معالم المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٠٤

فقلنا : ما نسمع.

فقال : اكتبوا كتاب الله ، امحضوا كتاب الله. أكتاب غير كتاب الله؟ امحضوا كتاب الله.

فقال : فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد ، ثم أحرقناه بالنار (١)

إن صحّت هذه الأحاديث فما على المسلمين إلّا أن يجمعوا جميع مصادر الدراسات الإسلامية والّتي حوت أحاديث الرسول ، أو كان فيها شيء من حديثه مثل الصحاح والسنن والمسانيد والسير والتفاسير ويحرقوها أو يلقوها في البحر!!!

وبناء على ذلك لست أدري ما ذا يبقى من شرائع الإسلام إذا ألقينا بجميع مصادر سنّة الرسول في البحر؟ لا. لم يتفوه رسول الله (ص) بتلك الأحاديث ، وإنما قال في خطبته بمنى في حجّة الوداع :

«نضّر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم يسمعها ، فكم من حامل فقه إلى من هو أفقه منه» الحديث (٢).

وفي حديث آخر «فربّ حامل فقه غير فقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (٢).

وفي رواية أخرى قال رسول الله : «نضّر الله امرأ سمع منّا حديثا فأدّاه كما يسمع ، فربّ مبلغ أوعى من سامع» (٢). وفي أخرى قال النبيّ (ص) :

ليبلّغ الشاهد الغائب ، فإنّ الشاهد عسى أن يبلّغ من هو أوعى له منه (٥).

وقال (ص) :

«اللهمّ ارحم خلفائي! اللهمّ ارحم خلفائي! اللهمّ ارحم خلفائي! قيل له يا رسول الله من خلفاؤك؟ قال : الّذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنّتي» (٦).

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ١٢ ـ ١٣.

(٢) راجع مصادره فيما سبق ، باب تعريف مصطلح الفقه ، وبدائع المتن ج ١ / ١٤.

(٥) صحيح البخاري ج ١ / ٢٤ ، ط بولاق ، كتاب العلم باب قول النبي : ربّ مبلّغ ... ، وفي كنز العمال ط / ١٠٢ / ١٣٣ ، ح ١١٢٦ ، سنن ابن ماجة ج ١ / ٨٥ ، ح ٢٣٣ ، بحار الأنوار ج ٢ / ١٥٢ ، ح ٤٢.

(٦) في مصادر مدرسة أهل البيت معاني الأخبار ص ٣٧٤ ـ ٣٧٥ ، عيون الأخبار ، ط. النجف الأشرف ٢ / ٣٦ ، من لا يحضره الفقيه ، تحقيق علي اكبر غفاري ٤ / ٤٢٠ ، بحار الأنوار ٢ / ١٤٥ ، ح ٧.

٦١

وفي باب كتابة العلم من البخاري : ان رجلا من أهل اليمن سمع حديث رسول الله فقال : أكتب لي يا رسول الله ، فقال : اكتبوا لأبي فلان (١).

وروي أن رجلا من الأنصار كان يجلس إلى النبيّ فيسمع من الحديث فيعجبه ولا يحفظه فشكا ذلك إلى النبيّ (ص) فقال له رسول الله (ص) : «استعن بيمينك» وأومأ بيده أي خطّ (٢).

وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قلت : يا رسول الله أكتب كلّ ما أسمع منك؟ قال : «نعم» قلت : في الرضا والغضب؟ قال : (نعم فإنّي لا أقول في ذلك كله إلّا حقّا).

وفي رواية إنّي أسمع منك أشياء فأكتبها؟ قال : نعم (٣).

وعن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله (ص) أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا : تكتب كل شيء سمعته من رسول الله (ص) ورسول الله (ص) بشر يتكلم في الغضب والرضا ، فأمسكت عن الكتابة فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ باصبعه إلى فيه وقال : اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلّا حقّ (٤).

وفي رواية أخرى بعد هذا : انّه أتى رسول الله (ص) فقال : يا رسول الله (ص) إني أروي من حديثك فأردت أن أستعين بكتاب يدي مع قلبي إن رأيت ذلك ، فقال

__________________

ـ وفي مصادر مدرسة الخلفاء : المحدث الفاصل للرامهرمزي ، باب فضل الناقل عن رسول الله ص ١٦٣ ، وقواعد التحديث للقاسمي ، باب فضل راوي الحديث ط ٢ ص ٤٨ ، شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي ، باب كون أصحاب الحديث خلفاء الرسول ص ٣٠ ، جامع بيان العلم لابن عبد البر ج ١ / ٥٥ ، أخبار اصبهان لأبي نعيم ج ١ / ٨١ ، الفتح الكبير للسيوطي ، عن أبي سعيد ج ١ / ٢٣٣ ، كنز العمال للمتقي ، كتاب العلم باب آداب العلم ، فصل رواية الحديث وآداب الكتابة ، عن علي (ع) وابن عباس ط ٢ ج ١٠ / ١٢٨ و ١٣٣ ح ١٠٨٦ و ١١٢٧ وج ١٠ / ١٨١ ، ح ١٤٠٧ ، والالماع للقاضي عياض ، باب شرف علم الحديث وشرف اهله ، ص ١١.

(١) صحيح البخاري ج ١ / ٢٢. وأبو فلان هو أبو شاة كما في الترمذي ج ١٠ / ١٣٥.

(٢) سنن الترمذي ، كتاب العلم باب : ما جاء في الرخصة فيه ج ١٠ / ١٣٤.

(٣) مسند أحمد ج ٢ / ٢٠٧. و ٢١٥.

