفرق بينهما يكون واضحا.

__________________

(١) المسلك في أصول الدين : ١٧٢.

(٢) شرح التجريد : ٣٧٧.

(٣) البيان في تفسير القرآن : ٣٥.

٢٣

فإن قيل : أيّهما أسرع تصديقا للمعجزة؟

قلنا : إنّ أسرع النّاس تصديقا لكلّ فنّ من الفنون هم أصحاب الفنّ أنفسهم ، فمثلا نلاحظ ذلك جليّا عند سحرة فرعون ، فهم أوّل من آمن بموسى عليه‌السلام وبما جاء به ـ كما مرّ عليك ذلك في بحثنا هذا ـ وكذا مثلا في الاكتشافات العلميّة فإنّ أوّل من يصدّق بها هم أهل العلم والمعرفة ، وعلى ضوء ذلك فإنّ أسرع من يصدّق بالمعجزة هم العلماء ، لأنّ علماء أي صنعة هم أعرف بخصوصياتها ، وأكثر إحاطة بمزاياها ، فهم يميّزون بين ما يعجز البشر عن الإتيان بمثله وبين ما يمكنهم الإتيان بمثله ، ولذلك فالعلماء أسرع تصديقا بالمعجزة.

أمّا الجهّال فباب الشكّ عندهم مفتوح على مصراعيه ما داموا جهّالا بمبادئ الصنعة ، وما داموا يحتملون أنّ المدّعي قد اعتمد على مبادئ معلومة عند الخاصّة من أهل تلك الصنعة ، فيكونون متباطئين عن الإذعان (١).

مع القرآن الكريم المعجزة الخالدة

إنّ القرآن الكريم معجزة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله الخالدة الباقية إلى يوم القيامة ، وقولنا الباقية لأنّ معجزة كلّ نبيّ انقرضت بانقراضه ، أو دخلها التبديل أو التغيير كالكتب السماويّة الأخرى «التوراة والإنجيل والزبور». وهنا نتطرّق كما وعدناك في أوّل البحث إلى نظرة سريعة إلى إعجاز القرآن ، فنقول متوكّلين على البارئ عزوجل :

كان عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبار الأوّلين والآخرين من ابتداء خلق الدنيا إلى انتهائها ، وأمر الجنّة والنار ، وذكر ما فيها على الوجه الذي صدّقه عليها أهل الكتاب ، ولم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تعلّم من أحد ، وما حضر عند أحد من الأحبار ، ولم يقرأ الكتاب ..

__________________

(١) انظر البيان في تفسير القرآن : ٣٨.

٢٤

وما أخبر به عن الغيوب التي تكون على التفصيل لا على الإجمال كقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) (١) الآية ، فكان كما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله به .. وغيرها الكثير مما هو مذكور في القرآن الكريم.

وفيما يخصّ القرآن الكريم قال الله تعالى متحدّيا البشر : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٢) وهو نصّ واضح الدلالة على أنّ البشر عاجزون عن أن يأتوا بمثل القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ؛ أي سندا وعونا.

وكما هو معروف أيضا فالقرآن الكريم هو المعجزة الظاهرة الأولى للرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنّ هناك سوء فهم عند كثير من المستشرقين ، ناهيك عن بعض المسلمين في هذه النقطة ، وسوء الفهم هذا ناشئ من افتراض أنّ معجزة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هي القرآن فقط لا غير ، كما أنّ معجزة نبيّ الله موسى عليه‌السلام هي العصا فقط ، وكما أنّ معجزة عيسى المسيح عليه‌السلام هي إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، وكما أنّ معجزة إبراهيم الخليل عليه‌السلام أن تكون النار بردا وسلاما عليه ، وهكذا ..

بلى ، نحن لا نمنع أن تكون هناك معجزة ملازمة لنبيّ من الأنبياء لسبب ولآخر ، كملازمة القرآن للرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والعصا لموسى عليه‌السلام ، لكنّ هذا لا يعني أنّ الأنبياء ليست لديهم معاجز يعجز البشر أن يأتوا بمثلها ، فالإخبار بالغيب الذي ينزل به جبرئيل عليه‌السلام من عند الله عزوجل على المعصومين عليهم‌السلام ، هو من أبرز مفردات الإعجاز لو تأمّلنا ذلك قليلا ، وربّما تكون هذه النقطة من أقوى عناصر

__________________

(١) الفتح : ٢٧.

(٢) الاسراء : ٨٨.

