معالم المدرستين - ج ٣

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ٣

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤١

في سبيل طاعة الخليفة

مسير جيش الخلافة إلى مكّة ومناجاة أميره ساعة الاحتضار ووصيته :

قال الطبري وغيره : ولمّا فرغ مسلم من قتال أهل المدينة وإنهاب جنده أموالهم ثلاثا ، شخص بمن معه من الجند متوجّها إلى مكّة حتّى إذا انتهى إلى المشلّل ، نزل به الموت وذلك في آخر المحرّم من سنة ٦٤ ه‍ ، فدعا حصين ابن نمير السكوني فقال له : يا ابن برذعة الحمار! أما والله لو كان هذا الامر إليّ ما ولّيتك هذا الجند ، ولكن أمير المؤمنين ولّاك بعدي وليس لأمر أمير المؤمنين مردّ ، فاحفظ ما اوصيك به! عمّ الاخبار ولا ترع سمعك قرشيّا أبدا! ولا تردّن أهل الشام عن عدوّهم! ولا تقيمنّ إلّا ثلاثا حتّى تناجز ابن الزبير الفاسق! ثمّ قال : اللهمّ انّي لم أعمل عملا قطّ بعد شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله أحبّ ولا أرجى عندي في الآخرة (١).

وفي لفظ ابن كثير : أحبّ إليّ من قتل أهل المدينة ، وأجزى عندي في الآخرة وان دخلت النار بعد ذلك انّي لشقيّ! ثمّ مات (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ / ١٤ ، وابن الاثير ٣ / ٤٩ ، وابن كثير ٨ / ٢٢٥.

(٢) تاريخ ابن كثير ٨ / ٢٢٥.

٢٤١

وفي تاريخ اليعقوبي ، قال : اللهم ان عذّبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد بن معاوية وقتل أهل الحرّة فانّي إذا لشقيّ (١).

وفي فتوح ابن أعثم ، أن مسلم بن عقبة قال في وصيته للحصين بن نمير : فانظر أن تفعل في أهل مكة وفي عبد الله بن الزبير كما رأيتني فعلت بأهل المدينة. ثمّ جعل يقول : اللهم انّك تعلم أنّي لم أعص خليفة قطّ ، اللهم انّي لا أعمل عملا أرجو به النجاة إلّا ما فعلت بأهل المدينة. ثمّ اشتدّ به الأمر فمات. فغسّلوه وكفّنوه ودفنوه ، وبايع الناس للحصين بن نمير السكوني من بعده ، وسار القوم يريدون مكة ، وخرج أهل ذلك المنزل فنبشوه من قبره وصلبوه على نخلة. قال : وبلغ ذلك أهل العسكر فرجعوا إلى أهل ذلك المنزل فوضعوا السيف فيهم ، فقتل منهم من قتل وهرب الباقون ، ثمّ أنزلوه من النخلة فدفنوه ثمّ أجلسوا على قبره من يحفظه (٢).

جيش الخلافة يحرق الكعبة في حرب ابن الزبير وينشد الاراجيز :

قال المسعودي : فسار الحصين حتّى أتى مكة وأحاط بها ، وعاذ ابن الزبير بالبيت الحرام ، ونصب الحصين في من معه من أهل الشام المجانيق والعرّادات على البيت ، ورمى مع الاحجار بالنار والنفط ومشّاقات الكتّان وغير ذلك من المحروقات فانهدمت الكعبة واحترقت البنيّة.

ووقعت صاعقة فأحرقت من أصحاب المنجنيق أحد عشر رجلا فكان ذلك يوم السبت لثلاث خلون من ربيع الأول وقبل وفاة يزيد بأحد عشر يوما ، واشتدّ الأمر على أهل مكة وابن الزبير ، واتصل الاذى بالاحجار والنار والسيف فقال راجزهم :

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٥١.

(٢) فتوح ابن أعثم ٥ / ٣٠١.

