معالم المدرستين - ج ٣

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ٣

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤١

يعرف ممّا أوردنا ومن سائر أعمال الإمام وأقواله في أيام قيامه ؛ انّه كان قد حمل إلى الناس شعار بطلان أمر الخلافة القائمة ، وصحّة أمر الإمامة. وهدفه من كلّ ما قال وفعل ؛ أن يؤمن الآخرون بهذا الشعار. فمن آمن به اهتدى ومن لم يؤمن بعد أن بلغه نداء الإمام تمّت الحجّة عليه ، ومن ثمّ كان يعمل جاهدا في سبيل نشر قضيّته.

كان هذا شعار الإمام وهدفه واتخذ الشهادة سبيلا للوصول إلى هدفه ، ولنعم ما قال الشاعر على لسانه :

ان كان دين محمد لم يستقم

إلّا بقتلي يا سيوف خذيني

وممّا يدلّ على ذلك ما ورد في كتابه إلى بني هاشم :

أمّا بعد ، فانّ من لحق بي استشهد ، ومن تخلّف لم يدرك الفتح.

صرّح الإمام في هذا الكتاب بأنّ سبيله الشهادة ومآلها الفتح ، وكذلك كان شأن سائر أقواله وأفعاله في هذا القيام فإنّها كلّها توضح ما حمل من شعار ، وما اتّخذ من سبيل وهدف ، وكان حين يدعو ويستنصر يدعو ويستنصر من يشاركه في كلّ ذلك على بصيرة من أمره ، مثل قصّته مع زهير بن القين فانّ الإمام حين دعاه ذهب إلى الإمام متكارها ، ثم ما لبث ـ كما قال الراوي ـ أن جاء مستبشرا قد أسفر وجهه ، فأمر بفسطاطه فحمل إلى الحسين (ع) ، ثم قال لامرأته : أنت طالق! الحقي بأهلك ، فانّي لا أحب أن يصيبك من سببي إلّا خير ، ثمّ قال لأصحابه : من أحبّ منكم الشهادة فليقم وإلّا فانّه آخر العهد.

أخبر زهير بمصيره قبل أن يصل إلى ركب الإمام خبر استشهاد مسلم وهانئ وانقلاب أهل الكوفة على أعقابهم ، وأخبرهم انّه سمع في غزوة بلنجر من الصحابي سلمان الباهلي أن يستبشروا بادراك هذا اليوم.

كان الإمام يدعو أنصارا من هذا القبيل ، ويبعد عن نفسه من اتبعه أملا

٣٨١

بوصول الإمام إلى الحكم (١).

أعلن الإمام عن سبيله هذا ، ورفع شعاره ذلك ، مرّة بعد أخرى ، وفي منزل بعد منزل. فقد قال في جواب ابن عمر :

يا عبد الله! أما علمت أنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغيّ من بغايا بني اسرائيل ... : فلم يعجّل الله عليهم بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر! ثمّ يقول له : اتّق الله ، يا أبا عبد الرحمن ولا تدعنّ نصرتي.

كأنّ الإمام يشير في حديثه إلى أنّ شأنه شأن يحيى ويدعو ابن عمر إلى نصره في ما اختار لنفسه من سبيل.

وقال الإمام في خطبته عند توجّهه إلى العراق :

خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وقد خير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأن منّي أكراشا جوفا ، وأحوية سغبا ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم. رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين ، لن تشذّ عن رسول الله لحمته ، وهي مجموعة له في حضيرة القدس ، تقرّبهم عينه وينجز بهم وعده.

من كان باذلا فينا مهجته ، وموطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا ... وما نزل الإمام منزلا ولا ارتحل منه إلّا ذكر يحيى بن زكريا ومقتله (٢)

لبّى الإمام نداء أهل الكوفة اتماما للحجّة :

كان الإمام يعلم بالبداهة وبحسب حكم طبائع الأشياء ، ومع صرف

__________________

(١) راجع قبله ص ٢٠٦.

(٢) مضى ذكر مصادر هذه الأخبار.

٣٨٢

النظر عمّا كان قد علمه من الامور الغيبيّة بانباء رسول الله عن الله عزّ اسمه بمقتله ، كان يعلم أنّ عليه أن يختار أحد اثنين لا ثالث لهما : إمّا البيعة وإمّا القتل ، وكان يشير إلى ذلك في أقواله مرّة بعد أخرى ، وقد بان ذلك منذ أوّل مرّة طلب منه البيعة بعد موت معاوية حيث أشار مروان على والي المدينة أن يأخذ منه البيعة وأن يقتله إن أبى ، ففرّ منهم الإمام إلى مكة والتجأ إلى بيت الله الحرام.

