معالم المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٠٤

قال ابن تيمية في جواب هذا القول : «وأكثر هذه الامور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوبا ، وتجعلها من موارد الاجتهاد الّتي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر وعامّة المنقول عن الخلفاء الراشدين ، من هذا الباب».

ثم أطال الحديث حول ذلك في الصفحات ١٩ ـ ٣٠ من الجزء الثالث من منهاجه ، ثم أجاب بعدها عن كثير ممّا أورده العلامة على الكبراء النابهين بأنها من موارد الاجتهاد(١).

وقال ابن حجر في ترجمة أبي الغادية من الإصابة : «والظن بالصحابة في كلّ تلك الحروب أنّهم كانوا فيها متأوّلين ، وللمجتهد المخطئ أجر ، وإذا ثبت هذا في حقّ آحاد الناس فثبوته للصحابة بالطريق الأولى» (٢).

وقال الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف في هامش الصواعق : «وجميع الصحابة ممّن كان على عهد عليّ ، إمّا مقاتل معه ، أو عليه ، أو معتزل عن المعسكرين فلم يقاتله ، وامتنع عن قتاله جماعة منهم : أصحاب ابن مسعود وسعد بن أبي وقّاص واعتزل الفريقين حذيفة وابن مسلمة وأبو ذر وعمران بن حصين وأبو موسى الأشعري والجميع مجتهد متأوّل لا يخرج بما وقع عنه عن العدالة» (٣).

هكذا أجمع أتباع مدرسة الخلفاء منذ القرن الثاني الهجري حتّى اليوم ـ أوائل القرن الخامس عشر ـ على أنّ الصحابة كلّهم مجتهدون ، وأنّ الله سبحانه يثيبهم على كلّ ما فعلوا من خصومات وإراقة دماء ، لم يقتصر على رفع القلم عنهم ، بل يثيبهم على سيّئاتهم.

وعلى ما يزعمون! ما أعدله من حاكم ديّان حين يجازينا بسيئاتنا سيّئات ويجازيهم بها حسنات!!!

أجمعوا على هذا القول في حقّ الصحابة حتّى عصر معاوية ، وقال بعضهم : إنّ ذلك

__________________

(١) منهاج السنة ج ٣ / ١٩.

(٢) الإصابة بتراجم حرف الغين المعجمة من الكنى ٤ / ١٥١.

(٣) بهامش الصواعق ص ٢٠٩ ، وأكّد ذلك في فصل عدالة الصحابة من كتابه المختصر.

لم نعرف من هم أصحاب ابن مسعود الذين هم اعتزلوا الفتنة كما أن حذيفة لم يكن يوم ذاك في المدينة ، وإنما كان في المدائن ، وتوفي فيها وأوصى بمتابعة الإمام. وأبو ذر أعلن بالإنكار على إحداث الحكام حتّى نفى من بلد إلى بلد ، وأخيرا قضى نحبه طريدا في الربذة في خلافة عثمان سنة ٣٢ ه‍ ، وابن أبي وقاص ندم على تخلفه عن الإمام ، وأبو موسى كان هواه مع مخالفي الإمام. وعمران بن حصين كان قد توفي قبل ذلك.

٨١

يجري حتّى عصر يزيد كما قاله ابن خلدون عمن كان يوم ذاك قال : إنّ منهم من رأى الإنكار على يزيد ومنهم من رأى محاربته ثمّ قال : «وهذا كان شأن جمهور المسلمين والكلّ مجتهدون ولا ينكر على أحد من الفريقين ، فمقاصدهم في البرّ وتحرّي الحقّ معروفة ، وفّقنا الله للاقتداء بهم» (١).

لست أدري إن كان كلّ هؤلاء مجتهدين لإدراكهم صحبة الرسول ، فما بال قتلة عثمان ولم لم يعدّوا من المجتهدين! قال ابن حزم بعد ما سبق ذكره في باب اجتهاد أبي الغادية قاتل عمّار :

«وليس هذا كقتلة عثمان (رض) لأنّه لا مجال للاجتهاد في قتله ، لأنّه لم يقتل أحدا ولا حارب ولا قاتل ولا دافع ولا زنى بعد إحصان ولا ارتدّ فيسوّغ المحاربة تأويل ، بل هم فسّاق محاربون سافكون دما حراما عمدا بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان فهم فساق ملعونون» (٢).

وقال ابن حجر الهيتمي : «انّ الّذي ذهب إليه كثيرون من العلماء أنّ قتلة عثمان لم يكونوا بغاة ، وإنّما كانوا ظلمة وعتاة لعدم الاعتداد بشبههم ، ولأنّهم أصرّوا على الباطل بعد كشف الشبهة وإيضاح الحقّ لهم ، وليس كلّ من انتحل شبهة يصير بها مجتهدا لأنّ الشبهة تعرض للقاصر عن درجة الاجتهاد» (٣).

لست أدري إذا كيف أصبح قاتل الإمام عليّ مجتهدا متأوّلا وقد ضربه بالسيف في الصلاة وفي محراب مسجد الكوفة كما يأتي التصريح به في ما يأتي :

ك ـ المجتهد المتأول عبد الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي

قال ابن حزم في المحلّى ، وابن التركماني في الجوهر النقي ، واللفظ للأوّل : «لا خلاف بين أحد من الأمّة في أنّ عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل عليّا إلّا متأوّلا مجتهدا مقدّرا أنّه على صواب ، وفي ذلك يقول عمران بن حطّان شاعر الصفرية :

يا ضربة من تقيّ ما أراد بها

إلّا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّي لأذكره يوما فأحسبه

أوفى البريّة عند الله ميزانا (٤)

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ط. دار الكتاب اللبناني سنة ١٩٥٦ م ص ٣٨٠ ، وهو أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون (٧٣٢ ـ ٨٠٨ ه‍) دفن بمقابر الصوفية بمصر ويقصد بمن حاربه ابن الزبير بمكة وأهل المدينة بواقعة الحرة.

(٢) الفصل لابن حزم ج ٤ / ١٦١.

(٣) الصواعق المحرقة لابن حجر ، ص ٢١٥.

(٤) ابن حزم في المحلى ج ١٠ / ٤٨٤ وابن التركماني في الجوهر النقي بذيل سنن البيهقى ٨ / ٥٨ و ٥٩ ، والجوهر ـ

٨٢

لست ادري كيف أصبح عبد الرحمن بن ملجم مجتهدا ، ولم يكن من الصحابة! ولست أدري كيف أصبح يزيد ـ أيضا ـ مجتهدا كما يأتي التصريح به ، ولم يكن من الصحابة!

ل ـ الخليفة الإمام يزيد بن معاوية

قال أبو الخير الشافعي في حقّ يزيد : «ذاك إمام مجتهد» (١).