٢٥

هيكليّة نفس المعجز القرآني ؛ فالقرآن على الإنصاف بني الإعجاز الذي فيه على مجموعة أسس ، منها أساس الغيب إضافة إلى إعجاز البلاغة والفصاحة وحسن التركيب الأدبي .. وغير ذلك ، فالغيب عنصر مهمّ في إضفاء الإعجاز مضافا إلى الأبعاد الإعجازيّة الأخرى ؛ فمثلا روى المحدّثون ومنهم الطبرانيّ قال :

حدّثنا أحمد بن عمرو البزّار والعبّاس بن حمدان الحنفيّ قالا : حدّثنا زيد ابن أخزم ، حدّثنا أبو داود ، حدّثنا القاسم بن الفضل ، عن يوسف بن مازن الراسبيّ ، قال : قام رجل إلى الحسن بن عليّ [عليهما‌السلام] فقال : سوّدت وجوه المؤمنين ، فقال : «لا تؤنبني رحمك الله فإنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قد رأى بني أميّة يخطبون على منبره رجلا فرجلا فساءه ذلك ، فنزلت هذه الآية : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) نهر في الجنّة ، ونزلت : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) تملكه بنو أميّة ، قال القاسم : فحسبنا ذلك فإذا هو ألف لا يزيد ولا ينقص (١). وروى هذا الحديث أئمة وأعلام أبناء الجماعة ، ومنهم الترمذي في سننه (٢) ، بعبارة قريبة من العبارة الآنفة.

قال المباركفوري : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ؛ أي الشرف والعظم (وَما أَدْراكَ) أي أعلمك يا محمّد (ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) تعظيم لشأنها وتعجيب منه ، (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أي ليس فيها ليلة القدر فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ليست فيها «يملكها» الضمير المنصوب راجع إلى ألف شهر ، والمعنى أنّ ليلة القدر خير من مدّة ألف شهر

__________________

(١) المعجم الكبير ٣ : ٨٩.

(٢) سنن الترمذي ٥ : ١١٥ / ٣٤٠٨.

٢٦

يملك فيها بنو أميّة الولاية والخلافة «قال القاسم» أي ابن الفضل الحدانيّ المذكور في الإسناد «فعددناها» أي مدّة خلافة بني أميّة ـ وفي رواية ابن جرير فحسبنا ملك بني أميّة ـ «فإذا هي ألف شهر» هي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر ، وكان استقلال إمارة بني أميّة منذ بيعة الحسن بن عليّ لمعاوية وذلك على رأس أربعين سنة من الهجرة ، وكان انفصال دولتهم على يد أبي مسلم الخراسانيّ سنة اثنين وثلاثين ومائة ، وذلك اثنان وتسعون سنة يسقط منها مدّة خلافة ابن الزبير ثمان سنين وثمانية أشهر ، يبقى ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر (١).

وفي شرح النهج قال ابن أبي الحديد : وقد جاء في الأخبار الشائعة المستفيضة في كتب المحدّثين أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر أنّ بني أميّة تملك الخلافة بعده مع ذمّ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم ، نحو ما روي عنه في تفسير قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) (٢) فإن المفسرين قالوا : إنّه رأى بني أميّة ينزون على منبره نزو القردة ، هذا لفظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي فسّر لهم الآية به ، فساءه ذلك ثمّ قال : الشجرة الملعونة بنو أميّة وبنو المغيرة ، ونحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتّخذوا مال الله دولا وعباده خولا» ونحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسير قوله تعالى : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) قال : ألف شهر يملك فيها بنو أميّة ، وورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذمّهم الكثير المشهور (٣) ...

__________________

(١) تحفة الأحوذي ٩ : ١٩٧.

(٢) الاسراء : ٦٠.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ : ٢٢٠.

٢٧

ولا بأس بلفت النظر إلى أنّ ابن كثير مع أنّه متحامل في كثير من الأشياء ، حاول التشكيك في هذه المسألة ، لكنّه لمّا علم أنّ مثل هذا التشكيك خلاف ما عليه في الأخبار المعتبرة عاد في تفسيره فشكّك بنفس تشكيكه ؛ فقد قال :

قلت : وقول القاسم بن الفضل الحدانيّ أنّه حسب مدّة بني أميّة فوجدها ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص ، ليس بصحيح فإنّ معاوية بن أبي سفيان استقل بالملك حين سلّم إليه الحسن بن عليّ الإمرة سنة أربعين ، واجتمعت البيعة لمعاوية ، وسمّي ذلك عام الجماعة ، ثمّ استمرّوا فيها متتابعين بالشام وغيرها لم تخرج عنهم إلّا مدّة دولة عبد الله بن الزبير في الحرمين والأهواز وبعض البلاد قريبا من تسع سنين ، لكن لم تزل يدهم عن الإمرة بالكلّيّة ، بل عن بعض البلاد إلى أن استلبهم بنو العبّاس الخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، فيكون مجموع مدّتهم اثنتين وتسعين سنة ، وذلك أزيد من ألف شهر فإنّ الألف شهر عبارة عن ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر ، وكأنّ القاسم بن الفضل أسقط من مدّتهم أيام ابن الزبير وعلى هذا فيقارب ما قاله الصحّة في الحساب ، والله أعلم (١). فتأمّل في تراجعه المضحك.

