معالم المدرستين - ج ٣

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ٣

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤١

الرحيم ، أمّا بعد ، فإنّي حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته عمّا اقامه وما ذا يطلب ويسأل ، فقال : كتب إليّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم فسألوني القدوم ففعلت ، فأمّا إذ كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم.

فلمّا قرئ الكتاب على ابن زياد قال :

الآن إذ علقت مخالبنا به

يرجو النجاة ولات حين مناص

وكتب إلى عمر بن سعد : بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت ، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه فإذا فعل ذلك رأينا رأينا والسلام.

قال فلما أتى عمر بن سعد الكتاب ، قال : قد حسبت أن لا يقبل ابن زياد العافية.

ابن زياد يأمر بالنفير العام :

وروى البلاذري في أنساب الأشراف وقال : لما سرح ابن زياد عمر بن سعد ، أمر الناس فعسكروا بالنخيلة ، وأمر أن لا يتخلّف أحد منهم ، وصعد المنبر فقرّض معاوية وذكر إحسانه وادراره الأعطيات وعنايته بأهل الثغور ، وذكر اجتماع الألفة به وعلى يده ، وقال : إن يزيد ابنه ، المتقيّل له (١) ، السالك لمناهجه ، المحتذي لمثاله ، وقد زادكم مائة مائة في أعطيتكم ، فلا يبقين رجل من العرفاء والمناكب والتجار والسكان إلّا خرج فعسكر معي ، فأيّما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلفا عن العسكر برئت منه الذّمة.

ثم خرج ابن زياد فعسكر ، وبعث إلى الحصين بن تميم وكان بالقادسية في أربعة آلاف ، فقدم النخيلة في جميع من معه.

__________________

(١) أي المشبه له المتخلق بأخلاقه وسجيته.

١٠١

ثم دعا ابن زياد كثير بن شهاب الحارثي ، ومحمّد بن الأشعث بن قيس القعقاع بن سويد بن عبد الرحمن المنقري ، وأسماء بن خارجة الفزاري وقال : طوفوا في الناس فمروهم بالطاعة والاستقامة ، وخوّفوهم عواقب الأمور والفتنة والمعصية ، وحثوهم على العسكرة [كذا] فخرجوا فعزروا وداروا بالكوفة. ثم لحقوا به غير كثير بن شهاب ، فإنّه كان مبالغا يدور بالكوفة يأمر الناس بالجماعة ، ويحذّرهم الفتنة والفرقة ويخذّل عن الحسين!!!

وسرّح ابن زياد أيضا حصين بن تميم في الأربعة الآلاف الذين كانوا معه إلى الحسين بعد شخوص عمر بن سعد بيوم أو يومين.

ووجّه أيضا إلى الحسين حجّار بن أبجر العجلي في ألف.

وتمارض شبث بن ربعي ، فبعث إليه فدعاه وعزم عليه أن يشخص إلى الحسين في ألف ففعل.

وكان الرجل يبعث في ألف فلا يصل إلّا في ثلاث مائة وأربع مائة وأقل من ذلك كراهة منهم لهذا الوجه.

ووجّه أيضا يزيد بن الحرث بن يزيد بن رويم في ألف أو أقلّ.

ثم ان ابن زياد استخلف على الكوفة عمرو بن حريث ، وأمر القعقاع بن سويد بن عبد الرحمن بن بجير المنقري بالتطواف بالكوفة في خيل فوجد رجلا من همدان قد قدم يطلب ميراثا له بالكوفة ؛ فأتى به ابن زياد فقتله ، فلم يبق بالكوفة محتلم إلّا خرج إلى العسكر بالنخيلة.

ثم جعل ابن زياد يرسل العشرين والثلاثين والخمسين إلى المائة غدوة وضحوة ونصف النهار وعشية من النخيلة يمدّ بهم عمر بن سعد.

ذكر ابن نما في مثير الاحزان : ان عددهم بلغ لست خلون من المحرّم عشرين الفا (١).

__________________

(١) مثير الاحزان ص ٣٦ ـ ٣٧ ، واللهوف ص ٣٣.

١٠٢

وروى البلاذري في أنساب الأشراف وقال : ووضع ابن زياد المناظر على الكوفة (١) لئلا يجوز أحد من العسكر مخافة أن يلحق الحسين مغيثا له ، ورتب المسالح حولها (٢) ، وجعل على حرس الكوفة زحر بن قيس الجعفي.

ورتب بينه وبين عسكر عمر بن سعد خيلا مضمرة مقدحه (٣) ، فكان خبر ما قبله يأتيه في كل وقت (٤).

