معالم المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٠٤

وقال الله عزوجل في كتابه : (... ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (١) فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله (ص) ، وليس كلّ أصحاب رسول الله (ص) كان يسأله عن الشيء فيفهم ، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه حتّى أن كانوا ليحبّون أن يجيء الأعرابيّ والطاري (٢) فيسأل رسول الله (ص) حتّى يسمعوا.

وقد كنت أدخل على رسول الله (ص) كلّ يوم دخلة وكلّ ليله دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول الله (ص) أنّه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، فربّما كان في بيتي يأتيني رسول الله (ص) أكثر ذلك في بيتي ، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عنّي نساءه. فلا يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عنّي فاطمة ولا أحد من بنيّ ، وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكتّ عنه وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت على رسول الله (ص) آية من القرآن إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطّي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصّها وعامّها ، ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها ، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه عليّ وكتبته ، منذ دعا الله لي بما دعا ، وما ترك شيئا علّمه الله من حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ، ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلّا علّمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفا واحدا ، ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علما وفهما وحكما ونورا ، فقلت : يا نبيّ الله بأبي أنت وأمّي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني شيء لم أكتبه أفتتخوّف عليّ النسيان فيما بعد؟ فقال : لا ، لست أتخوّف عليك النسيان والجهل (٣).

* * *

يعرف من هذا الحديث ونظائره من الإمام عليّ مع أصحابه ومن أحاديث

__________________

(١) الحشر / ٧.

(٢) «الطاري» الغريب الذي أتاه عن قريب من غير أنس به وبكلامه. (على ما فسره المجلسي ره) ثم قال : وإنما كانوا يحبون قدومهما أما لاستفهامهم وعدم استعظامهم أو لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتكلم على وفق عقولهم فيوضّحه حتّى يفهم غيرهم. مرآة العقول.

(٣) الكافي ١ / ٦٢ ـ ٦٣ ، والوسائل ط القديمة ٣ / ٣٩٤ حديث : ١ ، ومستدركه ١ / ٣٩٣ ، واحتجاج الطبرسي ص ١٣٤ ، وتحف العقول ١٣١ ـ ١٣٢ وبعضه في نهج البلاغة الخطبة ٢٠٥ والوافي ١ / ٦٣. (مرآة العقول ١ / ٢١٥).

٣٦١

الأئمة من ولده مع معاصريهم وخاصّة الامامين الباقر والصادق أنّ ما كان لدى الأئمة من تفسير القرآن وأحاديث كانت تخالف ما كان منها لدى أصحاب مدرسة الخلفاء ومردّ ذلك وسببه أن الخلفاء (الراشدين) الثلاثة لمّا كانوا قد منعوا الصحابة من نشر الحديث عن رسول الله وروّجوا للقصّاصين أمثال تميم الداري راهب النصارى ، وكعب أحبار اليهود (١) فنشر هؤلاء الاسرائيليات وأخذ منهم بعض الصحابة (٢) فانتشر لدى المسلمين زيف كثير ، وفي مقابل هؤلاء جاهد الإمام علي وشيعته من الصحابة أمثال سلمان وأبي ذرّ وعمّار والمقداد في نشر أحاديث الرسول وسيرته فظهر الخلاف بين المدرستين في هذا الأمر ، وتحمّل بسببه بعضهم ما تحمّل من التشريد والتعذيب (٣) وبالإضافة إلى هذا كان الخلفاء قبله قد غيّروا وبدّلوا من سنّة الرسول ما يخالف سياستهم ممّا سمّاه اتباعهم من بعد باجتهاد الخلفاء أمثال ما شرحناه من موارد اجتهاد الخلفاء في ما سبق ، فلمّا جاء الإمام إلى الحكم بعدهم حاول أن يعيد الأمّة الإسلامية إلى سنّة الرسول ، ويغيّر سنن الخلفاء الراشدين الثلاثة ، فلم ينجح ، كما شرح ذلك لخاصّته في حديثه الآتي :

