معالم المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٠٤

ابن العاص (١) اللّذين حارباه في وقعة صفين ، ولا ذي الخويصرة (٢) وعبد الله بن وهب (٣) اللّذين حارباه يوم النهروان.

وكذلك لا يأخذون من نظرائهم من أعداء عليّ سواء كانوا معدودين من الصحابة أو التابعين أو اتباع التابعين أو من سائر طبقات الرواة (٤).

فبينا نجد مثلا أمام المحدّثين البخاري لا يخرج حديثا واحدا في صحيحه عن جعفر بن محمّد الصادق سادس أئمّة أهل البيت (٥) والّذي يروي عنه آلاف المحدثين من أتباع مدرسة أهل البيت آلاف الأحاديث. يروي هو وأبو داود والنسائي في صحاحهم عن عمران بن حطّان (٦) الخارجي الّذي يقول في عبد الرحمن بن ملجم وقتله للإمام عليّ :

يا ضربة من تقيّ ما أراد بها

إلّا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّي لأذكره يوما وأحسبه

أو في البريّة عند الله ميزانا

ويروي النسائي مثلا في صحيحه عن عمر بن سعد (٧) قاتل الحسين ويقول علماء

__________________

(١) أبو عبد الله عمرو بن العاص القرشي السهمي. وأمّه النابغة كانت من شهيرات البغايا في الجاهلية ، أسلم عام خيبر ، وفتح مصر ووليها لعمر ، ولما عزله عثمان أصبح من أشدّ المؤلبين عليه. وبعد قتله اشترط على معاوية أن يعطيه مصر على نصره إيّاه. فاشترك في صفين وأشار على معاوية برفع المصاحف ، وغدر بأبي موسى في التحكيم ، ثمّ ذهب إلى مصر وقتل محمد بن أبي بكر ووليها حتى توفي بها بعد سنة أربعين. وروى عنه أصحاب الصحاح ٣٩ حديثا. راجع فصل مع معاوية بأحاديث عائشة ، وجوامع السيرة ص ٢٨٠.

(٢) ذو الخويصرة التميمي. اسمه الحرقوص. كان رسول الله ذات يوم يقسم فقال : يا رسول الله اعدل فقال : ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ، وأخبر عن خروجه وقتله ، فقتل بالنهروان مع الخوارج وطلبه علي فوجده كما أخبر عنه الرسول. ترجمته بأسد الغابة.

(٣) عبد الله بن وهب الراسبي السبائي ، بايعه الخوارج على أنه خليفتهم سنة ٣٧ ه‍ فقتل في النهروان راجع عبد الله بن سبأ ٢ / ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

(٤) وقد يروون من هؤلاء ما كان في فضل على وما شابهه ، وذلك لأنّ الفضل ما شهدت به الأعداء أو ما كان منهم اعترافا بحقّ.

(٥) أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق ، قال المفيد في الإرشاد ص : ٢٥٤ ، «انّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل» توفي سنة ١٤٨ ه‍.

(٦) عمران بن حطان البكري ثمّ الشيباني السدوسي ، من شعراء الشراة. ترجمته في الأغاني ط ساسي ج ١٦ / ١٤٧ ـ ١٥٢.

(٧) أبو حفص عمر بن سعد القرشي الزهري قتله المختار سنة ٦٥ او ٦٦ أو ٦٧. ترجمته بتقريب التهذيب ج ٧ / ٤٥١.

٤١

الرجال في ترجمته : «صدوق ، لكن مقته الناس ، لكونه أميرا على الجيش الذين قتلوا الحسين بن علي». بينما يلعنها أتباع مدرسة أهل البيت.

* * *

ولهذا نشأ الخلاف الفكري بين المدرستين ـ كما رأينا إلى هنا ـ حول من يأخذون منه حديث الرسول (ص).

٤٢

(٢)

موقف المدرستين من نشر حديث الرسول (ص) في القرن الأوّل

بالإضافة إلى ما ذكرنا حدد معالم المدرستين وأطرّ كلّا منهما باطارها الخاص بها نشاط رجال المدرستين في نشر الحديث ، فبينا منع الخلفاء من كتابة حديث رسول الله (ص) ونشره ؛ نشطت المدرسة الأخرى في سبيل نشره متحديّة جهود مدرسة الخلفاء في سبيل منعه ، وقد بدأت المعركة سافرة صريحة منذ آخر ساعات حياة الرسول (ص) عند ما قال : «آتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا ، فقالوا : يهجر رسول الله (ص) (١).

وقد عيّن البخاري في حديث آخر يرويه عن ابن عباس قائل هذا القول ، قال :

«لمّا حضر النبيّ (ص) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال : هلمّ أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده ، قال عمر : إنّ النبيّ (ص) غلبه الوجع وعندكم كتاب الله ، فحسبنا كتاب الله ، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف ، قال : قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع» (٢)

__________________

(١) البخاري في صحيحه ، باب جوائز الوفد من كتاب الجهاد ، ٢ / ١٢٠ ، وباب إخراج اليهود من جزيرة العرب من كتاب الجزية ٢ / ١٣٦ ، ومسلم في صحيحه ٥ / ٧٥ باب ترك الوصية. رواه مسلم بسبعة أسانيد.

ومسند أحمد ١ / ٢٢٢ ، تحقيق محمد شاكر ، الحديث ١٩٣٥. وطبقات ابن سعد ، ط بيروت ٢ / ٢٤٤ ، وتاريخ الطبري ٣ / ١٩٣. وفي لفظهم : ما شأنه؟ هجر؟! قال الراوي يعني : هذى! استفهموه فذهبوا يعيدون عليه ، فقال : دعوني ... الحديث.

وفي صحيح مسلم ٥ / ٧٦ ، وتاريخ الطبري ٣ / ١٩٣ ، وطبقات ابن سعد ٢ / ٢٤٣ ولفظه : «إنما يهجر رسول الله).

(٢) البخاري ، كتاب العلم ، باب العلم ١ / ٢٢.

٤٣

وفي رواية لعمر ذكر كيفية تنازعهم قال :

كنّا عند النبيّ وبيننا وبين النساء حجاب ، فقال رسول الله (ص) : «اغسلوني بسبع قرب ، وأتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده فقالت النسوة (١) : ائتوا رسول الله بحاجته فقال عمر فقلت : اسكتن فإنّكنّ صواحبه إذا مرض عصر تن أعينكن وإن صحّ أخذتنّ بعنقه ، فقال رسول الله (ص) : هنّ خير منكم» (٢).

وفي رواية أخرى انّ زينب زوج النبي (ص) قالت : ألا تسمعون النبيّ (ص) يعهد إليكم فلغطوا فقال : قوموا فلمّا قاموا قبض النبيّ مكانه (٣).