وتبيّن له في مكة أنّ يزيد يريد أن يغتاله ، وخشي أن يكون الذي تستباح به حرمة البيت كما صرّح به لاخيه محمّد ابن الحنفيّة وقاله أيضا لابن الزبير حين قال له :

وايم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم ، والله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت ...

والله لأن أقتل خارجا منها أحبّ إليّ من أن أقتل داخلا منها بشبر.

وقال لابن عباس :

لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحبّ إليّ من أن أقتل بمكّة وتستحلّ بي.

إذا فإنّ الإمام كان يعلم انّه لا محيص له عن القتل أينما كان ، ما زال ممتنعا عن بيعة خليفة المسلمين يزيد بن معاوية فاختار سبيل الشهادة لنفسه ولمن تبعه!

أمّا أهل الكوفة ، فانهم بعد أن توالت كتبهم إلى الإمام الحسين (ع) يقولون فيها انّه ليس علينا امام فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ ، والنعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا عيد ، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت أخرجناه حتّى نلحقه بالشام.

ويقولون :

إلى الحسين بن علي من شيعته المؤمنين والمسلمين. أما بعد فحيّ هلا ،

٣٨٣

فان الناس ينتظرونك ، ولا رأي لهم في غيرك ، فالعجل العجل ...

وكتب إليه رؤساء أهل الكوفة : فأقدم على جند لك مجنّد.

وكتبوا إليه : انّه معك مائة ألف سيف ...

بعد ما توالت عليه أمثال الكتب الآنفة من الرجل والاثنين والاربعة ومن رؤساء أهل الكوفة وتكاثرت حتّى ملأت خرجين.

بعد كلّ ذلك لو أنّ الإمام لم يلبّ دعوة أهل الكوفة ، وبايع يزيد ، أو أنه لم يبايع يزيد ولكنّه استشهد بمكان آخر ، كان عندئذ قد فرط في حقّ أهل الكوفة. وكان الناس أبد الدهر وجيلا بعد جيل يسجّلون لاهل الكوفة الحق على الإمام ، وفي يوم القيامة كانت لهم الحجّة على الله جلّ اسمه ، ولله الحجّة البالغة على خلقه.

إذن فما فعله الإمام الحسين (ع) مع أهل الكوفة كان من باب إتمام الحجّة عليهم وليس غيره ، ولو لم يكن هذا بل كان سبب توجّه الإمام الحسين (ع) إلى العراق انخداعه بكتب أهل الكوفة وطلبهم الحثيث ، لرجع حين بلغه خبر مقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، ومن قبل أن يصل إليه الحرّ بن يزيد ويلازمه بأيّام (١).

أجل إن الإمام الحسين (ع) قد أتمّ الحجّة بما فعل على أهل العراق وعلى غيرهم وقال الله سبحانه : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

ذهب إلى العراق لاتمام الحجة لا لقول بني عقيل :

وقد يتوهّم متوهّم ويقول : كان سبب ذهاب الإمام إلى العراق بعد وصول نبأ مقتل مسلم وهانئ إليه قول بني عقيل : «لا نبرح حتّى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا» وأنّ الإمام بسبب هذا القول عرّض نفسه ونفوس من

__________________

(١) راجع قبله ص ٢٠٤ ـ ٢٢٨.

٣٨٤

معه للقتل ، فالحقّ أنّ هذا ليس بصحيح ولا ينبغي أن يقوله من له مسكة من عقل ، وإنّما الصحيح أنّه لمّا كان سيّان للامام أن يتوجّه إلى العراق أو إلى أيّ بلد آخر بالنسبة إلى المصير الذي كان ينتظر الامام ، وهو القتل ، ما زال ممتنعا عن بيعة خليفة المسلمين يزيد ، وكان من واجبه إتمام الحجّة على أهل العراق ولمّا تتمّ يوم ذاك ، وإنّما تمّت بعد أن ألقى عليهم هو وأصحابه الخطبة بعد الخطبة منذ أن قابل جيش الحرّ حتّى يوم عاشوراء وعند ذاك فقط تمّت الحجّة عليهم. إذا كان لا بدّ للامام أن يذهب إلى كربلاء بعد اطّلاعه على مصرع مسلم وهانئ أيضا ، دون الرجوع من حيث أتى أو الذهاب إلى أيّ بلد آخر.

