الشيعة شبهات وردود

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الشيعة شبهات وردود

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


المترجم: احمد محمّد الحرز
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-028-9
الصفحات: ٢٠٧

ج) أمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في قصّة الإفك بإجراء حدّ القذف في عدّة أشخاص (١).

د) وبعد عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أقدم «عبد الرحمن بن عمر» و «عقبة بن حارث البدري» على شرب الخمر ، فأقام عمر بن العاص والي مصر الحدّ الشرعي عليهما ، بعدها أحضر ابنه وأقام عليه الحدّ مرة أخرى (٢).

ه ـ) قصة الوليد بن عقبة المعروفة «الذي صلّى صلاة الصبح وهو سكران أربع ركعات ، حيث تم إحضاره إلى المدينة وأقيم عليه حدّ شارب الخمر» (٣).

وهناك موارد أخرى تجنبنا ذكرها مراعاة للمصلحة ، فهل مع وجود هذه الموارد الواقعية نغلق أسماعنا وأعيننا ونقول : إنّ جميعهم عدول؟

١٠. توجيهات غير وجيهة

١. اضطر المؤيدون لنظرية التنزيه والتقديس المطلق أمام هذا التضارب الكبير بإقناع أنفسهم بأنّ جميع الصحابة مجتهدون ، وكل واحد منهم عمل وفق اجتهاده.

وهذا نوع من أنواع التحايل على الوجدان يقيناً ، وقد توسل به هؤلاء الإخوة للخروج من هذا التضارب الفاضح.

فهل يعد ضرب صحابي مؤمن لانتقاده الرقيق ، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقضية بسيطة حول العبث ببيت مال المسلمين إلى الحد الذي يفقد فيه وعيه وصلاته ، اجتهاداً؟

__________________

(١). انظر المعجم الكبير ، ج ٢٣ ، ص ١٢٨ ، وكتب أخرى.

(٢). انظر السنن الكبرى ، ج ٨ ، ص ٣١٢. كتب أخرى كثيرة.

(٣). انظر صحيح مسلم ، ج ٥ ، ص ١٢٦ ، ح ١٧٠٧.

٦١

وهل تهشيم أضلاع صحابي آخر معروف ؛ لاعتراضه على تعيين «الوليد» شارب الخمر والياً على الكوفة ، يعدّ نوعاً من الاجتهاد؟

والأهم من ذلك هل يعتبر إشعال نار الحروب وقتل عشرات الألوف من المسلمين ؛ لأجل الجاه والسيطرة على الحكومة الإسلاميّة ، والوقوف في وجه إمام المسلمين المنتخب من قبل الناس جميعاً إضافة إلى مقاماته الإلهية ، اجتهاداً؟

فإذا كانت هذه الأمور وغيرها تعدّ من قبيل الاجتهاد وشعبه ، فجميع الجرائم التي حدثت في التاريخ يمكن توجيهها بذلك.

إضافة إلى ذلك ، هل الاجتهاد منحصر بهؤلاء الصحابة أم أنّ هناك عدّة مجتهدين في الأمّة الإسلاميّة؟ واليوم وباعتراف مجموعة من المفكرين السنة وكل علماء الشيعة أنّ باب الاجتهاد ما زال مفتوحاً أمام جميع العلماء الواعين.

فإذا ارتكب شخص مثل هذه الأعمال فهل أنتم على استعداد لتوجيهها؟ يقيناً ، كلا.

٢. وتارة يقولون إنّ وظيفتنا هي السكوت عن الصحابة وعن أفعالهم : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.) (١)

نعم هذا الأمر جيد ، إن لم يكن لهم تأثير على مصيرنا ، ولكننا نريد أن نجعلهم قدوة لنا ، ونأخذ روايات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريقهم ، ألا يجب أن نعرف الثقة من غير الثقة والعادل من الفاسق حتى نعمل بمضمون الآية الشريفة :

__________________

(١). سورة البقرة ، الآية ١٣٤.

٦٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (١).

١١. مظلومية الإمام علي عليه‌السلام

كل شخص يقرأ التاريخ الإسلامي يجد أثراً لهذه المسألة ، ويرى كيف تعرض الإمام علي عليه‌السلام ـ رمز العلم والتقوى ، وأقرب الناس إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأكبر مدافع عن الإسلام ـ مع كامل الأسف ـ إلى أمور غير لائقة من سبّ وشتم وإهانة ، إضافة إلى تعرض أصحابه وأتباعه للتهديد والأذى والعذاب الذي لا مثيل له في التاريخ ، مِن الذين يسمّون أنفسهم صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن الأمثلة على ذلك :

أ) شاهدوا يوماً علي بن الجهم الخراساني يلعن أباه ، فقالوا له لما ذا؟ فقال : لأنّه سماني «علياً» (٢).

