معالم المدرستين - ج ٣

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ٣

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤١

سلطانهما كلّه! ليسملان أعينكم! ويقطعان أيديكم وأرجلكم! ويمثلان بكم! ويرفعانكم على جذوع النخل! ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حجر ابن عدي وأصحابه وهانئ بن عروة وأشباهه.

قال : فسبّوه واثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له وقالوا : والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه! أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلما! فقال لهم : عباد الله! انّ ولد فاطمة رضوان الله عليها أحقّ بالودّ والنصر من ابن سميّة ، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم ، فخلّوا بين هذا الرجل وبين ابن عمّه يزيد بن معاوية فلعمري انّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين.

قال : فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم! وقال : اسكت أسكت الله نأمتك أبرمتنا بكثرة كلامك. فقال له زهير : : يا ابن البوّال على عقبه! ما إيّاك اخاطب ، إنّما أنت بهيمة ، والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتين ، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم! فقال له شمر : انّ الله قاتلك وصاحبك عن ساعة ، قال : أفبالموت تخوّفني؟ فو الله للموت معه أحب إليّ من الخلد معكم ، قال : ثمّ أقبل على الناس رافعا صوته ، فقال : عباد الله! لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه ، فو الله لا تنال شفاعة محمّد (ص) قوما هرقوا دماء ذريّته وأهل بيته ، وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم. قال : فناداه رجل فقال له: انّ أبا عبد الله يقول لك أقبل! فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والابلاغ.

توبة الحرّ :

وروى عن عديّ بن حرملة قال : انّ الحرّ بن يزيد لمّا زحف عمر بن

١٢١

سعد قال له : أصلحك الله! مقاتل أنت هذا الرجل؟! قال : إي والله قتالا أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدي! قال : أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضى؟! قال عمر بن سعد : أما والله لو كان الأمر إليّ لفعلت! ولكن أميرك قد أبى ذلك ، قال : فأقبل حتّى وقف من الناس موقفا ، ومعه رجل من قومه يقال له قرّة بن قيس ، فقال : يا قرة! هل سقيت فرسك اليوم؟! قال : لا ، قال : أفما تريد أن تسقيه؟ قال : فظننت والله انّه يريد أن يتنحّى فلا يشهد القتال ، وكره أن أراه حين يصنع ذلك فيخاف أن أرفعه عليه ، فقلت له : لم أسقه ، وأنا منطلق فساقيه. قال : فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه ، قال : فو الله لو انّه أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين. قال : فأخذ يدنو من حسين ، قليلا قليلا ، فقال له رجل من قومه يقال له المهاجر بن أوس : ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذه مثل العرواء ؛ فقال له : يا ابن يزيد! والله إنّ أمرك لمريب! والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل شيء أراه الآن! ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة رجلا؟ ما عدوتك! فما هذا الذي أرى منك؟ قال : انّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنّار ، والله لا أختار على الجنّة شيئا ولو قطعت وحرّقت ، ثمّ ضرب فرسه فلحق بحسين (ع) فقال له : جعلني الله فداك يا ابن رسول الله أنا صاحبك الّذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق ، وجعجعت بك في هذا المكان ، والله الذي لا إله إلّا هو ما ظننت ان القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبدا ، ولا يبلغون منك هذا المنزلة. فقلت في نفسي : لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أنّي خرجت من طاعتهم ، وأمّا هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم ، وو الله لو ظننت انهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك ، وإنّي قد جئتك تائبا ممّا كان منّي إلى ربّي ، ومواسيا لك بنفسي حتى أموت بين

١٢٢

يديك ، أفترى ذلك لي توبة ، قال : نعم يتوب الله عليك ، ويغفر لك ، ما اسمك؟ قال : أنّا الحرّ بن يزيد! قال أنت الحرّ ، كما سمّتك أمّك ، أنت الحرّ ان شاء الله في الدنيا والآخرة ، انزل! قال : أنا لك فارسا ، خير منّي راجلا ، أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول ما يصير آخر أمري ، قال الحسين : فاصنع يرحمك الله ما بدا لك.

موعظة الحرّ لأهل الكوفة :

فاستقدم أمام أصحابه ثم قال : أيّها القوم! ألا تقبلون من حسين خصلة من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله؟ قالوا : هذا الأمير عمر بن سعد فكلّمه ، فكلّمه بمثل ما كلّمه به قبل ، وبمثل ما كلّم به أصحابه ، قال عمر : قد حرصت ، لو وجدت إلى ذلك سبيلا فعلت ، فقال : يا أهل الكوفة! لأمّكم الهبل والعبر إذ دعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه ، وزعمتم انكم قاتلوا أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه ، أمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كلّ جانب ، فمنعتموه التوجّه في بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته ، وأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع ضرا ، وحلأتموه ونساءه وأصيبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهوديّ والمجوسيّ والنصرانيّ ، وتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه ، وها هم قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمّدا في ذريّته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ ، ان لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه من يومكم هذا ، في ساعتكم هذه ، فحملت عليه رجّالة لهم ترميه بالنبل ، فأقبل حتى وقف أمام الحسين.

