معالم المدرستين - ج ٣

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ٣

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤١

 

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(فَبَشِّرْ عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ).

الزمر / ١٧ ـ ١٨

٥
٦

البحث الرابع

قيام الإمام الحسين (ع) ضدّ الانحراف

عن سنّة رسول الله (ص) بسبب الاجتهاد والعمل بالرأي

المدخل : حال المسلمين قبل قيام الإمام الحسين (ع).

الفصل الأول : استشهاد الإمام الحسين (ع) أيقظ الأمة من سباتها العميق.

الفصل الثاني : ثورات أهل الحرمين وغيرهم بعد استشهاد الإمام الحسين (ع).

٧
٨

المدخل

حال المسلمين قبل قيام الامام الحسين (ع)

٩
١٠

ذكرنا في ما سبق كيف اجتهد الخلفاء بعد رسول الله في أحكام الإسلام حكما بعد حكم بما رأوا فيه مصلحة عامّة أو مصلحة خاصّة ممّا حفلت بذكره كتب الخلاف وأوردنا بعضها في ما سبق ، وإلى جانب ذلك وجّه المسلمون توجيها خاصّا إلى تقديس مقام الخليفتين أبي بكر وعمر خاصة بحيث أصبح مستساغا لدى عامّتهم أن يشترط في البيعة بعد الخليفة عمر : العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الشيخين ، وبذلك أقرّ المسلمون أن تكون سيرة الشيخين في عداد كتاب الله وسنة نبيّه ، مصدرا للتشريع في المجتمع الإسلامي ، واستمرّ الأمر كذلك حتى إذا جاء إلى الحكم الإمام علي (ع) بقوة الجماهير بعد عثمان ، لم يستطع أيضا أن يعيد إلى المجتمع الأحكام الإسلامية الّتي اجتهد فيها الخلفاء ، وتعالت صيحات : وا سنّة عمراه ، من جيشه عند ما نهاهم عن إقامة صلاة النافلة جماعة في شهر رمضان ، ولم يرضوا بسنّة الرسول بديلا عن سنّة عمر في هذا الحكم ، ذلك لأن الجماهير المسلمة عند ما بايعته لم تكن تدرك أنّه مخالف في اتّجاهه في الحكم سيرة الشيخين ، وهذا ما كان يحاول معاوية جاهدا أن ينبّه الجماهير الإسلاميّة إليه ليثوروا عليه.

١١

والإمام إن لم يستطع أن يعيد إلى المجتمع الأحكام الإسلاميّة الّتي جاء بها الرسول بديلا عن اجتهادات الخلفاء ، فقد استطاع هو وثلّة من صحبه أن ينشروا بين المسلمين من حديث الرسول ما كان محظورا نشره قبل ذاك. فأنتجت هذه النهضة من الإمام عليّ وجماعته في نشر الحديث المحظور عن الرسول ، تيّارا فكريا مخالفا لما ألفه المسلمون زهاء خمس وعشرين سنة مدّة حكومة الخلفاء الثلاثة قبله ، وهذا ما أشار إليه سليم بن قيس حين قال لأمير المؤمنين :

«إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبيّ الله (ص) أنتم تخالفونهم فيها ، وتزعمون أن ذلك كلّه باطل ، أفترى الناس يكذبون على رسول الله متعمّدين ويفسّرون القرآن برأيهم ...؟».

كان ما سمعه سليم من سلمان وأبي ذر والمقداد وليس غيرهم قبل هذا ، بتكتّم ، وائتمان على سرّ ، ثمّ سمعه بعد ذلك من أمير المؤمنين وصحبه جهارا وفي غير سرّ من قبل مناشدة أمير المؤمنين الركبان في رحبة مسجد الكوفة : من سمع النبيّ يقول في غدير خم : (من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه) فليشهد. فقام اثنا عشر بدريا وشهدوا بذلك ، وما كشفه عن واقع الأمر في خطبته الشقشقية حين قال :

«أما والله لقد تقمّصها فلان ـ ابن أبي قحافة ـ وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ، ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهبا حتّى مضى الأول لسبيله

١٢

فأدلى إلى فلان بعده.