ويظهر من بعض الأحاديث أنّهم نشطوا لمنع كتابة حديث الرسول (ص) قبل ذلك وفي زمان صحّة الرسول (ص) ، قال عبد الله بن عمرو بن العاص : «كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله (ص) فنهتني قريش وقالوا : تكتب كلّ شيء سمعته من رسول الله (ص) ورسول الله بشر يتكلّم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال : «أكتب فو الّذي نفسي بيده ما خرج منه إلّا حقّ» (٤).

* * *

قد كشفوا النقاب في حديثهم مع عبد الله عن سبب منعهم من كتابة حديث الرسول ، وهو خشيتهم من أن يروى عنه حديث في حقّ أناس قاله فيهم حال رضاه عنهم ، وفي حق آخرين ما قاله في حال غضبه عليهم.

__________________

(١) في امتاع الاسماع ، ص ٥٤٦ فقالت زينب بنت جحش وصواحبها.

(٢) طبقات ابن سعد ، ط بيروت ٢ / ٢٤٣ ـ ٢٤٤ باب الكتاب الذي أراد أن يكتبه الرسول لأمّته ، ونهاية الارب ١٨ / ٣٥٧ ، وكنز العمال ، الطبعة الأولى ، ٣ / ١٣٨ و ٤ / ٥٢.

(٣) طبقات ابن سعد ، ٢ / ٢٤٤.

(٤) سنن الدارمي ، ١ / ١٢٥ ، باب من رخص في الكتابة من المقدمة ، وسنن أبي داود ٢ / ١٢٦ ، باب كتابة العلم ، ومسند أحمد ٢ / ١٦٢ ، ١٩٢ و ٢٠٧ و ٢١٥ ، ومستدرك الحاكم ١ / ١٠٥ ـ ١٠٦ ، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ١ / ٨٥ ط. الثانية ، ط العاصمة بالقاهرة سنة ١٣٨٨.

وعبد الله بن عمرو بن العاص قرشي سهمي وأمه ريطة بنت منبه السهمي كان اصغر من أبيه بإحدى عشرة أو اثنتى عشرة سنة. اختلفوا في وفاته أكان بمصر أو الطائف أو مكة وعام ٦٣ أو ٦٥. راجع ترجمته بأسد الغابة ٣ / ٢٣ ، والنبلاء ٣ / ٥٦ ، وتهذيب التهذيب ٥ / ٣٣٧.

٤٤

ومن هنا نعرف سبب منعهم كتابة وصيّة الرسول في آخر ساعات حياته ، ولما ذا أحدثوا اللغط والضوضاء حتّى توفي دون أن يكتب وصيته. وسبب منعهم من كتابة حديث الرسول عند ما ولوا الحكم ولم يبق مانع من ذلك.

٤٥

(٣)

منع كتابة سنّة الرسول (ص) إلى آخر القرن الأوّل الهجري

على عهد الخليفتين أبي بكر وعمر

في طبقات ابن سعد : «انّ الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها فلمّا أتوه بها أمر بتحريقها» (١).

منعت مدرسة الخلفاء من تدوين حديث الرسول إلى رأس المائة من هجرة الرسول الأكرم (ص) ، وليتهم اكتفوا بذلك بل منعوا من رواية حديثه كذلك.

روى الذهبي أنّ أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيّهم فقال : «إنّكم تحدّثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافا ، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه» (٢).

وروى عن قرظة بن كعب أنّه قال : «لمّا سيّرنا عمر إلى العراق مشى معنا عمر إلى صرار ، ثم قال : أتدرون لم شيّعتكم؟ قلنا : أردت أن تشيعنا وتكرمنا ، قال : إنّ مع ذلك لحاجة ، إنّكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل فلا تصدّوهم بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككم ، قال قرظة : فما حدّثت بعده حديثا عن رسول الله (ص)».

وفي رواية اخرى : فلمّا قدم قرظة بن كعب قالوا : حدّثنا ، فقال : نهانا عمر (٣).

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٥ / ١٤٠ بترجمة القاسم بن محمد بن أبي بكر.

(٢) تذكرة الحفاظ للذهبي بترجمة أبي بكر ١ / ٢ ـ ٣.

(٣) أخرجها ابن عبد البر بثلاثة أسانيد في جامع بيان العلم ، باب ذكر من ذم الإكثار من الحديث دون التفهم له ٢ / ١٤٧ ، وتذكرة الحفاظ للذهبي ١ / ٤ ـ ٥.

٤٦

وكان في الصحابة مثل قرظة بن كعب ممن تابعوا سنّة الخلفاء وامتنعوا عن نشر سنّة الرسول (ص) نظير عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص فقد روى الدارمي في باب من هاب الفتيا بكتاب العلم من سننه ١ / ٨٤ ـ ٨٥.

عن الشعبي : قال جالست ابن عمر سنّة فما سمعته يحدث عن رسول الله (ص).

وفي رواية أخرى عنه ، قال قعدت مع ابن عمر سنتين أو سنّة ونصف فما سمعته يحدث عن رسول الله (ص) شيئا إلّا هذا الحديث.

وروى عن السائب بن يزيد ، قال :

خرجت مع سعد ـ ابن أبي وقاص ـ إلى مكّة فما سمعته يحدّث حديثا عن رسول الله (ص) حتّى رجعنا إلى المدينة.

وكان في الصحابة من خالف سنّة الخلفاء وروى سنّة الرسول (ص) فلقي من الإرهاق ما نذكر أمثلة منه في ما يأتي :

في كنز العمال :

عن عبد الرحمن بن عوف قال : ما مات عمر بن الخطاب حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذرّ وعقبة ابن عامر ، فقال : ما هذه الأحاديث الّتي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟

قالوا : تنهانا؟

قال : لا ، أقيموا عندي ، لا والله لا تفارقوني ما عشت ، فنحن أعلم نأخذ منكم ونردّ عليكم ، فما فارقوه حتّى مات (١).

وروى الذهبي أنّ عمر حبس ثلاثة ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود

__________________

ـ وقرظة بن كعب أنصاري خزرجي ، في أسد الغابة هو أحد العشرة الذين وجّههم عمر مع عمار بن ياسر إلى الكوفة. شهد أحدا وما بعدها ، وفتح الري سنة ٢٣. ولاه عليّ على الكوفة لما سار إلى الجمل ، وتوفي بها في خلافته. أسد الغابة ٤ / ٢٠٣.

(١) الحديث رقم ٤٨٦٥ من الكنز. ط الأولى ج ٥ / ٢٣٩ ، ومنتخبه ج ٤ / ٦١. وعبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري ، آخى الرسول بينه وبين عثمان من المهاجرين ، وجعل عمر تعيين الخليفة بيده في الشورى ـ

٤٧

الأنصاري فقال : أكثرتم الحديث عن رسول الله (١).

وكان يقول للصحابة : أقلّوا الرواية عن رسول الله إلّا في ما يعمل به (٢).

هذه الرواية تتفق مع رواية عبد الله بن عمرو بن العاص في المغزى في أنّ قريشا نهته عن أن يكتب كلّ شيء سمعه من رسول الله (ص).