(٤) ذكرنا مصادره في أوائل باب موقف المدرستين من نشر حديث الرسول في القرن الأوّل.

٦٢

رسول الله (ص) : «إن كان حديثي ثمّ استعن بيدك مع قلبك» (١).

عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ، قال :

قلت : يا رسول الله إنّا نسمع منك أحاديث لا نحفظها ، أفلا نكتبها؟ قال : بلى ، فاكتبوها (٢).

* * *

إذا ، كان الرسول (ص) قد أمر وحثّ على تدوين أحاديثه ونشرها كما قرأناها في الأحاديث الصحيحة الأخيرة ، إذا فكيف رويت عنه الأحاديث السابقة الّتي كانت تقول : إن الرسول نهى عن كتابة حديثه!

الجواب : انّا رأينا أنّ قريشا أي المهاجرين من الأصحاب كانت تمنع من كتابة حديث رسول الله في حياته ، وأنّها هي التي منعت من كتابة وصية الرسول قبيل وفاته ، وبعد وفاته ـ على ـ أيضا ـ رأينا الخليفة القرشي الثاني يمنع بشدة عن كتابة حديث الرسول ، ويحرق ما كتب منها ، ويمنع من نشر حديث الرسول ، ويسجن في المدينة من خالف من الصحابة. وعلى نهجه سار الخليفة القرشي الثالث عثمان ، وكان من الطبيعي أن يسير في ركاب السلطة جمع من الصحابة.

ورأينا في الجانب الآخر في الصحابة من يخالف هذا الاتجاه ، وينشر أحاديث الرسول ويناله الإرهاق والشدّة مثل الصحابي أبي ذرّ. وسيأتي في البحوث الآتية بهذا الكتاب ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ الإمام عليّا (ع) كان مشجعا لهذا الاتجاه ، وكان من الطبيعي تشجيعه لنشر حديث الرسول على عهد خلافته ، ولما استشهد في محرابه وولي معاوية الحكم لم يكن من الهيّن على معاوية بعد ذلك أن يمنع كتابة حديث الرسول ما لا يريد نشره ، وكان لا بدّ له من مؤيّد على هذا الاتجاه ، فرويت أحاديث «منع الرسول من كتابة الحديث» في هذا العصر ، وأنتج كلّ ذلك أن نجد في أحاديث الرسول هذا التناقض :

أحاديث تروى عن رسول الله أنّه قال : «اكتبوا حديثي».

__________________

(١) سنن الدارمي المقدمة ، باب رخص في كتابة العلم ١ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٢) مسند أحمد ٢ / ٢١٥.

٦٣

وأحاديث تروى أنّه قال : «لا تكتبوا حديثي».

وهكذا وجدت الأحاديث المتناقضة في الأحاديث المروية عن رسول الله (ص).

وعلى هذا ، متى ما وجدنا الأحاديث متعارضة ، ينبغي أن نترك ما يوافق اتجاه السلطة الحاكمة مدى العصور.

ولا يفوتنا أخيرا أن نقول : إنّ المنع كان بقصد منع نشر فضائل الإمام عليّ (ع) على المسلمين ، خاصّة على عهد معاوية الذي كان يأمر بلعن الإمام في خطب الجمعة على منابر المسلمين ، كما مرّ بنا في الجزء الأول ، فصل : كتمان فضائل الإمام عليّ ، ونشر سبّه ولعنه.

* * *

أشرنا في ما سبق إلى جانب ممّا اقتضته سياسة الحكم لدى معاوية ، وهو صرف الناس عن مدرسة أهل البيت وتوجيههم نحو مدرسة الخلفاء ، وأضف إلى ذلك أن معاوية كان بحاجة إلى تغيير رؤية المسلمين لإمامهم أكثر فأكثر. فإن رؤية المسلمين للحاكم الإسلامي الأوّل رسول الله (ص) ، وأنّه مثال للكمال الإنساني ، وأنّه لا تصدر منه المعاصي ، ولا ينساق وراء هوى نفسه.

هذه الرؤية كانت تمنع غير المنحرفين من أفراد الأمّة من الانسياق وراء معاوية ، ومن قبول يزيد (المخمور المعلن بالفسق) لولاية العهد ، ومن هنا كان معاوية بحاجة إلى تغيير رؤية المسلمين إلى مثلهم الأعلى رسول الله (ص) ، ولهذا ظهرت أحاديث تري رسول الله (ص) في مستوى يزيد ومعاوية في الانحراف وراء هوى نفسه ، وقد رويت تلك الأحاديث عن بعض أمهات المؤمنين وبعض صحابة رسول الله (ص) (١).

وكان ـ أيضا ـ في الأحاديث الإسرائيلية عن الأنبياء السابقين والّتي كان ينشرها علماء أهل الكتاب بين المسلمين إسنادا وتأييدا لما تتطلبه سياسة معاوية في

__________________

(١) راجع بحث منشأ الخلاف حول صفات رسول الله (ص) من (بحوث تمهيدية) في الجزء الأوّل من هذا الكتاب ، لترى كيف رسمت مدرسة الخلفاء صورة خاتم الأنبياء فإنا نرى أنها وضعت في عصر معاوية ولحسابه.

٦٤

هذا الجانب ، وزاد في الطين بلّة المنع من كتابة حديث الرسول والاعتماد على ذاكرة الرواة في ما يحدّثون. ولهذا اختلط الحابل بالنابل ، وامتزجت الإسرائيليات بالمروي من أحاديث الرسول.