خطبة الحسين الثانية :

قال سبط ابن الجوزي : ثمّ ان الحسين عليه‌السلام ركب فرسه ، وأخذ

١٢٣

مصحفا ونشره على رأسه ، ووقف بإزاء القوم وقال : يا قوم! انّ بيني وبينكم كتاب الله وسنة جدي رسول الله (ص) (١).

وقال الخوارزمي : لمّا عبّأ ابن سعد أصحابه ، فأحاطوا بالحسين من كلّ جانب حتّى جعلوه في مثل الحلقة ، خرج الحسين من أصحابه فأتاهم فاستنصتهم ، فابوا أن ينصتوا فقال لهم : ويلكم! ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا قولي! وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد! فتلاوم أصحاب عمر بن سعد ، وقالوا : أنصتوا له ، فقال :

تبّا لكم أيّتها الجماعة وترحا! أحين استصرختمونا والهين ، فأصرخناكم موجفين ، سللتم علينا سيفا لنا في ايمانكم ، وحششتم علينا نارا اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم ، فأصبحتم ألبا لأعدائكم على أوليائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، فهلّا لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم والجأش طامن ، والرأي لما يستحصف ، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبا ، وتداعيتم عليها كتهافت الفراش ، ثم نقضتموها ، فسحقا لكم يا عبيد الامة! وشذاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ومحرّفي الكلم ، وعصبة الآثم ونفثة الشيطان ، ومطفئي السنن ، ويحكم! أهؤلاء تعضدون ، وعنّا تتخاذلون؟! أجل والله غدر فيكم قديم ، وشجت عليه اصولكم ، وتأزرت فروعكم ، فكنتم أخبث ثمر ، شجى للناظر وأكلة للغاصب!

ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين ، بين السلّة ، والذلّة وهيهات منا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ، ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت ، وانوف حميّة ، ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ، ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر ، ثمّ

__________________

(١) تذكرة الخواص ص ٢٥٢.

١٢٤

أنشد أبيات فروة بن مسيك المرادي (١).

فان نهزم فهزّامون قدما

وإن نهزم فغير مهزّمينا

وما إن طبّنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

إذا ما الموت رفع عن أناس

بكلكله أناخ بآخرينا

أما والله لا تلبثون بعدها إلّا كريثما يركب الفرس ، حتّى تدور بكم دور الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ، عهد عهده إليّ أبي عن جدّي رسول الله «فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ اقضوا الي ولا تنظرون ، إني توكلت على الله ربّي وربكم ما من دابّة إلّا هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط مستقيم» (٢).

ثمّ رفع يديه نحو السماء وقال : اللهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة ، فانهم كذبونا وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير (٣).

والله لا يدع أحدا منهم إلّا انتقم لي منه ، قتلة بقتلة وضربة بضربة ، وإنه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي (٤).

استجابة دعاء الحسين على ابن حوزة

وروى الطبري ، قال : إنّ رجلا من بني تميم يقال له : عبد الله بن

__________________

(١) قال ابن حجر في الاصابة ج ٣ ص ٢٠٥ ، في ترجمة فروة بن مسيك : وفد على النبي (ص) سنة تسع مع مذحج واستعمله النبي على مراد ومذحج وزبيد ، وفي الاستيعاب سكن الكوفة أيام عمر.

(٢) تاريخ ابن عساكر ح ٦٧٠ ، وتهذيبه ج ٢ ص ٣٣٤ ، والمقتل للخوارزمي ج ٢ ص ٧ وقد ذكرا البيتين الأول والثاني ولم ينسباهما إلى أحد.

(٣) اللهوف ص ٥٦ ط. صيدا ، والمقتل للخوارزمي ج ٢ ص ٧.

(٤) راجع : مقتل العوالم ص ٨٤.

١٢٥

حوزة ، جاء حتّى وقف أمام الحسين فقال : يا حسين! يا حسين! فقال حسين : ما تشاء؟ قال : أبشر بالنار! قال : كلّا! إنّي أقدم على ربّ رحيم ، وشفيع مطاع ، من هذا؟ قال له أصحابه : هذا ابن حوزة. قال : ربّ حزه إلى النار ، قال : فاضطرب به فرسه في جدول ، فوقع فيه ، وتعلّقت رجله بالركاب ووقع رأسه في الأرض ونفر الفرس فأخذه يمرّ به فيضرب برأسه كلّ حجر ، وكلّ شجرة ، حتّى مات.