٢٤٢

ابن نمير بئسما تولّى

قد أحرق المقام والمصلّى(١)

وقال اليعقوبي : رمى حصين بن نمير بالنيران حتّى أحرق الكعبة ، وكان عبيد الله بن عمير الليثي قاصّ ابن الزبير إذا تواقف الفريقان قام على الكعبة فنادى بأعلى صوته : يا أهل الشام! هذا حرم الله الذي كان مأمننا في الجاهلية ، يأمن فيه الطير والصيد ، فاتّقوا الله يا أهل الشام ، فيصيح الشاميّون : الطاعة الطاعة ، الكرّ الكرّ ، الرواح قبل المساء ، فلم يزل على ذلك حتّى احترقت الكعبة. فقال أصحاب ابن الزبير : نطفئ النار. فمنعهم وأراد أن يغضب الناس للكعبة. فقال بعض أهل الشام إن الحرمة والطاعة اجتمعتا فغلبت الطاعة الحرمة (٢)!!

وفي تاريخ الخميس وتاريخ الخلفاء للسيوطي : واحترقت من شرارة نيرانهم استار الكعبة وسقفها وقرنا الكبش الذي فدى الله اسماعيل وكان معلّقا في الكعبة (٣)!

وقال الطبري وغيره : أقاموا عليه يقاتلونه بقيّة المحرم وصفر كلّه ، حتّى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأول يوم السبت سنة ٦٤ ه‍ قذفوا البيت بالمجانيق وحرّقوه بالنار وأخذوا يرتجزون ويقولون :

خطّارة مثل الفنيق المزبد

نرمي بها أعواد هذا المسجد

ويقول راجزهم :

كيف ترى صنيع أمّ فروة

تأخذهم بين الصفا والمروة

يعني ب «أم فروة» المنجنيق.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٧١ ـ ٧٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٥١ ـ ٢٥٢.

(٣) تاريخ الخميس ٢ / ٣٠٣ ، تاريخ السيوطي ص ٩.

٢٤٣

قالوا : واستمرّ الحصار إلى مستهلّ ربيع الآخر حين جاءهم نعي يزيد وأنّه قد مات لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول (١).

وفي تاريخ الطبري وغيره : بينا حصين بن نمير يقاتل ابن الزبير إذ جاء موت يزيد ، فصاح بهم ابن الزبير وقال : انّ طاغيتكم قد هلك ؛ فمن شاء منكم أن يدخل في ما دخل فيه الناس فليفعل ، فمن كره فليلحق بشامه ، فغدوا عليه يقاتلونه. فقال ابن الزبير للحصين بن نمير : أدن منّي أحدّثك. فدنا منه فحدّثه فجعل فرس أحدهما يجفل ، (الجفل : الروث) فجاء حمام الحرم يلتقط من الجفل فكفّ الحصين فرسه عنهنّ ، فقال له ابن الزبير : مالك؟ قال : أخاف أن يقتل فرسي حمام الحرم ، فقال له ابن الزبير ، أتحرّج من هذا وتريد أن تقتل المسلمين؟! فقال : لا أقاتلك ؛ فاذن لنا نطف بالبيت وننصرف عنك. ففعل ، قالوا : فأقبل الحصين بمن معه نحو المدينة.

قالوا : واجترأ أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشام ، فذلّوا حتى كان لا ينفرد منهم رجل إلّا أخذ بلجام دابّته ثم نكس عنها! فكانوا يجتمعون في معسكرهم فلا يفترقون ، وقالت لهم بنو أميّة : لا تبرحوا حتى تحملونا معكم إلى الشام ففعلوا ، فمضى ذلك الجيش حتى دخل الشام (٢).

الحجاج يرمي الكعبة ثانية :

قال ابن الاثير وغيره : أرسل عبد الملك بن مروان الحجّاج لحرب ابن الزبير بمكة فنزل الطائف ، وأمدّه بطارق فقدم المدينة في ذي القعدة سنة ٧٢ ه‍ وأخرج عامل ابن الزبير عنها وجعل عليها رجلا من أهل الشام اسمه

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ / ١٤ ـ ١٥ ، وابن الاثير ٤ / ٤٩ ، وابن كثير ٨ / ٢٢٥.