وقال ابن كثير بعد ما نقل عن أبي الفرج (٢) تجويز لعنه : «ومنع من ذلك آخرون وصنفوا في ذلك أيضا لئلا يجعل لعنه وسيلة إلى [لعن (٣)] أبيه أو أحد من الصحابة ، وحملوا ما صدر منه من سوء التصرّفات على أنّه تأوّل فأخطأ وقالوا : إنه مع ذلك كان إماما فاسقا ، والإمام إذا فسق لا يعزل بمجرّد فسقه على أصحّ قولي العلماء ، بل ولا يجوز الخروج عليه لما في ذلك من إثارة الفتنة ووقوع الهرج وسفك الدم الحرام ... وأمّا ما ذكره بعض الناس من أنّ يزيد لمّا بلغه خبر أهل المدينة وما جرى عليهم عند الحرّة من مسلم بن عقبة (٤) وجيشه فرح بذلك فرحا شديدا ، فإنّه يرى أنّه الإمام وقد خرجوا عن طاعته ، وأمّروا عليهم غيره فله قتالهم حتّى يرجعوا إلى الطاعة ولزوم الجماعة» (٥).

ونقل ابن حجر في الصواعق عن الغزالي والمتولّي القول بأنّه : «لا يجوز لعن يزيد ولا تكفيره ، فإنّه من جملة المؤمنين. وأمره إلى مشيئة الله إن شاء عذّبه وإن شاء عفا عنه» (٦)

__________________

ـ النفي تأليف الشيخ علاء الدين علي بن عثمان المعروف بابن التركماني الحنفي (ت ٧٥٠ ه‍) قال في مقدمته : «هذه فوائد علّقتها على السنن الكبيرة ...» والسنن لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت ٤٥٨ ه‍) ، قال حاجي خليفة في كشف الظنون : «لم يؤلف في الإسلام مثله» راجع كشف الظنون ٢ / ١٠٠٧.

(١) بتاريخ ابن كثير ١٣ / ٩ ، وأبو الخير هو أحمد بن إسماعيل بن يوسف الشافعي الأشعري المفسر كان يعظ بالمدرسة النظامية ببغداد (ت ٥٩٠ ه‍).

(٢) أبو الفرج ابن الجوزي عبد الرحمن بن علي بن محمد البكري الحنبلي الواعظ المحدث المفسر ، له كتاب الردّ على عبد المغيث بن زهير الحنبلي الذي ألف كتابا في فضائل يزيد توفي ببغداد سنة ٥٩٧ ه‍.

(٣) يقتضيه السياق ولم يكن في الأصل.

(٤) مسلم بن عقبة قائد جيش يزيد في واقعة الحرة بمدينة الرسول (ص).

(٥) بتاريخ ابن كثير ٨ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٦) في الصواعق المحرقة لابن حجر ، ص ٢٢١.

والمتولي : ابو سعيد عبد الرحمن بن أبي محمد ، مأمون بن علي المتولي ، الأصولي ، الفقيه الشافعي النيسابوري تولى التدريس بالنظامية ببغداد (ت ٤٧٨ ه‍). الكني والألقاب ٣ / ١١٩ وراجع إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي (ت : ٥٠٥ ه‍) ٣ / ١٢٥.

٨٣

ـ ٤ ـ

شرح موارد اجتهاد المذكورين

أ ـ رسول الله (ص)

كان رسول الله (ص) أوّل من وصف في مدرسة الخلفاء بالاجتهاد كما مرّ قولهم في قصّة بعث أسامة «انّه كان يبعث السرايا عن اجتهاد» فما هي قصّة بعث أسامة وكيف كان تخلّف الخليفتين عنه؟

في طبقات ابن سعد وأنساب الأشراف وعيون الأثر وغيرها واللفظ للأوّل : «لمّا كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدي عشرة من مهاجر رسول الله أمر رسول الله (ص) الناس بالتهيّؤ لغزو الروم ، فلمّا كان من الغد دعا اسامة بن زيد فقال : «سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل ، فقد ولّيتك هذا الجيش ...»

فلمّا كان يوم الأربعاء بدئ برسول الله (ص) فحمّ وصدع ، فلمّا أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواءه بيده ... فخرج بلوائه معقودا وعسكر بالجرف (١) فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأوّلين والأنصار إلّا انتدب في تلك الغزوة فيهم أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطّاب ، وأبو عبيدة بن الجرّاح ، وسعيد بن زيد و... فتكلّم قوم ، وقالوا : يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين! فغضب رسول الله غضبا شديدا ، فخرج وقد عصّب على رأسه عصابة وعليه قطيفة ، فصعد المنبر وقال :

«ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اسامة ، ولقد طعنتم في إمارتي أباه قبله ، وأيم الله إنّه كان للإمارة لخليقا ، وإنّ ابنه من بعده لخليق للإمارة».

__________________

(١) الجرف : موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام. معجم البلدان.

٨٤

ثمّ نزل وجاء المسلمون الّذين يخرجون مع أسامة يودّعونه ويمضون إلى المعسكر بالجرف ، وثقل رسول الله (ص) فجعل يقول : «انفذوا بعث أسامة» فلمّا كان يوم الأحد اشتدّ برسول الله وجعه فدخل أسامة من معسكره والنبيّ مغمور (١) فطأطأ أسامة فقبّله ، ورسول الله لا يتكلّم ، ورجع أسامة إلى معسكره ، ثمّ دخل يوم الاثنين وأصبح رسول الله (ص) مفيقا فقال له : «اغد على بركة الله» فودّعه أسامة وخرج إلى معسكره فأمر الناس بالرحيل فبينما هو يريد الركوب إذا رسول أمّه أمّ أيمن قد جاء يقول «إنّ رسول الله يموت» فأقبل وأقبل معه عمرو أبو عبيدة فانتهوا الى رسول الله (ص) وهو يموت فتوفي حين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل» (٢).

وفي شرح النهج : فلمّا أفاق رسول الله (ص) سأل عن أسامة والبعث فأخبر أنّهم يتجهزون فجعل يقول : «أنفذوا بعث أسامة ، لعن الله من تخلّف عنه» فكرّر ذلك. فخرج اسامة واللواء على رأسه والصحابة بين يديه حتّى إذا كان بالجرف نزل ومعه أبو بكر وعمرو أكثر المهاجرين ، ومن الأنصار اسيد بن حضير وبشير بن سعد وغيرهم من الوجوه ، فجاءهم رسول أمّ أيمن يقول ... الحديث (٣).

هذا ما كان من أمر بعث أسامة في حياة الرسول وروى عروة عن أمره بعد وفاة الرسول وقال : «لما فرغوا من البيعة واطمأنّ الناس قال أبو بكر لأسامة : امض لوجهك الذي بعثك له رسول الله (ص)» (٤).

فذهب اسامة بجيشه وتخلّف عنه الخليفتان أبو بكر وعمر لانشغالهما بإدارة شئون الخلافة.

وكان الخليفة عمر يقول لاسامة :

__________________

(١) مغمور : يغمى عليه.