وفي رواية ان عبد الله بن حوزة حين وقع عن (١) فرسه بقيت رجله اليسرى في الركاب وارتفعت اليمنى فطارت وعدا به فرسه يضرب رأسه كلّ حجر وأصل شجرة حتى مات.

وروى عن عبد الجبّار بن وائل الحضرميّ عن أخيه مسروق بن وائل قال : كنت في أوائل الخيل ممّن سار إلى الحسين فقلت : أكون في أوائلها لعلي أصيب رأس الحسين ، فأصيب به منزلة عند عبيد الله بن زياد ، قال : فلمّا انتهينا إلى حسين تقدّم رجل من القوم يقال له ابن حوزة فقال : أفيكم حسين؟ قال : فسكت حسين ، فقالها ثانية فأسكت حتّى إذا كانت الثالثة ، قال : قولوا له نعم ، هذا حسين فما حاجتك؟ قال : يا حسين! أبشر بالنار ، قال كذبت بل أقدم على ربّ غفور ، وشفيع مطاع ، فمن أنت؟ قال : ابن حوزة ، قال : فرفع الحسين يديه حتى رأينا بياض ابطيه من فوق الثياب ثم قال : اللهم حزه إلى النار ، قال : فغضب ابن حوزة فذهب ليقحم إليه الفرس ، وبينه وبينه نهر ، قال : فعلقت قدمه بالركاب وجالت به الفرس فسقط عنها ، قال : فانقطعت قدمه وساقه وفخذه وبقي جانبه الآخر متعلّقا بالركاب ، قال : فرجع مسروق ، وترك الخيل من ورائه ، قال : فسألته ، فقال : لقد رأيت من

__________________

(١) في الأصل : وقع فرسه ، وهو خطأ.

١٢٦

أهل هذا البيت شيئا لا اقاتلهم أبدا ، قال : ونشب القتال (١)

__________________

(١) في أمالي الشجري ص ١٦٠ ، وفي تاريخ ابن عساكر ح ٧١٦ بايجاز ، والطبري ط. اوربا ٢ / ٣٣٨.

١٢٧

زحف جيش الخلافة على معسكر الحسين (ع)

وروى الطبري عن حميد بن مسلم ، قال : وزحف عمر بن سعد نحوهم ثمّ نادى يا ذويد (١)! ادن رايتك ، قال : فادناها ثمّ وضع سهما في كبد قوسه ثمّ رمى فقال : اشهدوا أنّي أوّل من رمى.

وفي رواية المقريزي : اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى.

قال الطبري والمفيد : ثمّ ارتمى الناس وتبارزوا ، فبرز يسار مولى زياد وسالم مولى عبيد الله بن زياد فقالا : من يبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم قال : فوثب حبيب بن مظاهر وبرير بن حضير فقال لهما حسين اجلسا ، فقام عبد الله ابن عمير الكلبي من بني عليم وكان قد خرج مع امرأته أمّ وهب لما رأى القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا إلى الحسين فسأل عنهم فقيل له: يسرحون إلى حسين بن فاطمة بنت رسول الله (ص) فقال : والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصا ، وانّي لأرجو ألا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيّهم أيسر ثوابا عند الله من ثوابه ايّاي في جهاد المشركين ، فدخل إلى امرأته فأخبرها بما سمع وأعلمها بما يريد ، فقالت : أصبت ، أصاب الله بك أرشد

__________________

(١) ورد في نسخة «زويد» وفي أخرى «دويد».

١٢٨

امورك افعل وأخرجني معك ، قال : فخرج بها ليلا ، حتّى أتى حسينا فأقام معه ، فلمّا برز يسار وسالم قام عبد الله بن عمير الكلبيّ فقال : أبا عبد الله! رحمك الله! ائذن لي فلأخرج إليهما فرأى حسين رجلا آدم طويلا شديد الساعدين بعيد ما بين المنكبين ، فقال حسين : انّي لأحسبه للأقران قتّالا اخرج ان شئت ، قال : فخرج إليهما فقالا له : من أنت؟ فانتسب لهما ، فقالا : لا نعرفك ، ليخرج إليها زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر أو برير بن حضير ويسار مستنتل (١) أمام سالم فقال له الكلبيّ : يا ابن الزانية! وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس ، ويخرج إليك أحد من الناس ، الّا وهو خير منك؟ ثم شدّ عليه فضربه بسيفه حتى برد ، فإنّه لمشتغل به يضربه بسيفه إذ شدّ عليه سالم فصاح به : قد رهقك العبد ، قال : فلم يأبه له حتى غشيه فبدره الضربة فاتّقاه الكلبيّ بيده اليسرى فأطار أصابع كفّه اليسرى ، ثم مال عليه الكلبيّ ، فضربه حتى قتله ، وأقبل الكلبيّ مرتجزا وهو يقول وقد قتلهما جميعا :