شتّان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر

فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ، فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها ، ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصّعبة ؛ إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمني النّاس ـ لعمر الله ـ بخبط وشماس وتلوّن واعتراض ؛ فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة ؛ حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم ، فيا لله وللشورى! متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت أقرن إلى هذه النظائر!! لكنّي أسففت إذ أسفّوا ، وطرت إذ طاروا ؛ فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الرّبيع ، إلى أن انتكث فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته ، فما راعني إلّا والنّاس كعرف الضّبع إليّ ينثالون عليّ من كلّ جانب ؛ حتّى لقد وطئ الحسنان ، وشقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم. فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون ... الخطبة (١).

ومثل قوله : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله (ص) متعمّدين لخلافه ، ناقضين لعهده مغيّرين لسنّته ، ولو حملت الناس على تركها ، وحوّلتها إلى مواضعها ، وإلى ما كانت عليه في عهد رسول الله (ص) ، لتفرّق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي ، أو قليل من شيعتي الّذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزوجل وسنّة رسول الله (ص)

__________________

(١) روضة الكافي ، ص ٥٩ ، ط. الثانية سنة ١٣٨٩ ه‍ ، دار الكتب الإسلامية بطهران.

١٣

انقسام الأمة إلى قسمين

تلكم التظاهرة الضخمة في الأقوال أدّت إلى انقسام الأمة إلى قسمين ، وذلك أنّ الناس مدى الدهر ينقسمون إلى قسمين :

١ ـ همج رعاع ، أتباع كلّ ناعق ، يميلون مع كلّ ريح. كما وصفهم الإمام علي(ع)(١)

٢ ـ وقسم آخر يتحرّكون ، واعين لتحرّكهم. هادفين. وينظر في تقويم أفعال الناس في المجتمع وتعليلها إلى الواعين الهادفين. والواعون الهادفون في المجتمع يوم ذاك انقسموا على أثر تلك التظاهرة إلى قسمين :

أ ـ محبّ لأهل البيت ، موال لهم ، مقرّ بفضلهم.

ب ـ مستنكر للاستهانة بمقام الشيخين ، مستهزئ بأقوال الإمام ، يزداد حقدهم له يوما بعد يوم ، وكان جلّ هؤلاء الحاقدين على الإمام ممّن ثار قبل ذلك على عثمان حتّى قتلوه. وهؤلاء هم الخوارج الذين رفعوا شعار : «لا حكم إلّا لله» وأشرب في قلوبهم حبّ الشيخين ، والسخط على عائشة ، وطلحة والزبير ، وعثمان ، وعليّ. وخرج هؤلاء على الإمام فقاتلهم في النهروان ولم يقض عليهم ، فأردوه قتيلا في محرابه ، واستولى على الحكم معاوية بعده ، فبذل جهده في عشرين سنة ـ مدّة حكمه ـ في توجيه الأمة توجيها تساير فيه هواه ، وتسير طائعة راغبة إلى ما يشتهيه.

وكان معاوية ـ بالإضافة إلى ذلك ـ يغيظه انتشار ذكر بني هاشم أعداء أسرته التقليديين عامّة ، وخاصّة ذكر الرسول وابن عمّه الإمام عليّ ، وذلك

__________________

(١) ترجمة الإمام علي بتاريخ دمشق لابن عساكر ، ط. الاولى سنة ١٩٣٥ ه‍ بمطبعة العاملية ٢ / ٢٨٥ الأحاديث ٥٠١ ـ ٥٢٨ خاصة رقم ٥٢١ ـ ٥٢٢.