(٢) طبقات ابن سعد ط. داري صادر وبيروت عام ١٣٧٦ ه‍ ٢ / ١٩٠ ـ ١٩٢ في ذكر سرية أسامة ، وعيون الأثر كذلك ٢ / ٢٨١ وممن نص على أن أبا بكر وعمر كانا في بعث أسامة. كل من صاحب الكنز ، ط. الأولى ٥ / ٣١٢ ، ومنتخبه بهامش مسند أحمد ٤ / ١٨٠ عن عروة ، وبترجمة أسامة من أنساب الأشراف ١ / ٤٧٤ عن ابن عباس ، وبترجمة أسامة أيضا من طبقات ابن سعد ٤ / ٦٦ عن ابن عمر ، وبترجمته في تهذيب ابن عساكر ولفظه «استعمله على جيش فيه أبو بكر وعمر» ، وبتاريخ اليعقوبي ط. بيروت ٢ / ٧٤ في ذكر وفاة الرسول وابن الأثير في تاريخه ٢ / ١٢٣.

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ٢ / ٢١.

(٤) تاريخ ابن عساكر ١ / ٤٣٣.

٨٥

مات رسول الله (ص) وأنت عليّ أمير ، وحتّى أن ولى الخلافة كان إذا رأى أسامة (رض) قال : (السلام عليك ايها الأمير!) فيقول اسامة : غفر الله لك يا أمير المؤمنين تقول لي هذا! فيقول : لا أزال أدعوك ما عشت ، الأمير ، مات رسول الله (ص) وأنت عليّ امير (١).

وقد انتقدوا الخليفتين على تخلّفهما عن بعث اسامة ، فكان في ما اعتذروا عنهما ما مرّ من قولهم أنّه كان يبعث السرايا عن اجتهاد (٢) وعلى هذا فيجوز مخالفة أوامر الرسول في السرايا باجتهاد من الصحابة المجتهدين (٣).

ب ـ اجتهاد أبي بكر

أمّا موارد اجتهاد أبي بكر فمنها قصّة إحراقه الفجاءة السلمي كما رواها الطبري وابن الأثير وابن كثير واللفظ للأوّل قال : قدم على أبي بكر رجل من بني سليم اسمه الفجاءة وهو بجير بن أياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عميرة بن خفاف (٤) ، فقال لأبي بكر : إنّي مسلم وقد أردت جهاد من ارتد من الكفّار فاحملني وأعنّي ، فحمله أبو بكر على ظهر وأعطاه سلاحا فخرج يستعرض الناس المسلم والمرتدّ يأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم ومعه رجل من بني الشّريد يقال له نجبة بن أبي الميثاء ، فلمّا بلغ أبا بكر خبره كتب إلى طريفة بن حاجر (٥) أنّ عدو الله الفجاءة أتاني يزعم أنّه مسلم ويسألني أن أقويه على من ارتد عن الإسلام فحملته وسلّحته ، ثم انتهى إليّ من يقين الخبر أنّ عدوّ الله قد استعرض الناس المسلم والمرتدّ ، يأخذ أموالهم ، ويقتل من خالفه منهم ، فسر إليه بمن معك من المسلمين حتّى تقتله ، أو تأخذه فتأتيني به. فسار إليه طريفة بن حاجر. فلمّا التقى الناس كانت بينهم الرمي بالنبل فقتل نجبة بن أبي الميثاء بسهم رمي به فلمّا رأى فجاءة من المسلمين الجدّ قال لطريفة : والله ما أنت بأولى منّي أنت أمير لأبي بكر وأنا أميره ، فقال له طريفة : إن كنت صادقا فضع

__________________

(١) راجع سرية اسامة في السيرة الحلبية ص ٢٣٧.

(٢) راجع شرح النهج لابن ابي الحديد ج ٤ / ١٧٣ ـ ١٧٨.

(٣) ويرد نظير ذلك في مخالفتهم لنصوص أخرى وردت عن رسول الله راجع شرح ابن أبي الحديد للخطبة ٣ الشقشقية ١ / ٥٣.

(٤) في جمهرة انساب ابن حزم ص ٢٦١ بباب ذكر نسب بنو سليم بن منصور «الفجاءة وهو بجير بن أياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن سلمة بن عميرة بن خفاف المرتد أحرقه أبو بكر (رض) بالنار».

(٥) طريفة أبان بن سلمة بن حاجر السلمي ، ترجمته في الإصابة ٢ / ٢١٥.

٨٦

السلاح وانطلق معي إلى أبي بكر ، فخرج معه فلمّا قدما عليه أمر أبو بكر طريفة بن حاجر فقال : اخرج به إلى هذا البقيع فحرّقه فيه بالنار فخرج به طريفة إلى المصلّى فأوقد له نارا فقذفه فيها.

وفي رواية قبلها عند الطبري : «فأوقد له نارا في مصلّى المدينة على حطب كثير ، ثمّ رمى به فيها مقموطا».

وفي لفظ ابن كثير : «فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار فحرّقه وهو مقموط»(١).

وندم أبو بكر على فعله ذلك وقال في مرض موته :

«ثلاث فعلتهنّ وددت أنّي تركتهنّ ، وددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلّقوه على حرب ، ووددت أنّي لم أحرق الفجاءة السلمي وأنّي كنت قتلته تسريحا أو خلّيته نجيحا ، ووددت أنّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين. يريد عمر وأبا عبيدة» (٢).

واعترض على أبي بكر في ذلك لأنّ حكم مفسد كالفجاءة جاء في القرآن الكريم مصرّحا به في سورة المائدة الآية ٣٣ : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

ووردت روايات عن رسول الله في النهي عن الإحراق كما في صحيح البخاري ومسند أحمد قوله (ص) (٣) : «لا يعذّب بالنار إلّا ربّ النار» ، و «انّ النار لا يعذّب بها إلّا الله» ، و «لا يعذّب بالنار إلّا ربّها».

وورد قوله : «من بدّل دينه فاقتلوه» (٤) ، وقوله «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله إلّا بإحدى ثلاث : زنا بعد إحصان فإنّه يرجم ، ورجل

__________________

(١) تاريخ الطبري ط. مصر الأولى ٣ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥ ، وابن الأثير ٢ / ١٤٦ ، وابن كثير ٩ / ٣١٩ في ذكرهم حوادث السنة الحادية عشرة.

(٢) الطبري ٤ / ٥٢ في ذكر حوادث السنة الثالثة عشرة ، وراجع بقية مصادره في فصل التحصن بدار فاطمة من عبد الله بن سبأ ، ١ / ١٠٦.

(٣) صحيح البخاري ٢ / ١١٥ باب لا يعذب بعذاب الله من كتاب الجهاد ، ومسند أحمد ٢ / ٢٠٧ و ٣ / ٤٩٤ ، وسنن أبي داود كتاب الجهاد ، باب في كراهية حرق العدو بالنّار ، ح ٢٦٧٣ ، ٢٦٧٥ ، ج ٣ / ٥٥ ، ٥٦ ، وكتاب الأدب باب في قتل الذرّح ٥٢٦٨ ، ج ٤ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨ ، والبيهقي ٩ / ٧١ و ٧٢.