ان تنكروني فأنا ابن كلب

حسبي ببيتي في عليم حسبي

إنّي امرؤ ذو مرّة وعصب

ولست بالخوّار عند النكب

انّي زعيم لك أمّ وهب

بالطعن فيهم مقدما والضرب

ضرب غلام مؤمن بالرّب

فأخذت أمّ وهب امرأته عمودا ثم اقبلت نحو زوجها تقول له : فداك أبي وأمّي قاتل دون الطيّبين ذريّة محمّد ، فأقبل إليها يردّها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه ثم قالت : إنّي لن أدعك دون أن أموت معك ، فناداها حسين فقال : جزيتم من أهل بيت خيرا ، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهنّ ، فانّه ليس على النساء قتال ، فانصرفت إليهنّ.

__________________

(١) مستنتل : اي متقدم أمام الصف.

١٢٩

زحف الميمنة واستمداد قائد الفرسان :

قال وحمل عمرو بن الحجّاج وهو على ميمنة الناس في الميمنة ، فلمّا ان دنا من حسين ، جثوا له على الركب ، واشرعوا الرماح نحوهم ، فلم تقدم خيلهم على الرماح فذهبت الخيل لترجع ، فرشقهم أصحاب الحسين بالنبل ، فصرعوا منهم رجالا ، وجرحوا منهم آخرين.

قال : وقاتلهم أصحاب الحسين قتالا شديدا وأخذت خيلهم تحمل وإنّما هم اثنان وثلثون فارسا ، وأخذت لا تحمل على جانب من خيل أهل الكوفة إلّا كشفته ، فلمّا رأى ذلك عزرة بن قيس وهو على خيل أهل الكوفة انّ خيله تنكشف من كلّ جانب بعث إلى عمر بن سعد ، عبد الرحمن بن حصن ، فقال : أما ترى ما تلقى خيلي مذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة؟ ابعث إليهم الرجال والرماة ، فقال لشبث بن ربعيّ : الا تقدم إليهم ، فقال : سبحان الله أتعمد إلى شيخ مصر وأهل المصر عامّة ، تبعثه في الرماة لم تجد من تندب لهذا ويجزي عنك غيري؟! قال : وما زالوا يرون من شبث الكراهة لقتاله ، قال : وقال أبو زهير العبسيّ : فانا سمعته في إمارة مصعب يقول : لا يعطي الله أهل هذا المصر خيرا أبدا! ولا يسدّدهم لرشد ، ألا تعجبون انّا قاتلنا مع عليّ بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين ، ثم عدونا على ابنه وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية ، وابن سميّة الزانية! ضلال يا لك من ضلال. قال : ودعا عمر بن سعد الحصين بن تميم فبعث معه المجفّفة وخمس مائة من المرامية فأقبلوا حتى إذا دنوا من الحسين وأصحابه ، رشقوهم بالنبل فلم يلبثوا ان عقروا خيولهم ، وصاروا رجالة كلّهم.

١٣٠

قال : وكان أيّوب بن مشرح الخيواني يقول : انا والله عقرت بالحرّ بن يزيد فرسه حشأته سهما فما لبث ان أرعد الفرس واضطرب وكبا ، فوثب عنه الحرّ كأنّه ليث والسيف في يده وهو يقول :

ان تعقروا بي ، فأنا ابن الحرّ

أشجع من ذي لبد هزبر

قال : فما رأيت أحدا قطّ يفري فريه ، قال : فقال له أشياخ من الحيّ : أنت قتلته ، قال : لا والله ما أنا قتلته ، ولكن قتله غيري وما أحبّ انّي قتلته ، فقال له أبو الودّاك : ولم؟! قال : انه كان زعموا من الصالحين فو الله لئن كان ذلك اثما لأن القى الله بإثم الجراحة والموقف أحبّ إليّ من ألقاه بإثم قتل أحد منهم ، فقال له أبو الودّاك : ما أراك إلّا ستلقى الله باثم قتلهم أجمعين ، أرأيت لو أنّك رميت ذا فعقرت ذا ، ورميت آخر ووقفت موقفا وكررت عليهم وحرّضت أصحابك وكثرت أصحابك ، وحمل عليك فكرهت أن تفرّ ، وفعل آخر من أصحابك كفعلك وآخر وآخر ، كان هذا وأصحابه يقتلون. أنتم شركاء كلّكم في دمائهم! فقال له : يا أبا الودّاك! انّك لتقنّطنا من رحمة الله ؛ ان كنت وليّ حسابنا يوم القيامة فلا غفر الله لك ان غفرت لنا. قال هو ما أقول لك.