وعلى أيّ حال فما نريد قوله من ذلك هو أنّ القرآن ليس هو المعجزة الظاهرة الفريدة التي حارب الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بها من أجل كلمة الله العليا ، ولنا أن نقول :

إنّ القرآن لا يدور الإعجاز الذي فيه على كونه غاية السلامة في التركيب الأدبي ، وقمّة الفصاحة فقط ، بحيث يعجز البشر عن أن يأتوا بمثله ، فقد اتّضح لنا أنّه علاوة على ذلك يدور على عنصر آخر ، وهو عنصر الغيب الذي فيه ، وهنا لا بدّ من التنبيه على أنّ الغيب الذي في القرآن ليس لأحد أن يجزم فيه سوى المعصوم ؛ فلقد

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٤ : ٥٦٦.

٢٨

اتّضح أنّ ألف شهر هي مدّة ملك بني أميّة بتفسير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه لا غير ، ولو لا ذلك لما عرفنا ، وهذا يوقفنا على بعد آخر من أبعاد بناء الإعجاز ، فيبدو أنّ الإعجاز عنصر من عناصر بناء نفس النبوّة لا القرآن فقط ، أو هما متلازمان بلا انفكاك ؛ أي ما كان دخيلا في بناء القرآن من الإعجاز هو كذلك دخيل في بناء النبوّة بلا أدنى ترديد.

ومن هذا القبيل قوله تعالى : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الروم (١) ففي هذه الآيات المباركة يتّضح ما ذكرناه من تلك الملازمة ؛ فالقرآن إذا كان معجزة هذا الدين القيّم ، فهو في نفس الوقت معجزة خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبجميع الأحوال فمثل هذا الغيب يحقّق مصداقين ، الأوّل : لنفس القرآن ، والثاني : لنفس النبوّة.

وفي الحقيقة إنّ في الإعجاز القرآني والمعجزة القرآنيّة أغراضا أخرى تتعدّى تحقيق المصداقيّة للنبوّة والدين ، وهذا أمر غفل عنه مفسّروا هذه الأمّة ، ـ شيعة وسنّة ـ ، أو لم يذكروه على أنّه غرض مهم ، وهو تحقيق المصداقيّة لأمر ثالث ورابع إلى ما لا يحصى ، ومن هذه الأمور هو استحقاق خلافة النبوّة ، فمن المعلوم أنّ مثل هذا الاستحقاق لا ينهض بأعبائه إلّا من كان محيطا بألغاز القرآن ، وقادرا على فكّ رموزه السماويّة ، فليس من المعقول أن نفضّل من كان جاهلا بهذه الأولويّات على من كان عالما بها ، وهذا هو الخليفة أبو بكر افتضح أمره لمّا أراد أن يحوز قصب

__________________

(١) سورة الروم : ١ ـ ٦.

٢٩

السبق ويعلن للمسلمين أنّ الروم سيغلبون الفرس بعد ستّ سنين ، وقد كذّب الله أبا بكر في ذلك على ما روى الترمذي في سننه بقوله :

حدّثنا محمّد بن إسماعيل ، أخبرنا إسماعيل بن أبي أويس ، حدّثني ابن أبي الزناد عن أبي الزناد ، عن عروة بن الزبير ، عن نيار بن مكرم الأسلميّ ، قال :

لمّا نزلت : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم ، وكان المسلمون يحبّون ظهور الروم عليهم ؛ لأنّهم وإيّاهم أهل كتاب ، وفي ذلك قول الله تعالى : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) وكانت قريش تحبّ ظهور فارس لأنّهم وإيّاهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث ، فلمّا أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصدّيق يصيح في نواحي مكّة : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) فقال ناس من قريش لأبي بكر : فذلك بيننا وبينك زعم صاحبك أنّ الروم ستغلب فارس في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك ، قال : بلى ، وذلك قبل تحريم الرهان ، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان ، وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسمّ بيننا وبينك وسطا تنتهى إليه ، قال : فسمّوا بينهم ست سنين ، قال : فمضت الستّ سنين قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، فلمّا دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ستّ سنين قال : لأنّ الله تعالى قال : في بضع سنين ، قال وأسلم عند ذلك ناس كثير. هذا حديث حسن صحيح (١).