(٢) تاريخ الطبري ٧ / ١٦ ـ ١٧ في ذكر حوادث سنة ٦٥ ه‍. ذكر الطبري وغيره محادثات أخرى بين ابن الزبير والحصين لم تكن ثمة حاجة لذكرها وانما ذكرنا رجوع الجيش إلى الشام بايجاز.

٢٤٤

ثعلبة ، فكان ثعلبة يخرج المخّ على منبر النبيّ (ص) يأكله ويأكل عليه التمر ليغيظ أهل المدينة (١).

وقال الدينوري : فقال الحجّاج لأصحابه : تجهّزوا للحجّ ـ وكان ذلك في أيام الموسم ـ ثمّ سار من الطائف حتّى دخل مكّة ونصب المنجنيق على أبي قبيس ، فقال الاقيشر الاسدي :

[ف] لم أر جيشا غرّ بالحج مثلنا

ولم أر جيشا مثلنا غير ما خرس

دلفنا لبيت الله نرمي ستوره

بأحجارنا زفن الولائد في العرس

دلفنا له يوم الثلاثاء من منى

بجيش كصدر الفيل ليس بذي رأس

فإلّا ترحنا من ثقيف وملكها

نصلّ لايام السباسب والنحس

فطلبه الحجّاج فهرب. وأناخ الحجاج بابن الزبير ، وتحصّن منه ابن الزبير في المسجد ، واستعمل الحجّاج على المنجنيق ابن خزيمة الخثعمي ، فجعل يرمي أهل المسجد ويقول :

خطّارة مثل الفنيق الملبد

نرمي بها عوّاذ أهل المسجد(٢)

قال المسعودي : وكتب الحجّاج إلى عبد الملك بحصار ابن الزبير وظفره بأبي قبيس ، فلمّا ورد كتابه كبّر عبد الملك ، فكبّر من معه في داره ، واتّصل التكبير بمن في جامع دمشق فكبّروا ، واتّصل ذلك بأهل الاسواق فكبّروا ، ثمّ سألوا عن الخبر فقيل لهم : انّ الحجاج حاصر ابن الزبير بمكّة وظفر بأبي قبيس ، فقالوا : لا نرضى حتّى يحمله إلينا مكبّلا ، على رأسه برنس ، على جمل يمرّ بنا في الاسواق ، هذا الترابي الملعون (٣)!

__________________

(١) تاريخ ابن الاثير ٣ / ١٣٥.

(٢) الأخبار الطوال ص ٣١٤.

(٣) مروج الذهب ٣ / ١١٣.

٢٤٥

كان «أبو تراب» كنية الامام عليّ كنّاه بها رسول الله ؛ فاتّخذها بنو أميّة نبزا للامام وسمّوا شيعته ترابيّا بهذه المناسبة ، وأصبح هذا اللقب في عرف آل أميّة وشيعتهم طعنا ، فنبزوا بها ابن الزبير أيضا.

قال ابن الاثير : قدم الحجّاج مكّة في ذي القعدة وقد أحرم بحجّة ، فنزل بئر ميمون وحجّ بالناس في تلك السنّة الحجّاج إلّا أنّه لم يطف حول الكعبة ولا سعى بين الصفا والمروة ، منعه ابن الزبير من ذلك.

قال : ولم يحجّ ابن الزبير ولا أصحابه لانّهم لم يقفوا بعرفة ولم يرموا الجمار.

قال : ولمّا حصر الحجّاج ابن الزبير ، نصب المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة ، وكان عبد الملك ينكر ذلك أيّام يزيد بن معاوية ، ثمّ أمر به ، فكان الناس يقولون خذل في دينه (١).