وقد أتمّ الإمام الحجّة على أهل الكوفة وعلى من بلغه خبره من معاصريه في إنكاره على الطاغوت يزيد إنكارا دوّى صداه على وجه الأرض ، وبقي مدويّا ما كرّ الجديدان ، فانّه لم يكتف بالامتناع عن بيعة يزيد والجلوس في داره حتّى يقتل فيها ويذهب ضحيّة باردة ثمّ تطمس أجهزة الخلافة على حقيقة خبره ، بل قام بكلّ ما ينشر خبره ، ويعلن حقيقة أمره وامر الخلافة ، كما نشرحه في ما يلي.

٣٨٥

حكمة الإمام (ع) في كيفيّة قيامه

عارض الإمام في المدينة بيعة خليفة اكتسب شرعيّة حكمه لدى المسلمين ببيعتهم إيّاه، وقاوم عصبة الخلافة في المدينة حتّى انتشر خبره ، ثم توجّه إلى مكة والتزم الطريق الأعظم ولم يتنكبه مثل ابن الزبير ، وورد مكة والتجأ إلى بيت الله الحرام فاشرأبّت إليه أعناق المعتمرين ، وتحلّقوا حوله يستمعون إلى سبط نبيّهم وهو يحدّثهم عن سيرة جدّه ويشرح لهم انحراف الخليفة عن تلك السيرة!. ثم أعلن دعوته وكاتب البلاد ودعا الامّة إلى القيام المسلّح في وجه الخلافة ، وتغيير ما هم عليه ، وطلب منهم البيعة على ذلك ، وليس على أن يعينوه ليلي الخلافة ، ولم يمنّ الإمام أحدا بذلك بتاتا ولم يذكره في خطاب ولم يكتبه في كتاب ، بل كان كلّما نزل منزلا أو ارتحل ضرب بيحيى بن زكريّا مثلا لنفسه ، وحقّ له ذلك فانّ كلا منهما أنكر على طاغوت زمانه الطّغيان والفساد ، وقاومه حتّى قتل ، وحمل رأسه إلى الطاغية! فعل ذلك يحيى بمفرده ، والحسين مع أعوانه وأنصاره وأهل بيته ، ولا يفعل ذلك من يريد أن يجمع الناس حوله ويستظهر بهم ليلي الخلافة ، بل يمنّيهم بالنصر والاستيلاء على الحكم ولا يذكر للناس ما يؤدّي إلى الوهن والفشل.

بقي الإمام أربعة أشهر في مكّة بما فيهنّ أشهر الحجّ ، واجتمع به

٣٨٦

المعتمرون أولا ثم الوافدون لحجّ بيت الله الحرام من كلّ فجّ عميق ، وهو يروي لهم عن جدّه الرسول (ص) عن الله ما يخوّفهم معصيته ، ويحذّرهم عذابه في يوم القيامة ، ويدعوهم إلى تقوى الله وطلب مراضيه ، وينبّههم إلى خطر الخلافة القائمة على الإسلام ، فيسمعون منه ما لم يسمعوه من غيره في ذلك العصر ، وبقي هكذا حتّى أقبل يوم التروية ، وأحرم الحاجّ للحجّ ، واتّجهوا إلى عرفات ملبّين.

في هذا الوقت خالف الإمام الحجيج وأحلّ من إحرامه وخرج من الحرم قائلا أخشى أن تغتالني عصبة الخلافة لانّي لم أبايع فتهتك بي حرمة الحرم ، ولأن أقتل خارجا منه بشبر أحبّ إليّ من أقتل داخلا بشبر. إنّ الإمام لم يقل عندئذ أذهب إلى العراق لألي الحكم ؛ بل قال : أذهب لاقتل خارجا من الحرم بشبر.