على عهد عثمان

كان ما ذكرناه على عهد الخليفتين أبي بكر وعمر أما عثمان فقد أقرّ ذلك حيث قال على المنبر : «لا يحلّ لأحد يروي حديثا لم يسمع به على عهد أبي بكر ولا على عهد عمر» (٣).

ويظهر أن ما رواه الدارمي وغيره من : «إن أبا ذر كان جالسا عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع الناس يستفتونه ، فأتاه رجل فوقف عليه ، ثمّ قال : ألم تنه عن الفتيا؟ فرفع رأسه إليه ، فقال : أر قيب أنت عليّ؟! لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثمّ ظننت أنّي أنفذ كلمة سمعت من رسول الله (ص) قبل أن تجيزوا

__________________

ـ فصفق على يد عثمان ، توفي بالمدينة عام ٣١ أو ٣٢ ه‍. روى عنه أصحاب الصحاح ٦٥ حديثا. راجع فصل الشورى من كتاب : (عبد الله بن سبأ) الجزء الأوّل. وجوامع السيرة ص ٢٧٩.

وعبد الله بن حذيفة لم أجد ترجمته ولعله عبد الله بن حذافة القرشي ، السهمي من قدماء المهاجرين ، مات بمصر في خلافة عثمان : تقريب التهذيب ١ / ٤٩.

وأبو الدرداء عويمر أو عامر بن مالك الأنصاري الخزرجي ، وأمّه محبة بنت واقد ابن الاطنابة ، تأخر إسلامه وشهد الخندق وما بعدها ، آخى النبيّ بينه وبين سلمان ، ولي قضاء دمشق على عهد عثمان ، وتوفي بها عام ٣٣ أو ٣٢ ه‍. روى عنه أصحاب الصحاح ١٧٩ حديثا. أسد الغابة ٥ / ١٥٩ ـ ١٦٠ و ١٨٧ و ١٨٨ ، وجوامع السيرة ص ٢٧٧.

وعقبة بن عامر اثنان : جهني وروى عنه أصحاب الصحاح ٥٥ حديثا ، وأنصاري سلمي ، أسد الغابة ٤ / ٤١٧ ، وجوامع السيرة ص ١٧٩.

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٧ بترجمة عمر.

وابن مسعود ، هو أبو عبد الرحمن ، عبد الله بن مسعود الهذلي ، وأمّه أم عبد بنت عبد ود الهذلي. كان أبوه حليف بني زهرة. أسلم عبد الله قديما وأجهر بالقرآن في مكّة فضربوه حتّى أدموه وهاجر إلى الحبشة والمدينة ، وشهد بدرا وما بعدها وقطع عثمان عطاءه سنتين لإنكاره على الوليد ما ارتكبه أزمان ولايته على الكوفة ومات سنة اثنتين وثلاثين وأوصى أن لا يصلي عليه عثمان. أسد الغابة ٣ / ٢٥٦ ـ ٢٦٠. ومستدرك الحاكم ٣ / ٣١٥ و ٣٢٠ وراجع أحاديث عائشة ٦٢ ـ ٦٥ وأبو مسعود الأنصاري عقبة بن عمرو البدري ، اختلف في وفاته. أسد الغابة ٥ / ٢٩٦.

(٢) تاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٧.

(٣) منتخب الكنز بهامش مسند أحمد ٤ / ٦٤.

٤٨

عليّ لأنفذتها» (١).

وفي هذا العصر ـ أيضا ـ كان ما رواه الأحنف بن قيس قال : أتيت الشام فجمّعت(٢) فاذا رجل لا ينتهي الى سارية إلّا خرّ (٣) أهلها ، يصلي ويخفّ صلاته. قال : فجلست إليه ، فقلت له : يا عبد الله من أنت؟ قال أنا أبو ذرّ ، فقال لي : فأنت من أنت؟ قال : قلت : الأحنف بن قيس. قال : قم عنّي لا أعديك بشّر ، فقلت له : كيف تعديني بشّر ، قال : إنّ هذا ـ يعني معاوية ـ نادى مناديه : «ألّا يجالسني أحد» (٤).

ومن أجل مخالفته لأوامر السلطة ، نفي أبو ذر من بلد إلى بلد حتّى لقي حتفه طريدا فريدا بالربذة سنّة ٣١ ه‍.

كان هذا في النصف الأوّل من خلافة عثمان ، ولما انتكث أمره في النصف الثاني من خلافته وقام في وجهه أمثال أمّ المؤمنين عائشة ، وطلحة والزبير ، وعمرو بن العاص وغيرهم من الصحابة والتابعين ، لم يبق محظور أمام من أراد رواية سنّة الرسول (ص) من الصحابة ، فنشر في هذا العصر شيء منها ، غير أنّها لم تدوّن على عهد الإمام عليّ (ع).

روى الصحابة على عهده الشيء الكثير من سنّة الرّسول (ص) ممّا كان محظورا عليهم روايتها قبل عهده ، وظهر الاختلاف جليّا في ما رووا من سنّة الرسول (ص) مع اجتهادات الخلفاء الثلاثة ممّا ذكرناه في آخر الفصل الرابع من هذا الكتاب.

هذه أمثلة ممّا كان على عهد الخلفاء الثلاثة من الحظر على الصحابة في نشر أحاديث الرسول (ص) ، غير أنهم جمجموا في الكلام ولم يفصحوا عن السبب كما فعله معاوية على عهده.

على عهد معاوية

روى الطبري أنّ معاوية لمّا استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى

__________________

(١) انما قلنا كان ذلك في عصر عثمان لان أحدا من الصحابة ما كان يجرأ على تحدّي أوامر السلطة على عهد الخليفة عمر ، والرواية في سنن الدارمي ١ / ١٣٢ ، وطبقات ابن سعد ٢ / ٣٥٤ بترجمة أبي ذر واختزلها البخاري وأوردها في باب العلم قبل القول في صحيحه ١ / ١٦١ ، وأجاز على الجريح : أجهز عليه.

(٢) فجمّعت : أي حضرت الصلاة يوم الجمعة.

(٣) لعل الصواب : فر أهلها.

(٤) طبقات ابن سعد ٤ / ١٦٨.

وأبو بحر الأحنف بن قيس التميمي السعدي لقب بالاحنف لحنف كان برجله. أدرك الرسول ولم يره. اعتزل الحرب في الجمل وشهد صفين مع الإمام علي ، وتوفي بالكوفة سنة سبع وستين. روى عنه جميع أصحاب الصحاح. ترجمته بأسد الغابة وتقريب التهذيب.