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ : ٢٤ ، وانظره في التاريخ الكبير ٨ : ١٣٩ في ترجمة نيار بن مكرم الأسلمي.

٣٠

فالذي يتّضح لنا من ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى قد يطلع البشر على غيبه ، كما فعل جلّت أسماؤه في سورة الروم ؛ حيث أطلعهم على أنّ الروم سينتصرون على الفرس بعد بضع سنين ، ولكنّ المصالح والمفاسد ، هي التي دعت ربّ العزّة لأن لا يعلن عن المدّة على وجه الدقّة ، وبعض الغرض من ذلك ، اتّضح من حديث الترمذيّ الآنف ، وهو في النتيجة يفسّر لنا عدم أهليّة أبي بكر لخلافة النبوّة ، والعجيب أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه سكت ولم يحدّد هذه المدّة ، من منطلق تلك المصالح والمفاسد ، في حين نجد أبا بكر يضرب بكلّ ذلك ، ويدّعي ما برهن على فضيحته وفضيحة رهانه اللامسئول ، حتّى أنّ المسلمين عابوا عليه ذلك ...

وفي الكافي الشريف روى الكليني رحمه‌الله ما يزيح النقاب عن كثير من الحقائق ؛ فقد روى عن ابن محبوب ، عن جميل بن صالح ، عن أبي عبيدة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) قال : فقال : يا أبا عبيدة إنّ لهذا تأويلا لا يعلمه إلّا الله والراسخون في العلم من آل محمّد صلوات الله عليهم ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا هاجر إلى المدينة وأظهر الإسلام كتب إلى ملك الروم كتابا وبعث به مع رسول يدعوه إلى الإسلام ، وكتب إلى ملك فارس كتابا يدعوه إلى الإسلام وبعثه إليه مع رسوله ، فأمّا ملك الروم فعظّم كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأكرم رسوله ، وأمّا ملك فارس فإنّه استخفّ بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومزّقه واستخفّ برسوله ، وكان ملك فارس يومئذ يقاتل ملك الروم ، وكان المسلمون يهوون (١) أن يغلب ملك الروم ملك فارس ، وكانوا لناحيته أرجى منهم لملك فارس فلمّا غلب ملك فارس الروم كره ذلك المسلمون واغتمّوا به ، فأنزل الله عزوجل بذلك كتابا قرآنا (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) يعني غلبتها

__________________

(١) أي يحبّون.

٣١

فارس في أدنى الأرض ؛ وهي الشامات وما حولها ، وهم ـ يعني وفارس ـ من بعد غلبهم الروم سيغلبون ، يعني يغلبهم المسلمون في بضع سنين (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) عزوجل ، فلمّا غزا المسلمون فارس وافتتحوها فرح المسلمون بنصر الله عزوجل قال : قلت : أليس الله عزوجل يقول : (فِي بِضْعِ سِنِينَ) وقد مضى للمؤمنين سنون كثيرة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي إمارة أبي بكر ، وإنّما غلب المؤمنون فارس في إمارة عمر فقال : ألم أقل لكم إنّ لهذا تأويلا وتفسيرا ، والقرآن يا أبا عبيدة ناسخ ومنسوخ ؛ أما تسمع لقول الله عزوجل : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)؟ يعني إليه المشيئة في القول أن يؤخّر ما قدّم ويقدّم ما أخّر في القول إلى يوم يحتم القضاء بنزول النصر فيه على المؤمنين ، فذلك قوله عزوجل : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ) أي يوم يحتم القضاء بالنصر (١).

فمن الحقائق التي نستلهمها من نصّ الكلينيّ رحمه‌الله الصحيح هذا هو أنّ المعجزة الغيبيّة ، داخلة لا محالة في الحسابات السماويّة ... ، من قضاء ، وقدر ، وناسخ ومنسوخ ، وحتّى من مثل العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن ، وغير ذلك ؛ ولهذا أشار أبو جعفر الباقر سلام الله عليه بقوله : إنّ لهذا تأويلا لا يعلمه إلّا الله والراسخون في العلم من آل محمّد صلوات الله عليهم ...!!! على أنّنا لا ننكر أنّه قد يستطيع البشر العادي غير المعصوم الوقوف على ضفاف الإعجاز في القرآن الكريم لكن لا على نحو الدّقّة والمعرفة التفصيليّة فإنّ ذلك من شئون العصمة ليس غير.