ويعود الحجيج إلى مواطنهم ويبلغ معهم خبر الإمام الحسين إلى منتهى الخفّ والحافر ، يبلغ خبره إلى أيّ صقع من أصقاع الأرض يمرّ به ركب الحجيج الذي يحمل معه إلى المسلمين في كلّ مكان النبأ العظيم ، نبأ خروج سبط نبيّهم على الخلافة القائمة ودعوته المسلمين إلى القيام المسلّح ضدّ الخلافة لأنّه يرى الخليفة قد انحرف عن الإسلام ويرى الخطر محدقا بالإسلام مع استمرار هذا الحكم ، فيتعطّش المسلمون في كل مكان لمعرفة مآل هذه المعركة ، معركة أهل بيت الرسول مع عصبة الخلافة ، ويتنسّمون أخبارها فيبلغهم أنّ الحسين (ع) خرج لا يلويه شيء ، ولا يثني عزمه تحذير المحذّرين ، ولا تخذيل المخذّلين ، لا يلويه قول عبد الله بن عمر : استودعك الله من قتيل ، ولا قول الفرزدق : قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أميّة ، ولا كتاب عمرة وحديثها عن عائشة عن رسول الله أنّه يقتل بأرض بابل ، هكذا تبلغهم أخبار الإمام خبرا بعد خبر ، ويمضي الحسين (ع) متريثا متمهلا لا يخفي من أمره

٣٨٧

شيئا ، بل يبادر إلى كل فعل يشهر مخالفته للخليفة يزيد ، فيأخذ ما أرسله والي اليمن إلى الخليفة من تحف وعطور ويعلن بفعله هذا عدم شرعية تصرف الخليفة ، وكذلك يفعل كلّ ما يتمّ به الحجّة على من اجتمع به أو بلغه خبره ، ويبالغ في ذلك ، وأخيرا يستقبل بالماء جيش عدوّه وقد أجهده العطش في صحراء لا ماء فيها يرويهم ويروي مراكبهم ، ولا يقبل أن يباغت هذا الجيش بالحرب ، بل يتركهم ليكونوا هم الذين يبدءوه بالحرب ، ثم انه يتمّ الحجّة على هذا الجيش ويخاطبهم بعد أن يؤمّهم بالصلاة ويقول :

معذرة إلى الله عزوجل وإليكم ، إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم أن أقدم علينا فانّه ليس لنا امام لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى ، فان كنتم على ذلك ، فقد جئتكم ، فان تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين ، أنصرف عنكم.

وقال في خطبته الثانية :

إن تتّقوا وتعرفوا الحقّ لاهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان ...

وأتمّ الحجّة أيضا على أصحابه وخطب فيهم وقال :

ألا ترون الحقّ لا يعمل به وانّ الباطل لا يتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّا ، فانّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة (١) مع الظالمين إلّا برما.

فقال له أصحابه : والله لو كانت الدنيا باقية وكنّا فيها مخلّدين إلّا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا الخروج معك على الاقامة فيها.

وقال في جواب اقتراح الطرمّاح أن يذهب إلى جبلي طيّ فيدافع عنه

__________________

(١) في الطبري (إلّا شهادة ولا الحياة) تصحيف.

٣٨٨

عشرون ألف طائي : انّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف.

إنّه قد كان بين الحسين (ع) وبين أهل العراق عهد أن يذهب إليهم ولا يقدر أن ينصرف عنهم حتّى يتمّ الحجّة عليهم.

* * *

أتمّ الإمام الحسين (ع) الحجّة على المسلمين في بلادهم وحواضرهم وعواصمهم مدّة خمسة أشهر ، سواء من كان منهم في الحرمين أو العراقين ـ البصرة والكوفة ـ وكذلك من كان في الشام حين أسمعهم حججه في خطبه وكتبه وعلى لسان رسله وأبلغهم نبأه.

وباشر القيام المسلّح بأخذه البيعة ممن بايعه على ذلك ، ثمّ في قتال سفيره مسلم ثمّ في توجّهه إلى العراق متريثا ، وكان بامكان جماهير الحجيج أن يلتحقوا بعد الحجّ بركبه المتمهّل في السير ، وكان بامكان أهل الحرمين والعراقين وسائر البلاد الإسلاميّة أن يلبّوا دعوته حين استنصرهم ، فانّه لم يؤخذ على حين غرّة ليكونوا معذورين لانه لم تؤاتهم الفرصة لنصرته ، بل انه تنقّل من بلد إلى بلد يداور عصبة الخلافة ويحاور بمنظر من المسلمين ومخبر ، اذن فقد اشترك الجميع في تخذيله ، وان تفرّد أهل الكوفة بحمل العار في دعوته ، وتلبية دعوته ثمّ قتالهم ايّاه!.