__________________

(١) المناظر : جمع المنظرة : القوم يصعدون إلى أعلى الاماكن ينظرون ويراقبون ، ما ارتفع من الأرض أو البناء.

(٢) المسالح : جمع المسلحة : المرقب أو قوم ذوو سلاح يحرسون ويراقبون.

(٣) مقدحة من قولهم : «قدح النرس» : ضمره. أي صيره هزالا خفيف اللحم كي يكون عند الجري سريعا يسبق أقرانه إلى الهدف.

(٤) الروايتان الأولى والثانية في أنساب الأشراف ح ٣٣ بترجمة الحسين.

١٠٣

منع الماء عن عترة الرسول (ص)

روى الطبري عن حميد بن مسلم الأزدي قال : جاء من عبيد الله بن زياد كتاب إلى عمر بن سعد : أمّا بعد فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ولا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقيّ الزكيّ المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفّان.

قال : فبعث عمر بن سعد عمرو بن الحجّاج على خمسمائة فارس فنزلوا على الشريعة وحالوا بين حسين وأصحابه وبين الماء أن يسقوا منه قطرة وذلك قبل قتل الحسين بثلاث قال : ونازله عبد الله بن أبي حصين الأزديّ وعداده في بجيلة فقال : يا حسين! ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء! والله لا تذوق منه قطرة حتّى تموت عطشا ، فقال حسين : اللهم اقتله عطشا ولا تغفر له أبدا قال حميد بن مسلم والله لعدته بعد ذلك في مرضه فو الله الذي لا إله إلّا هو لقد رأيته يشرب حتّى يبغر ثم يقيء ثم يعود فيشرب حتى يبغر فما يروى ، فما زال ذلك دأبه حتى لفظ غصّته يعني نفسه.

معركة على الماء :

قال : ولمّا اشتدّ على الحسين وأصحابه العطش دعا أخاه العبّاس بن عليّ بن أبي طالب فبعثه في ثلاثين فارسا وعشرين راجلا ، وبعث معهم بعشرين قربة فجاءوا حتى دنوا من الماء ليلا واستقدم امامهم باللواء نافع بن هلال الجمليّ ، فقال عمرو بن الحجّاج الزّبيدي : من الرجل؟ فجئ ما جاء

١٠٤

بك. قال : جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه ، قال : فاشرب هنيئا ، قال : لا والله لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومن ترى من أصحابه ، فطلعوا عليه ، فقال : لا سبيل إلى سقي هؤلاء إنّما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء ، فلمّا دنا منه أصحابه قال لرجاله : املئوا قربكم فشدّ الرجّالة فملئوا قربهم وثار إليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه ، فحمل عليهم العبّاس بن عليّ ونافع بن هلال فكفّوهم ، ثم انصرفوا إلى رحالهم فقالوا : امضوا وقفوا دونهم فعطف عليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه واطّردوا قليلا ، ثم انّ رجلا من صداء طعن من أصحاب عمرو بن الحجّاج ، طعنه نافع بن هلال فظنّ انها ليست بشيء ثم انّها انتفضت بعد ذلك ، فمات منها وجاء أصحاب حسين بالقرب فأدخلوها عليه.

اعذار الإمام قبل القتال :

وروى عن هانئ بن ثبيت الحضرميّ وكان قد شهد قتل الحسين ، قال : بعث الحسين (ع) إلى عمر بن سعد عمرو بن قرضة بن كعب الأنصاريّ ان القني الليل بين عسكري وعسكرك قال : فخرج عمر بن سعد في نحو من عشرين فارسا وأقبل حسين في مثل ذلك فلمّا التقوا أمر الحسين أصحابه أن يتنحّوا عنه وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلك ، قال : فانكشفنا عنهما بحيث لا نسمع أصواتهما ، ولا كلامهما ، فتكلّما فأطالا حتى ذهب من الليل هزيع ، ثم انصرف كلّ واحد منهما إلى عسكره بأصحابه ، وتحدّث الناس فيما بينهما ظنّا يظنّونه ان حسينا قال لعمر بن سعد اخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين قال عمر إذن تهدم داري. قال : أنا أبنيها لك. قال اذن تؤخذ ضياعي. قال : إذن أعطيك خيرا منها من مالي بالحجاز. قال : فتكره ذلك عمر ، قال : فتحدّث الناس بذلك وشاع فيهم من غير أن يكونوا سمعوا من ذلك شيئا ولا علموه.