وينبغي التنبيه على مسألة أخرى ، وهي أنّ معرفة المعصوم ببعض دقائق الغيب ـ ذلك المطوي في القرآن ، أو الذي فاض عن ساحة النبيّ الأقدس ـ إنّما هو بإذن

__________________

(١) الكافي ٨ : ٢٦٩ / ٣٩٧.

٣٢

الله ، ولا ندّعي أنّ المعصوم عالم بذلك مطلقا ، بل بقيد أنّ الله سبحانه وتعالى أذن له بذلك ، وهذا كما هو في مسألة إحياء الموتى ، فالمسيح عليه‌السلام كما هو نصّ القرآن ، لم يك ليحيي الموتى لو لا أنّ الله أذن له بذلك ، وأعتقد أنّ هذه القضية واضحة ولا تحتاج إلى مزيد كلام ، ولا توسعة بحث.

ومن الأمور التي ينبغي أن نتذكّرها ونتذاكرها من نفحات الإعجاز النبويّ ، هو ما يتعلّق بأمير المؤمنين عليّ سلام الله عليه ، فإنّه وإن كانت هناك عشرات بل مئات الأدلّة التي تشهد بالمقام السامي المقدّس لأمير المؤمنين ، لكننا نعتقد جازمين بأنّ بعض هذه الأدلّة كاف لأن يشهد بذلك ؛ خاصّة تلك التي تدخل شخصيّة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام مدخل الإعجاز ، والروايات في هذا الشأن كثيرة جدّا ..

منها : ما رواه مسلم في صحيحه حيث قال : وحدّثني محمّد بن المثنّى ، حدّثنا ابن أبي عدي ، عن سليمان عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر قوما يكونون في أمّته يخرجون في فرقة من الناس ، سيماهم التحالق ، قال : «هم شر الخلق أو من أشرّ الخلق يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحقّ» قال : فضرب النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لهم مثلا أو قال قولا : «الرجل يرمى الرمية» ، أو قال : «الغرض فينظر في النصل فلا يرى بصيرة وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة» قال الراوي : قال أبو سعيد الخدريّ : وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق (١).

فهذا الخبر من أعلام النبوّة ، ومن براهين العصمة ، وأنّ أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام ليس شخصا كأيّ شخص ، بل هو محطّ العناية الربّانيّة ، وعنصر مهمّ من عناصر برنامج الوحي في ما نسمّيه مشروع الحفاظ على الدين ، فليس قليلا أن ينبئ النبيّ

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ : ١١٣.

٣٣

عن طريق الغيب أنّ عليّا وشيعته هم من سيبقى يذود عن الدين في قتال الخوارج في بعض الأخبار المتواترة ، وقتال غير الخوارج في أخبار متواترة أخرى ، وفيما يخصّ الأوّل ذكر ابن حجر ذلك بقوله :

ووقع في رواية أفلح بن عبد الله : وحضرت مع عليّ يوم قتلهم بالنهروان ؛ ونسبة قتلهم لعليّ ؛ لكونه كان القائم في ذلك ، وقد مضى في الباب قبله من رواية سويد بن غفلة عن عليّ أمر النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بقتلهم ولفظه : «فأينما لقيتموهم فاقتلوهم» وقد ذكرت شواهده ، ومنها حديث نصر بن عاصم عن أبي بكرة رفعه : «أنّ في أمّتي أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا لقيتموهم فانيموهم أي فاقتلوهم» أخرجه الطبريّ وتقدّم في أحاديث الأنبياء وغيرها : «لئن أدركتهم لأقتلنّهم» ، وأخرجه الطبريّ من رواية مسروق قال : قالت : لي عائشة : من قتل المخدج (تقصد ذا الثدية)؟؟ قلت : عليّ ، قالت : فأين قتله؟ قلت : على نهر يقال لأسفله النهروان ، قالت : ائتني على هذا بيّنة!! فأتيتها بخمسين نفسا شهدوا أنّ عليّا قتله بالنهروان.

أخرجه أبو يعلي والطبريّ وأخرج الطبرانيّ في الأوسط من طريق عامر بن سعد قال : قال عمّار لسعد : أما سمعت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يقول : «يخرج أقوام من أمّتي يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يقتلهم عليّ بن أبي طالب» قال : أي والله (١).

وفي الحقيقة فالحديث والبحث في هذه القضيّة طويلان ، لكن كان مقصودنا التنبيه على بعض أغراض الإعجاز ، وأنّه ليس من شأن النبوّة فقط ، بل هو دخيل في بناء الإمامة أيضا ، علاوة على أنّه مفتاح لمصداقيّة ديننا ، دين الإسلام الحنيف.