(٤) صحيح البخاري ، كتاب استتابة المرتدين ، وسنن أبي داود ، كتاب الحدود ، باب الحكم في من ارتدّ.

٨٧

يخرج محاربا لله ورسوله فإنّه يقتل أو يصلب ، أو ينفى من الأرض ، أو يقتل نفسا فيقتل بها»(١).

واعتذر العلماء عن مخالفته للنصوص الصريحة في هذه القضيّة بقولهم : «إحراقه فجاءة السلمي من غلطة في اجتهاده فكم مثله للمجتهدين» (٢).

ومنها فتواه في مسألة الكلالة ، والكلالة : الميت الّذي لا ولد له في ورثته ولا والد وورثته أيضا يقال لهم : الكلالة (٣).

وقد ورد في القرآن الكريم في سورة النساء الآية ١٢ : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) (٤).

وفي الآية ١٧٦ : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ، فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٥).

وقد سئل أبو بكر (رض) عنها فقال : إنّي سأقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله ، وإن يك خطأ فمنّي ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه. أراه ما خلا الولد والوالد فلما استخلف عمر (رض) قال إنّي لأستحيي الله إن أرد شيئا قاله أبو بكر (٦).

وقال مرّة : الكلالة من لا ولد له (٧).

ومنها جوابه عن إرث الجدّة ، كما في موطّأ إمام المالكية ، وسنن الدارمي ، وسنن أبي داود ، وسنن ابن ماجة وغيرها واللفظ للأوّل قال : جاءت الجدّة إلى أبي بكر الصدّيق تسأله ميراثها فقال لها أبو بكر : ما لك في كتاب الله شيء ، وما علمت لك في سنّة رسول الله شيئا فارجعي حتّى أسأل النّاس ، فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة : حضرت رسول الله (ص) أعطاها السدس فقال أبو بكر : هل معك غيرك؟ فقام محمّد بن مسلمة الأنصاري

__________________

(١) سنن البيهقي ٩ / ٧١.

(٢) راجع مصدره في ص ٦٧ من هذا الكتاب.

(٣) راجع تفسير الكلالة بمفردات الراغب.

(٤) قصد بالكلالة هنا الأخ والأخت من الأمّ إجماعا ونصّا. راجع تفسير الآية في التفاسير.

(٥) وأريد بأخ الميت وإخوته من كانوا من الأبوين أو من الأب حسب.

(٦) سنن الدارمي ٢ / ٣٦٥ ، وأعلام الموقعين لابن القيم الجوزية ١ / ٢٨ ، والسنن الكبرى للبيهقي ٦ / ٢٢٣.

(٧) تفسير القرطبي ٥ / ٧٧.

٨٨

فقال مثل ما قال المغيرة ، فأنفذه لها أبو بكر الصدّيق ... الحديث (١).

وفي ترجمة عبد الرحمن بن سهل من الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة وفي موطأ مالك ما موجزه قالوا : «أتته جدّتان أمّ الأمّ وأمّ الأب فأعطى الميراث أمّ الأمّ دون أمّ الأب. فقال عبد الرحمن بن سهل أخو بني حارثة : يا خليفة رسول الله! لقد أعطيت الّتي لو أنّها ماتت لم يرثها فجعله أبو بكر بينهما يعني السدس» (٢).

ومنها قصّة مقتل مالك بن نويرة وتزويج امرأته في ليلة مقتله ، ومالك بن نويرة التميمي اليربوعي ، يكنّى أبا حنظلة ويلقّب الجفول (٣) كان شاعرا شريفا فارسا من فرسان بنى يربوع في الجاهلية وأشرافهم فلمّا أسلم استعمله النبيّ (ص) على صدقات قومه فلمّا توفّي النبيّ أمسك الصدقة وفرّقها في قومه وقال في ذلك :

فقلت خذوا أموالكم غير خائف

ولا ناظر في ما يجيء من الغد

فإن قام بالدين المخوّف قائم

أطعنا وقلنا الدين دين محمّد (٤)

وفي الطبري عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال : لما نزل خالد بالبطاح (٥) بعث ضرار بن الأزور (٦) في سرية وفيهم أبو قتادة (٧) فداهموا قوم مالك ليلا.

وكان أبو قتادة يحدّث : «أنّهم غشوا القوم وراعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح ، قال :

__________________

(١) موطأ مالك ٢ / ٥٤ ، وسنن الدارمي ٢ / ٣٥٩ ، وابي داود ٢ / ٣٨ ، وابن ماجة ص ٩١٠ وبداية المجتهد ٢ / ٢٧٨.

(٢) الاستيعاب بهامش الإصابة ٢ / ٤١١ ، وأسد الغابة ٣ / ٢٩٩ ، والإصابة ٢ / ٣٩٤ ، وبداية المجتهد ٢ / ٣٧٩ ، وموطأ مالك ٢ / ٥٤.

(٣) الجفول : الريح التي تجفل السحاب وجفل الشعر جفولا صار شعثا وتنصب.

(٤) معجم الشعراء للمرزباني ص ٢٦٠ ، وترجمته بالإصابة ٣ / ٣٣٦.

(٥) البطاح : ماء في ديار أسد بن خزيمة ـ معجم البلدان.

(٦) ضرار بن الأزور أبو الأزّور الأسدي كان شاعرا فارسا شجاعا بترجمته في الإصابة ٢ / ٢٠٠ ـ ٢٠١. بعثه خالد في سرية فأغاروا على حي من بني أسد ، فاخذوا امرأة جميلة فسأل ضرار أصحابه أن يهبوها له ففعلوا فوطئها ثم ندم فذكر ذلك لخالد فقال : قد طيبتها لك فقال : لا حتّى تكتب إلى عمر ، فكتب ارضخه بالحجارة فجاء الكتاب وقد مات فقال خالد ما كان الله ليخزي ضرارا. وقيل إنه ممن شرب الخمر مع أبي جندل ... الحديث.

(٧) أبو قتادة الحارث الأنصاري الخزرجي السلمي شهد أحدا وما بعدها كان يقال له فارس رسول الله ، وشهد مع علي مشاهده كلّها ، اختلفوا في وفاته بالكوفة سنة ٣٨ أو ٤٠ أو بالمدينة سنة ٥٤ ، ترجمته بالاستيعاب ١ / ١١٠ ـ ١١١ وبهامش الإصابة ٤ / ١٦٠ ـ ١٦١ ، والإصابة ٤ / ١٥٧ ـ ١٥٨.

٨٩

فقلنا : إنّا المسلمون!

فقالوا : ونحن المسلمون!

قلنا : فما بال السلاح معكم؟

قالوا لنا : فما بال السلاح معكم؟

قلنا : فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح.

قال : فوضعوها ، ثمّ صلّينا وصلّوا (١).

وفي شرح ابن أبي الحديد : «فلمّا وضعوا السلاح ربطوا اسارى فأتوا بهم خالدا».