ب) «كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب عليه‌السلام وأهل بيته عليهم‌السلام فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرءون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته» (٣).

ج) «كان بنو أمية إذا سمعوا بمولود اسمه علي قتلوه ، هذا الكلام نقله سلمة بن شبيب عن أبي عبد الرحمن المقرئ» (٤).

__________________

(١). سورة الحجرات ، الآية ٦.

(٢). لسان الميزان ، ج ٤ ، ص ٢١٠.

(٣). النصائح الكافية ، ص ٧٢.

(٤). تهذيب الكمال ، ج ٢٠ ، ص ٤٢٩ ؛ وسير النبلاء ، ج ٥ ، ص ١٠٢.

٦٣

د) نقل الزمخشري والسيوطي : «أنه في أيّام بني أمية كان الإمام علي عليه‌السلام يسبّ على أكثر من سبعين ألف منبر ، ومعاوية هو الذي سنّ هذه السنّة» (١).

ه) لما جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز وترك اللعن ، وأمر بتركه صاح الناس متعجبين في المسجد فقالوا : «تركت السنّة» (٢).

وفي الوقت الذي نجد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مع هذا كله ـ وطبق الروايات الصحيحة الموجودة في كتبهم المعتبرة يقول : «من سبّ علياً فقد سبني ومن سبّني فقد سبّ الله» (٣).

١٢. قصّة تستحق السرد

لا بأس ومن باب حسن الختام أن أذكر للقرّاء الأعزاء هذه القصّة التي حدثت معي شخصياً في المسجد الحرام وأنهي البحث :

التقيت في إحدى سفراتي للعمرة بمجموعة من علماء الحجاز في المسجد الحرام بين صلاتي المغرب والعشاء ، وكانت هناك فرصة للبحث حول تقديس جميع الصحابة ، ووفقاً لاعتقادهم ـ كما هي العادة ـ فإنّه يجب ألّا ينالهم أي نقد.

وقلت لأحدهم : افرض أنّ معركة صفين قد بدأت الآن ، فإلى أي جبهة ستنضم ، إلى جبهة علي عليه‌السلام ، أم إلى جبهة معاوية؟

أجاب : إلى جبهة علي عليه‌السلام حتماً.

__________________

(١). ربيع الأبرار ، ج ٢ ، ص ١٨٦. والنصائح الكافية ، ص ٧٩ ، عن السيوطي.

(٢). النصائح الكافية ، ص ١١٦ ؛ تهنئة الصديق المحبوب ، ص ٥٩ ، لحسن السقاف.

(٣). أخرجه الحاكم وصحّحه وأقرّه الذهبي (مستدرك الصحيحين ، ج ٣ ، ص ١٢١).

٦٤

قلت : ما ذا تفعل لو أمرك الإمام علي عليه‌السلام بأخذ السيف وقتل معاوية؟

تأمّل لحظات وقال : أقتل معاوية ، ولكن لا أتعرض له بأي انتقاد.

نعم ، هذه هي نتيجة التعصب غير المنطقي للمعتقدات ، والدفاع عنها بالتالي سيكون غير منطقي أيضاً ، والإنسان يبتلى بهؤلاء المتحجرين.

والحق هو أن نقول : إنّ الصحابة وأتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ينقسمون ، من جهة إلى عدّة أصناف ، وذلك بشهادة القرآن الكريم والتاريخ الإسلامي ، فهناك مجموعة من الصحابة وأتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا منذ البداية طاهرين وصادقين وصالحين وبقوا على ذلك إلى النهاية «عاشوا سعداء وماتوا سعداء».

ومن جهة أخرى هناك مجموعة أخرى كانوا في صفوف الصالحين والطاهرين في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّهم بعد ذلك غيّروا مسيرتهم طلباً للجاه وحبّ الدنيا ، ولم تكن عاقبتهم إلى خير.

وهناك مجموعة ثالثة كانوا منذ البداية في صف المنافقين وعبدة الدنيا ، ولأجل أهداف خاصة التحقوا بالمسلمين ، مثل أبي سفيان.

