آية الله ناصر مكارم الشيرازي
المترجم: احمد محمّد الحرز
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمانزاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-028-9
الصفحات: ٢٠٧
وذكر البيهقي بأنّ هذا الحديث رواه البخاري في الصحيح عن آدم بن أبي الياسى ، ورواه مسلم من وجه آخر عن الأعمش (١).
نحن واثقون من أنّ هذا الحديث موضوع من قبل بعض المنافقين الذين يريدون النيل من قداسة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وبسبب سذاجة الكتّاب وبساطتهم دوِّن هذا الحديث في عدّة كتب معتبرة عند أهل السنّة مثل صحيح البخاري وصحيح مسلم.
فهل يمكن لشخصية محترمة أن تقدم على هذا النوع من العمل بلوازمه غير المناسبة ، والتي يخجل القلم من شرحها ، وما يبعث على الأسف وجود مثل هذه الروايات في كتب الصحاح ، والتي ما زال الاستدلال بها قائماً.
وعلى كل حال فهذه الروايات وأمثالها لا تقيد ولا تشترط في المسح على الخفين أي قيد أو شرط خاصين.
الفئة الثانية : هذه الروايات تحصر المسح على الخفين ـ بناء على الجواز ـ في موارد الضرورة فقط ، مثل :
نقل مقدام بن شريح رواية عن عائشة يقول : سألتها عن المسح على الخفين ، فقالت : اذهب إلى علي عليهالسلام لأنّه رافق رسول الله صلىاللهعليهوآله في سفره ، فذهبت إلى علي عليهالسلام وطرحت عليه السؤال ، فقال : «كنّا إذا سافرنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآله يأمرنا بالمسح على خفافنا» (٢).
يشير هذا التعبير بشكل واضح إلى أنّ المسح على الخفين كان متعلقاً بموارد الضرورة ؛ لأنّه يقول : إذا سافرنا كان يأمرنا بذلك.
__________________
(١). السنن الكبرى ، ج ١ ، ص ٢٧٠.
(٢). نفس المصدر ، ص ٢٧٢.
وهناك روايات أخرى من هذا القبيل.
ويتضح من خلال التدقيق في مجموع الروايات الموجودة في المصادر المعروفة لأهل السنّة ، وقبل إعطاء الأحكام المسبقة ما يلي :
أولاً : طبقاً للقاعدة المعروفة في علم الأصول (قاعدة الجمع بين المطلق والمقيد ، وذلك بتقييد المطلقات) يجب حمل إطلاق الروايات التي تجيز المسح على الخفين على موارد الضرورة ، مثل السفر أو في ميدان المعركة ، أو موارد أخرى مشابهة لها ، والملفت للنظر أنّ البيهقي في سننه قد خصص باباً مفصلاً حول الفترة الزمنية المجازة للمسح على الخفين ، وبيّن من خلال بعض الروايات أنّها محدّدة بثلاثة أيّام في السفر ، ويوم واحد في الحضر (١).
أليست جميع هذه الروايات دليلا واضحاً على هذه الحقيقة؟ وهي أنّ جميع الروايات التي ذكرت المسح على الخفين مختصة بحالات الضرورة ، وأمّا في الحالات العادية فلا معنى لعدم خلع الخفين وعدم مسح الرجلين.
وأمّا ما يقوله البعض : إنّ ذلك لأجل رفع العسر والحرج عن الأمّة ، فكلام غير مقبول ؛ لأنّ نزع الخفين العاديين لا يحتاج إلى جهد.
ثانياً : في حالة الانتياه للروايات المتعددة المنقولة في المصادر المعروفة لأهل البيت عليهمالسلام وأهل السنّة ، يقول الإمام علي عليهالسلام : بأنّ هذا المسح كان قبل نزول الآية السادسة من سورة المائدة المتعلقة بالوضوء ، فإذا كان جائزاً ، فالجواز حاصل قبل نزول آية الوضوء ، وأمّا بعد نزولها فلم يكن المسح على الخفين جائزاً أيضاً ، حتى في الحروب والأسفار ؛ لأنّه في حالة تعسر نزع الخفين يكون البديل هو التيمم ، لأنّ الأمر بالتيمم جاء في ذيل الآية بشكل عام.
__________________
(١). السنن الكبرى ، ج ١ ، ص ٢٧٥ و ٢٧٦.