وقال الذهبي : وألحّ عليه الحجّاج بالمنجنيق وبالقتال من كلّ وجه ، وحبس عنهم الميرة فجاعوا ، وكانوا يشربون من زمزم ، فتعصبهم وجعلت الحجارة تقع في الكعبة (٢).

قال ابن كثير : وكان معه خمس مجانيق ، فالحّ عليها بالرمي من كلّ مكان. ثمّ ذكر مثل قول الذهبي (٣).

احتراق الكعبة ونزول الصواعق :

وفي تاريخ الخميس بسنده قال : انّ الحجّاج رمى الكعبة بالحجارة والنيران حتّى تعلّقت بأستار الكعبة واشتعلت ، فجاءت سحابة من نحو جدّة

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٤ / ١٣٦.

(٢) تاريخ الإسلام للذهبي ٣ / ١١٤.

(٣) ابن كثير ٨ / ٣٢٩.

٢٤٦

مرتفعة يسمع منها الرعد ويرى فيها البرق ، واستوت فوق الكعبة والمطاف فأطفأت النار وسال الميزاب في الحجر ، ثم عدلت إلى أبي قبيس فرمت بالصاعقة وأحرقت منجنيقهم قدر كوّة ، وأحرقت تحته أربعة رجال ، فقال الحجّاج : لا يهولنّكم هذا فانّها أرض صواعق فأرسل الله صاعقة أخرى ، فأحرقت المنجنيق وأحرقت معه أربعين رجلا (١).

وقال الذهبي : وجعل الحجاج ، يصيح بأصحابه : يا أهل الشام ، الله الله في الطاعة(٢).

وروى الطبري وغيره عن يوسف بن ماهك قال : رأيت المنجنيق يرمى به فرعدت السماء وبرقت ، وعلا صوت الرعد والبرق على الحجارة فاشتمل عليها ، فأعظم ذلك أهل الشام فأمسكوا بأيديهم ، فرفع الحجّاج بركة قبائه فغرزها في منطقته ، ورفع حجر المنجنيق فوضعه فيه ، ثمّ قال : ارموا ورمى معهم ، قال : ثمّ أصبحوا فجاءت صاعقة تتبعها اخرى فقتلت من أصحابه اثنى عشر رجلا فانكسر أهل الشام ، فقال الحجّاج : يا أهل الشام! لا تنكروا هذا فانّي ابن تهامة ، هذه صواعق تهامة ، هذا الفتح قد حضر فابشروا انّ القوم يصيبهم مثل ما أصابكم ، فصعقت من الغد فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدّة ، فقال الحجّاج : ألا ترون أنّهم يصابون وأنتم على الطاعة وهم على خلاف الطاعة (٣).

وجاء في تاريخ ابن كثير بعده : وكان أهل الشام يرتجزون وهم يرمون بالمنجنيق ويقولون :

__________________

(١) الطبري ٧ / ٢٠٢ في ذكر حوادث سنة ٧٣ ه‍.

(٢) الذهبي ، تاريخ الإسلام ٣ / ١١٤.

(٣) الطبري ، ط. اوربا ٢ / ٨٤٤ ـ ٨٤٥ ، وابن كثير ٨ / ٣٢٩. وليس فيه كلمة (خطّارة) وانما نقلناها من الأخبار الطوال ص ٣١٤.

٢٤٧

خطّارة مثل الفنيق المزبد

نرمى بها أعواد هذا المسجد

فنزلت صاعقة على المنجنيق فأحرقته فتوقّف أهل الشام عن الرمي والمحاصرة فخطبهم الحجّاج ، فقال : ويحكم! ألم تعلموا أنّ النار كانت تنزل على من قبلنا فتأكل قربانهم إذا تقبّل منهم؟ فلولا انّ عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته (١).