وهنا نشير للمجموعة الأولى ونقول : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١).

__________________

(١). سورة الحشر ، الآية ١٠.

٦٥
٦٦

المبحث الرابع

احترام قبور العظماء

٦٧
٦٨

حول البحث :

حديثنا هنا مع الوهابيين المتشددين فقط ، علماً أنّ جميع الفرق الإسلاميّة تجيز زيارة قبور العظماء باستثناء هذه الفرقة ، وعلى كل حال يطرح الوهابيون علينا سؤالاً وهو : لما ذا تذهبون لزيارة الزعماء الدينيين؟ ويسموننا بالقبوريين.

في الوقت الذي نرى اهتمام الشعوب في جميع أنحاء العالم بمراقد أسلافهم فيقصدونها للزيارة وأخذ العبر.

والمسلمون في العالم يولون أهميّة وقيمة خاصّة لقبور عظمائهم دائماً وما زالوا ، ويذهبون لزيارتها ، ولم يخالف في ذلك إلّا الفرقة الوهابية الصغيرة التي تدعي تمثيل جميع المسلمين في العالم.

نعم هناك بعض العلماء المعروفين من الوهابية صرّحوا باستحباب زيارة قبر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن بشرط أن لا تكون بنيّة «شدّ الرحال» ، بمعنى : أن يأتوا لزيارة مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والعبادة فيه ، أو أداء العمرة وزيارة المدينة ، وفي الضمن يزورون قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن لا بقصد شدّ الرحال.

٦٩

يقول «بن باز» الفقيه الوهابي المعروف في حديثه لجريدة الجزيرة : «يستحب الصلاة ركعتين في روضة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمن يزور مسجده الشريف ، ثمّ يسلّم على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويستحب أيضاً زيارة مقبرة البقيع ويسلّم على الشهداء المدفونين هناك» (١).

ووفقاً لنقل كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة» يرى الفقهاء الأربعة لأهل السنّة استحباب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بدون قيد أو شرط. حيث نقرأ في هذا الكتاب : «لا ريب في أنّ زيارة قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام من أعظم القُرب وأجلها شأناً» (٢). وقد وردت أحاديث كثيرة بهذا المضمون.

هذه الفرقة الوهابية تختلف بشكل عام مع بقية مسلمي العالم في ثلاث نقاط هي :

١. بناء القبور.

٢. شدّ الرحال لزيارة القبور.

٣. زيارة النساء للقبور.

وقد تمسك هؤلاء ببعض الروايات على المطالب الثلاثة ، وهي مردودة ، إمّا لضعف سندها أو لعدم دلالتها ، وسنأتي على شرحها قريباً إن شاء الله.

ويظهر أنّ لديهم دوافع أخرى لهذه الحركة ، فهم مبتلون بالوسواس في موضوع التوحيد والشرك ، ولعلهم ظنُّوا بأنّ زيارة القبور هي عبادة لهم ، وبالتالي يكون جميع المسلمين مشركين وملحدين باستثنائهم!!!

__________________

(١). جريدة الجزيرة ، العدد ٦٨٦٢ بتاريخ ٢٢ / ١١ / ١٤١١ ه‍ ـ. ق.

(٢). الفقه على المذاهب الأربعة ، ج ١ ، ص ٣٦٥ ، دار الكتب العلمية بيروت ، ط ٢ ، ١٤٢٤ ه‍ ـ. ق.

٧٠

النماذج التاريخية :

احترام قبور السابقين وبالخصوص العظماء ممن له تاريخ طويل قبل آلاف السنين ، فكان المجتمع البشري يكرم أمواته ، ويحترم قبورهم وبالخصوص العظماء منهم ؛ لأنّ فلسفة هذا العمل له آثار إيجابية كثيرة ، منها :

أولا : إنّ الفائدة من تكريم السابقين هو حفظ حرمة هؤلاء الأعزاء وتقديرهم ؛ لأنّهم عنوان للعزة والشرف الإنساني ، وسبب لترغيب الشبّان في سلوك نهجهم.

ثانياً : أخذ الدروس والعبر من تلك القبور الصامتة ، أما نداؤها فهو جلاء لصدأ الغفلة عن قلب الإنسان ، وإيقاظه من غفلة الدنيا وتخديرها. والتقليل من سيطرة الهوى والهوس ، وبتعبير أمير المؤمنين عليه‌السلام : «فكفى واعظاً بموتى عاينتموهم» (١).

