الشيعة شبهات وردود

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الشيعة شبهات وردود

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


المترجم: احمد محمّد الحرز
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-028-9
الصفحات: ٢٠٧

كلمة أخيرة :

الكلمة الأخيرة هي : أنّ أحد الذنوب الكبيرة عند الله سبحانه وتعالى هي اتهام الآخر بأمور لم يقلها ولم يفعلها.

ونحن قلنا مراراً وتكراراً وفي مناسبات عدّة : إنّه لا يوجد أحد من المحقّقين والعلماء الشيعة من يقول بتحريف القرآن ، وكتبهم تشهد بذلك ، ولكن هناك فرقة متعصبة ومعاندة ما زالت تكرر هذه التهمة ، ولا أعلم ما سيكون جوابهم يوم القيامة عن كل هذه التهم ، وعن الحطِّ من شأن القرآن الكريم واعتباره.

فإذا كانت ذريعتكم هو وجود بعض الروايات الضعيفة في بعض كتبنا ، فهي موجودة أيضاً في كتبكم ، وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً.

ولا يوجد أي مذهب يبني أساسه على روايات ضعيفة ، ونحن لا يمكن أن نتهمكم بتحريف القرآن ؛ لأجل كتاب «الفرقان في تحريف القرآن» لابن الخطيب المصري والروايات الضعيفة التي لديكم حول تحريف القرآن ، ولن نضحّي بالقرآن لأجل العصبية المدمّرة.

لا تتكلّموا عن تحريف القرآن بهذه الطريقة ، ولا تسيئوا إلى الإسلام والمسلمين والقرآن ، لا تسقطوا اعتبار القرآن لأجل التعصب الطائفي فالقرآن الكريم رأس مال مسلمي العالم ، يجب أن لا تنطق ألسنتكم بكلمة التحريف ، ولا تعطوا الأعداء ذريعة ، فإذا أردتم الانتقام من الشيعة ومن أتباع أهل البيت عليهم‌السلام من خلال هذا الطريق ، فاعلموا أنكم ستضعّفون أساس الإسلام من حيث لا تشعرون ؛ لأنّ أعداء الإسلام سيقولون : إنّ فرقة عظيمة من المسلمين تقول بتحريف القرآن ، وهذا ظلم عظيم للقرآن الكريم.

٢١

في الختام نكرر القول : إنّه لا يوجد من يقول بتحريف القرآن بين المحقّقين شيعة وسنّة ، وإنّهم يقرّون بأنّ القرآن الذي نزل على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن الموجود حالياً بين المسلمين واحد ، ويعتقدون ـ كما صرح القرآن ـ بأنّ الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظ القرآن من كل تغيير أو تحريف أو زوال. ولكن للأسف هناك بعض المتعصبين من الطرفين نسبوا التحريف لبعضهم البعض من دون وعي وعلم.

نسأل الله لهم الهداية جميعاً.

٢٢

المبحث الثاني

التقية في الكتاب والسنة

٢٣
٢٤

التقية : هي المسألة الثانية التي يأخذها هؤلاء المفتنون والمتعصبون على مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، فيقولون : لما ذا تستخدمون التقية؟ أليست التقية نوعاً من النفاق؟

وقد ضخّم هؤلاء هذه المسألة إلى حدٍّ وكأنّ التقية فعل محرم ، أو من الذنوب الكبيرة أو أعظم من ذلك ، وغفلوا عن أنّ القرآن قد أجاز التقية في آيات متعددة تحت ظروف خاصة ، والروايات الواردة في مصادرهم تؤكد هذا المعنى ، بل الأمر أكثر من هذا ، فالعقل يأمر بالتقية بشكل صريح إذا تحقّقت شروطها ، إضافة إلى أنّ الكثير من هؤلاء قد مارسوها في حياتهم الشخصية وعملوا بها.

ولتوضيح هذا الكلام لا بدّ من ملاحظة النقاط التالية :

١. ما هي التقية؟

هي أن يكتم الإنسان عقائده الدينية عند احتمال تعرضه للخطر أمام المخالفين والمتعصبين ، ومثالاً على ذلك : كما إذا وقع مسلم موحد في قبضة مجموعة من عبدة الأصنام والمعاندين ، فإذا أظهر عقيدته التوحيدية

٢٥

سيتسبّب في إراقة دمه أو وقوع الأذى على نفسه أو ماله أو عرضه ، فعندها يكتم عقيدته عنهم ليبقى في أمان وبعيداً عن شرّهم.