ثالثاً : إذا رأى بعض الحضر أنّ النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله قد مسح على الخفين ، فيمكن أن يكون حذاء النبي صلىاللهعليهوآله ذا فتحات وشقوق تتيح له المسح عليه.
يقول المرحوم الشيخ الصدوق ـ وهو من المحدثين المعروفين لدى الإماميّة ـ في كتابه المعروف من لا يحضره الفقيه : «إنّ النجاشي أهدى النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله خفاً ، وكان موضع ظهر القدم مفتوحاً ، فمسح النبي صلىاللهعليهوآله على رجليه وعليه خفّاه ، فقال الناس : إنّه مسح على خفّيه» (١).
خصص البيهقي المحدّث المعروف في كتابه «السنن الكبرى» باباً تحت عنوان باب الخف الذي مسح عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله «ويستفاد من بعض أحاديث هذا الباب» «وكانت كذلك خفاف المهاجرين والأنصار مخرّقة مشقّقة» (٢).
ويحتمل بناءً على ما تقدم أنّ هؤلاء كانوا يمسحون على أقدامهم أيضاً.
والغريب في هذا البحث أنّ رواة أحاديث المسح على الخفين كانوا من الذين وفقوا لشرف خدمة النبي صلىاللهعليهوآله ، ولكنّ الإمام علياً عليهالسلام كان بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآله دائماً ، ولم يقبل أبداً بالكلام المطابق للأحاديث المعروفة عند أهل السنّة.
والأغرب من هذا ما نقلته عائشة التي كانت بجوار النبي صلىاللهعليهوآله غالباً وقالت : «لئن تقطع قدماي أحبّ إليّ من أن أمسح على الخفّين» (٣).
__________________
(١). من لا يحضره الفقيه ، ج ١ ، ص ٤٨.
(٢). السنن الكبرى ، ج ١ ، ص ٢٨٣.
(٣). المبسوط للسرخسي ، ج ١ ، ص ٩٨.
النتائج النهائية للبحث :
١. اتضح أنّ القرآن الكريم يعتبر المسح على الرجلين هو الوظيفة الأساسية للوضوء ، وكذلك آية الوضوء في سورة المائدة وجميع روايات أهل البيت عليهمالسلام وفتاوى الفقهاء التابعين لهم متفقة على ذلك.
٢. يرى أغلب فقهاء أهل السنّة أنّ الوظيفة الأساسية هي غسل الأرجل ، ولكن يرى أكثرهم جواز المسح على الخفّين في حال الاختيار ، وبعضهم يحصر ذلك بموارد الضرورة.
٣. إنّ التناقض والتضاد الموجود في الروايات الواردة في مصادر أهل السنّة حول المسح على الخفّين توجب الشك لدى أي محقق. فبعضها تجيز المسح على الخفين مطلقاً ، وبعضها لا تجيزه مطلقاً ، وبعضها تقيد ذلك بحالات الضرورة ، وذلك بتحديد مقدار معين ، ففي السفر بثلاثة أيّام ، وفي الحضر بيوم واحد.
٤. إنّ الطريق الأفضل للجمع بين الروايات هو أنّ المحور الأصلي للوضوء هو المسح على الأرجل وبحسب اعتقادهم غسل الأرجل ، ومع وجود الضرورة مثل : الحرب ، والسفر الشاق ، أو صعوبة نزع الخفين يصار إلى المسح على الخفين ، كما هو الحال في وضوء الجبيرة.
المبحث التاسع
جزئية البسملة في سورة الحمد
ملاحظة محيرة جداً :
عند ما يتشرف أتباع أهل البيت عليهمالسلام بحج بيت الله ، ولأجل الحفاظ على الوحدة عملاً بتوجيهات أهل البيت عليهمالسلام يقومون بمشاركة أهل السنّة في صلاة الجماعة ، للحصول على فضيلة الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي صلىاللهعليهوآله. وأول شيء يثير انتباههم عدم قراءة أئمّة الجماعة المحترمين (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في بداية سورة الحمد ، أو يقرءونها اخفاتاً حتى في الصلوات الجهرية مثل صلاة الصبح والمغرب والعشاء.
في الوقت الذي يشاهدون أن سورة الحمد تتكون من سبع آيات في جميع المصاحف الموجودة في مكة والتي تطبع غالباً هناك ، والبسملة جزءٌ منها ، وهذا ما أثار استغرابهم ، لما ذا يصل وضع أهم آية في القرآن وهي البسملة إلى هذا المصير.