__________________

(١) فتح الباري ١٢ : ٢٦٢.

٣٤

ترجمة المؤلّف

اسمه وكنيته

أبو جعفر محمّد بن جرير بن رستم الطبري الآملي الصغير.

أمّا نسبته بالطبريّ

قال السمعانيّ الطبريّ : ـ بفتح الطاء المهملة ، والباء الموحّدة ، بعدها راء مهملة ـ هذه النسبة إلى «طبرستان» وهي : آمل وولايتها : سمعت القاضي أبا بكر الأنصاريّ ببغداد : إنّما هي تبرستان لأنّ أهلها يحاربون بالتبر يعني «الفاس» فعرّب ، وقيل : طبرستان ، والنسبة إليها طبريّ (١).

ونسبته بالآملي

آمل : ـ بضمّ الميم واللام ـ اسم أكبر مدينة بطبرستان في السهل ، لأنّ طبرستان سهل وجبل ، وهي الإقليم الرابع (٢). وخرج منها جماعة كثيرة من العلماء والفقهاء والمحدّثين (٣).

وتوصيفه بالصغير

تمييزا عن الطبريّ الكبير الشيعيّ صاحب كتاب «المسترشد» الذي سيجيء ذكره (٤).

__________________

(١) الأنساب ٤ : ٤٥.

(٢) معجم البلدان ١ : ٥٧.

(٣) انظر : الأنساب ٤ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٤) لاحظ : طبقات أعلام الشيعة ١ : ٢٥٠ ـ ٢٥٣ (نوابغ الرواة في رابعة المئات) وج ٢ : ١٥٣ (النابس ـ

٣٥

من اتّفق معه في التسمية

من اتّفق معه في التسمية

قبل أن نبتدئ بترجمة حياة مؤلّفنا هذا وتحديد عصره ومشايخه وتأليفاته يلزم أن نقف على نقطة دقيقة ، وهي أنّ من اطّلع على كتب الرجال والحديث يجد فيها أعلاما يتّفقون في الاسم والكنية واللقب ، ممّا يؤدّي إلى الخلط والاضطراب بين الطبقات والأسناد ومعرفة معاصريهم وعصرهم ونسبة التصانيف إليهم .. وغير ذلك ، وهو ما يطلق عليه في علم الرجال والدراية بالمتّفق والمفترق.

ومؤلّفنا هذا يعدّ من هذا القبيل ، إذ هو يشترك في الاسم واللقب والكنية مع كلّ من :

١ ـ أبو جعفر محمّد بن جرير بن يزيد بن خالد بن كثير الطبريّ العامّي ، صاحب التاريخ والتفسير والمتوفّى سنة ٣١٠ هجرية (١).

وهو أشهر من الذكر والبيان.

٢ ـ أبو جعفر محمّد بن جرير بن رستم الطبريّ الآملي الإماميّ الكبير ، وصاحب كتاب المسترشد (٢) ترجمه النجاشيّ وقال : عالم جليل من أصحابنا ، كثير

__________________

في القرن الخامس) ، الذريعة ٨ : ٢٤١ ـ ٢٤٧ وج ٢٤ : ٣٤٩ / ١٨٨٠ ، تنقيح المقال ٣ : ٩١ ، معجم رجال الحديث ١٥ : ١٤٨ ، معجم المؤلّفين ٩ : ١٤٦ ـ ١٤٧.

(١) الأعلام للزركلي ٦ : ٦٩ ، إنباه الرواة ٣ : ٨٩ ، الأنساب للسمعاني ٤ : ٤٦ ، إيضاح الاشتباه للعلّامة الحلّي : ٣٦٠ / ٥٣٩ ، إيضاح المكنون ٢ : ٣١٨ ، البداية والنهاية ١١ : ١٤٥ ، تاريخ بغداد ٢ : ١٦٢ ، تذكرة الحفّاظ ٢ : ٧١٠ .. وغيرها من عشرات المصادر.

(٢) رجال النجاشي : ٣٧٦ / ١٠٢٤ ، رجال الطوسي : ٤٤٩ / ١٢٦ ، فهرست الطوسي : ٤٤٦ / ٧١٢ ، معالم

٣٦

العلم ، حسن الكلام ، ثقة في الحديث.

وقال عنه الطوسيّ : ديّن فاضل وهو من معاصري الشيخ الكلينيّ المتوفّى سنة ٣٢٩ ه‍ ، والطبريّ العامّي المتقدّم ذكره وكان من كبار رجال الإماميّة في أوائل القرن الرابع الهجري (١).