أو عند ما يلتقي مسلم شيعي بأشخاص وهابيين متعصبين يبيحون إراقة دماء الشيعة ، فإنّه يكتم عقيدته عنهم حفاظاً على نفسه وماله وعرضه.

وكل عاقل يقرّ بأنّ هذا العمل منطقي ، والعقل هو الحاكم ؛ لأنّه لا يجب أن يضحي بنفسه لأجل إظهار عقيدته أمام المتعصبين.

٢. الفرق بين التقية والنفاق

النفاق ضد التقية ، فالمنافق هو الذي لا يعتقد بمبادئ الإسلام باطناً ، أو يكون متردداً ، ولكنّه يظهر إسلامه بين المسلمين. فالتقية التي نقول بها هي : الاعتقاد الصحيح في الباطن بالإسلام ، وهذا لا يتطابق مع نظر بعض الوهابيين المتشددين ، الذين يكفّرون جميع المسلمين ـ ويستثنون أنفسهم ـ ويعتبرونهم كفاراً ، ويواجهونهم ويهددونهم.

فحيثما كتم الإنسان المؤمن عقيدته عن هذه الفرقة المتعصبة حفاظاً على نفسه وماله وعرضه فهذا هو معنى التقية ويقابله النفاق.

٣. التقية من منظار العقل

التقية في الواقع وسيلة للدفاع عن النفس ، ولهذا ورد تعريفها في رواياتنا بعنوان «ترس المؤمن».

ولا يوجد عقل يجيز لإنسان إظهار عقيدته الحقيقية (الباطنية) أمام أفراد مخالفين لعقيدته ومعاندين وغير منطقيين بحيث يشكّلون ـ خطراً على

٢٦

الإنسان ويعرّض نفسه للأذى ؛ لأن إهدار الطاقات والإمكانيات بدون فائدة ليس أمراً عقلائياً. التقية تشبه عملية التمويه التي يستخدمها الجنود في الحرب ؛ وذلك بانتخاب ألبسة تتناسب مع ألوان الشجر والأنفاق والسواتر للحفاظ على أنفسهم من الخطر.

إنّ كل العقلاء في العالم يستخدمون التقية أمام الأعداء الشرسين للحفاظ على أنفسهم ، ولا يمكن أن يلام شخص يستخدم هذه الوسيلة. ولا يمكن أن نجد شخصاً في الدنيا يرفض التقية إذا توفرت شروطها.

٤. التقية في كتاب الله

القرآن الكريم في آيات متعددة يجيز استخدام التقية في مقابل الكفّار والمخالفين ، ومن باب المثال :

أ) نقرأ قصة مؤمن آل فرعون : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ ...) (١) ، وتعقب الآية بعد ذلك : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ.)

وعلى هذا الأساس فمؤمن آل فرعون في الوقت الذي استخدم التقية قدم نصائحه لتلك الفرقة المتعصبة المعاندة التي كانت تريد سفك دم نبي الله موسى عليه‌السلام.

ب) وفي مورد قرآني آخر نقرأ أمراً صريحاً : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي

__________________

(١). سورة غافر ، الآية ٢٨.

٢٧

شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) (١). فهذه الآية تمنع إقامة علاقة ودية مع أعداء الحق ، إلّا إذا كان عدم العلاقة معهم يسبب وقوع المشقّة والأذى على المسلمين ، فتكون العلاقة الودية معهم باستخدام التقية نوعاً من أنواع الدفاع عن النفس.

ج) ينقل جميع المفسرين في قصة عمّار بن ياسر وأمّه وأبيه أنّهم وقعوا ثلاثتهم في أيدي المشركين العرب ، وقاموا بتعذيبهم وأجبروهم على البراءة من نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأمّا والد عمّار وأمّه فقد رفضوا الاستجابة لهم ، واستشهدوا على هذه الحالة ، وأمّا عمّار فقد نطق بما يريدون تقية ، وبعد ذلك ذهب إلى حضرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يبكي ، وفي الأثناء نزلت الآية الشريفة (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢). فعدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والد عمّار وأمّه من الشهداء ، وقام بمسح دموع عمّار وقال له : لا إثم عليك ، فإن عادوا إلى إجبارك فكرر تلك الكلمات.