ويزداد استغرابهم عند ما ننقل لهم قصّة اختلاف الروايات لدى أهل السنّة حول البسملة ، ولا بدّ أولاً من مراجعة الفتاوى في هذه المسألة ، وبعدها ننتقل إلى الروايات الواردة في البحث.
انقسم فقهاء أهل السنّة بشكل عام إلى ثلاث فرق :
الأولى : تقول بوجوب قراءة البسملة في بداية سورة الحمد ، فيجهر بها في الصلوات الجهرية ، وتقرأ إخفاتاً في الصلوات الإخفاتية. وذهب إلى هذا القول الإمام الشافعي وأتباعه.
الثانية : تقول بوجوب قراءتها إخفاتاً مطلقاً ، وذهب إليه الحنابلة (أتباع أحمد بن حنبل).
الثالثة : تقول بعدم قراءتها مطلقاً ، وذهب إليه أتباع الإمام مالك ، وقريب منه ما ذهب إليه أتباع أبي حنيفة أيضاً.
وعبارة ابن قدامة الفقيه المشهور لدى أهل السنّة في كتابه «المغني» هي : «أنّ قراءة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مشروعة في أوّل الفاتحة ، وأوّل كل سورة في قول أكثر أهل العلم ، وقال مالك والأوزاعي : لا يقرؤها في أوّل الفاتحة ... ولا تختلف الرواية عن أحمد أنّ الجهر بها غير مسنون .....
ويروى عن عطاء وطاووس ومجاهد وسعيد بن جبير ، الجهر بها وهو مذهب الشافعي» (١). حيث نقل في هذه العبارة الأقوال الثلاثة.
وجاء في تفسير المنار عن وهبة الزحيلي :
«قال المالكية والحنفية ليست البسملة بآية من الفاتحة ولا غيرها إلّا من سورة النمل ....
إلّا أنّ الحنفية قالوا يقرأ المنفرد (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مع الفاتحة في كل ركعة سراً ....
__________________
(١). المغني لابن قدامة ، ج ١ ، ص ٥٢١.
وقال الشافعية والحنابلة : البسملة آية من الفاتحة يجب قراءتها في الصلوات ، إلّا أنّ الحنابلة قالوا كالحنفية يقرأ بها سرّاً ولا يجهر بها ، وقال الشافعية : يسرّ بها في الصلاة الإخفاتية ، ويجهر بها في الصلاة الجهرية» (١).
فبناءً على ما تقدم يكون قول الشافعية أقرب إلى قول فقهاء الشيعة من بقية الأقوال ، إلّا أنّ أصحابنا يرون استحباب الجهر بالبسملة في جميع الصلوات ، ومتفقون على وجوب قراءتها في سورة الحمد ، وعلى أنّها جزء من كل السور المشهورة والمعروفة.
وفي الحقيقة يصاب الباحث بالحيرة عند ما يرى أنّ النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله الذي عاش بين ظهرانيهم لمدّة ثلاث وعشرين سنة ، كان يصلي جماعة في أكثر صلواته بحضورهم ، ويسمعون ما يقوله في صلواته ، وبعد فترة قصيرة يختلفون في كيفية صلاته بشكل فظيع ، فبعضهم لا يجيز من قراءة البسملة ، وبعضهم يوجب ذلك ، وبعضهم يوجب قراءتها إخفاتاً ، وبعضهم يوجب قراءتها جهراً في الصلوات الجهرية!!
ألا يشير هذا الاختلاف العجيب ، وغير المتوقع إلى أنّ هذه المسألة لم تكن عادية ، وأنّ هناك فريقاً سياسياً يعمل بخفاء لوضع أحاديث متناقضة ومتضادة وينسبونها إلى النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله وسنأتي على شرحها فيما بعد.
يروي البخاري في صحيحه حديثاً يمكن من خلاله كشف القناع عن تلك المؤامرات التي تحاك ، فيقول : «ينقل مُطَرِّف عن عمران بن الحصين قوله : عند ما كان علي عليهالسلام يصلي في البصرة ، قلت : ذكَّرنا هذا الرجل صلاةً كنّا نصلِّيها مع رسول الله صلىاللهعليهوآله» (٢).