١٤

لانتشار ذكرهما بين المسلمين انتشارا هائلا (١) في مقابل خمول ذكر بني أبيه أمثال عتبة ، وشيبة ، وأبي سفيان ، والحكم بن أبي العاص أوّلا ، وثانيا لما يناقض انتشار ذكر الرسول وابن عمه ما يتوخاه من تركيز الخلافة لنفسه ، وتوريثه لعقبه ، إذ بانتشار ذكرهما تتّجه أنظار المسلمين إلى شبليهما الحسن والحسين ، لهذا كلّه جدّ معاوية في إطفاء نورهم عامّة ، وذكر الرسول وابن عمّه خاصة فقدّر لهذا ودبّر ما يلي :

أ ـ رفع ذكر الخليفتين أبي بكر وعمر ، وألحق بهما أخيرا ابن عمّه عثمان ثالث الخلفاء (٢).

ب ـ عمل سرّا على تحطيم شخصية الرسول في نفوس المسلمين ، وجهارا لتحطيم شخصية ابن عمّه.

وللوصول إلى هذين الهدفين ، دفع قوما من الصحابة والتابعين ليضعوا أحاديث في ما يرفع ذكر الخلفاء ، ويضع من كرامة الرسول وابن عمّه ، وصرف حوله وطوله في إنجاح هذا التدبير ، وكتم أنفاس من خالفه في ذلك من أولياء علي وأهل بيته وقتلهم شرّ قتلة ، صلبا على جذوع النخل ، وتمثيلا بهم ، ودفنهم أحياء.

فنجح في ما دبّر نجاحا منقطع النظير حين انتشرت بين الأمة على أثر ذلك أحاديث تروى عن رسول الله (ص) انّه قال في مناجاته لربّه : إنّي بشر أغضب كما يغضب البشر فأيّما مؤمن لعنته أو سببته ، فاجعلها له صلاة وزكاة

__________________

(١) اما انتشار ذكر الرسول فواضح ، وأما اسم علي فمن مواقفه في بدر وأحد والخندق وخيبر ، ومن أحاديث الرسول في شأنه في تلك المواقف وفي تبوك والغدير ، وعمل الرسول في المباهلة ، وعند نزول آية التطهير ، وآيات صدر سورة براءة. من كل ذلك ونظائره انتشر له ذكر جميل ، وسعى معاوية لاخفاء معالمه.

(٢) راجع قبله الفصل الثاني من الباب الثاني من هذا الكتاب ، باب «على عهد معاوية».

١٥

وقربة تقرّبه بها إليك يوم القيامة. وفي رواية «طهورا : أجرا» (١).

وانّه قال : «أنتم أعلم بأمر دنياكم» أو قال : «وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنّما أنا بشر» ، وإنّه قال ذلك عند ما نهاهم عن تأبير النخل وفسد تمرهم (٢) ، أو انّه رفع زوجته عائشة لتنظر إلى رقص الحبشة بمسجده (٣) ، أو انّه أقيم مجلس الغناء في داره (٤).

هذه الأحاديث إلى عشرات غيرها ، نراها قد وضعت بإمعان في عصر معاوية (٥) وامتد أثرها على مدرسة الخلفاء إلى يومنا الحاضر ، وانّها هي الّتي جعلت طائفة من المسلمين لا ترى لرسول الله القدرة على اتيان المعجزات ، ولا الشفاعة ، ولا حرمة لقبره ، ولا ميزة له بعد موته.

أمّا الإمام عليّ (ع) فقد نجح معاوية في تحطيم شخصيته في المجتمع

__________________

(١) صحيح مسلم باب «من لعنه النبي (ص) أو سبه ... كان له زكاة وأجرا ورحمة» من كتاب البر ، ح ٨٨ ـ ٩٧ ، وسنن أبي داود ، كتاب السنة ، الباب ١٢ وسنن الدارمي ، الرقاق ٥٢ ، ومسند أحمد ٢ / ٣١٧ و ٣٩٠ و ٤٤٩ و ٤٤٨ و ٤٩٣ و ٤٩٦ و ٣ / ٣٣ و ٣٩١ و ٤٠٠ و ٥ / ٤٣٧ و ٤٣٩ و ٦ / ٤٥.