ويشير اتفاق آراء مفسّري الإسلام في شأن نزول الآية في عمّار ووالديه ، وحديث النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدها على قبولهم جميعاً مسألة التقية. والأمر المثير للاستغراب أنّه ومع كل هذه الأدلة القرآنيّة المحكمة وكلمات المفسرين من أهل السنّة يؤاخذون الشيعة على قبولهم لمسألة التقية. فعمّار لم يكن منافقاً ، ولا مؤمن آل فرعون ؛ وذلك لأنّهما استفادا من التقية وفق الأوامر الإلهيّة.

__________________

(١). سورة آل عمران ، الآية ٢٨.

(٢). سورة النحل ، الآية ١٠٦.

٢٨

٥. التقية في الروايات الإسلاميّة

وقد تناولت الروايات الإسلاميّة أيضاً التقية بشكل واسع ، وعلى سبيل المثال :

مسند أبي شيبة وهو من المسانيد المعروفة عند أهل السنّة ، ينقل قصّة «مسيلمة الكذاب» : حيث أقدم مسيلمة الكذاب على اعتقال اثنين من أصحاب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنطقة التي يسيطر عليها ، وسأل كلاً منهما : هل تشهدون بأنّي رسول الله؟

فشهد أحدهم بذلك ، ونجى بنفسه ، ولم يشهد الآخر فقطع رأسه ، وعند ما وصل هذا الخبر للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أمّا الذي قُتل فكان في سبيل الصدق والحق ، وأمّا الثاني فهو مأذون من الله ولا ذنب عليه» (١).

ونجد في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ـ وخصوصاً الأئمّة الذين عاشوا في عصر تسلط بني أمية وبني العباس الذين كانوا يقتلون من يجدونه محبّاً لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ـ أوامر كثيرة باستخدام التقية ، وهم مأمورون بحفظ أنفسهم ؛ وذلك باستخدام التقية حفظاً لأنفسهم من هؤلاء المعتدين القتلة القساة.

٦. هل التقية جائزة في مقابل الكفّار فقط؟

إنّ بعض المخالفين عند ما يواجهون الروايات الصريحة المذكورة سابقاً لا يبقى مجال لهم إلّا القبول بمسألة مشروعية التقية ، ولكنّهم يخصّون ذلك في مقابل الكفّار فقط ، ولا يرون مشروعية التقية في مقابل المسلمين.

__________________

(١). مسند أبي شيبة ، ج ١٢ ، ص ٣٥٨.

٢٩

وإضافة إلى وضوح عدم الفرق بينهما بناءً على الأدلة السابقة نقول :

١. إذا كان معنى التقية هو حفظ النفس والمال والعِرض في مقابل المتعصبين والأشخاص الأشرار ، فما الفرق بين بعض المسلمين الجهلة المتعصبين والكفّار؟ وإذا كان العقل هو الذي يحكم بحفظ هذه الأمور وعدم هدرها بدون مبرر ، فما هو الفرق بينهما؟

ونحن نعرف أنّ هناك أفراداً غير واعين وقعوا تحت تأثير الإعلام المسموم والدعايات السيئة ، هؤلاء يرون أن هدر الدم الشيعي يقربهم إلى الله ، فإذا تورط شيعي مخلص من أتباع الإمام علي عليه‌السلام وأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع هؤلاء وسألوه ما هو مذهبك؟ فهل يحكم العاقل والواعي بأن يجيب بصراحة بأنّه «شيعي» ليعرض نفسه للجناية وقطع رقبته؟!