٤٩

وأربعين وأمّره عليها دعاه وقال له : قد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتمادا على بصرك ، ولست تاركا إيصاءك بخصلة : لا تترك شتم عليّ وذمّه ، والترحّم على عثمان والاستغفار له ، والعيب لأصحاب عليّ والإقصاء لهم ، والإطراء لشيعة عثمان والإدناء لهم ، فقال له المغيرة : قد جرّبت وجرّبت ، وعملت قبلك لغيرك ، فلم يذممني وستبلو فتحمد أو تذمّ ، فقال : بل نحمد إن شاء الله (١).

وروى المدائني في كتاب الأحداث وقال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمّة ممّن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته وكان أشدّ البلاء حينئذ أهل الكوفة (٢).

وفي هذا السبيل قتل حجر بن عدي وأصحابه صبرا ، وقتل وصلب رشيد الهجري وميثم التمار (٣).

__________________

(١) في ذكر حوادث سنة ٥١ ه‍ من كل من الطبري ٢ / ١١٢ ـ ١١٣ و ٢ / ٣٨ ، وابن الاثير ٣ / ١٠٢.

والمغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي ، أمّه أمامة بنت الأفقم ، أسلم عام الخندق وكان سبب إسلامه ما ذكره الواقدي في مغازيه ٢ / ٥٩٥ ـ ٥٩٨ قال كان قد خرج مع أربعة عشر الى المقوقس فآثرهم عليه.

فلما رجعوا وكانوا بين خيبر والمدينة ، شربوا خمرا فكف المغيرة عن بعض الشراب فسكر ثلاثة عشر من حلفائه فوثب عليهم وقتلهم عن آخرهم وهرب الرابع عشر فأخذ أمتعتهم وأموالهم ولحق بالنّبيّ وأظهر الإسلام.

فقال النبيّ لا أخمسه هذا غدر ، فدفع عمه عروة بن مسعود ثلاثة عشر دية عنه ، وفي زمن ولايته على البصرة شهدوا عليه بالزنى وأثر الخليفة عمر على أحدهم فحرف شهادته فدرأ عنه الحد ، كما أوردناه في فصل زناء المغيرة من : «عبد الله بن سبأ ج ١» ومات في ولايته على الكوفة سنة ٥٠ ه‍. روى عنه أصحاب الصحاح ١٣٦ حديثا. ترجمته بأسد الغابة ، وجوامع السيرة ص ٢٧٨.

(٢) برواية ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عنه ٣ / ١٥ ـ ١٦ ، ط البابي الحلبي. وعام الجماعة يأتي تفسيره.

(٣) حجر بن عدي بن معاوية الكندي المعروف بحجر الخير. وفد على النبيّ وشهد القادسية وشهد مع على الجمل وصفين ، وكان على كندة وعلى الميسرة بنهروان. ولما أنكر على زياد بن أبيه لعن الامام علي وحصبه يوما لتأخيره الصلاة بعث به وبجماعته بأمر من معاوية إلى الشام فأمر معاوية بقتل من لم يتبرأ من الإمام وقتل على ذلك حجر «بمرج عذراء» سنة إحدى وخمسين. راجع تفصيل قصته في : عبد الله بن سبأ ، ج ٢ ، فصل : حقيقة ابن سبأ والسبائية.

ورشيد الهجري نسبة إلى مدينة هجر باليمن. قيل هو رشيد الفارسي مولى بني معاوية من الأنصار ترجمته في الاستيعاب وأسد الغابة وفي لغة الهجري من اللباب : عداده في أهل الكوفة كان يؤمن بالرجعة وتكلم في ذلك بالكوفة ، فقطع زياد لسانه وصلبه ، ترجمته برجال الكشي ص ٧٨.

وميثم بن يحيى التمار ، كان عبدا لا مرأة من بني أسد فاشتراه الإمام علي وأعتقه ، ولما جلبه ابن زياد قال: ـ

٥٠

هكذا خنقت مدرسة الخلفاء أنفاس الصحابة والتابعين وقضت على من خالف سياستهم ، وفي مقابل ذلك فتحت الباب لآخرين أن يتحدثوا بين المسلمين كما يشاءون وكما نشير إليه في ما يأتي :

فتح الروافد الاسرائيلية

انّ مدرسة الخلفاء حين أغلقت على المسلمين باب التحديث عن رسول الله (ص) كما أشرنا إليه في ما مضى ، فتحت لهم باب الأحاديث الاسرائيلية (١) على مصراعيه. وذلك بالسماح لأمثال تميم الداري الراهب النصراني (٢) ، وكعب أحبار اليهود (٣) وكانا قد أظهرا الإسلام بعد انتشاره ، وتقرّبا إلى الخلفاء بعد الرسول (ص)

__________________

ـ سلوني قبل أن أقتل ، فلما سأله الناس وحدثهم أرسل ابن زياد من ألجمه بلجام ، وهو أول من ألجم في الاسلام.

خبره في رجال الكشي ص ٨١ ـ ٨٤.

(١) اي : أحاديث بني اسرائيل المأخوذة من التوراة.

(٢) ابو رقية تميم بن أوس الداري ، كان نصرانيا من علماء أهل الكتابين وراهب أهل عصره وعابد فلسطين. قدم المدينة بعد غزوة تبوك وأظهر الإسلام بعد سرقة ثبتت عليه ليدفع بإسلامه ما أدين به ، وذلك أنّه خرج مع رجل من بني سهم وعدي بن بداء في تجارة إلى الشام ، فمات السهمي وأوصى أن يبلغا متاعه إلى أهله وكان قد دس فيه وصيته وأخذا من متاعه ما أعجبهما وكان في ما أخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا مموها بالذهب. فلما دفعا بقية المال إلى ورثته فقدوا بعض متاعه فنظروا إلى الوصية فوجدوا المال فيه تاما لم يبع منه ولم يهب ، فرفعوا أمرهما إلى النبيّ فحلفهما النبيّ عند المنبر بعد صلاة العصر ، فحلفا أنهما لم يخونا فخلى سبيلهما. ثمّ وجدا الآنية عند تميم فرفعوهما إلى النبيّ ثانية فنزلت الآيات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ») فحلف السهميان أن الانية من متاع صاحبنا فأخذوها وبقية المتاع من تميم وصاحبه ثم اعترف تميم بالخيانة فقال له النبي : «ويحك يا تميم اسلم يتجاوز الله عنك» فأسلم.

عاش هذا في المدينة الى عصر عمر وعلى عهده كان يعظمه عمر ويقول فيه خير أهل المدينة وألحقه بأهل بدر في العطاء ، ولما سنّ قيام شهر رمضان في العام الرابع عشر أمره وأبيّا أن يصليا بالناس ، وبعد قتل عثمان انتقل إلى الشام وعاش في كنف معاوية وتوفي في سنة أربعين للهجرة قد أوردنا قصة تميم وترجمته بإيجاز في كتاب (من تاريخ الحديث) وهناك تفصيل قضاياه ومصادره.