(٢) صحيح مسلم ، باب «وجوب امتثال ما قاله شرعا ، دون ما ذكره (ص) من معايش الدنيا على سبيل الرأي» من كتاب الفضائل ح ١٣٩ ـ ١٤١ ، وابن ماجة ، باب تلقيح النخل ، ومسند أحمد ١ / ١٦٢ و ٣ / ١٥٢.

(٣) صحيح البخاري ، كتاب الصلاة ، باب أصحاب الحراب في المسجد ، وكتاب العيدين ، باب ٢٥ ، وكتاب الجهاد ، باب ٧٩. وكتاب النكاح : باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة ، وباب حسن المعاشرة مع الأهل ، وكتاب المناقب ، باب قصة الحبش.

وصحيح مسلم ، كتاب صلاة العيدين : باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه ، وكتاب المساجد ١٨ ، والنسائي ٣٤ و ٣٥ ، ومسند أحمد ٢ / ٣٦٨ و ٦ / ٥٦ و ٨٣ و ٨٤ و ٨٥ و ١٦٦ و ١٨٦.

(٤) صحيح البخاري «كتاب فضائل النبي» باب مقدم أصحاب النبي المدينة ، وكتاب العيدين : باب سنة العيدين لاهل الإسلام ، وباب إذا فاته العيد يصلي ركعتين ، وباب الحراب والدرق ، وكتاب مناقب الانصار / ٤٦ ، وصحيح مسلم ، باب اللعب الذي لا معصية فيه ، وكتاب العيدين / ١٦ ، وسنن ابن ماجة ، تصحيح محمد فؤاد عبد الباقي ، كتاب النكاح ، باب الغناء والدف ، ص ٦١٢ ، رقم الحديث ١٨٩٨ ، ومسند أحمد ٦ / ١٣٤.

(٥) راجع فصل «مع معاوية» من كتاب «أحاديث أم المؤمنين عائشة» للمؤلف.

١٦

الإسلامي يوم ذاك إلى حدّ أن المسلمين واصلوا لعنه فوق جميع منابرهم في شرق الأرض وغربها ، خاصّة في خطبة الجمعة كفريضة من فرائض صلاة الجمعة زهاء ألف شهر مدّة حكم آل أميّة ، وإلى جانب ذلك نجح معاوية في رفع مقام الخلافة في نفوس المسلمين (١).

واستمرّت الأمة بعده في سيرها الفكري على هذا الاتجاه إلى حدّ أنّه أمكن الولاة أن يقولوا على منابر المسلمين أخليفة أحدكم أكرم عنده أم رسوله؟ أي أنّ الخليفة الذي يعتبرونه خليفة الله في الأرض أكرم على الله من رسوله خاتم النبيين!!

نتيجة مساعي الخليفة معاوية

وكانت نتيجة تلك المساعي أنّ المسلمين وغير المسلمين منذ عهد معاوية وإلى اليوم عرفوا رسول الله وابن عمّه والخلفاء الثلاثة وشخصيات إسلاميّة أخرى من خلال ما وضع من حديث على عهد معاوية وكما أراد معاوية ، وكان ما أراده خلاف الواقع الذي كانوا عليه ، وبالإضافة إلى ذلك كان لمعاوية اجتهادات في تغيير الأحكام الإسلاميّة بدّل منها ما بدّل باجتهاده ، سمّي بعضها بأوّليّات معاوية (٢).

استطاع معاوية بكلّ تلك الجهود أن يبدّل الإسلام ويعرّفه كما يشتهي ، حتى لم يبق من الإسلام في آخر عهده إلّا اسمه ، ومن القرآن إلّا رسمه ، وإنّما حافظ معاوية ومن جاء بعده على اسم الإسلام لأنّهم كانوا يحكمون باسم الإسلام.

كذلك كانت حالة المسلمين عند ما توفي معاوية في سنة ستين واستولى

__________________

(١) سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى.