وبعبارة أخرى ، فلو أصدرنا حكماً بحرمة التقية بناءً على كلامهم في مقابل الأعمال التي قام بها المشركون مع عمّار بن ياسر ، أو في مقابل مسيلمة الكذاب مع أصحاب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو في مقابل أعمال حكّام بني أمية وبني العبّاس ، وكذلك في مقابل أعمال بعض المسلمين غير الواعين اتجاه شيعة علي عليه‌السلام لكان هذا سبباً في هلاك مئات الآلاف المخلصين من أتباع أهل البيت عليهم‌السلام ، لأنّ هؤلاء الحكام الظلمة مسلمون في الظاهر!!!

فلو لم يؤكد أهل البيت عليهم‌السلام على مسألة التقية بكثرة حتى أنّهم قالوا : «تسعة أعشار الدين التقية» (١) لوصل عدد قتلى الشيعة في عصر بني أمية وبني العباس إلى مئات الآلاف ، أضعاف عدد الذين قتلوهم بوحشية وبلا رحمة.

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ١٩ ، ص ٢٥٤.

٣٠

فهل مع هذه الظروف يمكن أن يكون هناك شك أو ترديد في مشروعية التقية؟!

ونحن لا ننسى تلك الدماء التي أريقت بين أهل السنّة لسنوات عدّة بسبب الاختلافات المذهبية ، ومن جملتها مسألة القرآن ، هل هو حادث أم قديم؟ ، هذا النزاع الذي يراه المحقّقون اليوم نزاعاً لا معنى له ولا فائدة.

فإذا وقعت فرقة تدعي أنّها على الحق في أيدي مخالفيها وتورطت معها ، فهل عليها أن تجيب على أسئلتهم الاعتقادية بصراحة ، بأنّ عقيدتنا هي كذا وكذا ... حتى وإن كان هذا التصريح سيؤدي إلى إراقة دمهم من دون أن يكون لهذه الدماء تأثير أو فائدة ترتجى؟

٢. يقول الفخر الرازي في تفسير الآية الشريفة (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) (١) : ظاهر الآية يدل على أنّ التقية إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين ، إلّا أنّ مذهب الشافعي (رضي الله عنه) إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التقية محاماة على النفس.

وبعدها استدل على ذلك بأنّ التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قتل دون ماله فهو شهيد» (٢).

ونقرأ أيضاً في تفسير النيسابوري حيث جاء في حاشية تفسير الطبري : قال الشافعي : «تجوز التقية بين المسلمين كما تجوز بين الكافرين محاماة

__________________

(١). سورة آل عمران ، الآية ٢٨.

(٢). التفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ٨ ، ص ١٤.

٣١

عن النفس» (١).

٣. والملفت للنظر أنّ جمعاً من محدّثي أهل السنّة وبسبب اعتقادهم بأنّ القرآن الكريم قديم استخدموا التقية عند ما وقعوا تحت ضغط حكم بني العباس ، واعترفوا بأنّه حادث ، للنجاة بأنفسهم.

وأشار ابن سعد المؤرخ المعروف في كتابه «الطبقات» ، والطبري المعروف أيضاً في كتابه المشهور تاريخ الطبري إلى رسالتين من المأمون أرسلتا إلى رئيس الشرطة في بغداد «إسحاق بن إبراهيم» حيث ذكر ابن سعد عن الرسالة الأولى : «كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في إشخاص سبعة نفر ، منهم محمّد بن سعد الواقدي وأبو مسلم يزيد بن هارون ، ويحيى بن معين ، وزهير بن حرب أبو خيثمة ، وإسماعيل بن داود ، وإسماعيل بن أبي مسعود ، وأحمد بن الدورقي ، فأشخصوا إليه فامتحنهم ، وسألهم عن خلق القرآن ، فأجابوا جميعاً إنّ القرآن مخلوق» (٢). (مع أنّ الرأي المشهور بين المحدّثين هو أنّ القرآن قديم ، وهذا ما كان يعتقد به هؤلاء السبعة).

نعم ، إنّ هؤلاء قد اتقوا من المأمون خوفاً من عقابه الشديد ، واعترفوا بأنّ القرآن مخلوقٌ ، فأخلى سبيلهم.

وتليها الرسالة الثانية ، حيث ينقل الطبري رسالة أخرى من المأمون والمخاطب فيها أيضاً رئيس شرطة بغداد حيث يقول : «عند ما وصل كتاب المأمون أحضر إسحاق بن إبراهيم لذلك جماعة من الفقهاء والمحدّثين يصل عددهم تقريباً إلى ٢٦ شخصاً ، وقرأ عليهم كتاب المأمون مرّتين حتى فهموه ،

__________________

(١). تفسير النيسابوري في حاشية تفسير الطبري ، ج ٣ ، ص ١١٨.