__________________
(١). تفسير المنار ، ج ١ ، ص ٤٦.
(٢). صحيح البخاري ، ج ١ ، ص ١٩٠.
نعم ، لقد اتضح أنّهم قاموا بتغيير كل شيء حتى الصلاة.
ينقل الشافعي في الكتاب المعروف «الأم» عن وهب بن كيسان : «كلُّ سنن رسول الله صلىاللهعليهوآله قد غُيِّرت حتى الصلاة» (١).
الجهر بالبسملة في الأحاديث النبوية :
هناك طائفتان من الروايات في كتب أهل السنة المعروفة حول هذه المسألة ، وهي مختلفة تماماً ، وهذا ما أدى إلى اختلاف فتاواهم ، والعجيب في الأمر أنّ راوياً معيناً ينقل عدّة روايات متناقضة ومتضادة ، وسنلاحظها في الأحاديث القادمة.
الطائفة الأولى :
الروايات التي تعتبر البسملة جزءاً من سورة الحمد ، بل ترى استحباب قراءتها جهراً أو وجوب قراءتها.
في هذه الطائفة نكتفي بذكر خمس روايات عن خمسة رواة معروفين :
١. ينقل الدارقطني في كتابه «السنن» حديثاً عن أمير المؤمنين علي عليهالسلام صاحب المقام الشامخ المعلوم للجميع الذي رافق النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله في السفر والحضر وفي الخلوة والجلوة ، فيقول : «كان النبي صلىاللهعليهوآله يجهر ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في السورتين جميعاً» (٢).
٢. ينقل الحاكم في المستدرك عن أنس بن مالك الخادم الخاص للنبي صلىاللهعليهوآله منذ أيّام شبابه يقول : «صلّيت خلف النبي صلىاللهعليهوآله وخلف أبي بكر ،
__________________
(١). الأم ، ج ١ ، ص ٢٦٩.
(٢). سنن الدار قطني ، ج ١ ، ص ٣٠٢. ونفس الحديث نقله السيوطي في تفسير الدر المنثور ، ج ١ ، ص ٢٢.
وخلف عمر ، وخلف عثمان ، وخلف علي كلهم كانوا يجهرون بقراءة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (١).
٣. ينقل الدارقطني عن عائشة التي كانت ملازمة للنبي صلىاللهعليهوآله ليلاً ونهاراً بشكل طبيعي تقول : «إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يجهر ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (٢).
٤. تنقل كتب الصحاح عن أبي هريرة الراوي المعروف لإخواننا أهل السنّة ـ حيث تنقل كتب الصحاح وغيرها الكثير من رواياته ـ يقول : «كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يجهر ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في الصلاة».
وقد ورد هذا الحديث في ثلاثة كتب معروفة : ١ ـ السنن الكبرى (٣) ؛ ومستدرك الحاكم (٤) ؛ ٣ ـ سنن الدار قطني (٥).
٥. وفي حديث آخر : إنّ جبرائيل أيضاً عند ما أراد تعليم النبي صلىاللهعليهوآله الصلاة قرأ البسملة بصوت مرتفع ، حيث ينقل الدار قطني عن نعمان بن بشير قوله : إنّ النبي صلىاللهعليهوآله قال : «أمّنِي جبرائيل عند الكعبة فجهر ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (٦). وروايات أخرى كثيرة.
والملفت للنظر أنّ بعض العلماء المعروفين الذين أتوا على ذكر أحاديث الجهر بالبسملة صرحوا في ذيل بعض الروايات أنّ رواة الحديث عموماً من
__________________
(١). مستدرك الصحيحين ، ج ١ ، ص ٢٣٢.
(٢). تفسير الدر المنثور ، ج ١ ، ص ٢٣.
(٣). السنن الكبرى ، ج ٢ ، ص ٤٧.
(٤). مستدرك الصحيحين ، ج ١ ، ص ٢٠٨.
(٥). سنن الدار قطني ، ج ١ ، ص ٣٠٦.
(٦). سنن الدار قطني ، ج ١ ، ص ٣٠٩.
الثقات ، مثل : الحاكم في المستدرك.
وهنا يجب أن نضيف : أنّ البسملة في المصادر الفقهية والحديثية لأهل البيت عليهمالسلام ذكرت بعنوانها جزءاً من سورة الحمد ، ورواياتها متواترة تقريباً ، وروايات أخرى صرّحت بالجهر بالبسملة.