وروى عن عقبة بن سمعان قال صحبت حسينا فخرجت معه من المدينة إلى مكّة ، ومن مكّة إلى العراق ، ولم افارقه حتى قتل وليس من

١٠٥

مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكّة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلّا وقد سمعتها ، ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية ولا أن يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين ، ولكنه قال : دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس.

وروى عن أبي مخنف عن رجاله : انّهما كانا التقيا مرارا ثلاثا أو أربعا حسين وعمر بن سعد قال : فكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد : أمّا بعد فانّ الله قد أطفأ النائرة ، وجمع الكلمة وأصلح أمر الأمّة ، هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى ، أو أن نسيره أي ثغر من ثغور المسلمين شئنا فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه ، وفي هذا لكم رضى وللأمّة صلاح ، قال : فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال : هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه ، نعم قد قبلت. قال : فقام إليه شمر بن ذي الجوشن ، فقال : أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك إلى جنبك! والله لئن رحل من بلدك ، ولم يضع يده في يدك ، ليكوننّ أولى بالقوّة والعز ، ولتكوننّ أولى بالضعف والعجز ، فلا تعطه هذه المنزلة ، فإنّها من الوهن ، ولكن لينزل على حكمك ، هو وأصحابه ، فإن عاقبت فأنت وليّ العقوبة ، وان غفرت كان ذلك لك ، والله لقد بلغني ان حسينا وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدّثان عامّة الليل ، فقال له ابن زياد : نعم ما رأيت ، الرأي رأيك.

ابن زياد يمنع الإمام من الرجوع

قال : ثم ان عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن فقال له : اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد ، فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي ، فإن فعلوا فليبعث بهم إليّ سلما ، وان هم أبوا فليقاتلهم ، فإن فعل فاسمع له وأطع ، وان هو أبى فقاتلهم ، فأنت أمير الناس ، وثب عليه فاضرب عنقه ، وابعث إليّ برأسه.

قال : ثم كتب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد : أمّا بعد فإنّي لم

١٠٦

أبعثك إلى حسين لتكفّ عنه ولا لتطاوله ، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء ، ولا لتقعد له عندي شافعا ، انظر ، فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا ، فابعث بهم إليّ سلما ، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم ، وتمثّل بهم ، فإنهم لذلك مستحقون ، فإن قتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره ، فإنه عاقّ مشاقّ قاطع ظلوم ، وليس دهري في هذا أن يضر بعد الموت شيئا ولكن عليّ قول لو قد قتلته فعلت هذا به! ان أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع ، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر ، فإنّا قد أمرناه بأمرنا والسلام.

أمان ابن زياد للعباس واخوته :

قال : لمّا قبض شمر بن ذي الجوشن الكتاب ، قام هو وعبد الله بن أبي المحلّ ، وكانت عمّته أمّ البنين ابنة حزام عند عليّ بن أبي طالب (ع) فولدت له العبّاس وعبد الله وجعفرا وعثمان ، فقال عبد الله بن أبي المحلّ بن حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب : أصلح الله الأمير ان بني اختنا مع الحسين ، فان رأيت أن تكتب لهم أمانا ، فعلت ، قال : نعم ، ونعمة عين ، فأمر كاتبه فكتب لهم أمانا فبعث به عبد الله بن أبي المحلّ مع مولى له يقال له : كزمان ، فلمّا قدم عليهم دعاهم فقال : هذا أمان بعث به خالكم ، فقال له الفتية : أقرئ خالنا السلام ، وقل له : ان لا حاجة لنا في أمانكم ، أمان الله خير من امان ابن سميّة. قال : فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد ، فلمّا قدم به عليه ، فقرأه ، قال له عمر : ما لك! ويلك لا قرّب الله دارك ، وقبح الله ما قدمت به عليّ ، والله انّي لأظنّك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبت به إليه ، أفسدت علينا أمرا كنّا رجونا أن يصلح ، لا يستسلم والله حسين ، إن نفسا أبيّة لبين جنبيه ، فقال له شمر : أخبرني ما أنت صانع؟ أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوّه؟ وإلّا فخلّ بيني وبين الجند والعسكر. قال : لا! ولا كرامة لك ، وأنا أتولّى ذلك ، قال فدونك وكن أنت على الرجال.

قال : وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين فقال أين بنو اختنا؟

١٠٧

فخرج إليه العبّاس وجعفر وعثمان بنو عليّ فقالوا له : ما لك وما تريد؟ قال : أنتم يا بني اختي آمنون ، قال له الفتية : لعنك الله ولعن أمانك ، لئن كنت خالنا أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له!؟

١٠٨

ليلة العاشر من محرّم

قال : ثم انّ عمر بن سعد نهض إليه عشية الخميس لتسع مضين من المحرّم ، ونادى : يا خيل الله اركبي وابشري.