* * *

أتمّ الإمام الحسين (ع) الحجّة على المسلمين عامّة بما قال وفعل من قبل أن يصل إلى عرصات كربلاء ، ولمّا انتهى إليها وقلب له أهل العراق ظهر المجنّ ، وازدلف إليه هناك عشرات الالوف منهم ، يتقرّبون إلى عصبة الخلافة بدمه ، عند ذاك أتمّ عليهم ـ وعلى عصبة الخلافة خاصّة ـ الحجّة بما قال وفعل :

فقد اقترح على عصبة الخلافة أوّلا أن يتركوه فيلقي السلاح ويرجع إلى

٣٨٩

المكان الذي أتى منه أو يسير إلى ثغر من الثغور فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، وبذلك لا يبقى أيّ خطر منه على حكمهم كما كان شأن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد مع أبيه الإمام علي (ع) حين لم يبايعوه ، فلمّا أبى عليه جيش الخلافة إلّا أن يبايع وينزل على حكم ابن زياد ، أبى ذلك واستعدّ للقاء الله ؛ ولإتمام الحجّة على جيش الخلافة من أهل العراق ، وعلى أصحابه خاصّة ، طلب منهم عصر التاسع من محرّم أن يمهلوه ليلة واحدة ليصلّي لربّه ويتضرّع ويتلو كتابه فانّه يحبّ ذلك ، وبعد لأي لبّوا طلبه فجمع أصحابه ليلة العاشر من محرّم وخطب فيهم وقال في خطبته :

ألا وانّي أظنّ أن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا وانّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حلّ ، ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ، وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعا خيرا ، وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم فانّ القوم إنّما يطلبونني ، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري.

فقال له الهاشميّون :

لم نفعل ذلك؟! لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبدا!

والتفت إلى بني عقيل وقال :

حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا قد أذنت لكم!

فقالوا : .. لا والله لا نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا ، وأموالنا وأهلينا ، نقاتل معك حتى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك!.

ثمّ تكلّم أنصاره فقال مسلم بن عوسجة :

أنحن نخلّي عنك؟! وبما ذا نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟ أما والله لا أفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في

٣٩٠

يدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت معك.

وقال سعيد بن الحنفي :

والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسوله فيك. أما والله لو علمت انّي أقتل ثمّ أحيا ، ثمّ أحرق حيّا ثمّ أذرّى ، يفعل بي ذلك سبعين مرّة ، لما فارقتك حتّى ألقى حمامي ، فكيف لا أفعل ذلك وانّما هي قتلة واحدة ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا ، وتكلّم باقي الأصحاب بما يشبه بعضه بعضا. وبعد هذه الخطبة تهيّئوا للقاء ربّهم وأحيوا الليل بالعبادة. قال الراوي :

«فلمّا أمسى حسين وأصحابه قاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون».

واستعدّوا كذلك للقاء خصومهم واتمام الحجّة عليهم في يوم غد ، فأمر الإمام بمكان منخفض من وراء الخيام كأنّه ساقية فحفروه في ساعة من الليل ، وأمر فأتي بحطب وقصب فألقي فيه ، فلمّا أصبحوا استقبلوا القوم بوجوههم وجعلوا البيوت في ظهورهم وأمر بذلك الحطب والقصب من وراء البيوت فأحرق بالناركي لا يأتوهم من ورائهم ، وبذلك منعهم الإمام من الحملة عليه بغتة وقتله قبل اتمامه الحجّة عليهم ، بل ألقى عليهم هو وأصحابه الخطبة تلو الخطبة. وحين تقابل الجيشان في يوم عاشوراء واستعدّا للقتال بدأهم الإمام الحسين فركب ناقته واستقبلهم واستنصتهم ثمّ قال في خطبته :

أيّها الناس! اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعظكم ...

آمنتم بالرسول محمّد (ص) ثمّ انكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم ...

أيّها الناس! انسبوني من أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ قتلي وانتهاك حرمتي؟!

٣٩١

ألست ابن بنت نبيكم ...؟

أولم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي : هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فان كنتم في شكّ من هذا القول أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحكم! أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أو مال لكم استهلكته أو بقصاص جراحة؟!

ونادى :

يا شبث بن ربعي! ويا حجّار بن أبجر! ويا قيس بن الاشعث! ويا زيد بن الحارث!ألم تكتبوا إليّ أن أقدم قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب ، وانّما تقدم على جند لك مجنّد؟

وقال :

أيّها الناس! إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم!