وفي الإصابة : «انّ خالدا رأى امرأة مالك وكانت فائقة في الجمال فقال مالك بعد ذلك لامرأته : «قتلتينى» يعنى سأقتل من أجلك» (٢).

وفي تاريخ اليعقوبي : «فلمّا رآها أعجبته ، فقال : والله ما نلت ما في مثابتك حتّى أقتلك» (٣).

وفي كنز العمّال : «انّ خالد بن الوليد ادّعى أنّ مالك بن نويرة ارتدّ بكلام بلغه عنه ، فأنكر مالك ذلك ، وقال : أنا على الإسلام ما غيّرت ولا بدّلت ، وشهد له أبو قتادة وعبد الله بن عمر ، فقدّمه خالد وأمر ضرار بن الأزور الأسدي فضرب عنقه ، وقبض خالد امرأته أمّ تميم فتزوّجها» (٤).

وفي وفيات الأعيان وفوات الوفيات وتاريخ أبي الفداء وابن شحنة واللفظ للأوّل : «كان عبد الله بن عمرو أبو قتادة الأنصاري حاضرين ، فكلّما خالدا في أمره فكره كلامهما. فقال مالك : يا خالد! ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الّذي يحكم فينا فإنّك بعثت إليه غيرنا ممّن جرمه أكبر من جرمنا.

فقال خالد : لا أقالني الله ان أقلتك ، وتقدّم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه.

فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد : هذه الّتي قتلتني ، وكانت في غاية الجمال.

فقال له خالد : بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام.

__________________

(١) الطبري ط. أوروبا ١ / ١٩٢٧ ـ ١٩٢٨.

(٢) الإصابة ٣ / ٣٣٧.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٣١.

(٤) كنز العمال ط. الأولى ج ٣ / ١٣٢.

٩٠

فقال مالك : أنا على الإسلام.

فقال خالد : يا ضرار! اضرب عنقه.

فضرب عنقه وجعل رأسه أثفية لقدر وكان من أكثر الناس شعرا» (١).

وتزوّج خالد بامرأة مالك أمّ تميم بنت المنهال في تلك الليلة (٢).

فقال في ذلك أبو زهير السعدي :

ألا قل لحيّ أوطئوا بالسنابك

تطاول هذا الليل من بعد مالك

قضى خالد بغيا عليه لعرسه

وكان له فيها هوى قبل ذلك

فأمضى هواه خالد غير عاطف

عنان الهوى عنها ولا متمالك

وأصبح ذا أهل وأصبح مالك

إلى غير أهل هالكا في الهوالك (٣)

ومرّ المنهال على أشلاء مالك بن نويرة هو ورجل من قومه حين قتله خالد ، فأخرج من خريطته ثوبا فكفّنه فيه ودفنه (٤).

وفي تاريخ اليعقوبي : «فلحق أبو قتادة بأبي بكر فأخبره الخبر وحلف أن لا يسير تحت لواء خالد لأنّه قتل مالكا مسلما».

وبرواية عبد الرحمن بن أبي بكر في الطبري : «وكان ممن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة ، وكان قد عاهد الله أن لا يشهد مع خالد حربا أبدا».

وفي تاريخ اليعقوبي ، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر :

يا خليفة رسول الله! إنّ خالدا قتل رجلا مسلما وتزوّج امرأته من يومها ، فكتب أبو بكر إلى خالد فأشخصه ، فقال : يا خليفة رسول الله إنّي تأوّلت (٥) وأصبت

__________________

(١) بترجمة وثيمة من وفيات الأعيان لابن خلكان ٥ / ٦٦ ، وفوات الوفيات ٢ / ٦٢٧ كلاهما نقلا الخبر عن ردة ابن وثيمة والواقدي ، وبتاريخ أبي الفداء ص ١٥٨ ، وتاريخ ابن شحنة بهامش تاريخ الكامل ١١ / ١١٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١١٠.

(٣) في الوفيات ٥ / ٦٧ ، والفوات ٢ / ٦٢٦ ـ ٦٢٧ ، وأبي الفداء ١٥٨ ، وابن شحنة ١١ / ١١٤ بهامش ابن الاثير.

(٤) بترجمة المنهال من الإصابة ٣ / ٤٧٨ ، والخريطة كالحقيبة وعاء من جلد وغيره يجمع على ما فيه.

(٥) تاريخ اليعقوبي ١ / ١٣٢ والمراد من التأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل كما ورد في ذيل حديث أم المؤمنين عائشة في صحيح مسلم ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ١ / ٤٧٨ ، كتاب صلاة المسافر ، الحديث رقم : ٣ ، حديث قال الزهري فقلت لعروة : ما بال عائشة تتم في السفر؟ يعني الصلاة ، قال : تأولت كما تأوّل عثمان ، أراد بتأويل عثمان أنه أتمّ الصلاة بمكة.

٩١

وأخطأت.

وفي وفيات الأعيان وتاريخ أبي الفداء وكنز العمّال وغيرها (١) واللفظ للأوّل : «لمّا بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لأبي بكر : إنّ خالدا قد زنى فارجمه. قال : ما كنت أرجمه فإنّه تأوّل فأخطأ. قال : فاعزله. قال : ما كنت أغمد سيفا سلّه الله.

وفي رواية الطبري عن عبد الرحمن بن أبي بكر : «فلمّا بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال :

عدوّ الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثمّ نزا على امرأته. وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتّى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد معتجرا بعمامة (٢) له قد غرز في عمامته أسهما ، فلمّا أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ثم قال أرياء! قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنّك بأحجارك ، ولا يكلّمه خالد بن الوليد ولا يظنّ إلّا أن رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه حتّى دخل على أبي بكر ، فلمّا أن دخل عليه أخبره الخبر واعتذر إليه فعذره أبو بكر وتجاوز عمّا كان في حربه تلك.

قال : فخرج خالد حين رضي عنه أبو بكر وعمر جالس في المسجد ، فقال : «هلم إليّ يا ابن أمّ شملة» قال : فعرف عمر أنّ أبا بكر قد رضي الله عنه فلم يكلّمه ودخل بيته.

وفي وفيات الأعيان وتاريخ اليعقوبي : وكان أخوه متمّم بن نويرة أبو نهشل شاعرا فرثى أخاه بمراثي كثيرة ، ولحق بالمدينة إلى أبي بكر ، وصلّى خلفه صلاة الصبح ، فلمّا فرغ أبو بكر من صلاته قام متمّم فوقف بحذائه واتّكأ على سية قوسه ثمّ أنشد :

نعم القتيل إذا الرياح تناوحت

خلف البيوت قتلت يا ابن الأزور

أدعوته بالله ثمّ غدرته

لو هو دعاك بذمّة لم يغدر

وأومأ إلى أبي بكر (رض) فقال أبو بكر : والله ما دعوته ولا غدرته ... الحديث.