زحف الميسرة ومقتل الكلبي وزوجته :

قال : وحمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة على أهل الميسرة فثبتوا له ، فطاعنوه وأصحابه ، وحمل على حسين وأصحابه من كلّ جانب ، فقتل الكلبيّ وقد قتل رجلين بعد الرجلين الأوّلين ، وقاتل قتالا شديدا فحمل عليه هاني بن ثبيت الحضرمي ، وبكير بن حييّ التيميّ من تيم الله بن ثعلبة ، فقتلاه وكان القتيل الثاني من أصحاب الحسين.

قال : وخرجت امرأة الكلبي تمشي إلى زوجها حتى جلست عند رأسه

١٣١

تمسح عنه التراب وتقول : هنيئا لك الجنة. فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام يسمّى رستم : اضرب رأسها بالعمود ، فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانها.

زحف الميمنة ومقتل مسلم بن عوسجة :

قال : ثمّ انّ عمرو بن الحجّاج حمل على الحسين في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أوّل أصحاب الحسين ، ثم انصرف عمرو بن الحجّاج وأصحابه وارتفعت الغبرة فإذا هم به صريع ، فمشى إليه الحسين فإذا به رمق ، فقال رحمك ربك يا مسلم بن عوسجة ، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا ، ودنا منه حبيب بن مظاهر ، فقال : عزّ عليّ مصرعك يا مسلم أبشر بالجنّة. فقال له مسلم قولا ضعيفا : بشّرك الله بخير ، فقال له حبيب : لو لا انّي أعلم انّي في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكلّ ما أهمّك حتى أحفظك في كلّ ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين ، قال : بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله ، وأهوى بيده إلى الحسين ، أن تموت دونه! قال : أفعل وربّ الكعبة ، قال : فما كان بأسرع من ان مات في أيديهم وصاحت جارية له فقالت : يا ابن عوسجتاه! يا سيّداه! فتنادى أصحاب عمرو بن الحجّاج : قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي.

فقال شبث لبعض من حوله من أصحابه : ثكلتكم أمّهاتكم ، انّما تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتذلّلون أنفسكم لغيركم ، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة! أما والذي أسلمت له لربّ موقف له قد رأيته في المسلمين كريم ، لقد رأيته يوم سلق آذربيجان قتل ستّة من المشركين قبل تتامّ خيول المسلمين! أفيقتل منكم مثله وتفرحون؟!

قال : وكان الذي قتل مسلم بن عوسجة مسلم بن عبد الله الضبابيّ

١٣٢

وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجليّ.

يزيد بن زياد يرمي بين يدي الحسين (ع):

قال الطبري : وكان أبو الشعثاء يزيد بن زياد بن المهاصر من بني بهدلة خرج مع عمر بن سعد إلى الحسين ، فلمّا ردّوا الشروط على الحسين مال إليه وقاتل معه ، جثا على ركبتيه بين يدي الحسين فرمى بمائة سهم ما سقط منها إلّا خمسة أسهم ، وكان راميا فكان كلّما رمى قال انا ابن بهدلة فرسان العرجلة ؛ ويقول حسين : اللهم سدّد رميته واجعل ثوابه الجنّة. فلمّا رمى بها قام فقال : ما سقط منها إلّا خمسة أسهم ولقد تبيّن لي أنّي قتلت خمسة نفر وكان في أوّل من قتل وكان رجزه يومئذ :

أنا يزيد وأبي مهاصر

أشجع من ليث بغيل خادر

يا ربّ إنّي للحسين ناصر

ولابن سعد تارك وهاجر

أربعة استشهدوا في مكان واحد :

قال الطبري : وبرز عمر بن خالد وجابر بن الحارث السلماني ، وسعد مولى عمر بن خالد ، ومجمّع بن عبد الله العائذي فشدّوا مقدمين بأسيافهم على الناس وقاتلوا فلمّا وغلوا ؛ عطف عليهم الناس ، فأخذوا يحوزونهم ، وقطعوهم من أصحابهم غير بعيد ، فحمل عليهم العبّاس بن عليّ فاستنقذهم ، فجاءوا قد جرحوا فلمّا دنا منهم عدوّهم ، شدّوا بأسيافهم فقاتلوا في أوّل الأمر حتى قتلوا في مكان واحد.

مقتل برير :

وروى الطبري عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس وكان قد شهد مقتل الحسين ، قال: خرج يزيد بن معقل من بني عميرة بن ربيعة ، وهو حليف لبني سليمة من عبد القيس ، فقال : يا برير بن حضير! كيف ترى الله صنع

١٣٣

بك؟ قال : صنع الله والله بي خيرا ، وصنع الله بك شرا. قال : كذبت! وقبل اليوم ما كنت كذّابا! هل تذكر وانا أماشيك في بني لوذان ، وأنت تقول : إن عثمان بن عفّان كان على نفسه مسرفا وإن معاوية بن أبي سفيان ضالّ ، مضلّ ، وإنّ امام الهدى والحقّ عليّ بن أبي طالب؟ فقال له برير : أشهد انّ هذا رأيي وقولي ، فقال له يزيد بن معقل : فانّي أشهد انّك من الضالّين! فقال له برير بن حضير : هل لك فلأباهلك ولندع الله أن يلعن الكاذب وان يقتل المبطل ، ثم اخرج ، فلأبارزك؟