وفي فتوح ابن أعثم أمر الحجّاج أصحابه أن يتفرّقوا من كلّ وجه : من ذي طوى ، ومن أسفل مكّة ، ومن قبل الابطح ، فاشتدّ الحصار على عبد الله بن الزبير وأصحابه فنصبوا المجانيق وجعلوا يرمون البيت الحرام بالحجارة وهم يرتجزون بالاشعار ، وتقع الحجارة في المسجد الحرام كالمطر ، وكان رماة المنجنيق إذا ونوا وسكتوا ساعة فلم يرموا يبعث إليهم الحجّاج فيشتمهم ، ويتهدّدهم بالقتل ، فأنشأ بعضهم يقول :

لعمر أبي الحجّاج لو خفت ما أرى

من الامر ما أمست تعذلني نفسي

الابيات (٢)

نشيد الحجاج عند ما رأى البيت يحترق :

قال : فلم يزل الحجّاج وأصحابه يرمون بيت الله الحرام بالحجارة حتّى انصدع الحائط الذي على بئر زمزم عن آخره ، وانتقضت الكعبة من جوانبها.

قال : ثمّ أمرهم الحجّاج فرموا بكيزان النفط والنار حتّى احترقت الستارات كلّها فصارت رمادا ، والحجّاج واقف ينظر في ذلك كيف تحترق الستارات وهو يرتجز ويقول :

__________________

(١) تاريخ الخميس ٢ / ٣٠٥.

(٢) الفتوح ٦ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

٢٤٨

أما تراها ساطعا غبارها

والله في ما يزعمون جارها

فقد وهت وصدعت أحجارها

ونفرت منها معا أطيارها

وحان من كعبتها دمارها

وحرقت منها معا أستارها

لمّا علاها نفطها ونارها (١)

قال الطبري وغيره واللفظ للطبري : فلم تزل الحرب بين ابن الزبير والحجّاج حتّى كان قبيل مقتله ، وقد تفرّق عنه أصحابه ، وخرج عامّة أهل مكّة إلى الحجّاج في الامان ، وخذله من معه خذلانا شديدا ، حتّى خرج إلى الحجّاج نحو من عشرة آلاف ، وفيهم ابناه حمزة وخبيب فأخذا منه لانفسهما أمانا.

نهاية أمر ابن الزبير وارسال الرءوس إلى عبد الملك :

فقاتل قتالا شديدا حتّى قتل ، وبعث الحجّاج برأس ابن الزبير وعبد الله بن صفوان وعمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة فنصبت بها ، ثمّ ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان (٢).

وفي تاريخ ابن كثير : وأرسل بالرءوس مع رجل من الازد ، وأمرهم إذا مرّوا بالمدينة أن ينصبوا الرءوس بها ثمّ يسيروا بها إلى الشام ففعلوا ما أمرهم ، وأعطاه عبد الملك خمسمائة دينار ، ثمّ دعا بمقراض فأخذ من ناصيته ونواصي أولاده فرحا بمقتل ابن الزبير!

قال : ثمّ أمر الحجّاج بجثّة ابن الزبير فصلبت على ثنية كداء عند الحجون ، يقال : منكّسة. ثمّ أنزل عن الجذع ودفن هناك (٣).

__________________

(١) فتوح ابن أعثم ٦ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

(٢) تاريخ الطبري ٨ / ٢٠٢ ـ ٢٠٥.

(٣) تاريخ ابن كثير ٨ / ٣٣٢ ، وفي فتوح ابن أعثم ٦ / ٢٧٩ أكد أنه صلبه منكوسا.

٢٤٩

قال الذهبي : واستوسق الامر لعبد الملك بن مروان واستعمل على الحرمين الحجّاج بن يوسف ، فنقض الكعبة التي من بناء ابن الزبير وكانت تشعّثت من المنجنيق ، وانفلق الحجر الاسود من المنجنيق فشعبوه (١).

الحجّاج يختم أعناق أصحاب النبي (ص):

وقال الطبري بعده : ثمّ انصرف إلى المدينة في صفر ، فأقام بها ثلاثة أشهر يتعبّث بأهل المدينة ويتعنّتهم ، وبنى بها مسجدا في بني سلمة فهو ينسب إليه ، واستخفّ فيها بأصحاب رسول الله (ص) فختم في أعناقهم ، وكان جابر بن عبد الله مختوما في يده وأنس مختوما في عنقه يريد أن يذلّه بذلك.