(٣) أبو اسحاق كعب بن ماتع ، كان من كبار علماء أهل الكتاب ومن أحبار اليهود باليمن. قدم المدينة ، وأظهر الإسلام على عهد عمر وبقي بها بطلب منه. وارتحل منها إلى الشام عند ما ظهرت أمارات الثورة على عثمان. وعاش في كنف معاوية مرعيّ الجانب. ومات بحمص سنة ٣٤ ه‍ بعد أن بلغ أربعا ومائة سنة. راجع ترجمته بكتابنا من تاريخ الحديث.

وإن كعب أحبار اليهود هذا والمعلوم وجوده هو الذي أثر على الفكر الإسلامي في بعض جوانبه وليس عبد الله بن سبأ المختلق هو الذي أثر على الصحابة والتابعين كما زعموا. راجع كتاب «عبد الله بن سبأ» للمؤلف.

٥١

ففسحت مدرسة الخلفاء لهما ولأمثالهما المجال أن يبثّوا الأحاديث الإسرائيلية بين المسلمين كما يشاءون ، وقد خصّص الخليفة عمر للأوّل ساعة في كل أسبوع يتحدّث فيها قبل صلاة الجمعة بمسجد الرسول ، وجعلها عثمان على عهده ساعتين في يومين.

أمّا كعب أحبار اليهود فكان الخلفاء عمر وعثمان (١) ومعاوية يسألونه عن مبدأ الخلق وقضايا المعاد ، وتفسير القرآن ، إلى غير ذلك.

وروى عنهما صحابة أمثال أنس بن مالك وأبي هريرة (٢) وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير ومعاوية ونظرائهم من الصحابة والتابعين.

ولم يقتصر نقل الإسرائيليات على هذين العالمين من علماء أهل الكتاب وتلاميذهما فحسب ، بل قام به ثلة معهما ، ومن بعدهما كذلك ، وامتدّ حتّى عهد الخلافة العباسية ـ ما عدا فترة حكم الإمام عليّ الّذي طردهم من مساجد المسلمين ـ وسمّي هؤلاء بالقصاصين. وأثّروا على الفكر الإسلامي بمدرسة الخلفاء أثرا عظيما ، ومن ثمّ دخلت الثقافة الإسرائيلية في الإسلام وصبغته في جانب منه بلونها ، ومن هنا. انتشر بمدرسة الخلفاء الاعتقاد بأنّ الله جسم ، وأنّ الأنبياء تصدر منهم المعاصى ، والنظرة إلى المبدأ والمعاد إلى غيرها من أفكار إسرائيلية ، وعظم نفوذ هؤلاء على العهد الأموي وخاصّة في سلطان معاوية ، حيث اتّخذ بطانة من النصارى أمثال كاتبه سرجون (٣) ، وطبيبه ابن

__________________

(١) عثمان بن عفان بن أبي العاص القرشي الأموي ، وأمّه أروى بنت كريز الأموي. وأمّ أروى البيضاء ، بنت عبد المطلب عمّة النبي ، وتزوج من رقية بنت رسول الله وهاجرا إلى الحبشة ثم المدينة. وبعد وفاتها ، تزوج من أختها أمّ كلثوم التي توفيت على أثر التعذيب ولم يعقب منهما. وبايعه عبد الرحمن بن عوف لما أبى عليّ من شرط العمل بسيرة الشيخين غرّة محرم ٢٤ ه‍ ، وفي خلافته ، أساء بنو أميّة ـ ولاته على الولايات ـ السلوك مع المسلمين فثاروا عليه بقيادة قريش في ذي الحجة سنة ٣٦ ه‍ ومنعوا دفنه في البقيع فدفن في حش كوكب. روى عنه أصحاب الصحاح ١٤٦ حديثا. جوامع السيرة ص ٢٧٧. و «أحاديث أم المؤمنين عائشة» فصل (في عصر الصهرين).

(٢) أبو هريرة الدوسي اختلفوا في اسمه ونسبه رووا عنه ٥٣٧٤ حديثا ، وتوفي سنة ٥٧ أو ٥٨ راجع جوامع السيرة ٢٧٦ ، وكتاب (شيخ المضيرة) لعالم مصر الراحل الشيخ محمود أبو رية.

(٣) سرجون بن منصور الرومي ، في ذكر اخبار معاوية من تاريخ الطبري ج ٢ / ٢٠٥ ، وابن الأثير ٤ / ٧. وكان كاتبه وصاحب سره. وكتب بعده ليزيد ، وفي الاغاني ١٦ / ٦٨ كان يزيد ينادم على شرب الخمر سرجون النصرانى مولاه وهو الذي أشار على يزيد أن يولي على الكوفة ابن زياد لما بلغه خبر مسلم بن عقيل بها. الطبري ج ٢ / ٢٢٨ و ٢٣٩ ، وابن الأثير ج ٤ / ١٧ ، وكتب ابنه لعبد الملك. التنبيه والأشراف للمسعودى ص ٢٦١ ، وراجع الخطط للمقريزي ج ١ / ١٥٩.

٥٢

أثال (١) ، وشاعره الأخطل (٢) من نصارى عصره ، ومن المعلوم أنّ هؤلاء عند ما شكلوا البلاط الأموي لم يتركوا أفكارهم المسيحيّة وأعرافهم خلفهم ، بل حملوها معهم إلى بلاط الخلافة الأمويّة. أضف إلى هذا أنّ عاصمة معاوية الشام كانت قبل ذلك عاصمة لنصارى الروم البيزنطيين ، وكانت ذات حضارة عريقة. هذا ما كان من أمر المحيط الّذي انتقل إليه معاوية.

أمّا معاوية نفسه ، فكان قد نشأ في وسط أغلظ الجاهليات القبلية الّتي حاربت الإسلام وأعرافه حتى أخضعها الإسلام بقوة السيف. نشأ فيها حتّى صلب عوده ، وانتقل على كبر سنّه من مكة بعد فتحها إلى المدينة ، ومن الجاهلية إلى الإسلام (٣) ، ولم

__________________

(١) ابن أثال ، لما أراد معاوية أن يبايع لابنه يزيد بولاية العهد من بعده ، رأى ميل أهل الشام إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. فأمر طبيبه ابن أثال أن يسمّه ، ووعده أن يضع عنه الخراج لمدة سنة ويوليه على خراج حمص ، ففعل ، وبرّ معاوية بوعده ، فقتله خالد بن عبد الرحمن أو ابن أخيه المهاجر. الأغاني ١٥ / ١٢ ـ ١٣ ، وتاريخ الطبري ٢ / ٨٢ ـ ٨٣ ، وابن الاثير ٣ / ٣٧٨. وقال اليعقوبي في ج ٢ / ٢٢٣ من تاريخه : استعمل معاوية ابن أثال النصراني على خراج حمص ولم يستعمل النصارى أحد من الخلفاء قبله ... الحديث.

(٢) أبو مالك غياث بن غوث الأخطل من نصارى تغلب. ولد في أوائل خلافة عمر ، وتوفي سنة ٩٥ ه‍.