(٢) ذكر بعضها اليعقوبي في تأريخه ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء في ذكر سيرة معاوية.

١٧

على الحكم ابنه يزيد ، فما كان أمام سبط الرسول ووريثه إلّا واحدة من اثنتين : إمّا البيعة ، وإمّا القتال. وبيعة الحسين (ع) ليزيد تعني اقراره على أفعاله وتصديقه لأقواله. فأبى الحسين (ع) أن يبايع يزيد واستشهد في سبيل ذلك.

١٨

الإمام الحسين (ع) امتنع من بيعة يزيد

فكيف كان يزيد في أفعاله وأقواله؟ ولما ذا أبى الإمام أن يبايعه؟ وهل كان يعرف مصيره حين أبى؟ وما ذا كان أثر استشهاده على الإسلام والمسلمين؟

في ما يلي نحاول تفهّم كل ذلك من كتب الحديث والسيرة ان شاء الله تعالى.

أوّلا : يزيد في أفعاله وأقواله

في تاريخ ابن كثير : كان يزيد صاحب شراب ، فأحب معاوية أن يعظه في رفق ، فقال : يا بنيّ ما أقدرك على أن تصل حاجتك من غير تهتّك يذهب بمروءتك وقدرك ويشمت بك عدوّك ويسيء بك صديقك ، ثمّ قال : يا بنيّ إنّي منشدك أبياتا فتأدّب بها واحفظها فأنشده :

انصب نهارا في طلاب العلى

واصبر على هجر الحبيب القريب

حتى إذا الليل أتى بالدجى

واكتحلت بالغمض عين الرقيب

فباشر الليل بما تشتهي

فإنّما اللّيل نهار الأريب

كم فاسق تحسبه ناسكا

قد باشر الليل بأمر عجيب

غطّى عليه اللّيل أستاره

فبات في أمن وعيش خصيب

١٩

ولذّة الأحمق مكشوفة

يسعى بها كل عدوّ مريب (١)

وقال : وكان فيه أيضا اقبال على الشهوات وترك بعض الصلوات ، في بعض الأوقات ، واقامتها في غالب الأوقات (٢).

* * *

لمّا أراد معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد من الناس ، طلب من زياد أن يأخذ بيعة المسلمين في البصرة ، فكان جواب زياد له : ما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد ، وهو يلعب بالكلاب والقرود ، ويلبس المصبّغات ، ويدمن الشراب ، ويمشي على الدفوف وبحضرتهم الحسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله ابن الزبير ، وعبد الله بن عمر؟ ولكن تأمره يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولا أو حولين فعسانا أن نموّه على الناس (٣).

فاغزى معاوية يزيد الصائفة مع الجيش الغازي الروم «فتثاقل واعتلّ وأمسك عنه أبوه» (٤) فأصاب المسلمين حمّى وجدري في بلاد الروم ويزيد حينذاك كان مصطبحا بدير مرّان مع زوجته أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر ، فلمّا بلغه خبرهم قال :

إذا ارتفقت على الانماط مصطبحا

بدير مرّان عندي أمّ كلثوم

فما أبالي بما لاقت جنودهم

ب (الغذقدونة) من حمّى ومن موم(٥)

وبعده في معجم البلدان :

فبلغ معاوية ذلك فقال : لا جرم ليلحقنّ بهم ويصيبه ما أصابهم وإلّا خلعته فتهيّأ للرحيل وكتب إليه :

تجنّى لا تزال تعدّ ذنبا

لتقطع حبل وصلك من حبالي

__________________

(١) تاريخ ابن كثير ٨ / ٢٢٨.

(٢) تاريخ ابن كثير ٨ / ٢٣٠.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٢٠.

(٤) هذا نص ابن الأثير في تاريخه ٣ / ١٨١ في ذكر حوادث سنة ٤٩.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٢٩ ، والاغاني ط. ساسي ١٦ / ٣٣ ، وأنساب الأشراف ٤ / ٢ / ٣.

٢٠