وأرسل إلى سهل بن سعد فدعاه فقال : ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان بن عفّان ، قال : قد فعلت ، قال : كذبت ، ثمّ أمر به فختم في عنقه برصاص (٢).

انتهاء ثورة الحرمين وقيام ثورات أخرى :

هكذا انتهت ثورة الحرمين ، وثارت معها وبعدها بلاد أخرى ، مثل ثورة التوّابين في سنة خمس وستين في الكوفة الذين خرجوا ينادون : يا لثارات الحسين! وقاتلوا جيش الخلافة بعين الوردة حتى استشهدوا ، ثمّ ثورة المختار في الكوفة سنة ست وستين ، وقيامه بقتل قتلة الحسين (ع).

ثمّ ثورات العلويين مثل زيد الشهيد وابنه يحيى (٣) ، وأخيرا ثورة

__________________

(١) تاريخ الإسلام للذهبي ٣ / ١١٥.

(٢) تاريخ الطبري ٧ / ٢٠٦ في ذكر حوادث سنة ٧٤ ه‍.

(٣) راجع تاريخ الطبري ، وابن الأثير ، وابن كثير في ذكرهم حوادث سني ٦٥ و ٦٦ ـ ٦٧ و ١٢١ ـ ١٢٢ و ١٢٥.

٢٥٠

العباسيين وقيامهم باسم الدعوة لآل محمّد ، وتهديمهم الخلافة الامويّة ، واقامتهم الخلافة العباسيّة بهذا الاسم ؛ فقد كان أبو سلمة الخلّال يسمّى : وزير آل محمّد ، وأبو مسلم : أمير آل محمّد!

ولما قتل أبو سلمة ، قال الشاعر :

انّ الوزير وزير آل محمّد

أودى فمن يشناك كان وزيرا(١)

الثائرون أضعفوا الخلافة والائمة (ع) أعادوا أحكام الاسلام :

وقعت كلّ تلكم الثورات اثر استشهاد الحسين (ع) ومن قبل القائمين بها في جانب. وفي جانب آخر استطاع الائمة على اثر استشهاد الحسين أن يجدّدوا شريعة جدّهم سيد الرسل بعد اندراسها ، ونشطت مدرستهم في نشر أحكام الاسلام ، كما يأتي بيانه في الباب التالي.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٣٤٥ و ٣٥٢ ـ ٣٥٣ ، وابن الاثير ٥ / ١٤٤ و ١٤٨ في ذكر حوادث سنة ١٣٠ ه‍ ، ومروج الذهب ٣ / ٢٨٦.

٢٥١
٢٥٢

البحث الخامس

إعادة ائمّة أهل البيت (ع)

سنة الرسول (ص) إلى المجتمع بعد قيام الامام الحسين (ع)

الفصل الاول : نتيجة استشهاد الإمام الحسين (ع)

الفصل الثاني : تقويم كتب الحديث بمدرسة أهل البيت (ع)

الفصل الثالث : رأيا المدرستين في تقويم كتب الحديث

٢٥٣
٢٥٤

الفصل الأول

نتيجة استشهاد الإمام الحسين (ع)