حلّ التباس

وهذا الطبريّ الإماميّ غير الطبريّ العامّي السابق ذكره ، كما صرّح بذلك

__________________

العلماء : ١٠٦ / ٧١٦ ، خلاصة الأقوال : ٢٦٥ ، إيضاح الاشتباه : ٢٨٦ / ٦٦١ ، رجال ابن داود : ١٦٧ / ١٣٣٠ ، نقد الرجال ٥ : ٢٩٠ / ٦٤٧٧ ، أمل الآمل ٢ : ٢٧٢ / ٧٩٢ ، رياض العلماء ٥ : ١٠٣ ، جامع الرواة ٢ : ٨٢ ، خاتمة وسائل الشيعة ٣٠ : ٤٦٤ ، روضات الجنّات ٧ : ٢٩٣ ، ريحانة الأدب ٤ : ٤٣ ، الفوائد الرضوية : ٤٤٧ و ٥٣٢ ، الكنى والألقاب ١ : ٢٤٢ ، تنقيح المقال ٣ : ٩١ ، أعيان الشيعة ١٣ : ٥٤٩ / ٩٣٥٢ ، طبقات أعلام الشيعة ١ : ٢٥٠ (نوابغ الرواة في رابعة المئات) ، معجم رجال الحديث ١٥ : ١٤٧ / ١٠٣٥٤ ، منتهى المقال : ٣٩٧ ، هدية الأحباب : ٥٣ ، مجالس المؤمنين ١ : ٤٩١ ، سير أعلام النبلاء ١٤ : ٢٨٢ / ١٧٦ ، ميزان الاعتدال ٣ : ٤٩٩ / ٧٣٠٧.

(١) مضافا إلى هؤلاء الطبريّين الثلاثة يوجد طبري آخر يشترك معهم في اسم الأب والجدّ وهو محمّد بن جرير من رواة الحديث يروي عنه صاحب الدلائل بوسائط ، وهو ـ أي محمّد بن جرير ـ يروي عن ثقيف البكّاء ، عن الإمام الحسن عليه‌السلام. (دلائل الإمامة : ١٦٦ / ٨ ، نوادر المعجزات : .. / ٤).

وأيضا يوجد طبريّان آخران كلاهما يعرفان بعماد الدين الطبري ويشتركان أيضا في اسم الأب والجدّ ، وهما :

١ ـ عماد الدين أبو جعفر ، محمّد بن أبي القاسم عليّ بن محمّد بن عليّ بن محمّد بن رستم بن يزدبان الطبري الآملي الكجي ، من أعلام القرن السادس ، وصاحب كتاب «بشارة المصطفى لشيعة المرتضى».

٢ ـ عماد الدين ، الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن الحسن الطبري المازندراني ، الّذي كان حيّا في سنة ٦٩٨ ه‍ ، صاحب كتاب «كامل بهائي» بالفارسيّة.

٣٧

النجاشيّ والطوسيّ عند ترجمة الطبريّ صاحب التفسير بالعامّي (١) ، وعند ترجمة الطبريّ صاحب المسترشد بالإماميّ (٢) ، ولكن ابن النديم (٣) وإسماعيل باشا البغداديّ (٤) نسبا كتاب المسترشد إلى الطبريّ العامّي ، وذلك توهّم ناتج من اتّحاد هذين الطبريّين.

وأجاب عن ابن النديم الشيخ الآغا بزرك فقال : وأمّا نسبة ابن النديم المسترشد إلى ابن جرير العامّي ، فهي إمّا من اشتباه اسم المؤلّف ، أو أنّ للعامّي كتاب آخر هو المسترشد مشارك مع الموجود في الاسم ، لأنّ العامّي لا يمكنه أن يفوه بصفحة من صفحات هذا الكتاب (٥).

وفي مقابل ابن النديم ، هناك من نسب هذا الكتاب إلى الطبريّ الشيعيّ ، منهم : النجاشيّ والطوسيّ والذهبيّ وابن حجر والسيّد هاشم البحرانيّ وابن أبي الحديد وابن داود والعلّامة الحلّيّ والميرزا عبد الله الأفنديّ وغيرهم من الأعلام.

وقال ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة : المسترشد لمحمّد بن جرير الطبريّ وليس هو محمّد بن جرير صاحب التاريخ بل هو من رجال الشيعة (٦).

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٢٢ / ٨٧٩ ، فهرست الطوسي : ٢٢٩ / ٦٥٤.

(٢) رجال النجاشي : ٣٧٦ / ١٠٢٤ ، فهرست الطوسي : ٢٣٩ / ٧١٢.

(٣) فهرست النديم : ٢٩١.

(٤) هدية العارفين ٢ : ٢٦.