فقال له قيس بن الأشعث :

أولا تنزل على حكم بني عمّك ..؟

وقال الحسين (ع) :

ألا وانّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركّز بين اثنتين ، بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ...

وقال :

أما والله لا تلبثون بعدها إلّا كريثما يركب الفرس حتّى تدور بكم دور الرحى ... عهد عهده إليّ أبي عن جدّي رسول الله ..

ثمّ رفع يديه إلى السماء وقال :

اللهمّ احبس عنهم قطر السماء ... وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة ...

* * *

٣٩٢

إذن فانّ جيش الخلافة من أمّة محمّد (ص) يقاتلون ابن بنت نبيّهم من أجل أن يبايع يزيد وينزل على حكم ابن زياد ، ويتقبل الإمام الحسين وجيشه قتل رجالهم وسبي نسائهم ولا يفعلون ذلك.

جيش الخلافة يقتل ابن بنت نبيّه ويسبي عترته من أجل كسب رضا الخليفة ، وواليه ، وكسب حطام الدنيا منهما.

والإمام وجيشه يستشهدون من أجل كسب رضا الله وتحصيل ثوابه في يوم القيامة.

يدلّ على ذلك بالإضافة إلى ما سبق ذكره ، جميع أفعال الجيشين وأقوالهما في ذلك اليوم.

بدأ القول والفعل أمير جيش الخلافة عمر بن سعد حين وضع سهما في كبد قوسه ثمّ رمى وقال : اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى.

ورفع الحسين (ع) يديه وقال :

اللهم أنت ثقتي في كلّ كرب ورجائي في كلّ شدّة ...

وتسابق الجيشان يكشفان عن دخائل نفوسهما في ما يقولان ويفعلان ؛ مثل مسروق الوائلي من جيش الخلافة حين قال : كنت في أوائل الخيل ممّن سار إلى الحسين فقلت : أكون في أوائلها لعلّي أصيب رأس الحسين (ع) فأصيب به منزلة عند عبيد الله ابن زياد.

في جيش الخلافة من يريد أن يأخذ رأس ابن بنت نبيّه ليتقرّب به إلى ابن زياد.

وفي جيش الحسين (ع) جون ، مولى أبي ذر ، إنّه يستأذن الإمام للقتال فيقول له الحسين :

إنّما تبعتنا طلبا للعافية فأنت في اذن منّي ، فيقول : أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدّة أخذلكم! إنّ ريحي لمنتن وحسبي للئيم ولوني لأسود.

٣٩٣

فتنفّس عليّ بالجنّة ليطيب ريحي ويبيضّ لوني ، لا والله لا أفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم ...

ولمّا أذن له الحسين (ع) حمل عليهم وهو يقول :

كيف يرى الفجّار ضرب الأسود

بالمشرفيّ القاطع المهنّد

أحمي الخيار من بني محمّد

أذبّ عنهم باللسان واليد

أرجو بذاك الفوز عند المورد

من الاله الواحد الموحّد

وبعد ما قتل وقف عليه الحسين (ع) وقال :

اللهم بيّض وجهه وطيّب ريحه واحشره مع محمّد (ص) وعرّف بينه وبين آل محمّد (ص).

وفي جيش الحسين (ع) فتى عمره احدى عشرة سنة قتل أبوه في المعركة يستأذن الحسين للقتال فأبى أن يأذن له وقال : هذا قتل أبوه ، ولعلّ أمّه تكره ذلك فقال : انّ أمّي أمرتني ، فلمّا قتل رمي برأسه إلى عسكر الحسين (ع) فأخذته أمّه ومسحت الدم عنه وضربت به رجلا قريبا منها وعادت إلى المخيم فأخذت عمودا وتقدّمت إلى جيش العدى وهي تقول :

أنا عجوز سيّدي ضعيفة

خاوية بالية نحيفة

أضربكم بضربة عنيفة

دون بني فاطمة الشريفة

فأمر الحسين (ع) بردّها.