ولأجل المزيد من الاطلاع على هذه الروايات يراجع كتاب وسائل الشيعة (١). ونقلت في هذا المجال عشرات الروايات عن أهل البيت عليهمالسلام في الكتب مثل : الكافي ، وعيون أخبار الرضا عليهالسلام ، ومستدرك الوسائل (٢).
ألا يجب الانتباه لحديث الثقلين ـ الذي نقله الفريقان عن النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله والذي يصرّح : بالتمسك بالقرآن وأهل البيت حتى لا يضل الناس بعده ـ أن نلجأ إلى أهل البيت عليهمالسلام عند ما تواجهنا مثل هذه المسائل الخلافية لاتباعهم؟!
الطائفة الثانية :
الروايات التي لا تعتبر البسملة جزءاً من سورة الحمد ، ويمنعون الجهر بها ، ومن جملتها :
١. نقرأ في صحيح مسلم حديثاً نقله عن قتادة أنّ أنساً ، قال : «صليت مع رسول الله صلىاللهعليهوآله وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (٣). ولاحظوا أنّ هذا الحديث لم يأت على ذكر قراءة علي عليهالسلام!
__________________
(١). وسائل الشيعة ، أبواب القراءة في الصلاة ، باب ١١ ، ١٢ ، ٢١ ، ٢٢.
(٢). مستدرك الوسائل ، الأبواب المتعلقة بقراءة القرآن في الصلاة.
(٣). صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ١٢ ، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة.
فعلاً إنّه لأمر مريب أن يذكر شخص معين ـ مثل : أنس ـ بصراحة : أنّه صلّى خلف النبي صلىاللهعليهوآله والخلفاء الثلاثة الأوائل وعلي عليهالسلام ـ وأنّهم قرءوا البسملة بصوت مرتفع ، وفي مكان آخر يقول : أنّه صلى خلف الرسول صلىاللهعليهوآله والخلفاء الثلاثة الأوائل ، ولم يقرأ أي واحد منهم البسملة ، فما بالك بالجهر بها بصوت مرتفع.
ألا يستنتج المفكر هنا أنّ أيدي الوضّاعين قامت بوضع الحديث الثاني لإبطال الحديث الأول ـ وسيتضح دليله قريباً ـ ونسبوا ذلك إلى أنس ، ولم يذكروا اسم علي عليهالسلام حتى لا تنكشف المؤامرة ؛ لأنّ الجميع يعرف أنّ الإمام علياً عليهالسلام وأتباعه يجهرون بالبسملة.
٢. ينقل البيهقي في سننه عن عبد الله بن مغفل ، قال : «سمعني أبي وأنا أقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، فقال : أي بني محدث؟ صليت خلف رسول الله صلىاللهعليهوآله وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم جهر ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (١). ونلاحظ هنا عدم ذكر اسم الإمام علي عليهالسلام أيضاً.
٣. نقرأ في المعجم الوسيط للطبراني عن ابن عباس قال : «كان رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا قرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) هزء منه المشركون ، وقالوا محمّد يذكر إله اليمامة ـ وكان مسيلمة يسمى «الرحمن» فلما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلىاللهعليهوآله أن لا يجهر بها»؟!
وآثار الوضع فيها واضحة ؛ وذلك :
أولاً : إنّ كلمة الرحمن لم يقتصر ذكرها في القرآن في البسملة ، بل ذكرت ستاً وخمسين مرّة في موارد مختلفة ، وفي سورة مريم كررت في ست عشرة
__________________
(١). السنن الكبرى ، ج ٢ ، ص ٥٢.
آية ، فبناءً على ذلك يجب عدم قراءة سور القرآن الأخرى ، لأجل أنّ لا نكون مورداً لسخرية المشركين.
ثانياً : المشركون يستهزءون بجميع الآيات القرآنيّة ، لهذا نقرأ في آيات متعددة في القرآن الكريم ، ومن جملتها قوله تعالى : (... إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ ...) (١) ونقرأ : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً ...) (٢) ، فهل أمر الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله بترك الأذان أو بقراءته بصوت خافت ، حتى لا نكون مورداً لاستهزاء المشركين؟
وفي الأصل كان المشركون يستهزءون بشخص الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ...) (٣) ، فإذن بناءً على ذلك يجب على النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله أن يختفي عن الأنظار.