وإنّما بدء وقوع الفتن من أهواء تتّبع وأحكام تبتدع ، يخالف فيها حكم الله يتولّى فيها رجال رجالا ، ألا إنّ الحقّ لو خلص لم يكن اختلاف ولو أنّ الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، لكنّه يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث (٤) فيمزجان فيجلّلان (٥) معا ، فهنا لك يستولي الشيطان على أوليائه ونجا الّذين سبقت لهم من الله الحسنى (٦) ، إنّي سمعت رسول الله (ص) يقول : كيف أنتم إذا ألبستكم فتنة يربو فيها الصغير (٧) ويهرم فيها الكبير ، يجري الناس عليها ويتّخذونها سنّة فإذا غيّر منها شيء قيل : قد غيّرت السنّة وقد أتى الناس منكرا ، ثمّ تشتدّ البليّة وتسبي الذريّة ، وتدقّهم الفتنة كما

__________________

(١) نقصد براهب النصارى وكعب أحبار اليهود ما كانا عليه قبل أن يظهرا الإسلام.

(٢) لقد شرحنا ذلك في كتابنا : «من تاريخ الحديث» وأشرنا إليه في باب (أحاديث الرسول).

(٣) اشرنا الى ذلك في ما سبق.

(٤) الضغث ـ بالكسر ـ قبضة من حشيش مخالطة الرطب باليابس.

(٥) جللت الشيء ؛ إذا غطيته. وفي النسخ [فيجتمعان] وفي بعضها [فيجلبان].

(٦) الى هنا أوردها الرضي في نهج البلاغة ورقم الخطبة في طبعة ٤٩ واخرى ٥٠.

(٧) أي يكبر وهو كناية عن امتدادها.

٣٦٢

تدقّ النار الحطب ، وكما تدقّ الرحا بثفالها (١) ، ويتفقّهون لغير الله ، ويتعلّمون لغير العمل ، ويطلبون الدّنيا بأعمال الآخرة. ثمّ أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصّته وشيعته فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله (ص) متعمّدين لخلافه ، ناقضين لعهده مغيّرين لسنته ، ولو حملت النّاس على تركها وحوّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت عليه في عهد رسول الله (ص) لتفرّق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الّذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزوجل وسنة رسول الله (ص) ، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم (ع) (٢) ، فرددته إلى الموضع الّذي وضعه فيه رسول الله (ص) ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة (ع) (٣) ورددت صاع رسول الله (ص) كما كان ، (٤) وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله (ص) لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد (٥) ، ورددت قضايا من الجور قضي بها (٦) ، ونزعت نساء تحت رجال بغير حقّ فرددتهنّ إلى أزواجهن (٧) ، واستقبلت بهنّ الحكم في الفروج والأحكام ، وسبيت ذراري بني تغلب (٨) ، ورددت ما قسم من أرض خيبر ، ومحوت

__________________

(١) بالمثلثة والفاء في النهاية : في حديث علي عليه‌السلام : «وتدقهم الفتن دق الرحا بثفالها» الثفال ـ بالكسر ـ : جلدة تبسط تحت رحا اليد ليقع عليها الدقيق ، ويسمى الحجر الأسفل ، ثفالا بها والمعنى أنها تدقهم دقّ الرحا للحب إذا كانت مثفلة ولا تثفل إلا عند الطحن.

(٢) أخّر عمر مقام إبراهيم إلى موضعه اليوم وكان ملصقا بالبيت ، طبقات ابن سعد ٣ / ٢٨٤ ط. بيروت ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٣٧ ، وباب موافقات عمر في فتح الباري ٩ / ٢٣٦ وقيل إنّ عمر أرجعه إلى مكانه في العصر الجاهلي.

(٣) قصة فدك سبق شرحها.

(٤) الصاع في النهاية هو مكيال يسع أربعة أمداد ، المد عند الشافعي وفقهاء الحجاز رطل وثلث الرطل بالعراقي وعند أبي حنيفة المد رطلان وبه أخذ فقهاء العراق. فيكون الصاع خمسة أرطال وثلثا أو ثمانية أرطال ، وعند الشيعة على ما في كتاب الخلاف في حديث زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان الرسول (ص) يتوضأ بمد ويغتسل بصاع ، والمد رطل ونصف والصاع ستة أرطال يعني رطل المدينة اه. وهو تسعة بالعراقي.