هذه قصّة مقتل مالك وتزوّج خالد بامرأته في يوم مقتله ، تأوّل خالد في مسلم صلّى فأسره ، ثمّ تأوّل فيه فقتله ، ثمّ تأوّل في زوجته فتزوّجها يوم مقتله ، ثمّ تأوّل أبو بكر فأسقط عنه القود وتأوّل فأسقط عنه الحدّ ، اجتهد الصحابيان فأخطئا ولكلّ

__________________

(١) كنز العمال ط. الاولى ج ٣ / ١٣٢ الحديث ٢٢٨ وبقية المصادر مرّ تعيين صفحاتها.

(٢) اعتجر : لف عمامته دون التلحّي

٩٢

منهما أجر على كلّ خطأ ، وللصحابي عمر أجران حيث اجتهد ورأى رجم خالد وأصاب ، أمّا مالك ابن نويرة الصحابي العامل لرسول الله فلا أجر له على أسره ، ولا أجر له في قتله لأنّه اسر وقتل من قبل خالد بن الوليد القائد الكبير!!!

ج ـ شرح الأمور الّتي ذكروها في باب اجتهاد الخليفة عمر

منها أنّه أفرض وفضل في العطاء

قال الطبري في باب «حمله الدرّة وتدوينه الدواوين من سيرة عمر في ذكر حوادث سنة ثلاث وعشرين من تاريخه : «هو أوّل من دوّن للناس في الإسلام الدّواوين ، وكتب الناس على قبائلهم وفرض لهم العطاء».

وقال بعده : «إن عمر بن الخطّاب (رض) استشار المسلمين في تدوين الدواوين فقال له علي ابن أبي طالب ، تقسّم كلّ سنة ما اجتمع إليك من مال فلا تمسك منه شيئا ، وقال عثمان : أرى مالا كثيرا يسع الناس ، وإن لم يحصوا حتّى تعرف من أخذ ممّن لم يأخذ ، خشيت أن ينتشر الأمر. فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة يا أمير المؤمنين قد جئت الشام فرأيت ملوكها قد دوّنوا ديوانا ، وجنّدوا جندا ، فدوّن ديوانا وجنّد جندا ، فأخذ بقوله ، فدعا عقيل بن أبي طالب ، ومخرمة بن نوفل ، وجبير بن مطعم وكانوا من نساب قريش فقال: اكتبوا الناس على منازلهم ...» الحديث (١).

وذكر ابن الجوزي في أخبار عمر وسيرته تفصيل فرضه العطاء ، وتفضيل بعضهم على بعض. قال :

«فرض للعبّاس بن عبد المطلب اثني عشر ألف درهم.

ولكل واحدة من زوجات الرسول عشرة آلاف درهم ، وفضّل عليهنّ عائشة بألفين ، ثمّ فرض للمهاجرين الذين شهدوا بدرا لكلّ واحد خمسة آلاف ولمن شهدها من الأنصار أربعة آلاف.

وقيل : فرض لكلّ من شهد بدرا خمسة آلاف من جميع القبائل.

__________________

(١) بتاريخ الطبري ٢ / ٢٢ ـ ٢٣ ، وفتوح البلدان ص ٥٤٩. تراجم المذكورين في الخبر : لم أجد في كتب التراجم والرجال ، الوليد بن هشام بن المغيرة ولعله الوليد بن الوليد بن المغيرة. راجع ترجمته بأسد الغابة ٥ / ٩٢ ، وأنساب قريش ص ٣٢٢ ، وعقيل بن أبي طالب توفي في خلافة معاوية ترجمته بأسد الغابة ٣ / ٤١٢. ومخرمة بن نوفل القرشي الزهري ترجمته بأسد الغابة ٤ / ٣٣٧ وجبير بن مطعم القرشي النوفلي توفي بعد الخمسين للهجرة ، أسد الغابة ١ / ٢٧١.

٩٣

ثمّ فرض لمن شهد أحدا فما بعدها إلى الحديبية أربعة آلاف.

ثمّ فرض لكل من شهد المشاهد بعد الحديبية ثلاثة آلاف.

ثمّ فرض لكلّ من شهد المشاهد بعد وفاة رسول الله (ص) ألفين ، وألفا وخمسمائة ، وألفا واحدا ، إلى مائتين.

قال : ومات عمر على ذلك.

قال : وجعل نساء أهل بدر على خمسمائة ، ونساء من بعد بدر إلى الحديبية على أربعمائة ، ونساء من بعد ذلك على ثلاثمائة ، وجعل نساء أهل القادسية على مائتين مائتين ثمّ سوّى بين النساء بعد ذلك (١).

وتختلف رواية اليعقوبي عن هذه الرواية وفيها : «ولأهل مكّة من كبار قريش مثل أبي سفيان بن حرب ومعاوية بن أبي سفيان خمسة آلاف» (٢).

هكذا فضّل بعضهم على بعض في العطاء حتّى بلغ العطاء لبعضهم ستين مرّة أكثر من الآخرين مثل عطاء أمّ المؤمنين عائشة الاثني عشر ألفا بالنسبة للمائتين (عطاء قسم من النساء المسلمات) وبذلك أوجد النظام الطبقي داخل المجتمع الإسلامي خلافا لسنّة الرسول فاجتمعت الثروة في جانب وبان الإعسار في الجانب الآخر ، وتكوّنت طبقة مترفة تتقاعس عن العمل ، ويبدو أن الخليفة أدرك خطورة الأمر في آخر حياته فقد روى الطبري انه قال :

«لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسّمتها على فقراء المهاجرين» (٣).

وفي ما تمنّى ـ أيضا ـ فضل فقراء المهاجرين على فقراء الأنصار وفقراء سائر المسلمين! (٤)

ومن أوضار تقسيم بيت المال على صورة عطاء سنويّ أنّ المسلمين أصبحوا بعد ذلك تحت ضغط الولاة وكان الولاة يقطعون عطاء من خالفهم ، ويزيدون في عطاء من

__________________

(١) روى عنه ابن أبي الحديد في الطعن الخامس بشرح «لله بلاد فلان ...» من شرح النهج ٣ / ١٥٤ ، وورد هذا أيضا في باب ذكر العطاء في خلافة عمر من فتوح البلدان ص ٥٥٠ ـ ٥٦٥.

(٢) بتاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٣.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٣٣ في ذكر سيرة عمر باب جمله الدرة.

(٤) ولست أدري ما معنى أخذه أموال الناس في غير ما فرض الله ، لو فعل ذلك.

٩٤

وافقهم مثل ما وقع في زمان الخليفة عثمان ، وما وقع من زياد وابنه عبيد الله زمن ولايتهما على الكوفة (١).

__________________

(١) راجع فصل عصر الصهرين وسيرة عثمان ومعاوية من «احاديث أم المؤمنين عائشة».