ثالثاً : تسلية أهالي المتوفى ، لأنّ الناس شعرون براحة أكثر وهم بجوار قبور أعزّائهم وكأنّهم يعيشون بينهم ، وهذه الزيارة تقلل من شدّة آلامهم ، وبهذا الدليل نجدهم يقومون بإنشاء قبر رمزي للفقيد ، ويجلسون بجواره تخليداً لذكراه.

رابعاً : يعدّ تكريم قبور العظماء الماضين طريقاً لحفظ التراث الثقافي لكل قوم وأمّة ، والشعوب اليوم هي حيّة بثقافاتها القديمة ، ومسلمو العالم يملكون ثقافة غنية وتراثاً عظيماً ، ومن أهمها قبور ومراقد الشهداء والعلماء العظام وطلائع العلم والثقافة ، وبالخصوص المراقد المشرفة لأئمّة الدين العظام.

__________________

(١). نهج البلاغة ، خطبة ١٨٨.

٧١

فكان حفظ آثارهم وإحياء ذكراهم سبباً لحفظ الإسلام وسنّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، على الرغم ممّا فعله عديمو الذوق من إزالة الآثار العظيمة لزعماء الإسلام في مكة والمدينة وبعض المناطق الأخرى ، حيث أصيب المجتمع الإسلامي بخسارة عظيمة ، وقد أنزل السلفيون الجهلة المتخلفون ـ وللأسف الشديد ـ خسائر فادحة لا يمكن تعويضها بالتراث الثقافي للإسلام بذرائع واهية.

أفهل هذا التراث التاريخي العظيم يختص بهذه المجموعة المحدودة حتى يدمر بهذا الشكل الفظيع؟ ألا يجب أن يوكل أمر حفظ هذه الآثار إلى مجموعة من العلماء الواعين من جميع البلدان؟

خامساً : إنّ لزيارة قبور أئمّة الدين العظام وطلب الشفاعة منهم عند الله المرافق للتوبة والإنابة إلى ساحة العبودية أثراً في تربية النفوس وتنمية الأخلاق والإيمان ، وقد تاب الكثير من المذنبين والعصاة بجوار تلك المراقد الملكوتية لهؤلاء ، وما زالوا ، ليصبحوا صلحاء دائماً ، ويرتقون إلى مراتب أعلى من الصلاح.

توهم الشرك في زيارة القبور :

يقوم بعض الجهّال باتهام زوار قبور أئمّة الدين ، بالشرك ، ويقيناً أنّهم لو علموا بمضمون هذه الزيارات ومحتواها لخجلوا من هذا الكلام.

لا يوجد أي شخص عاقل يعبد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأئمّة عليهم‌السلام ، بل لا تخطر بذهن أحد هذه الفكرة إطلاقاً ، وجميع المؤمنين الواعين يذهبون لزيارتهم احتراماً وطلباً للشفاعة.

٧٢

وأغلب الزوار يذكرون «الله أكبر» مائة مرّة قبل البدء بقراءة متن الزيارة ، فهم على هذا يؤكدون مبدأ التوحيد مائة مرّة لإبعاد أي شائبة للشرك من نفوسهم.

نقول في الزيارة المعروفة زيارة «أمين الله» وأمام قبور الأئمة : «أشْهدُ أنكَ جاهدتَ في الله حَقَّ جِهاده ، وَعمِلتَ بِكتَابِه ، واتبعتَ سُنَنَ نَبِيِّه حتَّى دَعاكَ الله إلى جِوَارِه» (١) ، أفهل هناك توحيد أكثر من هذا؟

ونقول في خطابنا لهؤلاء العظماء في الزيارة الجامعة المعروفة : «إلى الله تَدعُونَ وَعَليهِ تَدُلُّونَ وَبِه تُؤْمِنُونَ وَلَهُ تُسَلِّمونَ وَبِأمرِهِ تَعمَلُونَ وَإلى سَبِيلِه تُرْشِدُونَ» (٢) ، وجميع الضمائر في الجمل الست المذكورة تعود إلى الخالق سبحانه وتعالى.

فالدعوة إلى الله والتوحيد موجودة في كل موضع من هذه الزيارات ، أفهل هذا شرك أم إيمان؟

ونقول في موضع آخر من الزيارة : «مُسْتَشْفِعٌ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بِكُمْ» ، فإذا كان في مضمون بعض العبارات إبهام ، فهذه المحكمات ترفع هذا الإبهام.