وبغض النظر عن هذا كله ، يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه الأكرم صلىاللهعليهوآله بشكل صريح : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (٤).
ثالثاً : إنّ مسيلمة لم يكن شخصية يحسب لها هذا الحساب ، وأصغر من أن يقوم النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله بإخفاء الآيات القرآنيّة بسبب أن اسمه «رحمان» ، أو يقرأها بإخفات ، وخصوصاً أن ادعاءات مسيلمة هذه كانت قد انتشرت في القرن العاشر الهجري ، حيث كان الإسلام في ذروة قوته وقدرته.
هذه الحقائق تشير بوضوح إلى أنّ واضعي هذا الحديث كانوا مبتدئين إلى حدّ كبير في عملهم ، وغير واعين.
__________________
(١). سورة النساء ، الآية ١٤٠.
(٢). سورة المائدة ، الآية ٥٨.
(٣). سورة الأنبياء ، الآية ٣٦.
(٤). سورة الحجر ، الآية ٩٥.
٤. نقرأ في الحديث الذي ذكره ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عباس ، يقول : «الجهر ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قراءة الأعراب» (١).
وفي الوقت نفسه لدينا حديث آخر عن علي بن زيد بن جدعان يقول : «إنّ العبادلة (عبد الله بن عباس ، عبد الله بن عمر ، عبد الله بن الزبير) كانوا يستفتحون القراءة ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يجهرون بها» (٢).
والأكثر من هذا ، كانت سيرة الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام الجهر بالبسملة ، وهذا مشهور في جميع الكتب الشيعية وكتب أهل السنّة ، فهل كان الإمام علي عليهالسلام من الأعراب؟ ألا تكون هذه الأحاديث المتناقضة والمتضادة دليلاً على أنّ المسألة كانت ذا بعد سياسي؟
نعم ، الحقيقة هي أنّ الإمام علياً عليهالسلام كان يجهر بالبسملة ، وكان معاوية يصرّ ـ بعد شهادة الإمام علي عليهالسلام وخلال خلافة الإمام الحسن عليهالسلام وبعد استلامه للسلطة ـ على محو كل الآثار والمظاهر العلوية في العالم الإسلامي ، إضافة إلى اعتقاده بأنّ التأثير الفكري والمعنوي للإمام علي عليهالسلام على أفكار عامة المسلمين ، سيشكل تهديداً لسلطته.
والشاهد على هذا الكلام نقرأه في الحديث الذي ذكره الحاكم في المستدرك ـ والذي صرّح بأنّه معتبر ـ عن أنس بن مالك (الخادم الخاص للنبي) : «جاء معاوية إلى المدينة وشارك في إحدى الصلوات الجهرية [المغرب أو العشاء] فقرأ البسملة في سورة الحمد ولم يقرأها مع السورة الثانية ، وعند ما سلّم في صلاته ، ارتفع صوت مجموعة من المهاجرين
__________________
(١). مصنف ابن أبي شيبة ، ج ٢ ، ص ٨٩.
(٢). تفسير الدر المنثور ، ج ١ ، ص ٢١.
والأنصار [ولعل مشاركتهم في الصلاة كانت حفظاً لأرواحهم] من جميع الأطراف : «أسرقت الصلاة أم نسيت؟!».
فقام معاوية في الصلاة التالية بقراءة البسملة في بداية سورة الحمد ، وفي بداية السورة كذلك (١).
ولعل معاوية أراد بهذا العمل معرفة مدى حساسية المهاجرين والأنصار تجاه الجهر بالبسملة ، ولكنه استمر في عمله هذا في بقية المناطق كالشام وغيرها.
القرآن ما بين الدفتين؟
إنّ الموجود بين الدفتين هو القرآن يقيناً ، والبسملة جزء من القرآن ، وما يقوله بعضهم : إنّ البسملة ليست جزءاً من القرآن ، بل هي للتفريق بين السور فقط ، فيرد عليه :
أولاً : إنّ هذا الكلام لا يشمل سورة الحمد. لأنّ البسملة جزء من سورة الحمد ومعدودة من آياتها السبع ، كما هو الحال في جميع النسخ القرآنيّة.