وزياد كانت أمه سمية جارية للحرث بن كلدة الطبيب الثقفي ومن البغايا ذوات الرايات بالطائف ، وتسكن حارة البغايا خارجا عن الحضر. وتؤدي الضريبة للحرث وكان قد زوجها من غلام رومي له اسمه عبيد وفي أحد أسفار أبي سفيان للطائف طلب من أبي مريم الخمار بغيا ، فقدّم له سمية فعلقت بزياد ووضعته على فراش عبيد في السنة الأولى من الهجرة وكان ينسب إليه ثمّ أصبح كاتبا لأبي موسى في البصرة ، ثمّ واليا على الري وهناك ألحقه معاوية بأبي سفيان وقيل له زياد بن أبي سفيان ومن تحرج من ذلك على عهد بني أميّة قال له : زياد ابن أبيه ، ولّاه معاوية البصرة والكوفة ، ولما أبى أن يأخذ البيعة ليزيد ... توفي فجأة بالكوفة سنة ٥٣ ه‍. راجع «أحاديث أم المؤمنين عائشة» ص ٢٥٥ ـ ٢٦١.

وابنه عبيد الله أمّه أمة اسمها مرجانة ، ولد بالبصرة سنة ٢٨ ه‍ ، ولاه معاوية خراسان بعد أبيه سنة ٥٣ ه‍ ثمّ البصرة سنة ٥٥ ه‍ ، وضم له يزيد الكوفة سنة ٦٠ ه‍ ليقاتل الحسين (ع) فقتل الحسين وأهل بيته سنة ٦١ ه‍ ، وقتله إبراهيم بن الأشتر قائد جيش المختار بخازر سنة ٧٦ ه‍. راجع فهرست الطبري ص ٣٦٦

٩٥

ـ ٥ ـ

اجتهاد الخليفتين أبي بكر وعمر في الخمس

ومن موارد اجتهاد الخليفتين أبي بكر وعمر ؛ منعهما أهل البيت خمسهم ـ كما ذكروا ـ وخاصّة حقّ ابنة الرسول فاطمة (ع). ولا بدّ لنا في معرفة كيفية اجتهادهما في هذا المورد أن ندرس :

أوّلا : الزكاة والصدقة والفيء والصفيّ والأنفال والغنيمة والخمس لغة وشرعا.

ثانيا : شأن الخمس وحقّ ابنة الرسول (ع) في عصر الرسول (ص) ليتيسّر لنا بعد ذلك درس اجتهاد الخليفتين في الخمس وفي حقّ ابنة الرسول (ع) خاصة ، فنقول :

١ و ٢ ـ الزكاة والصدقة :

الزكاة في اللغة : الطهارة والنماء والبركة والمدح (١) مثل قوله تعالى : (أَيُّها أَزْكى طَعاماً) (٢) أي أطهر ، وما روي عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال «زكاة الأرض يبسها» (٣) أي طهارتها يبسها. وقول الإمام علي (ع) : «العلم يزكو على الإنفاق» (٤) أي ينمو ، وقولهم : «زكا الزرع» (٥) إذا حصل منه نموّ وبركة ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) (٦) أي يمدحونها.

__________________

(١) راجع مادة «زكا» من نهاية اللغة لابن الأثير.

(٢) الكهف / ١٩.

(٣) بمادة «زكا» من نهاية اللغة.

(٤) نهج البلاغة ، كتاب الحكم ، العدد ١٤٧.

(٥) بمادة «زكا» من مفردات الراغب.

(٦) النساء / ٤٩.

٩٦

وفي الشرع : ما يخرجه الإنسان من حقّ الله تعالى إلى مستحقّيه ، وتسميته بذلك لما يكون فيها رجاء البركة أو لتزكية النفس أي تنميتها بالخيرات والبركات أولهما جميعا فإنّ الخيرين موجودان فيها (١).

وزكّى أدّى زكاة ماله.

هذا ملخّص ما ذكره أهل اللغة في بيان معنى الزكاة (٢).

أمّا الصدقة فقد قال الراغب في مفرداته : «الصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزكاة لكنّ الصدقة تقال في الأصل للمتطوع به ، والزكاة للواجب» (٣).

وقال الطبرسي في مجمع البيان : «الفرق بين الصدقة والزكاة أنّ الزكاة لا تكون إلّا فرضا ، والصدقة قد تكون فرضا وقد تكون نفلا» (٤).

ومن ثمّ نرى أنّ الزكاة لوحظ فيها معنى الوجوب وقصد منها حقّ الله في المال ، كما لوحظ في الصدقة التطوّع أي اعطاء المال قربة إلى الله تعالى وقد تلحظ فيها الرحمة على المعطى له مثل قول إخوة يوسف له : «وتصدّق علينا» (٥).

وبما أنّ الزكاة لوحظ فيها الوجوب أي حقّ الله في المال نرى أنّها تشمل أنواع الصدقات الواجبة والخمس الواجب وغيرهما من كلّ ما كتب الله على الانسان في المال.

ويشهد لهذا ما ورد في كتاب رسول الله (ص) لملوك حمير : «وآتيتم الزكاة من المغانم خمس الله وسهم النبيّ وصفيّه وما كتب الله على المؤمنين من الصدقة» (٦).

فإن لفظ «من» بعد الزكاة لبيان أنواع الزكاة المذكورة بعدها وهي :

أ ـ من المغانم خمس الله.

__________________

(١) راجع مادة «زكا» من مفردات الراغب.

(٢) راجعنا في هذا وما يأتي بترجمة المصطلحات الآتية الراغب في مفرداته ، وابن الأثير في نهاية اللغة ، وابن منظور في لسان العرب ، والقاموس وشرحه مضافا إلى تفاسير القرآن مثل تفسير الطبري والطبرسي وغيرهما.

(٣) بمادة «صدق».

(٤) مجمع البيان ج ١ / ٣٨٤ بتفسير الآية ٢٧٢ من سورة البقرة.

(٥) يوسف / ٨٨.

(٦) يأتي ذكر مصادر الكتاب في ما بعد إن شاء الله.

٩٧

ب ـ سهم النبي وصفيه.

ج ـ ما كتب الله على المؤمنين من الصدقة. أى القسم الواجب من الصدقة.

* * *

وهكذا جعل الصدقة الواجبة قسما واحدا من أقسام الزكاة. وقد حصر الله الصدقة بالمواضع الثمانية المذكورة في قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١) ولم يحضر الزكاة بمورد ما ، بل قرنها بالصلاة في خمس وعشرين آية من كتابه الكريم (٢) وكلّما قرنت الزكاة بالصلاة في كلام الله وكلام رسوله قصد منها مطلق حقّ الله في المال والّذي منه : حقّه في ما بلغ النصاب من النقدين والأنعام والغلّات أي الصدقات الواجبة ، ومنه حقّه في المغانم أي الخمس ، وحقّة في غيرهما.