فركب في الناس ، ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر ، وحسين جالس أمام بيته محتبيا بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه وسمعت اخته زينب الصيحة فدنت من أخيها فقالت : يا أخي! أما تسمع الأصوات قد اقتربت قال : فرفع الحسين رأسه ، فقال : انّي رأيت رسول الله (ص) في المنام فقال لي انّك تروح إلينا ، قال : فلطمت أخته وجهها ، وقالت : يا ويلتا! فقال : ليس لك الويل يا اخيّة اسكني ؛ رحمك الرحمن ، وقال العبّاس بن عليّ : يا أخي أتاك القوم ، قال : فنهض ، ثم قال : يا عبّاس! اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم فتقول لهم : ما لكم وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم ، فأتاهم العبّاس ، فاستقبلهم في نحو من عشرين فارسا فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر فقال لهم العباس: ما بدا لكم وما تريدون؟ قالوا جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه ، أو ننازلكم. قال : فلا تعجلوا حتّى ارجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم ، قال : فوقفوا ، ثمّ قالوا : القه فأعلمه ذلك ، ثمّ القنا بما يقول ، قال : فانصرف العبّاس راجعا يركض

١٠٩

إلى الحسين يخبر بالخبر ، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ، فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين كلّم القوم ، ان شئت ، وان شئت كلّمتهم ، فقال له زهير : أنت بدأت بهذا ، فكن أنت تكلّمهم ، فقال لهم حبيب بن مظاهر : أما والله لبئس القوم عند الله غدا قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرّيّة نبيه (ص) وعترته ، وأهل بيته (ع) وعبّاد أهل هذا المصر المجتهدين بالاسحار والذاكرين الله كثيرا ، فقال له عزرة بن قيس : انّك لتزكي نفسك ما استطعت ، فقال له زهير : يا عزرة! انّ الله قد زكّاها وهداها ، فاتّق الله يا عزرة! فانّي لك من الناصحين ، أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممّن يعين الضّلال على قتل النفوس الزكية ، قال : يا زهير! ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت إنما كنت عثمانيا! قال : أفلست تستدلّ بموقفي هذا انّي منهم؟ أما والله ما كتبت إليه كتابا قطّ ، ولا أرسلت إليه رسولا قطّ ، ولا وعدته نصرتي قطّ ، ولكن الطريق جمع بيني وبينه ، فلمّا رأيته ذكرت به رسول الله (ص) ومكانه منه ، وعرفت ما يقدم عليه من عدوّه وحزبكم ؛ فرأيت أن أنصره ، وأن أكون في حزبه ، وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظا لما ضيّعتم من حقّ الله ، وحقّ رسوله (ص).

طلب الحسين (ع) المهلة :

قال وأتى العبّاس بن عليّ حسينا بما عرض عليه عمر بن سعد ، فقال له : ارجع إليهم فان استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة لعلّنا نصلّي لربّنا وندعوه ونستغفره فهو يعلم انّي قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار.

قال : وأقبل العبّاس بن عليّ يركض حتّى انتهى إليهم ، فقال : يا هؤلاء ان أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية ، حتى ينظر في هذا الأمر فإنّ هذا أمر لم يجر بينكم وبينه فيه منطق ، فإذا أصبحنا التقينا ان شاء

١١٠

الله ، فإمّا رضيناه ، فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه ، أو كرهنا فرددناه ، وانما أراد بذلك أن يردّهم عنه تلك العشيّة ، حتى يأمر بأمره ويوصي أهله ، فلمّا أتاهم العبّاس بن عليّ بذلك ، قال عمر بن سعد : ما ترى يا شمر! قال : ما ترى أنت ، أنت الأمير والرأي رأيك! قال قد أردت أن لا أكون ، ثم أقبل على الناس فقال : ما ذا ترون؟ فقال عمرو بن الحجّاج بن سلمة الزبيديّ. سبحان الله! والله لو كانوا من الديلم ثم سألوك هذه المنزلة ، لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها ، وقال قيس بن الأشعث : أجبهم إلى ما سألوك فلعمري ليصبحنّك بالقتال غدوة ، فقال : والله لو أعلم أن يفعلوا ما أخرجتهم العشيّة.