هل طلب الشفاعة يتفق مع مباني التوحيد؟

الاشتباه الآخر المهم لدى الوهابية في هذا الموضوع هو مقايسة طلب الشفاعة من الأولياء في حضرة الله سبحانه وتعالى مع طلب الشفاعة من الأصنام ـ تلك الأحجار الجامدة التي لا روح فيها ولا عقل ولا شعور ـ

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٩٩ ، ص ١٢٩ و ١٣٠.

(٢). نفس المصدر ، ص ١٣١.

٧٣

في الوقت الذي نرى القرآن المجيد قد أشار في مواضع عديدة إلى استشفاع الأنبياء الربانيين عليهم‌السلام للمذنبين عند الله ، فنذكر على سبيل المثال :

١. بعد أن عرف إخوة يوسف عليه‌السلام عظمة أخيهم والتفتوا إلى خطأهم ذهبوا إلى أبيهم طلباً للشفاعة ، وقد لبى الأب طلبهم : (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١). فهل كان النبي يعقوب عليه‌السلام مشركاً؟

٢. القرآن الكريم يرغب ويشجع المذنبين لطلب التوبة والشفاعة من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يقول : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٢) ، فهل هذا الترغيب والتشجيع شرك؟

٣. يقول القرآن في ذمه للمنافقين : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٣) ، فهل يدعو القرآن الكريم الكفار والمنافقين للشرك؟

٤. نحن نعلم بأنّ قوم لوط كانوا من أسوأ الأقوام ، وقد طلب شيخ الأنبياء إبراهيم عليه‌السلام الشفاعة لهم ، حيث طلب من الله إمهالهم مدّة أكثر لعلهم يتوبون ، ولكن بما أنّهم تجاوزوا حدّاً من الوقاحة أفقدهم قابلية الشفاعة لهم جاء الخطاب للنبي إبراهيم عليه‌السلام بالإعراض عن طلب الشفاعة لهم : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ* إِنَّ إِبْراهِيمَ

__________________

(١). سورة يوسف ، الآية ٩٧ و ٩٨.

(٢). سورة النساء ، الآية ٦٤.

(٣). سورة المنافقون ، الآية ٥.

٧٤

لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ* يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (١).

الجدير بالذكر أنّ الله تعالى في مقابل طلب الشفاعة هذه قد أثنى على النبي إبراهيم عليه‌السلام بشكل مميز حيث قال : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) ولكن وجّه له الخطاب بأنّه قد فات الأوان ولم يبق مجال للشفاعة.

لا تختص شفاعة الأولياء بفترة حياتهم!!

لجأ المفتشون عن مخرج عند ما رأوا صراحة الآيات السابقة التي تشير إلى مشروعية شفاعة الأنبياء عليه‌السلام وأنّه لا محيص من قبولها ، إلى ذريعة أخرى ، حيث قالوا : إنّ هذه الآيات تتحدث عن الشفاعة في حال حياة الشفعاء ، ولا دليل لدينا على شمولها لما بعد وفاتهم. وبهذا قد تخلوا عن ذريعة الشرك وتمسكوا بذريعة أخرى.

ولكن يطرح هنا سؤال ، هل أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتبدل إلى تراب بعد وفاته وينعدم بشكل تام ـ كما أقرّ أمامنا بعض علماء الوهابية بذلك ـ أو أنّ هناك حياة برزخية؟

فعلى القول إنّهُ لم تكن هناك حياة للنبي ـ وهو باطل ـ ترد بعض الأمور :

أولاً : هل مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أقل مرتبة من مقام الشهداء الذين قال فيهم الله سبحانه وتعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (٢).

ثانياً : هل السلام الذي نذكره على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في التشهد ويذكره جميع

__________________

(١). سورة هود ، الآية ٧٤ ـ ٧٦.

(٢). سورة آل عمران ، الآية ١٦٩.

٧٥

المسلمين بلا خلاف «السلام عليك أيّها النبي ...» نذكره على شخصية خيالية لا وجود لها؟

ثالثاً : ألا تعتقدون بأنه يجب عليكم إذا كنتم في المسجد النبوي التحدث بهدوء عند ما تكونون بجوار قبره الشريف؟ ؛ لأنّ القرآن الكريم يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ...) (١) ، وقد كتبت هذه الآية على لوحة وعلقت فوق قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فكيف تقبلون بهذا الكلام المتناقض؟

رابعاً : إنّ الموت لا يمثل نهاية الحياة فقط ، بل هو ولادة ثانية وحياة جديدة : «النَّاسُ نِيَام فإذا مَاتُوا انْتَبَهُوا» (٢).