وهكذا تشكل الفكر الإسلامي في مدرسة الخلفاء بطابعه الخاص به على عهد معاوية وكما أراده معاوية ، وأصبح هذا الفكر الخاص بمدرسة الخلفاء هو الإسلام الرسمي منذ عهد معاوية ، وأصبح ما يخالفه مرفوضا ومنبوذا. وبقي الإسلام الرسمي أو الفكر الإسلامى الّذي رسمه معاوية كما أراده على ذلك الشكل والمحتوى حتّى اليوم بعد أن وضع استشهاد الحسين سبط رسول الله وأهل بيته حدّا للانحراف بعد معاوية ، وكشف عن واقع الخليفة يزيد ، وجرّد مقام الخلافة من هالة القداسة التي كانت تتبرقع بها ، فأصبحت السلطة في جانب ، والتمثيل الديني في جانب آخر.

* * *

كان هذا موقف مدرسة الخلفاء من حديث الرسول (ص) وسندرس موقف مدرسة أهل البيت من حديث الرسول بعد الانتهاء من بحث موقف المدرستين من الفقه والاجتهاد في ما يأتي من أبواب هذا الكتاب ـ إن شاء الله تعالى ـ.

عود على بدء

كان استمرار النهي عن نشر سنّة الرسول (ص) بمدرسة الخلفاء عن كتابتها ؛ إلى أوّل القرن الثاني الهجري ؛ من أهم الأسباب الّتي أدّت بهم إلى فتح باب الاجتهاد في الأحكام ، والعمل فيها بآراء المجتهدين ، وأحيانا في مقابل سنّة الرسول (ص) كما سندرسه في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى.

٦٥
٦٦

الفصل الثالث

موقف المدرستين من الفقه والاجتهاد

١ ـ تطور مدلول الاجتهاد بمدرسة الخلفاء

٢ ـ تسمية الاجتهاد

٣ ـ مجتهد ومدرسة الخلفاء في القرن الأول وموارد اجتهادهم

المجتهدون من الخلفاء والصحابة والتابعين

٤ ـ شرح موارد اجتهاد المذكورين

أ ـ موارد اجتهاد الرسول (ص)

ب ـ موارد اجتهاد الخليفتين أبي بكر وعمر

٥ ـ اجتهاد الخليفتين أبي بكر وعمر في الخمس خاصّة

٦ ـ اجتهاد الخليفة عمر في المتعتين خاصّة

٧ ـ الاجتهاد في القرن الثاني فما بعد

حقيقته ، تطوره ، أدلّة صحّة العمل به

٦٧
٦٨

إنّ الفقه والاجتهاد قد اختلط أحدهما بالآخر في المجتمع الإسلامي وامتزجا أخيرا ولا يتيسر الفصل بينهما ، دون ما دراسة مستفيضة. وسنبدأ بدراسة الاجتهاد في مدرسة الخلفاء ، ثم نشير إلى موقف مدرسة أهل البيت من الفقه والاجتهاد في آخر الباب ، إن شاء الله تعالى.

ـ ١ ـ

تطور مدلول الاجتهاد بمدرسة الخلفاء

إن مصطلح الاجتهاد والمجتهد متأخر عن عصر الصحابة والتابعين بدهر ، إذ كان الصحابة والتابعون يسمّون تغيير الأحكام من قبلهم بالتأويل مثل ما ورد في خبر قتل خالد بن الوليد عامل رسول الله مالك بن نويرة ، فإنّ خالدا اعتذر عن فعله وقال للخليفة أبي بكر : «يا خليفة رسول الله! إنّي تأوّلت وأصبت وأخطأت».

وقال أبو بكر في جواب عمر حين قال : إنّ خالدا زنى فارجمه : «ما كنت أرجمه فإنه تأوّل فأخطأ» (١).

ومثل ما ورد في رواية الزهري عن عروة عن عائشة : «انّ الصلاة أوّل ما فرضت ركعتين فأقرّت الصلاة في السفر وأتمّت صلاة الحضر.»

قال الزهري : فقلت لعروة : ما بال عائشة تتمّ في السفر؟ قال : إنّها تأوّلت كما تأوّل عثمان. (٢).

__________________

(١) راجع موارد اجتهاد أبي بكر في ما يأتي.

(٢) صحيح مسلم ، باب صلاة المسافرين وقصرها ح ٣ ، والبخاري ١ / ١٣٤ باب تقصير الصلاة وقد حذف «في السفر» من لفظ الحديث حفظا لكرامة أم المؤمنين.

٦٩

وقال ابن حزم في الفصل : وعمّار (رض) قتله أبو الغادية. شه د ـ أي عمّار ـ بيعة الرضوان فهو من شهداء الله له بأنّه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ، ورضي عنه ، فأبو الغادية متأوّل مجتهد مخطئ باغ عليه مأجور أجرا واحدا وليس هذا كقتلة عثمان (رض) لأنّهم لا مجال لهم للاجتهاد في قتله (١).

وقال ابن حجر في ترجمة أبي الغادية : والظّنّ بالصحابة في كلّ تلك الحروب ، أنّهم كانوا فيها متأوّلين وللمجتهد المخطئ أجر. وإذا ثبت هذا في حقّ آحاد الناس فثبوته للصحابة بالطريق الأولى (٢).