(٥) طبقات أعلام الشيعة ١ : ٢٥١ (نوابغ الرواة في رابعة المئات).

(٦) شرح نهج البلاغة ٢ : ٣٦.

٣٨

الطبريّان الإماميان ، والتمييز بينهما

بعد أن ذكرنا بيان الاختلاف بين الطبريّ الإماميّ والعامّي بقي شيء وهو ، هل مؤلّف صاحب المسترشد وصاحب الدلائل رجل واحد أم هما رجلان مختلفان؟!

فأقول : لم يرد ذكر لهذا الموضوع في كتب الرجاليّين المتقدّمين ، وإذا ذكر كتاب «الدلائل» فإنّما يقترن مع كتاب «المسترشد» فينسبان إلى مصنّف واحد وهو : محمّد بن جرير بن رستم الطبريّ الإماميّ الكبير (١).

هذا وقد استطاع بعض من علمائنا المتأخّرين كالشيخ عبد الله المامقانيّ المتوفّى سنة ١٣٥١ ه‍ أن يميّز بين صاحب كتاب «المسترشد» وصاحب كتاب «الدلائل» ، واستدلّ على تحديد عصريهما وطبقتيهما من خلال عدّة قرائن استقاها من نقول السيّد هاشم البحراني عن كتاب دلائل الإمامة في كتابه «مدينة المعاجز».

وقال الشيخ المامقانيّ في نهاية استدلاله : إنّ صاحب كتاب «الدلائل» هو : أبو جعفر محمّد بن جرير الطبريّ الصغير الذي يشترك مع صاحب كتاب المسترشد بالاسم واللقب والكنية.

وذكر نعت الشيخ الطوسيّ لصاحبي «المسترشد» بالكبير تمييزا له عن صاحب «الدلائل» (٢).

__________________

(١) نسبه إليه ابن شهرآشوب في معالم العلماء ، والشيخ عبّاس القمّي في الكنى والألقاب ، والميرزا محمّد علي مدرّس ، والسيّد حسن الصدر ، وعمر رضا كحالة ، والسيّد محسن الأمين. (انظر : أعيان الشيعة ١٣ : ٤٥٩ ، معجم المؤلّفين ٩ : ١٤٧ ، الكنى والألقاب ١ : ٢٤٢ ، الفوائد الرضوية : ٥٣٢ ، هدية الأحباب : ٥٣ ، ريحانة الأدب ٤ : ٤٣).

(٢) انظر تنقيح المقال ٣ : ٩١.

٣٩

وكذلك استدلّ الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ المتوفّى سنة ١٣٨٩ ه‍ ، بأنّ كتاب «الدلائل» للطبريّ الصغير «والمسترشد» للطبريّ الكبير وذلك من خلال اعتماده على نقول السيّد ابن طاوس منه (١).

وتابعه على ذلك السيّد الخوئيّ أيضا (٢).

والظاهر أو المتحصّل من كلام علمائنا المذكورين : أنّ في علماء الإماميّة رجلين مشتركين في الاسم واللقب والكنية إلّا أنّ أحدهما أقدم طبقة من الثاني : فالأوّل هو الطبريّ الكبير صاحب «المسترشد» والثاني الطبريّ الصغير صاحب «الدلائل».

جواب عن سؤال

لأيّ الشيخ النجاشيّ والشيخ الطوسيّ قد ترجما لصاحب المسترشد ولم يترجما لصاحب «الدلائل» المعاصر لهما؟!

قلنا : إنّهما لم يشترطا في كتابيهما ترجمة كلّ من عاصرهما ، فهناك الكثير ممّن لم يترجما له ، مثل أبي الفتح الكراجكي المتوفّى سنة ٤٤٩ ه‍ ، وسلّار بن عبد العزيز تلميذ الشيخ المفيد المتوفّى سنة ٤١٣ ه‍ ، والقاضي عبد العزيز بن براج تلميذ الشريف المرتضى المتوفّى سنة ٤٣٦ ه‍ ، ومحمّد بن عليّ الطرازي مؤلّف الدعاء والزيارة ، وغير هؤلاء ممّن ذكرهم الشيخ منتجب الدين بن بابويه المتوفّى سنة ٥٨٥ ه‍ ، في «فهرسته» وابن شهرآشوب في «معالم العلماء» ، ولم يذكراهم ـ أيضا ـ

__________________

(١) للمزيد من الاطّلاع انظر الذريعة ٨ : ٢٤١ ، وطبقات أعلام الشيعة ٢ : ١٥٥ ـ ١٥٧ (النابس في القرن الخامس).

(٢) معجم رجال الحديث ١٥ : ١٤٨.

٤٠