(٥) وسع الخليفة عمر مسجد الرسول كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٣٧ وأدخل فيه بعض الدور.

(٦) ذلك كقضاء عمر بالعول والتعصيب في الارث ، وكقضائه بقطع السارق من معصم الكف ومفصل ساق الرجل خلافا لما أمر به النبي (ص) من ترك الكف والعقب ، وإنفاذه في الطلاق الثلاث المرسلة إلى غير ذلك من قضاياه وقضايا الآخرين. (الوافي) وسمى بعضها أوليات عمر.

(٧) كمن طلقت بغير شهود وعلى غير طهر كما أبدعوه ونفذوه وغير ذلك (الوافي).

(٨) لأن عمر رفع عنهم الجزية فهم ليسوا بأهل ذمة فيحل سبي ذراريهم كما روي عن الرضا (ع) أنه قال : إن بني تغلب من نصارى العرب انفوا واستنكفوا من قبول الجزية وسالوا عمر أن يعفيهم عن الجزية ويؤدوا الزكاة مضاعفة فخشي أن يلحقوا بالروم فصالحهم على أن صرف ذلك عن رءوسهم وضاعف عليهم الصدقة ـ

٣٦٣

دواوين العطايا (١) ، وأعطيت كما كان رسول الله (ص) (٢) يعطي بالسويّة ولم أجعلها دولة بين الأغنياء وألقيت المساحة (٣) ، وسوّيت بين المناكح (٤) وأنفذت خمس الرّسول كما أنزل الله عزوجل وفرضه (٥) ، ورددت مسجد رسول الله (ص) إلى ما كان عليه (٦) ، وسددت ما فتح فيه من الأبواب ، وفتحت ما سدّ منه ، وحرّمت المسح على الخفين ، وحددت على النبيذ (٧) ، وأمرت باحلال المتعتين (٨) ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس

__________________

ـ فرضوا بذلك. وقال محيي السنة «البغوي» روى ان عمر بن الخطاب رام نصارى العرب على الجزية فقالوا : نحن عرب لا نؤدّي ما يؤدي العجم ولكن خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض يعنون الصدقة فقال عمر : هذا فرض الله على المسلمين قالوا : فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية فراضاهم على ان ضعف عليهم الصدقة. مرآة العقول.

(١) أشار بذلك الى ما ابتدعه عمر في عهده من وضعه الخراج على أرباب الزراعات والصناعات والتجارات لأهل العلم وأصحاب الولايات والرئاسات والجند وجعل ذلك عليهم بمنزلة الزكاة المفروضة ودون دواوين واثبت فيها أسماء هؤلاء وأسماء هؤلاء ، وأثبت لكل رجل من الأصناف الأربعة ما يعطي من الخراج الذي وضعه على الأصناف الثلاثة ، وفضل في إعطاء بعضهم على بعض ، ووضع الدواوين على يد شخص سماه صاحب الديوان ، وأثبت له أجرة من ذلك الخراج ولم يكن شيء من ذلك على عهد رسول الله (ص) ولا على عهد أبي بكر. الوافي.

(٢) أي لا أجعله لقوم دون قوم حتى يتداولوه بينهم ويحرموا الفقراء.

(٣) إشارة إلى ما عده الخاصة والعامة من بدع عمر أنه قال : ينبغي مكان هذا العشر ونصف العشر دراهم نأخذها من أرباب الأملاك ، فبعث إلى البلدان من مسح على أهلها فألزمهم الخراج ، فأخذ من العراق وما يليها ما كان أخذه منهم ملوك الفرس على كل جريب درهما واحدا وقفيزا من أصناف الحبوب ، وأخذ من مصر ونواحيها دينارا وإردبا عن مساحة جريب كما كان يأخذ منهم ملوك الإسكندرية وقد روى محيي السنة وغيره من علمائهم عن النبي (ص) انه قال : «منعت العراق درهمها وقفيزها ومنعت الشام مدها ودينارها ومنعت مصر إردبها ودينارها» والإردب لأهل مصر أربعة وستون منّا وفسره أكثرهم بأنه قد محا ذلك شريعة الإسلام وكان أول بلد مسحه عمر بلد الكوفة. وتفصيل الكلام في ذكر هذه البدع موكول إلى الكتب المبسوطة التي دونها أصحابنا لذلك كالشافي للسيد المرتضى. مرآة العقول.