وإذا قرنت في كلامهما بالخمس ، قصد منها الصدقات الواجبة خاصّة. وكذلك إذا أضيفت في الكلام إلى أحد موارد أصناف الصدقة مثل «زكاة الغنم» أو «زكاة النقدين» قصد منها عند ذاك أيضا صدقاتها الواجبة. ويسمّى العامل على الصدقة في الحديث والسيرة بالمصدّق (٣) ولا يقال «المزكّي» ويقال لمعطي الصدقة : «المتصدق» (٤) ولا يقال المزكّي أو المتزكّي و «الصدقة» هي الّتي حرّمت على بني هاشم (٥) وليست الزكاة ، ولم ينتبه مسلم إلى هذا وكتب في صحيحه «باب تحريم الزكاة على رسول الله (ص) وعلى آله ...» (٦) وأورد في الباب ثمانية أحاديث تنصّ على حرمة الصدقة عليهم وليست الزكاة كما قال ، وعلى هذا فكلّ ما ورد في القرآن الكريم من أمثال قوله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٧) ، فهو أوّلا أمر باقامة كلّ ما يسمّى صلاة سواء

__________________

(١) التوبة ٦٠.

(٢) راجع مادة «الزكاة» من المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

(٣) راجع مادة «صدق» بمفردات الراغب ونهاية اللغة ولسان العرب.

(٤) قال الله تعالى (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) الحديد ١٨ وقال (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) الأحزاب ٣٥ ، وراجع أبواب الزكاة في صحيح مسلم ٣ / ١٧٢ ، وسنن أبي داود ١ / ٢٠٢ ، والترمذي ٣ / ١٧٢. ولا يعبأ بما ورد عند بعض المتأخرين مثل المتقي في كنز العمال.

(٥) يأتي تفصيله في ما بعد إن شاء الله.

(٦) صحيح مسلم ٣ / ١١٧.

(٧) راجع مادة «الزكاة» في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

٩٨

اليوميّة منها أو صلاة الآيات أو غيرهما. وثانيا أمر بأداء حقّ الله في المال سواء حقّه في موارد الصدقة الواجبة ، أو حقّه في موارد الخمس أو في غيرهما.

وكذلك المقصود في ما روي عن رسول الله أنّه قال : «إذا أدّيت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك» (١) أي أنك إذا أدّيت حق الله في مالك أي جميع حقوق الله في المال فقد قضيت ما عليك ، وكذلك ما روي عنه انه قال «من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتّى يحول الحول» (٢) أي لا حقّ لله في ماله. وورد في أحاديث أئمة أهل البيت : (وحقّ في الأموال الزكاة) (٣). ولعلّ سبب خفاء ذلك على الناس ، أنّ الخلفاء لمّا أسقطوا الخمس بعد رسول الله ولم يبق مصداق للزكاة في ما يعمل به غير الصدقات ، نسي الخمس تدرّجا ، ولم يتبادر إلى الذهن من الزكاة في العصور الأخيرة غير الصدقات!

٣ ـ الفيء :

الفيء في اللغة : الرجوع ومنه ما يقال الفيء لرجوع الظلّ بعد زوال الشمس.

وفي الشرع كما في لسان العرب : «ما حصل من أموال الكفّار من غير حرب» و «ما ردّ الله تعالى على أهل دينه من أموال من خالف أهل دينه بلا قتال ، إمّا بأن يجلوا عن أوطانهم ويخلّوها للمسلمين أو يصالحوا على جزية يفتدون بها من سفك دمائهم فهذا المال هو الفيء في كتاب الله» (٤).

وقوله تعالى في سورة الحشر : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الآية ٧.

هذه الآية وسورة الحشر كلّها ، نزلت في قصّة بني النضير. وذلك أنّ يهود بني النضير ، نقضت عهدها مع رسول الله ، وأرادت أن تغدر به وتقتله بإلقاء صخرة عليه حين ذهب مع عشرة من أصحابه إليهم ، فأخبره الوحي بما بيّتوا من نيّة الغدر فخرج مسرعا كانّه يريد حاجة ، ومضى إلى المدينة فلمّا أبطأ لحق به أصحابه فبعث النّبيّ إليهم يخبرهم بغدرهم ويأمرهم بالجلاء فأبوا وتحصنوا ١٥ يوما ثمّ نزلوا على أنّ لهم ما

__________________

(١) سنن الترمذي ٣ / ٩٧ باب ما جاء إذا أديت الزكاة فقد قضيت ما عليك.

(٢) سنن الترمذي ٣ / ١٢٥ باب ما جاء لا زكاة على المال المستفاد حتى يحول عليه الحول.

(٣) الكافي ٢ / ١٩ و ٢٠ ، وتفسير العياشي ١ / ٢٥٢ ، والبحار ٦٨ / ٣٣٧ و ٣٨٩.

(٤) بمادة الفيء.

٩٩

حملت الإبل غير الحلقة أي السلاح فخرجوا على ستمائة بعير وذهبوا إلى خيبر وغيرها فجعل الله ما خلّفوه من سلاح كثير وأراض ونخيل لرسول الله ، فقال عمر : ألا تخمّس ما أصبت؟ (أي تأخذ خمسة وتقسم الباقى على المسلمين) فقال رسول الله (ص) : لا أجعل شيئا جعله الله لي دون المسلمين بقوله : «ما أفاء الله على رسوله» الآية كهيئة ما وقع فيه السهمان للمسلمين.

وقال الواقدي وغيره :

إنّما كان ينفق على أهله من بني النضير ، كانت له خالصة ، فأعطى من أعطى منها وحبس ما حبس ، واستعمل على أموال بني النضير مولاه أبا رافع (١).

٤ ـ الصفي :

الصفيّ ويجمع على الصفايا كان يقال في العصر الجاهلي ، لما يأخذه الرئيس من المال المسلوب من العدى قبل القسمة. وفي الشرع الإسلامي ، لما كان لرسول الله خالصا دون المسلمين من مال منقول وغير منقول من أراض وعقار ، غير سهمه في الخمس (٢) ، يستفاد ما ذكرناه مما ننقله في ما يأتي :

روى أبو داود بسننه (٣) عن الخليفة عمر أنّه قال :

ا ـ كانت لرسول الله ثلاث صفايا : بنو النضير وخيبر وفدك ... الحديث.

ب ـ وفي حديث آخر له :

إنّ الله خصّ رسول الله (ص) بخاصّة لم يخصّ بها أحدا من الناس ، فقال (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤) وكان الله أفاء على رسوله بني النضير ... الحديث.

__________________

(١) كلما أوردناه في قصة بني النضير فمن مغازي الواقدي ص ٣٦٣ ـ ٣٧٨ ، وكذلك قال المقريزي في إمتاع الأسماع ص ١٧٨ ـ ١٨٢ غير أنه أوردها بإيجاز ، وراجع تفسير الآية بتفسير الطبري.

وأبو رافع اسمه إبراهيم أو صالح. قيل كان عبدا قبطيا للعباس فوهبه للنبي فاعتقه وزوّجه مولاته سلمى ، أسلم بمكة وشهد أحدا وما بعدها وكان ابنه رافع كاتبا لعلي (ع) ، توفي في خلافة عثمان أو بعده. اسد الغابة ١ / ٤١ و ٧٧.

(٢) نهاية اللغة لابن الأثير.

(٣) سنن أبي داود ، باب : في صفايا رسول الله من كتاب الخراج ٣ / ١٤١ والأموال لأبي عبيد ص ٩.

(٤) الحشر / ٦.

١٠٠