٢٥٥
٢٥٦

نتيجة لكل ما سبق ذكره تيقظت ضمائر بعض أبناء الأمّة الاسلاميّة من سباتها العميق ، واشمأزّت نفوسهم من أوضاع الخلافة ، وانتشر حبّ آل بيت النبيّ (ص) في الأوساط الإسلاميّة غير المنتفعة بالحكم ، وزمن الصراع بين الامويين والعباسيين حول الخلافة ، فسح المجال للواعين منهم لأن يلتفّوا حول الإمامين الباقر والصادق (ع) ومن ثمّ تمكّن الامامان من نشر الأحكام الإسلامية التي جاء بها رسول الله (ص) وبيان زيف الاحكام المحرّفة ، ودحض الشبهات المثارة حول بعض الآيات القرآنية. فعلا ذلك تارة بالرواية عن كتاب عليّ «الجامعة» ، وأخرى بالحديث عن رسول الله (ص) ، أو ببيان حكم الله دون ما ذكر سند له ، وفي هذا الصدد أتيحت الفرصة للإمام الصادق أكثر من غيره من سائر أئمة أهل البيت ، فاجتمع حوله في بعض الاحيان آلاف من روّاد العلوم الإسلامية ورواة أحاديثه ، وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف (١) ، مثل الحافظ أبي العبّاس ابن عقدة (ت : ٣٣٣ ه‍) الّذي

__________________

(١) راجع الارشاد ، للشيخ المفيد (ت : ٤١٣ ه‍) ص ٢٥٤ منه ، وإعلام الورى ص ٢٧٦ تأليف الفضل الطبرسي من أعلام القرن السادس.

٢٥٧

صنّف كتابا جمع فيه رواة حديثه ، وأنهاهم إلى أربعة آلاف (١).

وفي عصر الإمام الكاظم (ع) كان جماعة من أصحابه وأهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم الواح آبنوس لطاف ، وأميال ، فإذا نطق ابو الحسن كلمة أو أفتى في نازلة ، أثبتوا ما سمعوه منه في ذلك.

هكذا دوّن أصحاب الأئمة ما سمعوه منهم ، وبلغت مؤلفاتهم الآلاف ، نجد تراجمها في فهرستي النجاشي والشيخ الطوسي ، وكل واحد منهما يروي تلك الكتب عن مؤلّفيها بسنده الخاصّ إليهم.

وفي عصر الأئمة دوّن أصحابهم الاصول والاصل في اصطلاح المحدّثين من مدرسة أهل البيت هو الكتاب الّذي جمع فيه مصنّفه الاحاديث التي رواها هو عن المعصوم أو عن الراوي عن المعصوم ولم ينقل فيه الحديث عن كتاب مدون. وكان من دأب أصحاب الأصول أنهم إذا سمعوا من أحد الأئمة حديثا بادروا إلى اثباته في اصولهم لئلّا يعرض لهم نسيان لبعضه أو كلّه بتمادي الأيّام ، واستقر أمر المتقدمين على أربعمائة أصل ممّا دوّن منذ عصر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) إلى عصر أبي محمّد الحسن العسكري وسميت بالاصول الأربعمائة ، وجلّ الاصول الاربعمائة دوّنت من قبل أصحاب الامام الصادق سواء كانوا مختصين به أو ممن أدركوا أباه الامام الباقر أو ممن أدركوا ولده الامام الكاظم (ع) بعده(٢).

__________________

(١) ابن عقدة الحافظ أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني الكوفي كان زيديا جاروديا (ت : ٣٣٢ ه‍) من مؤلفاته: كتاب أسماء الرجال الذين رووا عن الصادق أربعة آلاف رجل خرج فيه لكل رجل الحديث الذي رواه ـ ترجمته في الكنى والالقاب ١ / ٣٤٦. وسنة وفاته فيه : (٣٣٣ ه‍).

(٢) وأول موسوعة حديثية جامعة الفت بمدرسة أهل البيت هو كتاب الكافي ، ألّفه ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني. (ت : ٣٢٩ أو ٣٢٨ ه‍) حاول مؤلفه أن يجمع فيه الاصول والمدونات الحديثية الصغيرة الأخرى ، وجاب من أجله البلاد في عشرين سنة.