وروى عن عليّ بن الحسين قال : أتانا رسول من قبل عمر بن سعد فقام مثل حيث يسمع الصوت فقال : انّا قد أجّلناكم إلى غد ، فإن استسلمتم سرّحنا بكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد وإن أبيتم فلسنا تاركيكم.

خطبة الحسين (ع) في أصحابه ليلة العاشر :

وروى عن علي بن الحسين ، قال : جمع الحسين أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد ، وذلك عند قرب المساء ، قال عليّ بن الحسين : فدنوت منه لأسمع وأنا مريض فسمعت أبي وهو يقول لاصحابه : أثني على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء ، وأحمده على السّراء والضّراء ، اللهم! إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة وعلّمتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة ، ولم تجعلنا من المشركين ، أمّا بعد فإنّي لا أعلم أصحابا أولى ولا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي جميعا خيرا ، ألا وإني أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غدا ، ألا وإنّي قد رأيت لكم ، فانطلقوا جميعا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام. هذا الليل قد

١١١

غشيكم فاتخذوه جملا ، ثم ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، ثم تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرّج الله ، فإن القوم انّما يطلبوني ، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري.

جواب أهل بيته وأصحابه :

فقال له اخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر : لم نفعل؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبدا ، بدأهم بهذا القول العبّاس بن عليّ ، ثم انّهم تكلّموا بهذا ونحوه ، فقال الحسين (ع) : يا بني عقيل! حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا قد أذنت لكم ، قالوا : فما يقول الناس؟ يقولون : إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا! لا والله لا نفعل! ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا ، وأهلونا ، ونقاتل معك حتى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك.

وقال : فقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي ، فقال : أنحن نخلّي عنك ولما نعذر إلى الله في اداء حقّك؟! أمّا والله! حتّى اكسر في صدورهم رمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولا افارقك ، ولو لم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك ، حتى أموت معك.

قال : وقال سعد بن عبد الله الحنفيّ : والله لا نخليك حتّى يعلم الله انّا قد حفظنا غيبة رسول الله (ص) فيك ، والله لو علمت انّي أقتل ، ثم أحيا ، ثم أحرق حيّا ، ثم أذرّ ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ، ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك؟ وانّما هي قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا ، قال : وقال زهير بن القين : والله لوددت انّي قتلت ثم نشرت ، ثم قتلت ، حتى أقتل كذا ألف قتلة ، وأنّ الله يدفع بذلك

١١٢

القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك ، قال : وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا في وجه واحد ، فقالوا : والله لا نفارقك ، ولكن أنفسنا لك الفداء ، نقيك بنحورنا ، وجباهنا وأيدينا فإذا نحن قتلنا كنّا وفينا وقضينا ما علينا.

سند آخر لهذه الرواية :

وروى الطبري هذه الرواية بايجاز عن الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ قال : قدمت ومالك بن النضر الأرحبيّ على الحسين فسلّمنا عليه ثم جلسنا إليه فردّ علينا فرحّب بنا وسألنا عما جئنا له فقلنا : جئنا لنسلّم عليك وندعو الله لك بالعافية ، ونحدث بك عهدا ، ونخبرك خبر الناس ، وإنّا نحدّثك انهم قد جمعوا على حربك فر رأيك. فقال الحسين (ع) : حسبي الله ونعم الوكيل. قال : فتذمّمنا وسلّمنا عليه ودعونا الله له قال : فما يمنعكما من نصرتي؟ فقال مالك بن النضر : عليّ دين ولي عيال ، فقلت له : انّ عليّ دينا وإنّ لي لعيالا ولكنك ان جعلتني في حلّ من الانصراف إذا لم أجد مقاتلا قاتلت عنك ما كان لك نافعا وعنك دافعا.

قال : قال : فأنت في حلّ فأقمت معه.

ثمّ نقل الضحاك الخبر السابق بايجاز (١).

الحسين ينعى نفسه ويوصي اخته بالصبر :

روى الطبري عن عليّ بن الحسين بن عليّ ، قال : إنّي جالس في تلك العشيّة التي قتل أبي صبيحتها ، وعمتي زينب عندي تمرّضني إذ اعتزل أبي بأصحابه في خباء له وعنده حويّ مولى أبي ذرّ الغفاري (٢) وهو يعالج

__________________

(١) الطبري ٢ / ٣٢١ ـ ٣٢٢ ط. أوربا.

(٢) ورد في مقتل الخوارزمي وغيره في خبر مقتله بلفظ «جون».