خامساً : نقرأ في الحديث المعروف الذي جاء في مصدر معتبر لدى أهل السنّة أن عبد الله بن عمر نقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «مَنْ زَارَ قَبْري وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتي» (٣). وجاء في حديث آخر نقله نفس الراوي عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله «مَنْ زَارَني بَعْدَ مَوْتِي فَكَأنَّما زَارَني في حَياتي» (٤). وعليه فهذه الفرضية من التفريق بين زمن الحياة والموت ليس إلّا تصور واه.

ومن خلال الإطلاق الموجود في هذه الأحاديث المذكورة يمكن أن نؤكد مشروعية شدّ الرحال بقصد زيارة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١). سورة الحجرات ، الآية ٢.

(٢). عوالي اللئالي ، ج ٢ ، ص ٧٣.

(٣). السنن للدارقطني ، ج ٢ ، ص ٢٧٨. وقد ذكر العلّامة الأميني ٤١ مصدراً لهذا الحديث من الكتب المعروفة لدى أهل السنّة ؛ الغدير ، ج ٥ ، ص ٩٣.

(٤). الغدير ، ج ٥ ، ص ١٠١.

٧٦

النساء وزيارة القبور :

تحتاج النساء وبسبب كونهن أكثر عاطفة ورقة إلى زيارة قبور أعزّائهن تسلية للخاطر ، كما أن التجربة أثبتت أن لديهن علاقة أكبر من الرجال بالنسبة لزيارة قبور أولياء الله.

ولكن هناك مجموعة من الوهابيين المتشددين وللأسف وبسبب وجود حديث مشكوك يردعون النساء عن زيارة القبور بشكل متعسف ، حتى أنّه اشتهر على لسان عوامهم في جنوب إيران بأنّ المرأة التي تقف على قبر يراها صاحب القبر عارية.

يقول أحد العلماء : قلتُ لهم : إنّ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والخليفة الأول والثاني موجود في منزل «عائشة» حيث كانت تعيش فيه أو تتردد عليه ... فإذا قلنا إنّه لا إشكال في وقوفها على قبر النبي في صورة ـ كما تزعمون ـ فكيف بوقوفها على هذه الهيئة على قبر الخليفة الاول والثاني؟ فهذا يحتاج إلى نظر وتأمل.

على كل حال فهم يستدلون على ذلك بحديث معروف ينسبونه للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «لَعَنَ الله زَائِراتِ القُبُور» ، وجاء في بعض الكتب بدل «زائرات» «زوّارات القبور» بصيغة المبالغة.

يقول بعض علماء أهل السنّة ومنهم الترمذي (١) : «إنّ هذا الحديث مرتبط فزمان نهى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن زيارة القبور ، ولكن هذا الحكم نسخ فيما بعد».

ويقول آخرون من علمائهم : إنّه مختص بالنساء اللاتي يصرفن وقتاً كثيراً

__________________

(١). سنن الترمذي ، ج ٣ ، ص ٣٧١. باب ما جاء من الرخصة في زيارة القبور.

٧٧

في زيارة القبور ، ممّا يؤدي إلى تضييع حقوق أزواجهن ، ودليلهم على ذلك صيغة المبالغة «زوّارات» التي جاءت في بعض النسخ.

هؤلاء الإخوة مهما أنكروا ، لا يستطيعون إنكار فعل عائشة من إبقاء قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبر الخليفة الأول والثاني في بيتها.

شدّ الرحال لا يكون إلّا للمساجد الثلاثة :

يذكر التاريخ الإسلامي أنّ المسلمين لقرون عدّة كانوا يشدّون الرحال لزيارة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن لدى أحد مشكلة.

حتى جاء دور (ابن تيمية) في القرن السابع فقام بمنع أتباعه من هذا العمل وقال : إنّ شدّ الرحال لا يكون إلّا إلى مساجد ثلاثة ، ويمنع في غيرها ، واستدل هذه المرّة بحديث عن «أبي هريرة».

يقول أبو هريرة : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «لا تُشَدّ الرحال إلّا إلى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ ، مَسْجِدي هَذا والمَسْجِد الحَرَام والمَسْجِد الأقصى» (١).