وأخذ من الكافي ومن الاصول والمدونات الحديثية الاخرى الشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن ـ

٢٥٨

كيف أخذ المصنفون من رسائل أصحاب الأئمة وأصولهم؟

لمعرفة كيفية أخذهم من الاصول ومدوّنات أصحاب الأئمة ؛ ندرس في كتب المشايخ الثلاثة كيفية أخذهم من «أصل ظريف» أو كتاب الديات رواية ظريف بن ناصح ، بعد تعريف ظريف وأصله في ما يلي :

ظريف بن ناصح وأصله أو كتابه :

أ ـ ظريف بن ناصح :

كان أبوه بياع الاكفان (١). أدرك ظريف الامام الباقر (ع) (٢).

قال النجاشي في ترجمته : كوفي نشأ ببغداد وكان ثقة في حديثه صدوقا (٣).

وله كتب اخرى ذكرها النجاشي والشيخ في ترجمته ، وروايات الكتاب منتشرة في الموسوعات الحديثية ، ذكرها الاردبيلي في ترجمته بجامع الرواة.

__________________

ـ علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت : ٣٨١ ه‍) الروايات الخاصة بالفقه وألف فقيه من لا يحضره الفقيه وهو أول موسوعة حديثية في فقه مدرسة أهل البيت ، ونحا نحوه من بعده الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت : ٤٦٠ ه‍) في كتابه تهذيب الأحكام الذي شرح فيه مقنعة الشيخ المفيد ثم في كتابه الاستبصار في ما اختلف من الأخبار ، وسميت هذه الكتب بالكتب الأربعة للمحمدين الثلاثة ، وأصبحت مدار البحث في الحلقات التدريسية بمدرسة أهل البيت منذ تأليفها حتى اليوم ، شأنها في ذلك شأن الصحاح الستّة بمدرسة الخلفاء عدا ان مدرسة أهل البيت لا تلتزم بصحة جميع ما في كتاب ما عدا كتاب الله جل جلاله.

(١) ترجمته بجامع الرواة ١ / ٤٢٣.

(٢) ترجمته بمجمع الرجال ٣ / ٢٣٢.

(٣) ترجمته برجال النجاشي ص ١٥٦.

٢٥٩

ب ـ أصل ظريف :

ليس ما يسمى بأصل ظريف أو كتاب في الديات تأليف ظريف ، وانما هو كتاب كتبه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) لامرائه ورؤساء أجناده ، كما يعرف ذلك من سند رواية الكليني (د) (١) عن أبي عمرو المتطبب ، قال :

عرضته على أبي عبد الله ، قال ـ أي عرضت كتاب الديات موضوع البحث على أبي عبد الله الصادق فقال في تعريف الكتاب ـ :

أفتى أمير المؤمنين ، فكتب الناس فتياه ، وكتب به أمير المؤمنين إلى أمرائه ورءوس أجناده ... الحديث.

وفي سند رواية الكليني (ج) عن محمّد بن عيسى وعن يونس جميعا ، قالا : عرضنا كتاب الفرائض عن أمير المؤمنين على أبي الحسن الرضا ، فقال هو صحيح ... الحديث.

يتضح من هذه الروايات وغيرها ان كتاب ديات ظريف انّما نسب إليه لرواية جمع من المشايخ عنه (٢) ، وقد صرّح بذلك الشيخ الطوسي في ترجمة محمّد بن أبي عمرو حيث قال : محمّد بن أبي عمرو الطبيب ، كوفي ، روى كتاب الديات عن أبي عبد الله (ع) وهو المنسوب إلى ظريف بن ناصح ، لانّه طريقه (٣).

ويستفاد أيضا من تلك الأسانيد ـ خاصة ما ورد في سند حديث

__________________

(١) قسمنا روايات الكافي عن ظريف إلى خمسة :

أ ـ ما ورد في ٧ / ٣١١ منه ، وب ـ ما في ٧ / ٣٢٤ ، وج ـ ما في ٧ / ٣٢٧ ، ود ـ ما في ٧ / ٣٣٠ ـ ٣٤٢ منه وه ـ رواية الفقيه.

(٢) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ٢ / ١٦١ في البحث عن الأصول.

(٣) مجمع الرجال ٥ / ١١٧.

٢٦٠