قال : فخرجا فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب ، وان يقتل المحقّ المبطل ، ثم برز كلّ واحد منهما لصاحبه ، فاختلفا ضربتين فضرب يزيد ابن معقل برير بن حضير ضربة خفيفة لم تضرّه شيئا ، وضربه برير بن حضير ضربة قدّت المغفر وبلغت الدماغ ، فخرّ كأنّما هوى من حالق ، وإن سيف ابن حضير لثابت في رأسه فكأنّي انظر إليه ينضنضه من رأسه ، وحمل عليه رضيّ ابن منقذ العبديّ ، فاعتنق بريرا فاعتركا ساعة ، ثمّ انّ بريرا قعد على صدره فقال رضيّ : أين أهل المصاع والدفاع؟!

قال فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزديّ ليحمل عليه ، فقلت : انّ هذا برير بن حضير القارئ الذي كان يقرئنا القرآن في المسجد! فحمل عليه بالرمح حتى وضعه في ظهره ، فلمّا وجد مسّ الرمح ، برك عليه ، فعضّ بوجهه ، وقطع طرف أنفه فطعنه كعب بن جابر حتّى القاه عنه ، وقد غيّب السنان في ظهره ، ثم أقبل عليه يضربه بسيفه حتّى قتله.

قال عفيف : كأنّي أنظر إلى العبديّ الصريع ، قام ينفض التراب عن قبائه ، ويقول : أنعمت عليّ يا أخا الأزد نعمة لن أنساها أبدا.

قال : فقلت أنت رأيت هذا؟ قال : نعم رأي عيني وسمع أذني ، فلمّا رجع كعب بن جابر قالت له امرأته ، أو اخته النّوار بنت جابر : أعنت على ابن

١٣٤

فاطمة! وقتلت سيّد القرّاء! لقد أتيت عظيما من الأمر ، والله لا اكلّمك من رأسي كلمة أبدا. وقال كعب بن جابر :

سلي تخبري عنّي وأنت ذميمة

غداة حسين والرماح شوارع

ألم آت أقصى ما كرهت ولم يخل

عليّ غداة الروع ما أنا صانع

معي يزنيّ لم تخنه كعوبه

وأبيض مخشوب الغرارين قاطع

فجردته في عصبة ليس دينهم

بديني وانّي بابن حرب لقانع

ولم تر عيني مثلهم في زمانهم

ولا قبلهم في الناس إذ أنا يافع

أشدّ قراعا بالسيوف لدى الوغى

ألا كلّ من يحمي الذمار مقارع

وقد صبروا للطعن والضرب حسّرا

وقد نازلوا لو أن ذلك نافع

فأبلغ عبيد الله امّا لقيته

بأنّي مطيع للخليفة سامع

قتلت بريرا ثمّ حملت نعمة

أبا منقذ لمّا دعا من يماصع

وروى عن عبد الرحمن بن جندب قال : سمعته في إمارة مصعب بن الزبير وهو يقول : يا ربّ إنّا قد وفينا فلا تجعلنا يا ربّ كمن قد غدر! فقال له أبي : صدق ولقد وفي وكرم وكسبت لنفسك شرّا ، قال : كلّا انّي لم أكسب لنفسي شرّا ولكني كسبت لها خيرا ، قال : وزعموا ان رضيّ بن منقذ العبديّ ردّ بعد على كعب بن جابر جواب قوله فقال :

لو شاء ربّي ما شهدت قتالهم

ولا جعل النعماء عندي ابن جابر

لقد كان ذاك اليوم عارا وسبّة

يعيّره الأبناء بعد المعاشر

فيا ليت أنّي كنت من قبل قتله

ويوم حسين كنت في رمس قابر

عمرو بن قرظة الأنصاري :

قال : وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري يقاتل دون حسين ، وهو يقول :

قد علمت كتيبة الأنصار

أنّي سأحمي حوزة الذمار

ضرب غلام غير نكش شاري

دون حسين مهجتي وداري

١٣٥

فقتل عمرو بن قرظة بن كعب وكان مع الحسين وكان عليّ أخوه مع عمر بن سعد فنادى عليّ بن قرظة يا حسين! يا كذّاب ابن الكذّاب! أضللت أخي وغررته حتّى قتلته! قال : انّ الله لم يضلّ أخاك ولكنّه هدى أخاك وأضلّك! قال : قتلني الله ان لم أقتلك! أو أموت دونك! فحمل عليه فاعترضه نافع بن هلال المراديّ فطعنه فصرعه ، فحمله أصحابه ، فاستنقذوه فدووي بعد فبرأ.