وقال ابن حزم في المحلّى ، وابن التركماني في الجوهر النقي : ولا خلاف بين أحد من الأمّة في أنّ عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل عليّا إلّا متأوّلا مجتهدا مقدّرا أنّه على صواب وفي ذلك يقول عمران بن حطّان :

يا ضربة من تقي ما أراد بها

إلّا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّي لأذكره يوما فأحسبه

أوفى البريّة عند الله ميزانا(٣)

وقال الشيخ عبد اللطيف في هامش الصواعق : وجميع الصحابة ممّن كان على عهد عليّ إمّا مقاتل معه أو عليه أو معتزل عن المعسكرين متأوّل لا يخرج بما وقع عنه عن العدالة(٤).

وقال ابن كثير في حقّ يزيد : وحملوا ما صدر منه من سوء التصرّفات على أنّه تأوّل فأخطأ ، وقالوا : إنّه مع ذلك كان إماما فاسقا لا يعزل ... ولا يجوز الخروج عليه ، وأمّا ما ذكر أن يزيد لمّا بلغه خبر أهل المدينة وما جرى عليهم عند الحرّة ، فرح بذلك فرحا شديدا ، فإنّه يرى أنّه الإمام وقد خرجوا عن طاعته ، وأمّروا عليهم غيره ، فله قتالهم حتّى يرجعوا إلى الطاعة ، ولزوم الجماعة (٥).

في الخبر الأوّل سمّى كلّ من الصحابى : خالد بن الوليد والخليفة الصحابي أبو بكر : قتل مالك ونكاح زوجته بالتأوّل.

__________________

(١) الفصل ٤ / ١٦١.

(٢) الإصابة ٤ / ١٥١.

(٣) المحلى لابن حزم ١٠ / ٤٨٤ ، والجوهر النقي لابن التركماني الحنفي (ت ٧٥٠ ه‍) بذيل سنن البيهقي ٨ / ٥٨ و ٥٩.

(٤) بهامش الصواعق ص ٢٠٩.

(٥) تاريخ ابن كثير ٨ / ٢٢٣ ، أوردتها باختصار.

٧٠

وفي الخبر الثاني سمّى التابعي عروة بن الزبير إتمام عائشة الصلاة في السفر خلافا لما ترويه ، تأوّلا ، مثل فعل عثمان.

وبعد ذلك بدهر نجد ابن حزم المتوفي ٤٥٦ ه‍ يصف أبا الغادية في قتله عمار ابن ياسر متأوّلا مجتهدا مأجورا أجرا واحدا.

ونجده هو وابن التركماني الحنفي المتوفّى (٧٥٠ ه‍) يصفان ابن ملجم في قتله الإمام عليا متأوّلا مجتهدا.

ونجد ابن حجر المتوفى (٨٥٢ ه‍) يصف الصحابة في كلّ تلك الحروب متأوّلين وللمجتهد المخطئ أجر!.

* * *

هكذا سمّي العمل بالرأي أوّلا بالتأويل ، وأخيرا بالاجتهاد ، ثمّ اتبع علماء مدرسة الخلفاء الصحابة والخلفاء في ذلك وفتحوا لانفسهم باب هذا الاجتهاد أي العمل بالرأ ي ـ غير أنهم اكتشفوا للعمل بالرأي قواعد ، ووضعوا له أسماء ، وعقدوا له أبوابا في علم الأصول ، وسمّوا أيضا رجوعهم إلى تلك القواعد التي وضعوها ، واستخراجهم الأحكام بموجبها «الاجتهاد» ، وسمّوا من يقوم بذلك «المجتهد». بينما المصطلح الشرعي لعلم الدين هو «الفقه» ولعالمه «الفقيه» ، وعلى هذا فينبغي البحث في ما يأتي في ثلاثة أمور :

١ ـ التسمية.

٢ ـ المجتهدون في القرن الأوّل وموارد اجتهادهم.

٣ ـ الاجتهاد في القرن الثاني فما بعد ، واستنباط الأحكام من عمل الصحابة.

٧١

ـ ٢ ـ

تسمية الاجتهاد

التأويل لغة وشرعا

قال أبو العبّاس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب (ت ٢٩١ ه‍) : «التأويل ، والمعنى ، والتفسير ، بمعنى» (١).

وقال الجوهري (ت ٣٩٦ ه‍) : «التأويل ، تفسير ما يؤول إليه الشيء وقد أوّلته ، وتأوّلته تأوّلا ، بمعنى» (٢).

وقال الراغب (ت ٥٠٢ ه‍) : «التأويل من الأول أي الرجوع إلى الأصل ، ومنه الموئل للموضع الّذي يرجع إليه ، ومعنى التأويل في اللغة ، ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه ، وقد ورد في القرآن الكريم بهذا المعنى في :

١ ـ (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) آل عمران / ٧.

٢ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) الأعراف / ٥٣ أي بيانه الذي هو غايته (٣).

واستعمل التأويل في الكتاب والسنة في تعبير الرؤيا ، كما ورد في قصّة يوسف

__________________

(١) مادة «أوّل» في لسان العرب.

(٢) مادة «أوّل» في الصحاح.

(٣) مادة «أوّل» في مفردات الراغب. وقد أو جزت ما نقلت عنه ، وراجع البخاري ، كتاب الأذان ، باب ١٣٩ وتفسير سورة ١١٠ ، وصحيح مسلم ، كتاب الصلاة ، ح ٢١٧ ، وسنن ابن ماجة ، كتاب الإقامة ، الباب ٢٠.

٧٢

(نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) يوسف / ٣٦ وفي تعبير الرسول (ص) في غزوة أحد : «فأوّلت أنّ الدرع المدينة» (١).

كان هذا معنى التأويل في اللغة وتلك أمثلة من موارد استعماله ، واستعار الصحابة والتابعون لفظ التأويل وأرادوا به تغيير الأحكام ، ومن ثمّ أصبح للتأويل في عرف مدرسة الخلفاء معنى جديد.