(٤) بأن يزوج الشريف والوضيع كما فعله رسول الله (ص) : زوج بنت عمته مقدادا. أو إشارة إلى ما ابتدعه عمر من منعه غير قريش أن يتزوج في قريش ومنعه العجم من التزويج في العرب. الوافي.

(٥) إشارة إلى منع عمر اهل البيت خمسهم. كما مر بيانه.

(٦) يعنى أخرجت منه ما زادوه فيه. «وسددت ما فتح فيه من الأبواب» إشارة إلى ما نزل به جبرئيل (ع) من الله سبحانه من أمره النبي (ص) بسد الأبواب من مسجده إلّا باب على وكانهم قد عكسوا الأمر بعد رسول الله (ص). الوافي.

(٧) إشارة إلى ما ابتدعه عمر من إجازة المسح على الخفين في الوضوء ثلاثا للمسافر ويوما وليلة للمقيم وقد روت عائشة عن النبي (ص) أنه قال لعمر : «أشدّ الناس حسرة يوم القيامة من رأى وضوءه على جلد غيره». «وحددت على النبيذ» وذلك أنهم استحلوه. راجع من لا يحضره الفقيه ج ١ الباب : ١٠ ح : ٩٦.

(٨) يعني متعة النساء ومتعة الحج ، قال عمر : «متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) وأنا أحرمهما ـ

٣٦٤

تكبيرات (١) ، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم (٢) ، وأخرجت من أدخل بعد رسول الله (ص) في مسجده ممّن كان رسول الله (ص) أخرجه ، وأدخلت من أخرج بعد رسول الله (ص) ممّن كان رسول الله (ص) أدخله (٣) ، وحملت النّاس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنّة (٤) ، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها (٥) ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها (٦) ، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم (٧) ، ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه (ص) ، إذا لتفرّقوا عنّي. والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة ، وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي : يا أهل الإسلام غيّرت سنّة عمر ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا

__________________

ـ وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج». مرّ بيانه.

(١) وذلك ان النبي (ص) كان يكبر على الجنائز خمسا ، لكن الخليفة الثاني راقه أن يكون التكبير في الصلاة عليها أربعا فجمع الناس على الأربع ، نص على ذلك جماعة من أعلام الأمة كالسيوطي (نقلا عن العسكري) حيث ذكر أوليات عمر من كتابه (تاريخ الخلفاء) ، وابن الشحنة حيث ذكر وفاة عمر سنة ٢٣ من كتاب (روضة المناظر) المطبوع في هامش تاريخ ابن الأثير.

(٢) وذلك أنهم يتخافتون بها أو يسقطونها في الصلاة. ولعلهم أخذوها من الخليفة معاوية راجع تفسير سورة الحمد بتفسير الزمخشري.

(٣) لعل المراد به نفسه (ع) وبإخراجه سد بابه وبادخاله فتحه. الوافي.

(٤) وذلك أنهم خالفوا القرآن في كثير من الأحكام وأبطلوا عدة من أحكام الطلاق بآرائهم.

(٥) أي أخذتها من أجناسها التسعة وهي الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والغنم والبقر فانهم أوجبوها في غير ذلك مثل زكاة الخيل. تاريخ الخلفاء ص ١٣٧.

(٦) ذلك أنهم خالفوا في كثير منها كإبداعهم في الوضوء مسح الأذنين وغسل الرجلين والمسح على العمامة والخفين وانتفاضه بملامسة النساء ومس الذكر وأكل ما مسته النار وغير ذلك مما لا ينقضه ، وكإبداعهم الوضوء مع غسل الجنابة ، وإسقاط الغسل في التقاء الختانين من غير انزال ، وإسقاطهم من الأذان «حي على خير العمل» وزيادتهم فيه «الصلاة خير من النوم» وتقديمهم التسليم على التشهد الأول في الصلاة مع أن الغرض من وضعه التحليل منها ، وإبداعهم وضع اليمين على الشمال فيها ، وحملهم الناس على الجماعة في النافلة وعلى صلاة الضحى وغير ذلك. راجع في إثبات كل ذلك كتاب الشافي للسيد المرتضى ـ رحمه‌الله.