مبارزة يزيد بن سفيان والحر :

وروى عن أبي زهير العبسيّ ان الحرّ بن يزيد لمّا لحق بحسين قال يزيد بن سفيان من بني شقرة وهم بنو الحارث بن تميم : أما والله لو انّي رأيت الحرّ بن يزيد حين خرج لأتبعته السنان ، قال : فبينا الناس يتجاولون ويقتتلون والحرّ بن يزيد يحمل على القوم مقدما ويتمثّل قول عنترة :

ما زلت أرميهم بثغرة نحره

ولبانه حتّى تسربل بالدمّ

وإن فرسه لمضروب على اذنيه وحاجبه وإن دماءه لتسيل ، فقال الحصين بن تميم ـ وكان على شرطة عبيد الله ـ ليزيد بن سفيان : هذا الحرّ بن يزيد الذي كنت تتمنّى قال : نعم ، فخرج إليه فقال له : هل لك يا حرّ بن يزيد في المبارزة؟! قال : نعم ، قد شئت ، فبرز له قال : فأنا سمعت الحصين بن تميم يقول : والله لبرز له فكأنّما كانت نفسه في يده فما لبثه الحرّ حين خرج إليه ان قتله.

قال : وقاتلوهم حتى انتصف النهار أشدّ قتال خلقه الله وأخذوا لا يقدرون على أن يأتوهم إلّا من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض. قال فلمّا رأى ذلك عمر بن سعد أرسل رجالا يقوّضونها عن ايمانهم وعن شمائلهم ليحيطوا بهم قال فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخلّلون البيوت فيشدّون على الرجل وهو يقوّض وينتهب فيقتلونه ويرمونه من

١٣٦

قريب ويعقرونه.

إحراق الخيام :

قال : فأمر بها (أي الخيام) عمر بن سعد عند ذلك فقال احرقوها بالنار ، ولا تدخلوا بيتا ولا تقوّضوه ، فجاءوا بالنار فأخذوا يحرّقون ، فقال حسين : دعوهم فليحرّقوها ، فانهم لو قد حرّقوها لم يستطيعوا أن يجوزا إليكم منها ، وكان ذلك كذلك ، وأخذوا لا يقاتلونهم إلّا من وجه واحد.

قال : وحمل شمر بن ذي الجوشن حتى طعن فسطاط الحسين برمحه ونادى : عليّ بالنار حتى احرق هذا البيت على أهله ، قال : فصاح النساء وخرجن من الفسطاط ، قال : وصاح به الحسين يا ابن ذي الجوشن! أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي! حرّقك الله بالنار.

وروى عن حميد بن مسلم قال : قلت لشمر بن ذي الجوشن : سبحان الله! انّ هذا لا يصلح لك ، أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين تعذّب بعذاب الله ، وتقتل الولدان والنساء ، والله انّ في قتلك الرجال لما ترضي به أميرك. قال : فقال : من أنت؟! قال : قلت : لا اخبرك من أنا ، قال : وخشيت والله ان لو عرفني أن يضرّني عند السلطان! قال : فجاءه رجل كان أطوع له منّي ، شبث بن ربعي ، فقال : ما رأيت مقالا أسوأ من قولك ، ولا موقفا أقبح من موقفك! أمرعبا للنساء صرت! قال : فأشهد انه استحيا فذهب لينصرف ، وحمل عليه زهير بن القين في رجال من أصحابه عشرة فشدّ على شمر بن ذي الجوشن وأصحابه فكشفهم عن البيوت حتى ارتفعوا عنها ، فصرعوا أبا عزّة الضبابيّ ، فقتلوه فكان من أصحاب شمر ، وتعطف الناس عليهم فكثروهم فلا يزال الرجل من أصحاب الحسين قد قتل ، فإذا قتل منهم الرجل والرجلان تبيّن فيهم ، واولئك كثير لا يتبين فيهم ما يقتل منهم.

١٣٧

صلاة الخوف :

قال : فلمّا رأى ذلك أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائديّ قال للحسين : يا أبا عبد الله! نفسي لك الفداء ، انّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تقتل حتّى أقتل دونك ان شاء الله ، وأحبّ أن القى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها. قال : فرفع الحسين رأسه ، ثم قال : ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين الذاكرين! نعم ، هذا أوّل وقتها ، ثم قال : سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّي. فقال لهم الحصين بن تميم : انّها لا تقبل! فقال له حبيب بن مظاهر : لا تقبل! زعمت الصلاة من آل رسول الله (ص) لا تقبل ، وتقبل منك يا حمار! قال : فحمل عليهم حصين بن تميم ، وخرج إليه حبيب بن مظاهر ، فضرب وجه فرسه بالسيف ، فشبّ ووقع عنه ، وحمله أصحابه ، واستنقذوه.