قال ابن الأثير : التأويل من آل الشيء يؤول إلى كذا ، أي رجع وصار إليه ، والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن موضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ (٢).

هكذا غيّروا مدلول اللفظ ، وانتشر هذا التغيير في كتب الحديث ، فقد قال البخاري في كتاب الأدب من صحيحه : «باب من أكفر أخاه من غير تأويل فهو كما قال». و «باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأوّلا وجاهلا» (٣).

وفي شرح «باب ما جاء في المتأوّلين» من فتح الباري : والحاصل أنّ من أكفر المسلم ، نظر ، فإن كان بغير تأويل ، استحقّ الذمّ ، وربما كان هو الكافر ، وإن كان بتأويل ، نظر ، إن كان غير سائغ استحقّ الذمّ ولا يصل إلى الكفر بل يبيّن له وجه خطئه ويزجر بما يليق به ، ولا يلتحق بالأوّل عند الجمهور وإن كان ـ تكفيره ـ بتأويل سائغ لم يستحقّ الذمّ ، بل تقام عليه الحجّة حتّى يرجع إلى الصواب.

قال العلماء : كلّ متأوّل معذور بتأويله ، ليس بآثم إذا كان تأويله سائغا في لسان العرب ، وكان له وجه في العلم (٤).

هكذا طوّروا مدلول التأويل ، وأخيرا سمّوا موارد التأويل في عرفهم بالاجتهاد. وسندرس في ما يأتي ، المجتهدين في العصر الأوّل وموارد اجتهادهم.

__________________

(١) سنن الدارمي ٢ / ١٢٩ ، وراجع في موطأ مالك كتاب اللبس باب ما جاء في الانتعال ح ١٦ ، والدارمي كتاب الرؤيا الباب ١٣.

(٢) نهاية اللغة مادة «أول».

(٣) صحيح البخاري بمتن فتح الباري ١٣ / ١٢٩ ـ ٣٠.

(٤) فتح الباري (١٥ / ٣٣٣). لست أدري ما ذا يقولون في تكفير الخوارج عامّة المسلمين ، بلى إنّهم لا يعذرونهم ويسمّونهم المارقين عن الإسلام ، عدا ابن ملجم قاتل أمير المؤمنين ، فهو متأوّل معذور!!!

٧٣

ـ ٣ ـ

مجتهد ومدرسة الخلفاء في القرن الأوّل وموارد اجتهادهم

أ ـ خاتم الأنبياء وسيّد الرسل (ص)

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في مقام الاعتذار عن تخلّف الخليفتين أبي بكر وعمر عن جيش اسامة : «إنّه ـ أي الرسول (ع) ـ كان يبعث السرايا عن اجتهاد لا عن وحي يحرم مخالفته» (١). ثم أطال الحديث عن اجتهاد الرسول في هذه القضيّة.

ويأتي في باب اجتهاد الخليفة عمر مورد آخر ممّا وصفوا فيه حكم الرسول بالاجتهاد. كما نعرض أدلّتهم على اجتهاد الرسول بشيء من التفصيل مع بيان رأينا حولها في ما يأتي من هذه البحوث ـ إن شاء الله تعالى ـ ، لهذا كلّه صدّرنا أسماء المجتهدين عندهم باسم النبيّ الأكرم (ص) ، خلافا لما عليه المذهب الإماميّ الذي ينفي الاجتهاد عنه بتاتا.

ب ـ الخليفة الأوّل أبو بكر (رض)

أجاب القوشجي في شرح التجريد على اعتراض الطوسي على الخليفة أبي بكر من أنّه «أحرق الفجاءة السلمي ، ولم يعرف الكلالة ، وميراث الجدّة».

قال : «إحراقه الفجاءة بالنّار من غلطة في اجتهاده فكم مثله للمجتهدين ، وأمّا مسألة الكلالة والجدّة فليس بدعا من المجتهدين إذ يبحثون عن مدارك الأحكام

__________________

(١) في شرح «ومن كتاب له إلى أهل مصر مع مالك» من شرح نهج البلاغة ج ٤ / ١٧٨ ط. مصطفى البابي بمصر سنة ١٣٢٩ ه‍ تأليف عز الدين عبد الحميد بن محمّد بن محمّد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني المعتزلي الأديب المؤرخ (٥٨٦ ـ ٦٥٥ ه‍) ببغداد.

٧٤

ويسألون من أحاط بها ...» (١).

وقال في جواب اعتراضه على أبي بكر بأنّه لم يحدّ خالدا ولا اقتصّ منه : «تزوّج امرأته في دار الحرب لأنّه من مسائل المجتهدين».

قال : «وإنكار عمر عليه لا يدلّ على قدحه في إمامة أبي بكر ولا على قصده إلى القدح فيها ، بل أنكر عليه كما ينكر بعض المجتهدين على بعض» (٢).

ج ـ الصحابي المجتهد خالد بن الوليد

قال ابن كثير : «واستمرّ أبو بكر بخالد على الإمرة وإن كان قد اجتهد في قتل مالك بن نويرة وأخطأ» (٣).

د ـ الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رض)

نقل ابن أبي الحديد في الخامس ممّا انتقد عليه : «إنّه كان يعطي من بيت المال ما لا يجوز حتّى إنّه كان يعطي عائشة وحفصة عشرة آلاف درهم كلّ سنة ومنع أهل البيت خمسهم ...».