والحال أولاً : إنّ موضوع الحديث متعلق بالمساجد لا بزيارة أي مكان آخر ، وعلى هذا يكون مفهوم الحديث أنّه لا تشدّ الرحال لأي مسجد إلّا إلى هذه المساجد الثلاثة.

ثانياً : نقل هذا الحديث بصيغة أخرى حيث لا توجد فيه أي دلالة على مقصودهم وهو : «تُشَدُّ الرِّحال إلى ثلاثة مَسَاجِدَ» (٢).

وفي الحقيقة هو نوع من الترغيب لهذا العمل ، من دون أن ينفي بقية

__________________

(١). صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٠٢.

(٢). نفس المصدر ، ص ١٢٦.

٧٨

الموارد ، وفي الاصطلاح «إنّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه».

فإذا لم يعلم النص الأصلي للحديث بأنّه على الصياغة الأولى أم الصياغة الثانية ، يكون الحديث مجملاً ، وغير قابل للاستدلال به.

وقد يقال إنّه جاء نص آخر في نفس الكتاب وهو : «إنّما يسافر إلى ثلاثة مساجد ...» (١).

وعلى هذا يكون شدّ الرحال جائز للمساجد الثلاثة فقط!

والجواب على هذا النقد واضح :

أولاً : هناك إجماع من الأمّة على جواز السفر لمقاصد عدّة سواء كان دينياً أو غير ديني. والسفر لا ينحصر بالسفر إلى المساجد الثلاثة ، وبالنتيجة يكون هذا الحصر بحسب الاصطلاح «حصراً إضافياً» وهو يعني أنّ شدّ الرحال يكون للمساجد الثلاثة من بين بقية المساجد.

ثانياً : إنّ نص الحديث مختلف فلا يعلم ما هو الواقع ، فهل هو الأول أم الثاني أم الثالث؟ ويستبعد أنّ يعبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذا الأمر بعبارات ثلاث ، والظاهر أنّ رواة الأخبار نقلوا الحديث بالمعنى ، وعليه يكون هذا الحديث محفوفاً بالإبهام ، ومع إبهام الحديث يسقط الاستدلال به عن الاعتبار.

هل بناء القبور ممنوع؟

مضت قرون عديدة على قيام المسلمين ببناء أبنية تاريخية وعادية كثيرة على قبور عظماء الإسلام ، وكانوا يأتون لزيارة القبور ويتبركون بها ، ولم يعترض عليهم أي شخص ، وفي الواقع كان هناك إجماع وسيرة عملية

__________________

(١). صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٢٦.

٧٩

على هذا العمل ، ولم تشاهد مخالفة.

ذكر المؤرخون كالمسعودي في «مروج الذهب» الذي عاش في القرن الرابع الهجري ، والرحالة مثل : ابن جبير وابن بطوطة اللذين عاشا في القرن السابع والثامن ذكروا مشاهداتهم لتلك الأبنية المميزة والعظيمة.

حتى ظهر ابن تيمية في القرن السابع وتلميذه محمّد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر ، فزعما أنّ بناء القبور بدعة وحرام وشرك.

والوهابيون مبتلون بوسواس عجيب ، خصوصاً في مسألة التوحيد والشرك ؛ وذلك بسبب ضحالة مستواهم العلمي في تحليل المسائل. ويلجئون للمخالفة عند اضطرابهم أمام أي موضوع ، من قبيل موضوع الزيارة والشفاعة وبناء القبور وغيرها ، فكل هذه المسائل مخالفة للشرع في نظرهم ، ويلحقونها بمسألة «الشرك» و «البدعة» ويخالفونها. وأهم هذه المسائل ، البناء على قبور زعماء الدين ، وفي الوقت الراهن نرى أبنية عظيمة على قبور الأنبياء السابقين وزعماء الإسلام في مختلف دول العالم الإسلامي باستثناء السعودية ، حيث نجد احترام تلك الشعوب من مصر إلى الهند ومن الجزائر إلى أندونيسيا للآثار الإسلاميّة المتبقية في دولهم ، ويولون قبور زعماء الدين أهميّة خاصّة.

ولكن لا نجد في السعودية أي اهتمام لهذه الآثار ، والدليل على ذلك هو عدم وجود التحليل السليم للمفاهيم الإسلاميّة.

الوهابية تدمر التراث الثقافي :

وقع في القرن الماضي حدث مؤلم في بلاد الوحي ، أدى إلى حرمان

٨٠