وفي جيش الحسين (ع) عمرو الازديّ برز وهو يقول :

اليوم يا نفس إلى الرحمن

تمضين بالروح وبالريحان

اليوم تجزين على الاحسا

قد كان منك غابر الزمان

ما خطّ باللوح لدى الديّان

فاليوم زال ذاك بالغفران

وفي جيش الحسين (ع) خالد ابن هذا القتيل برز وهو يقول :

صبرا على الموت بني قحطان

كيما نكون في رضى الرحمن

٣٩٤

ذي المجد والعزة والبرهان

يا أبتا قد صرت في الجنان

وفي جيش الحسين (ع) سعد بن حنظلة ، برز وهو يقول :

صبرا على الاسياف والأسنه

صبرا عليها لدخول الجنّة

يا نفس للراحة فاطرحنّه

وفي طلاب الخير فارغبنّه

ومن جيش الحسين ، زهير أخذ يضرب على منكب حسين ويقول :

أقدم هديت هاديا مهديّا

فاليوم تلقى جدّك النبيّا

وحسنا والمرتضى عليّا

وذا الجناحين الفتى الكميّا

وأسد الله الشهيد الحيّا

ويقول :

أقدم حسين اليوم تلقى أحمدا

وشيخك الخير عليا ذا الندى

وحسنا كالبدر وافى الاسعدا

وعمّك القرم الهجان الاصيدا

وحمزة ليث الإله الأسدا

في جنّة الفردوس تعلو صعدا

ومن جيش الحسين (ع) ، حمل نافع وهو يقول :

أنا الغلام اليمني الجمليّ

ديني على دين حسين وعليّ

ان أقتل اليوم فهذا أملي

وذاك رأيي وألاقي عملي

وفي جيش الحسين (ع) يقول ابنه علي :

أنا علي بن الحسين بن علي

نحن وبيت الله أولى بالنبي

ويقول القاسم ابن أخيه :

إن تنكروني فأنا فرع الحسن

سبط النبي المصطفى والمؤتمن

ويقول محمّد بن عبد الله بن جعفر :

أشكو إلى الله من العدوان

فعال قوم في الردى عميان

قد بدّلوا معالم القرآن

ومحكم التنزيل والتبيان

وأظهروا الكفر مع الطغيان

٣٩٥

ويقول أخوه العباس بعد أن قطعت يمينه :

والله ان قطعتم يميني

إنّي أحامي أبدا عن ديني

وعن إمام صادق اليقين

نجل النبي الطاهر الأمين

ويقول :

يا نفس لا تخشي من الكفار

وأبشري برحمة الجبار

مع النبي السيد المختار

وفي جيش الخلافة من يرمي الطفل الرضيع في حجر أبيه الإمام.

وفي جيش الخلافة من يقطع الصبي الذاهل بسيفه أمام أمّه.

* * *

ليت شعري هل قتل جيش الخلافة الطفل الصغير لانه لم يبايع خليفتهم؟!

أم هل سبوا بنات رسول الله وساروا بهن من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام وأحضروهن دار الامارة في الكوفة وعرضوهن في محل عرض الاسارى في الشام وأحضروهن مجلس الخلافة من أجل أن يبايعن الخليفة؟! لما ذا فعلوا ذلك وغير ذلك؟

لما ذا أحرق جيش الخلافة خيام آل الرسول (ص)؟!

ولما ذا داس جيش الخلافة بحوافر خيولهم صدر ابن بنت رسول الله وظهره؟!

ولما ذا ترك جسده وأجساد آل بيته وأنصاره في العراء ولم يدفنوهم؟!

ولما ذا قطعوا رءوسهم واقتسموها في ما بينهم وحملوها على أطراف الرماح؟!

إنّهم فعلوا ذلك من أجل أن يبلغ ابن زياد أنهم سامعون مطيعون. فقد قال راجزهم :

٣٩٦

فأبلغ عبيد الله إمّا لقيته

بأني مطيع للخليفة سامع

إذا فقد استهدفوا من كل ذلك رضا ابن زياد وطاعة الخليفة. كما ذكره الآخر حين قال :

املأ ركابي فضة وذهبا

إني قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس أمّا وأبا (١)

من أجل كسب رضا الخليفة وواليه فعلوا كل ذلك ، ومن أجل كسب الذهب والفضة منهما. من أجل هذا ينشدون أمام قصر ابن زياد :

نحن رضضنا الصدر بعد الظهر

بكل يعبوب شديد الاسر

وقال خوليّ لزوجته : جئتك بغنى الدهر ، هذا رأس الحسين معك في البيت.

إذن فانّ جيش الإمام (ع) عند ما يقاتلون كانوا يطلبون بذلك رضا الله ورسوله والدار الآخرة.

وجيش الخليفة يفعلون في سبيل رضا يزيد وابن زياد وكسب الذهب والفضة.