وذكر في الجواب عن هذا : «إنّ بيت المال إنّما يراد لوضع الأموال في حقوقها ثمّ وإلى المتولّي للأمر الاجتهاد في الكثرة والقلّة فأمّا أمر الخمس فمن باب الاجتهاد ...».

وقال : «فلم يخرج عمر بما حكم عن طريقة الاجتهاد ومن قدح في ذلك فإنّما يقدح في الاجتهاد الّذي هو طريقة الصحابة» (٤).

__________________

(١) قاله الخواجة نصير الدين محمد بن محمد بن الطوسي الجهرودي (ت ٦٧٢ ه‍) في كتابه تجريد الكلام في شرح عقائد الإسلام. راجع الذريعة ٣ / ٣٥١.

وشرح التجريد لعلاء الدين علي بن محمد ، لقب أبوه بالقوشجي لأنه كان حافظ البازي لملك ما وراء النهر. شارك علاء الدين في بناء مرصد سمرقند ، وسافر إلى تبريز ومنها إلى القسطنطينية للإصلاح بين سلطانها العثماني وسلطان تبريز حسن الطويل فأكرمه السلطان العثماني ، محمد وولاه على مدرسة آيا صوفيا وتوفي بها سنة ٨٩٧ ه‍. راجع ترجمته بهدية العارفين ١ / ٧٣٦ ، والكنى والألقاب ٣ / ٧٧.

(٢) هذه أقوال القوشجي في شرح التجريد ط. تبريز عام ١٣٠١ ه‍ ص ٤٠٧ وقد تكرر هذا الرقم في هذه الطبعة ، وراجع شرح النهج ٤ / ١٨٣ في الطعن السادس.

(٣) ابن كثير في تاريخه ٦ / ٣٢٣.

(٤) شرح النهج ج ٢ / ١٥٣ في ذيل شرح «ومن كلام له (ع) لله بلاد فلان» وقال أيضا في ج ٣ / ١٨٠ في جواب هذا النقد : «أدّى إليه اجتهاده».

٧٥

ونقل عن ابن الجوزي أنّه قال في الخمس : «إنّها مسألة اجتهاديّة» (١).

ونقل في السابع مما انتقد عليه قولهم : «أنّه كان يتلوّن في الأحكام حتّى روي أنّه قضى في الجدّ بسبعين ، وروى بمائة قضيّة ، وأنّه كان يفضّل في العطاء وقد سوّى الله تعالى بين الجميع وأنّه قال في الأحكام من جهة الرأي و [الحدس (٢)] والظنّ».

وذكر في الجواب أنّهم قالوا : «مسائل الاجتهاد يسوغ فيها الاختلاف والرجوع عن رأي إلى رأي بحسب الأمارات وغالب الظنّ».

وقال : «إنّما الكلام في أصل القياس والاجتهاد فإذا ثبت خرج ذلك أن يكون طعنا» (٣).

وقال القوشجي في جواب نقد الطوسي عليه : «انّه أعطى أزواج النّبيّ ، وأفرض ، ومنع فاطمة وأهل البيت من خمسهم ، وقضى في الجدّ بمائة قضيّة وفضّل في القسمة والعطاء ولم يكن ذلك في زمن النبيّ».

قال القوشجي : «وأجيب عن الوجوه الأربعة بأنّ ذلك ليس ممّا يوجب قدحا فيه فإنّه من مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهاديّة» (٤).

يقصد أنّ مخالفة الخليفة عمر بن الخطّاب (رض) لرسول الله (ص) في هذه الأحكام هي من باب مخالفة مجتهد وهو عمر ، لمجتهد وهو رسول الله ، ولا قدح فيه عليه!!! (٥)

ه ـ الخليفة الثالث عثمان بن عفان

قال القوشجي في جواب ما انتقد عليه من إسقاطه القود عن عبيد الله بن عمر : «إنّه اجتهد ورأى أنّه لا يلزمه حكم هذا القتل ، لأنّه وقع قبل عقد الإمامة له»(٦).

وأجاب ابن تيميّة عنه بأنّها «مسألة اجتهادية» (٧).

__________________

(١) المصدر السابق ص ١٥٤.

(٢) في الأصل (الحدث) وهو تصحيف.

(٣) المصدر السابق ص ١٦٥.

(٤) شرح التجريد ص ٤٠٨.

(٥) يا ناعي الإسلام قم فانعه!

(٦) شرح التجريد ص ٤٠٩ ، وراجع شرح النهج ج ١ / ٢٤٣.

(٧) في منهاج السنة ج ٣ / ٢٠٣ تأليف أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحرّانى الدمشقي الحنبلي مؤسس المدرسة السلفية. أفتى علماء عصره بفساد عقيدته فحبسه الوالي حتى توفي بسجن دمشق (٦٦١ ـ ٧٢٨ ه‍). ترجمته في تاريخ ابن كثير ١٤ / ١٣٥.

٧٦

ونقل المعتزلي في جوابهم على ما انتقد من ردّ الحكم أنّهم قالوا : «إنّ الرسول لو لم يأذن في ردّه لجاز أن يردّه إذا أدّاه اجتهاده إلى ذلك لأنّ الأحوال تتغيّر» (١).

وقال ابن تيميّة ـ أيضا ـ : «هو أمر اجتهادي».

وقال في جواب ما انتقد عليه ممّا وقع بينه وبين ابن مسعود : «إذا كان كل واحد منهما مجتهدا في ما قاله أثابه الله على حسناته وغفر له سيّئاته».