مقتل حبيب بن مظاهر :

وحمل حبيب وهو يقول :

أقسم لو كنّا لكم أعدادا

أو شطركم وليتم أكتادا(١)

 يا شرّ قوم حسبا وآدا

وجعل يقول يومئذ :

أنا حبيب وأبي مظاهر

فارس هيجاء وحرب تسعر

أنتم أعدّ عدّة وأكثر

ونحن أوفى منكم وأصبر

ونحن أعلى حجّة وأظهر

حقّا وأتقى منكم وأعذر

وقاتل قتالا شديدا فحمل عليه رجل من بني تميم فطعنه فوقع ، فذهب

__________________

(١) أكتادا : أي جماعات.

١٣٨

ليقوم فضربه الحسين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع ، ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه فقال له الحصين : انّي لشريكك في قتله ، فقال الآخر : والله ما قتله غيري ، فقال الحصين : أعطنيه أعلّقه في عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أنّي شركت في قتله ثمّ خذه أنت بعد فامض به إلى عبيد الله بن زياد ، فلا حاجة لي في ما تعطاه على قتلك ايّاه ، قال : فأبى عليه فاصلح قومه فيما بينهما على هذا ، فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر فجال به في العسكر قد علّقه في عنق فرسه ثم دفعه إليه بعد ذلك ، فلمّا رجعوا إلى الكوفة ، أخذ الآخر رأس حبيب فعلّقه في لبان فرسه ، ثمّ أقبل به إلى ابن زياد في القصر ، فبصر به ابنه القاسم بن حبيب وهو يومئذ قد راهق ، فاقبل مع الفارس لا يفارقه ، كلّما دخل القصر دخل معه وإذا خرج خرج معه ، فارتاب به فقال : ما لك يا بنيّ تتبعني؟ قال : لا شيء ، قال : بلى يا بنيّ أخبرني ، قال له : انّ هذا الرأس الذي معك رأس أبي أفتعطينيه حتى أدفنه. قال يا بنيّ لا يرضى الامير أن يدفن ، وأنا أريد أن يثيبني الأمير على قتله ثوابا حسنا ، قال له الغلام : لكنّ الله لا يثيبك على ذلك إلّا أسوأ الثواب ، أما والله لقد قتلت خيرا منك وبكى ، فمكث الغلام حتّى إذا أدرك لم يكن له همّة إلّا اتّباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرّة فيقتله بأبيه ، فلمّا كان زمان مصعب بن الزبير ، وغزا مصعب باجميرا ؛ دخل عسكر مصعب ، فإذا قاتل أبيه في فسطاطه ، فأقبل في طلبه والتماس غرّته ، فدخل عليه وهو قائل نصف النهار فضربه بسيفه حتى برد.

ولمّا قتل حبيب بن مظاهر ، هدّ ذلك حسينا ، وقال : عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي ، قال فأخذ الحرّ يرتجز ويقول :

آليت لا أقتل حتى أقتلا

ولن أصاب اليوم إلّا مقبلا

أضربهم بالسيف ضربا مقصلا

لا ناكلا عنهم ولا مهلّلا

وأخذ يقول أيضا :

١٣٩

أضرب في أعراضهم بالسيف

عن خير من حلّ منى والخيف

فقاتل هو وزهير بن القين قتالا شديدا فكان إذا شدّ أحدهما فان استلحم شدّ الآخر حتى يخلّصه ، ففعلا ذلك ساعة ، ثم انّ رجّالة شدّت على الحرّ بن يزيد فقتل ، وقتل أبو ثمامة الصائدي ابن عمّ له كان عدوا له ، ثم صلّوا الظهر ، صلى بهم الحسين صلاة الخوف.

سعيد الحنفي :

ثم اقتتلوا بعد الظهر فاشتدّ قتالهم ووصل إلى الحسين فاستقدم الحنفي أمامه فاستهدف لهم يرمونه بالنبل يمينا وشمالا قائما بين يديه ، فما زال يرمى حتى سقط. وذكر الخوارزمي أنّه كان يرتجز ويقول :

أقدم حسين اليوم تلقى أحمدا

وشيخك الخير عليا ذا الندى

وحسنا كالبدر وافى الأسعدا

وعمّك القرم الهجان الاصيدا

وحمزة ليث الإله الأسدا

في جنّة الفردوس تعلو صعدا (١)

زهير بن القين :

وقاتل زهير بن القين قتالا شديدا وأخذ يقول :

أنا زهير وأنا ابن القين

أذودهم بالسيف عن حسين

قال : وأخذ يضرب على منكب حسين ويقول :

أقدم هديت هاديا مهديّا

فاليوم تلقى جدّك النبيّا

وحسنا والمرتضى عليا

وذا الجناحين الفتى الكميّا

وأسد الله الشهيد الحيّا

فشدّ عليه كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه.

__________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢ / ٢٠.

١٤٠