ثانياً : لما ذا هذا التفريق لم يتحقق في سورة براءة؟ فإذا قيل : إنّ سياق الآيات في آخر سورة الأنفال لا يرتبط بسياق الآيات في بداية سورة براءة : فنقول إنّ هناك سوراً كثيرة في القرآن لا ترتبط نهايتها ببداية السورة التالية ، ومع ذلك جاءت البسملة للتفريق بينهما.
فالحق : إنّ البسملة هي جزء من كل سورة ، كما هو الحال في ظاهر القرآن ، وأمّا عدم ذكر البسملة في بداية سورة براءة ؛ فلأنّ سورة براءة تبدأ
__________________
(١). مستدرك الصحيحين ، ج ١ ، ص ٢٣٣.
بإعلان الحرب على الذين نقضوا العهود ، وهذا لا يتناسب مع ذكر الرحمن والرحيم ؛ لأنّهما مظهر للرحمة العامة والخاصة.
خلاصة البحث :
بحث جزئية البسملة في سورة الحمد يتلخص بما يلي :
أولا : إنّ النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله قرأ البسملة في بداية سورة الحمد ، وفي بداية السور الأخرى ؛ وذلك وفقاً للروايات الكثيرة التي نقلت عن أكثر الناس قرباً من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وجهر بالبسملة ، طبقاً للعديد من الروايات.
ثانياً : إنّ الروايات المخالفة للروايات المذكورة آنفاً والتي تصرّح : إنّ البسملة ليست جزءاً من السورة أصلاً ، أو أنّ النبي صلىاللهعليهوآله كان يقرأها بصوت خافت ، فهي مشكوكة ، بل هي موضوعة ؛ وذلك بحسب القرائن الموجودة في نفس الروايات ، وبنو أمية هم وراء هذا الموضوع لتحقيق بعض الأغراض السياسية ، لأنّ جهر الإمام علي عليهالسلام بالبسملة أصبح مشهوراً ومعروفاً ، وسياسة بني أمية كانت تقتضي مخالفة كل ما يرتبط بالإمام علي عليهالسلام ، حتى وإن كان موافقاً لسيرة رسول الله صلىاللهعليهوآله.
وقد اعترض الصحابة بشدّة على معاوية في هذا الموضوع ، والشواهد والقرائن التي ذكرناها سابقاً تؤكد ذلك.
١. كان أئمّة أهل البيت عليهمالسلام يجهرون بالبسملة اتباعاً لأمير المؤمنين علي عليهالسلام الذي نهل من علم رسول الله صلىاللهعليهوآله لسنوات عديدة ، فهم متفقون على هذا الرأي حتى أنّ الإمام الصادق عليهالسلام قال : «اجْتَمَعَ آلُ مُحَمَّد صلىاللهعليهوآله عَلَى الجَهْرِ
بِ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (١).
وإذا كان المفترض ـ على الأقل في هذه المسائل ـ أن يعملوا برواية الثقلين والأخذ بروايات أهل البيت عليهمالسلام فيجب على جميع فقهاء أهل السنّة كالشافعي أن يجهروا بالبسملة ، أو يعتبروها واجباً في الصلوات الجهرية كحد أدنى.
٢. ننهي بحثنا ـ من باب حسن الختام ـ بنقل عبارتين للفخر الرازي من كتابه التفسير الكبير :
أ) يقول : «إنّ عَلياً كان يبالغ في الجهر بالتسمية ، فلمّا وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعياً في إبطال آثار علي عليهالسلام» (٢).
إنّ شهادة هذا العالم الكبير من أهل السنّة توضح بما لا شك فيه أنّ الحكم بإخفاء البسملة أو حذفها كان وسيلة لتحقيق أهداف سياسية.
ب) يضيف في موضع آخر من الكتاب بعد أن استعرض نقل البيهقي : أنّ عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير جميعاً كانوا يجهرون بالتسمية : أمّا أنّ علي بن أبي طالب عليهالسلام كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب عليهالسلام فقد اهتدى ، والدليل عليه قول رسول الله صلىاللهعليهوآله : «اللهم أدر الحق مع علي حيث دار» (٣).
__________________
(١). مستدرك الوسائل ، ج ٤ ، ص ١٨٩.
(٢). التفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ١ ، ص ٢٠٦.
(٣). نفس المصدر ، ص ٢٠٤ ـ ٢٠٥.
المبحث العاشر
التوسل بأولياء الله