ذكر الجاحظ في سبب تقربه للأمويين ، أن معاوية أراد أن يهجو الانصار لأنّ أكثرهم كانوا أصحاب علي بن أبي طالب ، ولا يرون رأي معاوية في الخلافة. فطلب ابنه يزيد من كعب ابن جعيل أن يهجوهم فأبى ذلك وقال : ولكني أدلّك على غلام منّا نصراني كأنّ لسانه لسان ثور لا يبالي أن يهجوهم فدلّه على الأخطل ، البيان والتبيين ج ١ / ٨٦.

وفي الأغاني ١٣ / ١٤٢ عن كعب بن جعيل ، قال : إنّ يزيد بن معاوية قال له : إن ابن حسان قد فضح عبد الرحمن بن الحكم وفضحنا ـ كانت له قصة مع زوجة ابن الحكم ـ فاهج الأنصار ، فقال له : أرادي أنت في الشرك؟ أأهجو قوما نصروا رسول الله وآووه؟ ولكني أدلك على غلام منا نصراني .. الحديث وفي رواية أخرى بعدها : أن معاوية دسّ إلى كعب وأمر بهجائهم فدلّه على الأخطل ... فهجاهم وكان في شعره :

ذهبت قريش بالمكارم والعلى

واللؤم تحت عمائم الأنصار

وروي أن الأنصار استعدوا على الأخطل معاوية فقال : لكم لسانه إلا أن يكون ابني قد أجاره ودسّ إلى يزيد من وقته : «إنّي قد قلت للقوم كيت وكيت فأجره ...» الأغاني ١٣ / ١٤٧.

وفي ج ٨ / ٢٩٩ قالوا فيه : «نصراني كافر يهجو المسلمين وكان يجيء وعليه جبّة خزو حرز خز في عنقه سلسلة ذهب فيها صليب ذهب تنفض لحيته خمرا حتى يدخل على عبد الملك بن مروان بغير إذن.

وكذلك أنشد شعرا بباب مسجد الكوفة ج ٨ / ٣٢١.

وكان ينادم يزيد ويسكر معه ج ١٦ / ٦٨ ، وخرج مع يزيد عام حج به. الأغانى ج ٨ / ٣٠١.

(٣) راجع باب مع معاوية من كتاب «أحاديث أم المؤمنين عائشة».

٥٣

يمكث في المجتمع الإسلامي الناشئ إلّا وقتا قصيرا لا يكفي ليتطبع فيه بالطبع الإسلامي الجديد عليه ويتمرّن عليه ليستطيع أن يؤثّر على ذلك المجتمع ذي الحضارة الرومية الّذي امتدّت حضارته إلى آماد بعيدة في الدهر ، بل هو الّذي تأثّر به.

وكان معاوية يبعد من ذلك المجتمع من كان يعترض سبيله من صحابة تطبعوا بالطابع الإسلامي الأصيل نظراء أبي ذرّ وأبي الدرداء وقرّاء أهل الكوفة (١).

كلّ تكلم كانت عوامل أدّت إلى صبغ مدرسة الخلفاء منذ عصر معاوية بطابع ثقافة أهل الكتاب ، ولم تدرس تلك العوامل حتّى اليوم دراسة موضوعية ليعرف مدى أثرها على تلكم المدرسة.

وكان معاوية بالإضافة إلى ما ذكرنا متطبعا بالطابع الجاهليّ ملتزما بأعرافه من التعصّب القبلي ، وإحياء آثاره (٢) ، وكانت له مع ذلك أهداف اخرى من قبيل توريث السلطة في عقبه ، وكسر شوكة المعارضين له من المحافظين الذي يشهرون في وجهه سلاح سيرة الرسول ، وكان لا بدّ له في علاج كلّ ذلك ـ للوصول إلى أغراضه الجاهلية وأهدافه الخاصّة ـ أن يصنع شيئا ، فاستمدّ في هذا السبيل من بعض بقايا

__________________

(١) راجع «أحاديث أم المؤمنين عائشة» فصل (مع معاوية) ص ٢٣٧ ، وشرح النهج للمعتزلي ط. مصر الأولى ١ / ١٥٩ ـ ١٦٠.

(٢) في الأغاني ط. دار الكتب ٢ / ٢٤١ ـ ٢٥١.

عند ما كان مروان واليا لمعاوية على المدينة ، حدّ عبد الرحمن بن أرطاة على شرب الخمر. وكان في الجاهلية حليف حرب جد معاوية ، فكتب إليه معاوية أما بعد فإنّك جلدت حليف حرب أمام الناس ثمانين جلدة ، ولو كان حليف أبيك الحكم لما فضحته. أما والله إمّا ان تفسد حدّك وتعلن خطأك وترد اعتباره ، أو أن ابطل حدّك وآمره بجلدك ثمانين قصاصا ... ففعل مروان ما أمره معاوية ، الحديث.

ومن ذلك أيضا إلحاقه زيادا بنسب أبيه وفقا للأعراف الجاهلية ، وخلافا للأحكام الإسلامية ، والّتي تنصّ

على أن الولد للفراش وللعاهر الحجر. راجع أحاديث أمّ المؤمنين عائشة وفصل استلحاق زياد من عبد الله ابن سبأ ج ١.

وروى ابن عبد ربّه في العقد الفريد ج ٣ / ٤١٣ أنّ معاوية دعا الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب فقال: «انّي رأيت هذه الحمراء (لقب يطلق على غير العرب) قد كثرت ، وأراها قد طعنت على السلف وكأنّي أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان ، فقد رأيت أن أقتل شطرا وأدع شطرا لإقامة السوق وعمارة الطريق ...».

فخالفه الأحنف وردّ عليه ، وقال سمرة «اجعلها إلي أيّها الأمير فأنا أتولى ذلك منهم وأبلغ إلى ما تريد منه» وأخيرا عدل معاوية عن رأيه في قتلهم.

٥٤

الصحابة ممن كان في دينه رقّة ، وفي نفسه ضعف من أمثال عمرو بن العاص ، وسمرة ابن جندب (١) ، وأبي هريرة. فاستجابوا له ووضعوا له من الحديث ما يساعده ، ثمّ رووه عن رسول الله (ص).

مثال ذلك ما رواه المدائني في كتاب الأحداث قال :

(كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة أن برئت الذّمة ممّن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته.

وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والّذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم ، وقرّبوهم وأكرموهم واكتبوا إليّ بكلّ ما يروى كلّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلك حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعث إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ويفيضه في العرب منهم والموالي ؛ فكثر ذلك في كلّ مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملا من عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلّا كتب اسمه وقرّبه وشفّعه. فلبثوا بذلك حينا.