١١٣

سيفه ويصلحه وأبي يقول :

يا دهر افّ لك من خليل

كم لك بالاشراق والأصيل

من صاحب أو طالب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وإنّما الأمر إلى الجليل

وكلّ حيّ سالك السبيل

قال فأعادها مرّتين أو ثلاثا حتّى فهمتها فعرفت ما أراد ، فخنقتني عبرتي فرددت دمعي ولزمت السكوت ، فعلمت انّ البلاء قد نزل ، فأما عمّتي فإنّها سمعت ما سمعت ـ وهي امرأة وفي النساء الرقة والجزع ـ فلم تملك نفسها ان وثبت تجرّ ثوبها وإنّها لحاسرة حتى انتهت إليه فقالت : وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت فاطمة أمّي! وعلي أبي! وحسن أخي! يا خليفة الماضي وثمال الباقي ، فنظر إليها الحسين (ع) ، فقال : يا أخيّة! لا يذهبنّ حلمك الشيطان ، قالت : بأبي أنت وأمّي ، يا أبا عبد الله استقتلت! نفسي فداك! فردّ غصّته وترقرقت عيناه وقال : لو ترك القطا ليلا لنام. قالت : يا ويلتا! أفتغصب نفسك اغتصابا! فذلك أقرح لقلبي! وأشدّ على نفسي! ولطمت وجهها وأهوت إلى جيبها وشقّته! وخرّت مغشيّا عليها! فقام إليها الحسين ، فصبّ على وجهها الماء! وقال لها : يا أخيّة! اتّقي الله! وتعزي بعزاء الله! واعلمي انّ أهل الأرض يموتون ، وانّ أهل السماء لا يبقون ، وانّ كلّ شيء هالك إلّا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته ، ويبعث الخلق فيعودون ، وهو فرد وحده ، أبي خير منّي ، وأمّي خير منّي ، وأخي خير مني ، ولي ولهم ولكلّ مسلم برسول الله اسوة ، قال : فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها : يا أخيّة! إنّي أقسم عليك فأبرّي قسمي. لا تشقي عليّ جيبا! ولا تخمشي عليّ وجها! ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت! قال : ثم جاء بها حتّى أجلسها عندي ، وخرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرّبوا بعض بيوتهم من بعض وأن يدخلوا الأطناب بعضها

١١٤

في بعض ، وأن يكونوا هم بين البيوت ، إلّا الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم.

إحياؤهم الليل بالعبادة :

وروى عن الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ قال : فلمّا أمسى حسين وأصحابه ، قاموا الليل كلّه يصلّون ، ويستغفرون ، ويدعون ويتضرّعون ، قال : فتمرّ بنا خيل لهم ، تحرسنا ، وانّ حسينا ليقرأ : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ، ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا ، فقال : نحن وربّ الكعبة الطيبون! ميّزنا منكم! قال فعرفته فقلت لبرير بن حضير : تدري من هذا؟ قال : لا ، قلت : هذا أبو حرب السبيعي عبد الله بن شهر ، وكان مضحاكا بطالا ، وكان شريفا شجاعا فاتكا ، وكان سعيد بن قيس ربّما حبسه في جناية ، فقال له برير بن حضير : يا فاسق! أنت يجعلك الله في الطيّبين؟ فقال له : من أنت؟ قال : انا برير بن حضير ، قال : إنّا لله عزّ عليّ! هلكت والله! هلكت والله يا برير ، قال : يا أبا حرب هل لك أن تتوب إلى الله من ذنوبك العظام؟! فو الله إنّا لنحن الطيّبون ، ولكنكم لأنتم الخبيثون ، قال : وأنا على ذلك من الشّاهدين. قلت : ويحك! أفلا ينفعك معرفتك؟ قال : جعلت فداك فمن ينادم يزيد بن عذرة العنزي من عنز بن وائل ، قال : ها هو ذا معي ، قال : قبّح الله رأيك على كلّ حال. أنت سفيه! قال : ثم انصرف عنّا وكان الذي يحرسنا بالليل في الخيل عزرة بن قيس الأحمسيّ وكان على الخيل.

١١٥

يوم عاشوراء

قال : فلمّا صلّى عمر بن سعد الغداة يوم الجمعة ـ وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء ـ خرج فيمن معه من الناس ، قال : وعبّأ الحسين أصحابه وصلّى بهم صلاة الغداة ، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا ، فجعل زهير ابن القين في ميمنة أصحابه ، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه ، وأعطى رايته العبّاس بن عليّ أخاه ، وجعلوا البيوت في ظهورهم ، وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت يحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم.