(٢). تاريخ الطبري ، ج ٧ ، ص ١٩٧ ؛ وطبقات ابن سعد ، ج ٧ ، ص ١٦٧ ، طبعة بيروت.

٣٢

ثمّ استدعى واحداً تلو الآخر ليظهروا عقيدتهم حول القرآن ، فاعترف جميعهم بأنّ القرآن مخلوق فأخلى سبيلهم ، باستثناء أربعة أشخاص هم : أحمد بن حنبل ، سجادة ، القواريري ومحمّد بن نوح ، فأمر رئيس الشرطة بتقييدهم بالسلاسل وزجهم بالسجن.

وفي اليوم التالي استدعاهم ، وأعاد عليهم الكلام حول القرآن ، فاعترف سجادة بأنّ القرآن مخلوق فأطلقه ، وأصر الباقون على المخالفة ، ثمّ أعادهم مرّة أخرى إلى السجن.

وفي اليوم الثالث استدعاهم وتراجع القواريري عن موقفه ، فأطلق سراحه ، ولكن أصرا كلاً من أحمد بن حنبل ومحمّد بن نوح على قولهما السابق ، فقام رئيس الشرطة بنفيهما إلى مدينة طرطوس (١)».

وعند ما اعترض بعضهم على المجموعة التي استخدمت التقية ، استدلوا لهم بموقف عمار بن ياسر في مقابل الكفار (٢).

إنّ كل هذا يدل وبوضوح على أنّه إذا انحصر طريق نجاة إنسان بالتقية عند ما يقع ضغط شديد عليه من قبل الظالمين يستطيع أن يختار التقية وسيلة لصيانة وحفظ نفسه من ظلم الكفّار أو المسلمين (تأمل).

٧. التقية الحرام

هناك بعض الموارد يحرم فيها التقية ، وهي عند ما يؤدي استخدام التقية في إخفاء شخص عقيدته أو مذهبه إلى تعريض أساس الإسلام للخطر أو

__________________

(١). مدينة في بلاد الشام على ساحل البحر الأبيض المتوسط.

(٢). تاريخ الطبري ، ج ٧ ، ص ١٩٧.

٣٣

تعريض كيان المسلمين للضرر الشديد ، ففي هذه الموارد يجب أن يظهر عقيدته الواقعية حتى وإن أدى ذلك إلى وقوعه في الضرر.

وهؤلاء يتصورون أنّ التقية هي من قبيل «إلقاء النفس إلى التهلكة» لأنّ القرآن نهى عن ذلك بصراحة إذ قال : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (١). وهو اشتباه عظيم ؛ لأنّ لازم هذا حرمة حضور ميدان الجهاد ، في الوقت الذي لا يتفوه بهذا الكلام أي عاقل ، ومن هنا يتبيّن بوضوح أنّ ثورة الإمام الحسين بن علي عليه‌السلام ضد يزيد كانت قطعاً وظيفة دينية. والإمام لم يكن مستعداً أن يرضخ ليزيد واتباعه وبني أمية الغاصبين للخلافة الإسلاميّة ؛ لأنّه يعلم بوقوع ضرر كبير على كيان الإسلام ، وستكون ثورته وشهادته سبباً ليقظة المسلمين ونجاتهم من حثالة الجاهلية.

٨. التقية المداراتية

وهذا نوع آخر من التقية يلجأ إليه أصحاب مذهب ما ، من دون أن يسبب ذلك وقوع ضرر على أساس الدين أو على المذهب ، بالتعاون مع بقية فرق المسلمين للحفاظ على وحدتهم.

فمثلاً : يعتقد أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام بأنّه لا يجوز السجود على السجّاد ، ولا بد من السجود على الحجر أو أي شيء من أجزاء الأرض ، ودليلهم على ذلك الحديث المعروف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «جُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً» (٢).

__________________

(١). سورة البقرة ، الآية ١٩٥.