وقال : «قد يكون الإمام مجتهدا في العقوبة مثابا عليها وأولئك مجتهدون في ما فعلوه لا يأثمون به ، بل يثابون عليه لاجتهادهم مثل شهادة أبي بكرة على المغيرة ، فإنّ أبا بكرة رجل صالح من خيار المسلمين قد كان محتسبا في شهادته معتقدا أنّه يثاب على ذلك. (٢) فلا يمتنع أن يكون ما جرى من عثمان في تأديب ابن مسعود وعمّار من هذا الباب. وإذا كان المقتتلون قد يكون كلّ منهم مجتهدا مغفورا له خطؤه (٣) ، فالمختصمون أولى بذلك»(٤).

وأجاب عما اورد عليه في زيادة الأذان الثالث يوم الجمعة ، أنّها من مسائل الاجتهاد.(٥)

وقال ابن حجر الهيتمي في صواعقه : «وأمّا ابن مسعود ، فكان ينقم على عثمان كثيرا فظهرت المصلحة في عزله (٦). على أنّ المجتهد لا يعترض عليه في اموره الاجتهادية ، لكن أولئك الملاعين المعترضين لا فهم لهم بل ولا عقل» (٧).

وقال : «إنّ حبسه لعطاء ابن مسعود وهجره له فلما بلغه عنه ممّا يوجب ذلك لا سيّما وكلّ منهما مجتهد فلا يعترض بما فعله أحدهما مع الآخر» (٨).

__________________

(١) بشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١ / ٢٣٣.

(٢) لست أدري ما ذا يقول في المغيرة وفي ما شهد الشهود الأربعة عليه بأنّه جلس بين رجلي أم جميل ، وهل يراه مجتهدا مثابا على فعله لأنّه من صحابة رسول الله (ص)!؟

(٣) حتّى في ما إذا كان اجتهاده مخالفا لنصوص الكتاب والسنة؟!

(٤) منهاج السنة ج ٣ / ١٩٣ ، وكلّ ما أورد ابن تيمية هنا من أمثلة اجتهاد الصحابة دفاعا عن عثمان ، هي من قبيل المصادرة بالمطلوب.

(٥) المصدر السابق ج ٣ / ٢٠٤.

(٦) مصلحة من؟ مصلحة ابن مسعود أم المسلمين أم بني أمية؟!

(٧) الصواعق المحرقة لابن حجر شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر المصري الهيتمي الأنصاري ٩٠٩ ـ ٩٧٤ ه‍ ، ط. تصحيح الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف مكتبة القاهرة بمصر سنة ١٣٧٥ ه‍ ، ص ١١١.

(٨) المصدر السابق ص : ١١٢.

٧٧

وأجاب على ما اعترض عليه من إتمامه الصلاة بمنى عند ما حجّ بالناس : «أنّ هذه ، مسألة اجتهاديّة فالاعتراض بها جهل وقبح وغباوة ظاهرة إذ أكثر العلماء على أنّ القصر جائز لا واجب» (١).

و ـ المجتهدة أمّ المؤمنين عائشة (رض)

قال ابن تيميّة في جوابه على اعتراض العلّامة (٢) عليها : «وأمّا قوله وخالفت أمر الله في قوله تعالى (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) ، فهي رضي الله عنها لم تتبرّج تبرّج الجاهليّة الأولى والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة ...»

«وإذا كان سفرهنّ لمصلحة جائزا لعائشة ، اعتقدت أنّ ذلك السفر مصلحة للمسلمين فتأوّلت في هذا».

«والمجتهد المخطئ مغفور له خطأه».

«فالمغفرة لعائشة لكونها لم تقرّ في بيتها إذ كانت مجتهدة أولى».

«وبهذا يجاب عن خروج عائشة ـ رضي الله عنها ـ وإذا كان المجتهد مخطئا فالخطأ مغفور بالكتاب والسّنّة» (٣).

وقال القرطبي في الاعتذار عنها «مجتهدة ، مصيبة ، مثابة في ما تأوّلت ، مأجورة في ما فعلت ، إذ كلّ مجتهد في الأحكام مصيب» (٤).

ز ـ الفقيه المجتهد الذي لا يبارى والحبر الذي لا يجارى (٥) معاوية بن أبي سفيان

ح ـ وزيره عمرو بن العاص

قال ابن حزم في فصله ما موجزه : «انّ معاوية ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجرا واحدا» (٦).

__________________

(١) المصدر السابق ص ١١٣.

(٢) العلامة أبو منصور جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي (٦٤٧ ـ ٧٢٦ ه‍) من مؤلفاته منهاج الكرامة وهو الذي ردّ عليه ابن تيمية وسمّاه بمنهاج السنّة ورجعنا في بحثنا هذا إلى ط. الأميرية بمصر عام ١٣٢٢ ه‍.

(٣) منهاج السنة لابن تيمية ج ٣ / ١٩٠.

(٤) تفسير القرطبي ج ١٤ / ١٨٢ بتفسير الآية «ولا تبرّجن».

(٥) هكذا وصفه ابن حجر الهيتمي في تطهير لسانه ص ٢٢.

(٦) الفصل في الملل والأهواء والنحل ، تصنيف أبي محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهري (ت / ٤٥٦ ه‍) ط ، مصر أحمد ناجي الجمالي ومحمد أمين الخانجي سنة ١٣٢١ ه‍ ، وبهامشه الملل والنحل للشهرستاني. راجع الفصل ٤ / ١٦١.

٧٨

وقال : «معاوية رحمه‌الله مخطئ مأجور مرّة لأنّه مجتهد» (١).