وقد أقرّ الخليفة عيونهم فأمر لعبيد الله بن زياد بن أبيه بألف ألف ، وأمر لأهل الكوفة جزاء السامع المطيع ، وزاد في أعطياتهم مائة مائة.

أمّا لما ذا فعل خليفة المسلمين ما فعل؟! ولما ذا نكت ثنايا أبي عبد الله بالقضيب؟ ولما ذا نصب رأسه ثلاثا في دمشق وسار به من بلد إلى بلد؟! فإنّه بنفسه قد أفصح عن سبب أفعاله وأقواله حين أنشد قائلا :

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلنا ميل بدر فاعتدل

__________________

(١) في تاريخ ابن عساكر ، الحديث ٧٧٥ ، وتهذيبه ٤ / ٣٤٤ وفيه (أوقر) مكان (املأ).

٣٩٧

إذا فإنّها أحقاد بدريّة! ألم تبقر هند أمّ أبيه في أحد بطن حمزة ، وتمثّل به ، وتمضغ كبده ، ثم أنشأت تقول :

شفيت من حمزة نفسي بأحد

حين بقرت بطنه عن الكبد؟!

أولم يضرب جدّه أبو سفيان بزجّ الرمح في شدق حمزة يوم ذاك ويقول : ذق عقق!.

فرآه الحليس سيد الاحابيش وقال :

يا بني كنانة! هذا سيّد قريش يصنع بابن عمّه لحما ما ترون؟!.

ألم يقل جدّه أبو سفيان على عهد عثمان وبمحضر منه :

يا بني أميّة تلقّفوها تلقّف الكرة. فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة؟!.

ألم يمرّ يومئذ بقبر حمزة ويضربه برجله ويقول :

يا أبا عمارة! انّ الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمس ؛ صار بيد غلماننا اليوم يتلعّبون به؟! ألم يقل أبوه معاوية :

إنّ أخا بني هاشم ـ ويقصد به رسول الله ـ ليصاح به يوميا خمس مرّات. لا والله إلّا دفنا دفنا!.

ألم يقتل جيش أبيه الخليفة معاوية بقيادة ابن ارطاة في وجهه الذي وجّهه ثلاثين ألفا من المسلمين وحرّق بيوتهم وذبح طفلي عبيد الله بن العبّاس بيده بمدية (١)؟!

إذا فانّ خليفة المسلمين يزيد اقتدى بجديه وأبيه في ما قال وفعل.

__________________

(١) راجع تفصيل أخبار أبي سفيان وهند ومعاوية هذه في فصل : «مع معاوية» من كتابنا «أحاديث أم المؤمنين عائشة» ص ٢١٣ ـ ٢٥٠.

٣٩٨

وانّ عصبة الخلافة يزيد ومروان وسعيدا أيضا اشتفوا من رسول الله ما كان فعل!.

٣٩٩

أثر استشهاد الحسين (ع)

لقد قتلوا ذريّة الرسول (ص) ومثّلوا بهم وطافوا بآل رسول الله (ص) سبايا في بلاد المسلمين والمسلمون بمرأى ومسمع. كلّ تلك الأحداث الجسام وقعت بين كربلاء والكوفة والشام في أقلّ من شهرين من خروج الحسين من مكة يوم التروية.

وكان قد بلغ خبر خروج الإمام على خليفة المسلمين مع عودة الحاجّ إلى كلّ فجّ عميق.

وكان طبيعيّا أن يتنسّم المسلمون أخباره بعد ذلك ، وتبلغهم أنباء تلك الفجائع فجيعة بعد فجيعة ، وتنكسر لتلك الانباء قلوب المؤمنين ويحزنوا.

وكان وقع المصيبة حقّا عظيما على من بلغه نبأها من المسلمين ، فقد وقعت الصيحة في دار يزيد ، وشمل الانكار عليه أهل مجلسه ومسجده ، وأينما بلغت أخبار فضائعه ، وانقسم المسلمون اثر هذه الفجيعة إلى قسمين :

قسم انضوى تحت لواء الخلافة لا يثنيه عن ولاء الخليفة قتل ذريّة الرسول ، ولا استباحة حرمه ، ولا هدم الكعبة ، بل ازدادوا قساوة وفضاضة.

وقسم آخر انكسر مقام الخلافة في نفسه وتبرّأ من فعل عصبة الخلافة وخرج عليهم ، مثل أهل المدينة في وقعة الحرّة وغيرهم ممّن ثاروا على عصبة

٤٠٠