قال : وكان الحسين (ع) أتي بقصب وحطب إلى مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية فحفروه في ساعة من الليل ، فجعلوه كالخندق ، ثم ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب ، وقالوا : إذا غدوا علينا فقاتلونا القينا فيه النار كيلا نؤتى من ورائنا ، وقاتلونا من وجه واحد ، ففعلوا ، وكان لهم نافعا.

قال : لمّا خرج عمر بن سعد بالناس كان على ربع أهل المدينة يومئذ عبد الله بن زهير بن سليم الأزديّ ، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبي سبرة الحنفي ، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس ، وعلى ربع تميم وهمدان الحرّ بن يزيد الرياحيّ ، فشهد هؤلاء كلّهم مقتل الحسين إلّا الحر بن يزيد فانّه عدل إلى الحسين وقتل معه ، وجعل عمر على ميمنته عمرو بن الحجّاج الزّبيدي ، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن بن شرحبيل بن الأعور بن عمر بن معاوية وهو الضّباب بن كلاب ، وعلى الخيل

١١٦

عزرة بن قيس الأحمسيّ ، وعلى الرجال شبث بن ربعيّ اليربوعيّ ، وأعطى الراية ذويدا مولاه.

استبشارهم بالشهادة :

وروى عن غلام لعبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاريّ ، قال : كنت مع مولاي فلمّا حضر الناس وأقبلوا إلى الحسين ، أمر الحسين بفسطاط فضرب ، ثم أمر بمسك فميث في جفنة عظيمة أو صحفة.

قال : ثم دخل الحسين ذلك الفسطاط فتطّلى بالنورة ، قال : ومولاي عبد الرحمن بن عبد ربّه ، وبرير بن حضير الهمداني على باب الفسطاط ، تحتكّ مناكبهما ، فازدحما أيّهما يطّلي على أثره ، فجعل برير يهازل عبد الرحمن فقال له عبد الرحمن : دعنا فو الله ما هذه بساعة باطل ، فقال له برير : والله لقد علم قومي انّي ما أحببت الباطل شابّا ولا كهلا ، ولكن والله انّي لمستبشر بما نحن لاقون ، والله إن بيننا وبين الحور العين إلّا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم ، ولوددت أنهم قد مالوا علينا بأسيافهم.

قال : فلمّا فرغ الحسين دخلنا فاطّلينا.

قال : ثم ان الحسين ركب دابّته ودعا بمصحف فوضعه أمامه (١). قال : فاقتتل أصحابه بين يديه قتالا شديدا ، فلمّا رأيت القوم قد صرعوا افلتّ وتركتهم.

دعاء الحسين (ع) يوم عاشوراء :

وروى الطبري ، وقال : لمّا صبّحت الخيل الحسين رفع الحسين يديه ، فقال : اللهم أنت ثقتي في كلّ كرب ، ورجائي في كلّ شدة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدة ، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد ، وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدوّ ، أنزلته بك ، وشكوته إليك ، رغبة منّي إليك عمّن سواك ففرّجته وكشفته ، فأنت وليّ كلّ نعمة ، وصاحب كلّ

__________________

(١) في تذكرة خواص الامة أنه نشره على رأسه وخاطبهم (كما يأتي ان شاء الله).

١١٧

حسنة ، ومنتهى كلّ رغبة (١)

وروى عن الضحّاك المشرقيّ قال : لمّا أقبلوا نحونا فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنّا ألهبنا فيه النار من ورائنا لئلّا يأتونا من خلفنا ، إذ أقبل إلينا منهم رجل يركض على فرس كامل الأداة فلم يكلّمنا حتى مرّ على أبياتنا فنظر إلى أبياتنا فإذا هو لا يرى إلّا حطبا تلتهب النار فيه ، فرجع راجعا فنادى بأعلى صوته : يا حسين! استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة؟!

فقال الحسين : من هذا؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن! فقالوا : نعم أصلحك الله هو هو ، فقال : يا ابن راعية المعزى! أنت أولى بها صليّا.

فقال له مسلم بن عوسجة : يا ابن رسول الله! جعلت فداك. ألا أرميه بسهم ، فانّه قد أمكنني وليس يسقط سهم ، فالفاسق من أعظم الجبّارين. فقال له الحسين : لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم ، وكان مع الحسين فرس له يدعى لاحقا حمل عليه ابنه عليّ بن الحسين.