(٧) نجران ـ بالفتح ثم السكون وآخره نون ـ وهو في عدة مواضع : منها نجران من مخاليف اليمن من ناحية مكة وبها كان خبر الأخدود ، وإليها تنسب كعبة نجران ، وكانت بيعة بها أساقفة مقيمون منهم السيد والعاقب اللذان جاءا الى النبي عليه‌السلام في اصحابهما ودعاهم الى المباهلة وبقوا بها حتى اجلاهم عمر ونجران أيضا موضع على يومين من الكوفة ـ إلى آخر ما قاله الحموي في مراصد الاطلاع ٣ / ١٣٥٩ وفي كيفية إجلاء عمر إياهم وسببه. راجع فتوح البلدان للبلاذري ص ٧٧ الى ص ٧٩.

٣٦٥

ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري (١). ما لقيت من هذه الأمّة من الفرقة وطاعة أئمة ... (٢)

إلى آخر شكوى الإمام في هذه الخطبة التي يصرّح فيها بأنّه لم ينجح في إرجاع الأمّة الإسلامية إلى سنّة نبيّها ، وتجرّع في سبيل ذلك الغصص حتى تمنّى الموت وقال : ما يحبس أشقاكم أن يجيء فيقتلني. اللهم إنّي قد سئمتهم وسئموني فأرحهم منّي ، وأرحني منهم (٣).

وقال : متى يبعث أشقاها؟!

قال ذلك ، لأنّ رسول الله كان قد قال له : يا عليّ «أتدري من أشقى الأوّلين والآخرين؟» قال قلت : الله ورسوله أعلم قال : «من يخضب هذه من هذه ـ يعني لحيته من هامته» (٤).

ولمّا أراح ابن ملجم الإمام عليّا وتغلّب على الحكم معاوية ؛ أعاد إلى الأمّة جميع سنن الخلفاء الّتي ناهضها الإمام علي ، وأضاف إلى ذلك إعادته الأعراف القبليّة الجاهليّة ، وزاد في الطين بلّة بما فعل من وضعه جماعة من الصحابة والتابعين ليرووا عن رسول الله (ص) أحاديث في تأييد سياسته كما أشرنا إليه في ما سبق ، وكان يحدوه إلى ذلك ـ بالإضافة إلى ما كان يروم من تثبيت الحكم في عقبه ـ عداؤه لبني هاشم. كما يتضح ذلك ممّا رواه الزبير بن بكار في «الموفقيات» ، عن المطرف بن المغيرة بن شعبة قال :

دخلت مع أبي على معاوية ، فكان أبي يأتيه فيتحدّث معه ، ثمّ ينصرف إليّ فيذكر معاوية وعقله ، ويعجب بما يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ، ورأيته مغتما ، فانتظرته ساعة ، وظننت أنه لأمر حدث فينا ، فقلت : ما لي أراك مغتمّا منذ الليلة؟ فقال : يا بنيّ ، جئت من أكفر الناس وأخبثهم. قلت : وما ذاك؟ قال : قلت له وقد خلوت به : إنك قد بلغت سنّا يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلا ، وبسطت خيرا فإنك قد كبرت ، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم ، فوصلت أرحامهم ، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه ، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه؟ فقال : هيهات هيهات!

__________________

(١) راجع فصل في أوليات عمر من تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٣٦.

(٢) روضة الكافي ٥٨ ـ ٦٣.

(٣) البحار ٤٢ / ١٩٦.

(٤) البحار ٤٢ / ١٩٥.

٣٦٦

أي ذكر أرجو بقاءه؟ ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلّا أن يقول قائل : أبو بكر. ثم ملك أخو عدي ، فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ، إلّا أن يقول قائل : عمر.

وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كلّ يوم خمس مرات (أشهد أنّ محمّدا رسول الله) فأي عمل يبقى؟ وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك؟ لا والله إلّا دفنا دفنا (١).