ثمّ كتب إلى عماله : إنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وتأتوني بمناقض له في الصحابة ؛ فإنّ هذا أحبّ إليّ ، وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها. وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وألقي إلى معلمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير

__________________

(١) سمرة بن جندب بن هلال الفزاري. قدمت به أمّه المدينة بعد موت ابيه ، فتزوجها شيبان بن ثعلبة الأنصاري. وحالف سمرة الانصار قال رسول الله لبعض أصحابه وفيهم سمرة : آخركم موتا في النار. فكان سمرة آخرهم موتا. مات سنة ٥٩ في البصرة. ترجمته بأسد الغابة والنبلاء ، أخرج له جميع أصحاب الصحاح. وأخباره مع معاوية وما وضع له من حديث وعدد من قتل في إمارته في كتاب : «أحاديث أم المؤمنين عائشة» ص ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

٥٥

الواسع حتّى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن وحتّى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله).

(... فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراءون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقرّبوا مجالسهم ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنّها حقّ ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ولا تديّنوا بها» (١).

وقد سمّى ابن أبي الحديد قوما من الصحابة والتابعين ممّن وضعهم معاوية لرواية الأخبار (٢) ، وأخرجنا بعضها في كتابنا : (أحاديث أم المؤمنين عائشة) (٣).

وقد سمّوا كلّ تلكم الاحاديث الموضوعة بسنة النبيّ والويل لمن أنكرها ولم يؤمن بها ولم يصدّقها (٤).

على عهد عمر بن عبد العزيز :

لما ولي عمر بن عبد العزيز الأموي (٥) أمر برفع الحظر عن كتابة سنّة الرسول (ص) ، وكتب إلى أهل المدينة «أن انظروا حديث رسول الله (ص) فاكتبوه فإنّي خفت دروس العلم وذهاب أهله».

__________________

(١) ابن أبي الحديد في شرح «من كلام له (ع) وقد سأله سائل عن أحاديث البدع» رقم / ٢٠٣ ج ٣ / ١٥ ـ ١٦ ، وأحمد أمين في فجر الإسلام ٢٧٥.

(٢) في شرح : ومن كلام له (ع) لأصحابه «اما انه سيظهر عليكم بعدي رجل» ج ١ / ٣٥٨.

(٣) وفي كتاب أحاديث أمّ المؤمنين فصل نتائج البحث من باب مع معاوية ص ٢٩٥ ـ ٢٩٧.

(٤) روى الخطيب في ج ١٤ / ٧ من تاريخ بغداد ، أنّه ذكر عند الرشيد وعنده رجل من وجوه قريش حديث أبي هريرة «أن موسى لقي آدم فقال : أنت آدم الذي أخرجتنا من الجنة.» فقال القرشى : أين لقي آدم موسى قال : فغضب الرشيد وقال : النطع والسيف زنديق والله يطعن في حديث رسول الله ، فما زال الراوي ـ أبو معاوية ـ يسكنه ويقول : كانت منه بادرة ولم يفهم يا أمير المؤمنين ، حتّى سكّنه.

(٥) أبو حفص عمر بن عبد العزيز. ولي الخلافة سنة ٩٩ فرفع اللعن عن الإمام علي ، وأرجع فدكا إلى ورثة الزهراء ، وأمر بكتابة الحديث وله حسنات أخرى. توفي سنة ١٠١ ه‍. راجع ترجمته بتاريخ الخلفاء للسيوطي ، وتقريب ـ

٥٦

وكان ابن شهاب الزهري أوّل من دوّن الحديث على رأس المائة بأمر عمر ابن عبد العزيز (١).

غير أنّه لم يتم الأمر لوفاة عمر بن عبد العزيز بالسمّ عام (١٠١ ه‍) ، وفقد ما كان دوّن في عصره. فقد روى ابن حجر في ترجمة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم (ت ١١٧ ه‍) ما موجزه :

كتب إليه عمر بن عبد العزيز ، أن يكتب له العلم. وقال ابنه بعد وفاته : ضاعت تلك الكتب (٢).

وكذلك لم يبق ما دون غيره من العلم ، حتى ولي أبو جعفر المنصور وحرض العلماء على التدوين ، قال الذهبي في ذكر حوادث سنة ١٤٣ :

وفي هذا العصر شرع علماء الإسلام في تدوين الحديث والفقه والتفسير فصنف ابن جريج التصانيف بمكة ؛ وصنف سعيد بن أبي عروبة ؛ وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة ؛ وصنف الأوزاعي بالشام ؛ وصنف مالك الموطأ بالمدينة وصنف ابن اسحاق المغازي ؛ وصنف معمر باليمن ؛ وصنف أبو حنيفة وغيره الفقه والرأي بالكوفة ، وصنف سفيان الثوري كتاب الجامع ؛ ثم بعد يسير صنف هشيم كتبه ؛ وصنف الليث بمصر وابن لهيعة ثمّ ابن المبارك وأبو يوسف وابن وهب (٣). وكثر تدوين العلم وتبويبه ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس. وقبل هذا العصر كان سائر الأئمة يتكلمون

__________________

ـ التهذيب لابن حجر وفي شأن أمره بكتابة الحديث راجع مقدمة الدارمي ص ١٢٦. وطبقات ابن سعد ط بيروت (٧ / ٤٤٧) ومصنف عبد الرزاق ط. الهند عام ١٩٧٠ (٩ / ٣٣٧) وأخبار اصبهان لأبي نعيم (١ / ٣١٢) وتدريب الراوي للسيوطي ص ٩٠.

(١) فتح الباري (١ / ٢١٨) باب كتابة العلم.

(٢) راجع تهذيب ١٢ / ٣٩.

(٣) ابن جريج : عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكّي ، سمع جمعا من العلماء. يقال إنّه أوّل من ـ

٥٧

عن حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة. فسهل ولله

__________________

ـ صنف الكتب وكان أحمد بن حنبل يقول : كان ابن حريج من أوعية العلم. توفي سنة ١٥١.

تذكرة الحفاظ ١ / ١٦٠. وابن خلكان ١ / ٢٨٦. وتاريخ بغداد ١٠ / ٤٠٠. ودول الإسلام للذهبي ١ / ٧٩.

وحماد بن سلمة بن دينار البصري الرّبعي بالولاء ، أبو سلمة ، مفتي البصرة ، وأحد رجال الحديث.

وهو أوّل من صنّف التصانيف المرضية. (ت : ١٦٧ ه‍).

تهذيب التهذيب ٢ / ١١. وميزان الاعتدال ١ / ٢٧٧. وحلية الأولياء ٦ / ٢٤٩. والأعلام للزركلي.

والأوزاعي : أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد كيكرم إمام أهل الشام ، ولم يكن بالشام علم منه ، وكان يسكن بيروت ، وكانت وفاته ١٥٧. والأوزاعي نسبة إلى أوزاع بطن من همدان ينسب إليه الأوزاعي المذكور لا القرية الواقعة بدمشق خارج باب الفراديس.

الفهرست لابن إسحاق النديم ١ / ٢٢٧. والوفيات ١ / ٢٧٥. وحلية الأولياء ٦ / ١٣٥. وتهذيب الأسماء واللغات ، القسم الأول من الجزء الأول ص ٢٩٨ ومعمر بن راشد بن أبي عمرو الأزدي بالولاء ، أبو عروة ، فقيه ، حافظ للحديث ، من أهل البصرة.