خطبة الحسين الأولى :

قال : فلمّا دنا منه القوم دعا براحلته ، فركبها ، ثمّ نادى بأعلى صوته دعاء يسمع جلّ الناس : أيها الناس! اسمعوا قولي ، ولا تعجلوني حتى أعظكم بما الحقّ لكم عليّ ، وحتى اعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري وصدّقتم قولي وأعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليّ سبيل ، وان لم تقبلوا منّي العذر ولم تعطوا النصف من أنفسكم ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثمّ اقضوا إليّ ولا تنظرون ، انّ وليّي الله الذي نزّل الكتاب ، وهو يتولى الصّالحين (٢).

__________________

(١) ورواه بالإضافة إلى الطبري ومن ذكرنا ؛ ابن عساكر ح ٦٦٧ ، وتهذيبه ٤ / ٣٣٣ وفي لفظه «منتهى كل غاية».

(٢) رواها ابن نما في مثير الاحزان في اليوم السادس من المحرم وراجع الطبري ط. اوربا ٢ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

١١٨

قال : فلمّا سمع اخواته كلامه هذا ، صحن وبكين وبكت بناته ، فارتفعت أصواتهنّ ، فأرسل إليهنّ أخاه العبّاس بن عليّ ، وعليّا ابنه ، وقال لهما أسكتاهنّ فلعمري ليكثرنّ بكاؤهنّ. فلمّا سكتن ، حمد الله وأثنى عليه ، وذكر الله بما هو أهله ، وصلّى على محمّد صلّى الله عليه وعلى ملائكته وأنبيائه فذكر من ذلك ما الله أعلم ، وما لا يحصى ذكره ، قال:

فو الله ما سمعت متكلّما قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه ، ثم قال : أمّا بعد فانسبوني فانظروا من أنا ، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم (ص) وابن وصيه وابن عمّه؟ وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أو ليس جعفر الشهيد الطيّار ذو الجناحين عمّي؟ أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم : ان رسول الله (ص) قال لي ولأخي «هذان سيّدا شباب أهل الجنّة»؟ فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ ، والله ما تعمّدت كذبا مذ علمت انّ الله يمقت عليه أهله ، ويضرّ به من اختلقه! وان كذّبتموني فانّ فيكم من ان سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، أو أبا سعيد الخدريّ ، أو سهل بن سعد الساعدي ، أو زيد بن أرقم ، أو أنس بن مالك ، يخبروكم انّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (ص) لي ولأخي ، أفما في هذا حاجر لكم عن سفك دمي؟ فقال له شمر بن ذي الجوشن : هو يعبد الله على حرف ، ان كان يدري ما تقول ، فقال له حبيب بن مظاهر : والله انّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفا ، وأنا اشهد انّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك ، ثم قال لهم الحسين : فإن كنتم في شكّ من هذا القول أفتشكّون أثرا ما انّي ابن بنت نبيّكم؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري منكم ولا من غيركم. أنا ابن بنت نبيّكم خاصّة ، اخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟ أو

١١٩

مال لكم استهلكته؟! أو بقصاص من جراحة؟

قال : فأخذوا لا يكلّمونه ، قال : فنادى : يا شبث بن ربعيّ! ويا حجّار بن أبجر! ويا قيس بن الأشعث! ويا يزيد بن الحارث! ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار ، واخضرّ الجناب وطمّت الجمام ، وانّما تقدم على جند لك مجنّدة ، فأقبل؟! قالوا له : لم نفعل. فقال : سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم!

ثم قال : أيّها الناس! إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض ، قال : فقال له قيس بن الأشعث : أولا تنزل على حكم بني عمّك ، فانّهم لن يروك إلّا ما تحب ، ولن يصل إليك منهم مكروه ، فقال له الحسين : أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل! لا والله لا أعطيهم بيدي اعطاء الذليل ، ولا أقرّ اقرار العبيد. انّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون. أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب. قال : ثمّ انّه أناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان فعقلها ، وأقبلوا يزحفون نحوه.

خطبة زهير بن القين :

وروى عن كثير بن عبد الله الشعبيّ ، قال : لمّا زحفنا قبل الحسين ، خرج إلينا زهير بن القين على فرس له ذنوب شاك في السلاح فقال : يا أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب الله نذار! إنّ حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتى الآن اخوة ، وعلى دين واحد ، وملّة واحدة ، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنّا أمّة وأنتم امة ، انّ الله قد ابتلانا وايّاكم بذريّة نبيّه محمّد (ص) ، لينظر ما نحن وأنتم عاملون ، إنّا ندعوكم إلى نصرهم ، وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد ، فانكم لا تدركون منهما إلّا بسوء عمر

١٢٠