وذكر مرّة أخرى معاوية وعمرو بن العاص وقال : «إنّما اجتهدوا في مسائل دماء كالتي اجتهد فيها المفتون ، وفي المفتين من يرى قتل الساحر وفيهم من لا يراه فأيّ فرق بين هذه الاجتهادات واجتهاد معاوية وعمرو وغيرهما لو لا الجهل والعمى والتخليط بغير علم»(٢).

واعتذر ابن تيميّة ـ أيضا ـ لمعاوية في ما فعل بأنّه مجتهد وقال : «إنّه كعلىّ بن أبي طالب في ذلك» (٣).

وقال ابن كثير : «معاوية مجتهد مأجور إن شاء الله» (٤).

وقال بعد إيراده قصة التحكيم بين عمرو وأبي موسى : «فأقرّ ـ أى أقرّ عمرو بن العاص ـ معاوية لما رأى ذلك من المصلحة ، والاجتهاد يخطئ ويصيب» (٥).

قال ابن حجر الهيتميّ في صواعقه : «ومن اعتقاد أهل السنّة والجماعة ـ أيضا ـ أنّ معاوية (رض) لم يكن في أيّام عليّ خليفة ، وإنّما كان من الملوك وغاية اجتهاده أنّه كان له أجر واحد على اجتهاده وأمّا عليّ فكان له أجران أجر على اجتهاده وأجر على إصابته ...» (٦).

وقال ابن حجر ـ أيضا ـ في كتابه تطهير الجنان واللسان عن الخطور والتفوّه بثلب سيّدنا معاوية بن أبي سفيان : «كان معاوية مأجورا على اجتهاده للحديث أنّ المجتهد إذا اجتهد فاصاب فله اجران وان اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ، ومعاوية مجتهد بلا شكّ فإذا أخطأ في تلك الاجتهادات كان مثابا وكان غير نقص فيه» (٧) ، ثمّ عقد فصلا طويلا في إثبات اجتهاد معاوية (٨).

ونقل في تأويل معنى الباغي في صواعقه وقال : «وفي الأنوار من كتب أئمتنا

__________________

(١) الفصل لابن حزم ٤ / ٨٩.

(٢) الفصل لابن حزم ٤ / ١٦٠.

(٣) راجع منهاج السنة ج ٣ / ٢٦١ و ٢٧٥ ـ ٢٦٦ و ٢٨٤ و ٢٨٨ ـ ٢٩٨.

(٤) بتاريخ ابن كثير ج ٧ / ٢٧٩.

(٥) تاريخ ابن كثير ج ٧ / ٢٨٣.

(٦) الصواعق المحرقة لابن حجر ص ٢١٦.

(٧) تطهير الجنان لابن حجر ص ١٥.

(٨) المصدر السابق ص ١٩ ـ ٢٢.

٧٩

المتأخرين ، والباغون ليسوا بفسقة ولا كفرة ، ولكنهم مخطئون في ما يفعلون ويذهبون إليه ولا يجوز الطعن في معاوية لأنّه من كبار الصحابة» (١).

وقال الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف في تعليقه على تطهير الجنان بعد ما نقل عن كتاب دراسات اللبيب : «أنّه أنكر كثير من الصحابة على معاوية في محدثاته» :

«وذكر من ذلك وقائع وفتاوى كثيرة مرجعها ما يقع لكلّ المجتهدين من الاختلاف في الرأي أو عدم العلم بالنصّ ومثلها وقع من الصحابة وغيرهم فلا تنزل بمعاوية عن صفّ المجتهدين» (٢).

ط ـ المجتهد أبو الغادية قاتل عمّار

قال ابن حزم في الفصل : «وعمّار (رض) قتله أبو الغادية يسار بن سبع السلمي ، شهد بيعة الرضوان : فهو من شهداء الله له بأنّه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه ، فأبو الغادية (رض) متأوّل مجتهد مخطئ باغ عليه ، مأجور أجرا واحدا وليس هذا كقتلة عثمان (رض) لأنّهم لا مجال لهم للاجتهاد في قتله ...» (٣).

وكذلك قال ابن حجر بترجمته من الإصابة وعدّة من الصحابة المجتهدين كما سيأتي.

ي ـ مجتهدون بالجملة

قال ابن تيمية في جواب قول العلّامة : «أمّا المطاعن في الجماعة فقد نقل الجمهور منها أشياء كثيرة حتى صنّف الكلبي (٤) في مثالب الصحابة ولم يذكر فيه منقصة واحدة لأهل البيت».

__________________

(١) الصواعق المحرقة لابن حجر ص ٢٢١.

(٢) الشيخ عبد الوهاب كان مدرسا بكلية الشريعة في القاهرة ونقلا تعليقه على ص ١٨ من تطهير ابن حجر وقد نقل ما أورده عن الدراسة الثانية من كتاب دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب للمعين بن الأمين.

(٣) الفصل لابن حزم ٤ / ١٦١.

(٤) ويقصد بالكلبي أبا المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي ؛ قال الذهبي في العبر ١ / ٣٤٦ : وتصانيفه تزيد على مائة وخمسين أثبت أسماء ١٤١ ، منها أحمد زكي في ثبت مصنفاته بملحق الأصنام ، وورد ذكر كثير مما لم يذكره احمد زكي بترجمته من رجال النجاشي ، وصفه علماء أهل السنة بالرفض والغلو في التشيع توفي سنة ٢٠٤ أو ٢٠٦ ه‍ راجع ترجمته بطبقات الحفاظ وأنساب السمعاني.

٨٠