وبسبب كلّ ذلك انتشر «حديث كثير موضوع وبهتان منتشر» (٢) والأنكى من ذلك رؤية المسلمين لمقام الخلافة فقد كانوا يرونه مصداقا لأولي الأمر في قوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وأغرموا بحبّ الخلفاء إلى حدّ أنّهم سمّوا كل مخالفة منهم لأحكام القرآن وسنّة الرسول اجتهادا ، وعلى امتداد الأيّام تعاظم عندهم مقام الخلافة حتى أصبح حكمهم في نظرهم خلافة الله في الأرض بعد أن كان خلافة الرسول فقد كتب مروان بن محمّد د ـ وكان واليا على أرمينية ـ إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق لمّا استخلف «يبارك له خلافة الله له على عباده» (٣) وهذا الوليد هو الذي سعى أخوه سليمان في قتله وقال : «أشهد أنّه كان شروبا للخمر ما جنا فاسقا ولقد أرادني على نفسي» وأراد الوليد أن يشرب الخمر فوق ظهر الكعبة ، ولما قيل في مجلس المهدي أنه كان زنديقا قال المهدي : «خلافة الله عنده أجلّ من أن يجعلها في زنديق» (٤).

وروى أبو داود في سننه عن سليمان الأعمش ، قال : جمّعت مع الحجّاج فخطب ... قال فيها : ... فاسمعوا وأطيعوا لخليفة الله وصفيّه عبد الملك بن مروان (٥).

وروى أبو داود والمسعودي وابن عبد ربّه واللفظ للأوّل. عن الربيع بن خالد الضبّي قال : سمعت الحجّاج يخطب فقال في خطبته : رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفته في أهله (٦).

__________________

(١) الموفقيات للزبير بن بكار ص ٥٧٥ و ٥٧٦ ، وشرح نهج البلاغة ٢ / ١٧٦.

(٢) راجع المجلد الأول ، فصل : في نشر حديث الرسول ص ٢٧ ـ ٤٣.

(٣) تاريخ ابن كثير ١٠ / ٤.

(٤) تاريخ ابن كثير ١٠ / ٧ ـ ٨.

(٥) سنن أبي داود ج ٤ / ٢١٠ ح ٤٦٤٥ في : باب في الخلفاء.

(٦) سنن أبي داود ٤ / ٢٠٩ ح ٤٦٤٢ ، والمسعودي ج ٣ / ١٤٧ في : ذكر طرف من أخبار الحجاج ، والعقد الفريد ٥ / ٥٢.

٣٦٧

وكتب إلى عبد الملك يعظّم فيه أمر الخلافة ويزعم أنّ السموات والأرض ما قامتا إلّا بها ، وانّ الخليفة عند الله افضل من الملائكة المقرّبين والأنبياء والمرسلين ، وذلك أنّ الله خلق آدم بيده وأسجد له ملائكته وأسكنه جنّته ، ثمّ أهبطه إلى الأرض وجعله خليفته ، وجعل الملائكة رسلا إليه ، فأعجب عبد الملك بذلك ، وقال : لوددت أنّ بعض الخوارج عندي فأخاصمه بهذا الكتاب ... الحديث (١).

وفي مرّة واحدة أنزل من قدر الخليفة وجعله مساويا للرسول فقد قال في خطبة كما في سنن أبي داود والعقد الفريد : أنّ مثل عثمان عند الله كمثل عيسى بن مريم ، ثمّ قرأ هذه الآية «إذ قال الله يا عيسى إني متوفّيك ورافعك إليّ ومطهّرك من الّذين كفروا وجاعل الّذين اتبعوك فوق الّذين كفروا إلى يوم القيامة» (٢).

وفي العقد الفريد : بعد «من الذين كفروا» أنه أشار بيده إلى أهل الشام (٣) أي أنّهم الّذين اتبعوا الخليفة فجعلهم الله فوق الذين كفروا وهم أهل العراق ، وأمر الوليد ابن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري ، فحفر بئرا بمكة فجاءت عذبة الماء طيّبة ، وكان يستسقي منها الناس ، فقال خالد في خطبته على منبر مكّة : أيّها الناس أيّهما أعظم خليفة الرجل على أهله أم رسوله إليهم؟ والله لم تعلموا فضل الخليفة ألّا إنّ إبراهيم خليل الرحمن استسقى فسقاه ملحا أجاجا واستسقاه الخليفة فسقاه عذبا فراتا. يعني بالملح زمزم وبالماء الفرات بئرا حفرها الوليد بن عبد الملك بالثنيتين ثنية طوى وثنية الحجون فكان ينقل ماؤها فيوضع في حوض من أدم إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم ، قال الراوي : ثمّ غارت البئر فذهبت فلا يدرى أين هي اليوم (٤).