(٢). صحيح البخاري ، ج ١ ، ص ٩١ ؛ وسنن البيهقي ، ج ٢ ، ص ٤٣٣ ؛ وهناك كتب أخرى كثيرة نقلت هذا الحديث أيضاً.

٣٤

فإذا أرادوا حفظ الوحدة بين صفوف المسلمين فبإمكانهم الصلاة في مساجدهم أو في المسجد الحرام أو المسجد النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله والسجود على نفس السجّاد مثل بقية المصلين.

فهذا العمل جائز وهذه الصلاة في عقيدتنا صحيحة ، وهذا يسمى تقية مداراة ؛ لأنّ مسألة الخوف على النفس والمال غير مطروحة ، بل المطروح هو المداراة مع بقية الفرق الإسلاميّة.

وننهي بحث التقية بحديث أحد العظماء :

فقد التقى أحد عظماء الشيعة مع أحد شيوخ الأزهر في مصر ، وأراد أن يهين هذا العالم الشيعي فقال له : سمعنا أنّكم تستخدمون التقية!!

فأجابه العالم الشيعي قائلاً : «لعن الله من حملنا على التقيّة».

٣٥
٣٦

المبحث الثالث

عدالة الصحابة

٣٧
٣٨

ممّا لا شك فيه أنّ أصحاب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم امتيازات خاصّة ، فهم يسمعون الآيات والوحي الإلهي من لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويرون معجزاته ، ويتعلمون من درر كلامه ، ويجعلون منه القدوة العملية والأُسوة الحسنة.

وبرزت بناءً على هذا شخصيات مميزة يفتخر بها العالم الإسلامي ويتباهى ، ولكن المسألة المهمّة هنا ، هل أنّ جميع الصحابة بدون استثناء هم أشخاص مؤمنون ، صلحاء ، صادقون ، أمناء ، وعدول ، أم أنّ هناك أشخاصاً غير صالحين بينهم.

١. رأيان متضادان

هناك رأيان متضادان حول الصحابة :

الرأي الأول : إنّ الصحابة جميعهم وبدون استثناء لهم قداسة خاصّة ، فهم أشخاص صالحون وصادقون وأتقياء وعدول ، وعلى هذا الأساس فكل رواية ينقلونها عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هي رواية صحيحة ومقبولة ، ولا يمكن الاعتراض عليها البتة ، ولا بدّ من توجيه أي مخالفة تظهر منه ، وهذا هو رأي واعتقاد أكثر فرق أهل السنّة.

٣٩

الرأي الثاني : وهو وإن كان هناك أشخاص طاهرون ومضحون وأتقياء بين الصحابة ، إلّا أنّ هناك أيضاً أشخاصاً منافقين وغير صالحين ، والقرآن الكريم ونبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أبرزا امتعاضهما من هؤلاء.

وبعبارة أخرى : إنّ المعايير التي نستخدمها لتشخيص الأفراد الصالحين من غيرهم ، هي نفسها يجب أن تكون ملاكاً لتحديد صلاحية هؤلاء ، وبما أنّهم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فالأصل فيهم الصلاح ، ولكن هناك حقائق لا يمكن تجاهلها ، ولا يمكن التغاضي عن الأعمال المنافية للعدالة والصدق والاستقامة الصادرة عنهم ؛ لأنّ هذه الأعمال تؤثر بشكل عميق على مصداقية الإسلام والمسلمين ، وتساعد على نفوذ المنافقين في الوسط الإسلامي.

ويرجّح الشيعة ومجموعة من مفكري أهل السنّة هذه العقيدة.

٢. تنزيه الإفراطيين

هناك مجموعة موالية لفكرة تنزيه الصحابة بالغت كثيراً في الدفاع عنهم ، فكل من تفوّه بنقدهم رموه بالفسق تارة ، وبالإلحاد والزندقة تارة أخرى أو أباحوا دمه.

ومن جملة ما نجده في كتاب «الإصابة» عن أبي زرعة قال : «إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاعلم أنّه زنديق ؛ وذلك أنّ الرسول حق ، والقرآن حق ، وما جاءَ به حق ، وإنّما أدّى ذلك كلّه إلينا الصحابة ، وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب

٤٠