ولد واشتهر فيها وسكن اليمن. وهو عند مؤرخي رجال الحديث أوّل من صنف باليمن. (ت : ١٥٣ ه‍). تذكرة الحفاظ ١ / ١٧٨. وتهذيب التهذيب ١٠ / ٢٤٣. وميزان الاعتدال ٣ / ١٨٨.

وسفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، أبو عبد الله ، وصفوه بأنّه أمير المؤمنين في الحديث. ولد ونشأ في الكوفة. له من الكتب : الجامع الكبير (ت : ١٦١ ه‍).

تهذيب التهذيب ٤ / ١١١ ـ ١١٥. وابن سعد ٦ / ٢٥٧. وابن النديم ١ / ٢٢٥. ودول الإسلام ١ / ٨٤. وحلية الأولياء ٦ / ٣٥٦. وابن خلكان ١ / ٢١٠.

والليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي بالولاء. أبو الحارث ، إمام أهل مصر في عصره حديثا وفقها.

كان كبير الديار المصرية ورئيسها. وأمير من بها في عصره ، بحيث أنّ القاضي والنائب من تحت أمره ومشورته. أصله من خراسان وفاته في القاهرة وله تصانيف. (ت : ١٧٥ ه‍).

تذكرة الحفاظ ١ / ٢٠٧. وتهذيب التهذيب ٨ / ٤٥٩. ووفيات الأعيان ١ / ٤٢٨.

وابن لهيعة : كسفينة ، أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة الحضرمي المصري ، كان كثير الرواية في الحديث والأخبار ، تولى قضاء مصر بأمر المنصور الدوانيقي سنة ١٥٥ وصرف عن القضاء سنة ١٦٤ وحديثه مذكور في صحيحي الترمذي وأبي داود وغيرهما ، توفى بمصر سنة ١٧٤ ه‍.

ميزان الاعتدال ٢ / ٦٤. ووفيات الأعيان ١ / ٢٤٩.

٥٨

الحمد تناول العلم وأخذ الحفظ يتناقص فلله الأمر كلّه (١).

ونقل الخبر عنه السيوطي في تاريخ الخلفاء ص ٢٦١.

وورد في موسوعة الفقه الإسلامي :

ولمّا حجّ المنصور سنة ١٤٣ رغب إلى مالك في تأليف (الموطّأ) كما رغّب هو وولاته العلماء في التدوين.

وقد دوّن ابن جريج ، وابن عروبة ، وابن عيينة وغيرهم ، ودوّن سائر فقهاء الأمصار وأصحابهم (٢).

قال المؤلف :

ولا يناقض ما أوردناه هنا ما نقلوا عن وجود مدوّنات حديثية لبعضهم قبل هذا العصر مثل ما قالوا : أنّه كان للصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص الصحيفة الصادقة ، وكذلك قالوا : كان للتابعي الزهري أحاديث مدوّنة. فإنّ أمثال ذينك المدوّنتين بلغ أسماؤها إلى العلماء في عصر تدوين الحديث فحسب.

ثمّ تسابق المحدّثون بمدرسة الخلفاء بعد ذلك ـ وعلى عهد المنصور العباسي ـ في تدوين ما بقي في ذاكرتهم من سنّة الرسول (ص) ، ودوّنوا معها كذلك ما روي عندهم

__________________

وابن المبارك : أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك المروزي العالم الزاهد العارف المحدث ، كان من تابعي التابعين. وروي عن أبي اسامة ، قال : ابن المبارك في أصحاب الحديث مثل أمير المؤمنين في الناس. تاريخ بغداد ١٠ / ١٥٢. والكنى والألقاب ١ / ٤٠١.

وعبد الله بن وهب بن مسلم الفهري بالولاء ، المصري أبو محمّد ، فقيه من الأئمة ، من أصحاب مالك. جمع بين الفقه والحديث. له كتب منها : الجامع.

تذكرة الحفاظ ١ / ٢٧٩. ووفيات الأعيان ١ / ٢٤٩.

وسبق ذكر تراجم الآخرين.

(١) راجع تاريخ الإسلام للذهبي ٦ / ٦.

(٢) إصدار المجلس الأعلى للشئون الإسلاميّة في القاهرة ط. سنة ١٣٨٦ ه‍ ١ / ٤٧.

٥٩

تأييدا لاجتهادات الخلفاء في مقابل سنّة الرسول (ص) ـ كما سندرسها في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى ـ ودوّنوا معها أيضا أحيانا أحاديث إسرائيليّة ممّا درسناها في البحثين الحادي عشر والثاني عشر من سلسلة بحوث (أثر الأئمة في إحياء السّنّة) ومارسوا في عصور التأليف ـ أيضا ـ أنواعا من الكتمان لسنة الرسول (ص) درسنا عشرة منها في بحث الوصيّة من الجزء الأوّل من هذا الكتاب. وسيأتي ذكر تقويمهم للموسوعات الحديثية بآخر الجزء الثالث ، إن شاء الله تعالى.

وقد وجدت الأحاديث المتناقضة بعد وضع الحديث على عهد معاوية تأييدا لسياسة الخلفاء ، كالآتي بيانه.

كيف وجد الحديثان المتناقضان

لعل من الأحاديث التي رويت على عهد معاوية وسجّلت في عداد أحاديث الرسول (ص) واعتبرت من سنته ، هي الأحاديث الآتية :

في صحيح مسلم وسنن الدارمي ومسند أحمد واللفظ للأوّل ، أنّ رسول الله (ص) قال :

«لا تكتبوا عنّي ، ومن كتب عنّي غير القرآن فليمحه» (١).

وفي رواية : «إنّهم استأذنوا النبيّ (ص) في أن يكتبوا عنه فلم يأذن لهم» (٢).

وفي مسند أحمد وسنن أبي داود عن زيد بن ثابت واللفظ للأوّل :

إنّ رسول الله (ص) نهى أن نكتب شيئا من حديثه فمحاه (٣).

وفي مسند أحمد ، عن أبي هريرة قال : كنّا قعودا نكتب ما نسمع من النبيّ (ص) فخرج علينا فقال : ما هذا تكتبون؟

فقلنا : ما نسمع منك.

فقال : أكتاب مع كتاب الله؟

__________________

(١) صحيح مسلم ٤ / ٩٧ ـ كتاب الزهد ، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم ح ٧٢. وسنن الدارمي ١ / ١١٩ المقدمة باب ٤٢ ، ومسند أحمد ٣ / ١٢ و ٣٩ و ٥٦.

(٢) سنن الدارمي المقدمة باب ١ / ١١٩.

(٣) مسند أحمد ٥ / ١٨٢ ، وسنن أبي داود كتاب العلم ٣ / ٣١٩.

٦٠