* * *

بلغت عصبة الخلافة (٥) إلى هذا الحدّ من الإسفاف في توجيهها الأمّة على تقديس مقام الخلافة وخاصة مقام الخليفتين الأولين : أبي بكر وعمر (رض) ، وبلغت في ذلك باخريات عهد عمر (رض) مستوى من التربية الفكرية للأمّة كان مقبولا معها

__________________

(١) العقد الفريد ٥ / ٥١.

(٢) سورة آل عمران آية / ٥٥.

(٣) سنن أبي داود ٤ / ٢٠٩ ، والعقد الفريد ٥ / ٥١.

(٤) في ذكر حوادث سنة تسع وثمانين من الطبري ٥ / ٦٧ ، وابن الأثير ٤ / ٢٠٥ ، وابن كثير ٩ / ٧٦.

(٥) قصدنا من لفظ العصبة معناه اللغوي وهو العصابة : أي الجماعة من الرجال وذلك ما قصده الرسول (ع) في غزوة بدر عند ما دعا ربه وقال في حق أصحابه : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد.

٣٦٨

لدى عامة المسلمين ولدى أصحاب رسول الله (ص) خاصّة أن يتخذ من سيرتهما في عداد سنة الرسول دستورا للمجتمع الإسلامي ، وتعقد الخلافة لعثمان على أن يعمل بسنّة خاتم الأنبياء وسيرة الخليفتين (١). وقد مرّ بنا في ما سبق أنّهما كانا يعملان برأيهما في الأحكام فقد أسقطا سهم آل البيت خاصة وبني هاشم عامّة من عامّة موارد الخمس مع وجود النص عليه في الكتاب والسنّة ، وأسقط أبو بكر القود والحدّ عن خالد بن الوليد خلافا للنصّ الشرعي ووفقا لرأيه ، وحرّم عمر متعتي الحجّ والنساء وفقا لاجتهاده وأوجد النظام الطبقي في تقسيم بيت المال ، إلى غير ذلك ممّا بدّلا فيه أحكام الإسلام وفق ما رأيا من مصلحة خاصّة أو عامّة ، وتابعهما على ذلك الخليفة الثالث عثمان بن عفّان (رض). ولمّا جاء دور الإمام علي شكا من تغييرهم أحكام الإسلام ، ولم يستطع أن يعيدها إلى ما كانت عليه على عهد النبي (ص) ، ثمّ جاء بعدهم الخليفة معاوية ، فزاد في الطين بلّة في ما فعل وغيّر وبدل.

وغمّ بعد ذلك أمر الأحكام الإسلامية والتبس على المسلمين بحيث لم يعد ممكنا إعادة الأحكام الّتي بدّلها الخلفاء إلى المجتمع الإسلامي مع رؤية المسلمين التقديسية للخلفاء الّذين بدّلوا تلك الأحكام. فما ذا صنع أئمة أهل البيت في مقابل ذلك؟ وكيف استطاعوا أن يعيدوا أحكام الإسلام ثانية إلى المجتمع؟ هذا ما يأتي بيانه في باب أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) يعيدون أحكام الإسلام إلى المجتمع وفيه تتمة هذا البحث.

__________________

(١) عبد الله بن سبأ ج ١ ، باب الشورى وبيعة عثمان.

٣٦٩
٣٧٠

الفصل الخامس

خلاصة بحوث المدرستين في مصادر الشريعة الاسلاميّة

ـ أمثلة من اجتهاد الخلفاء في مقابل نصوص الكتاب والسنة

ـ رواية الأحاديث تبريرا لفعل الخلفاء

ـ السبيل إلى توحيد كلمة المسلمين

٣٧١
٣٧٢

القرآن والسنة والفقه والاجتهاد من مصطلحات الإسلام والمسلمين.

القرآن هو كلام الله الذي أنزله على خاتم الأنبياء باللغة العربية ويقابله في اللغة العربية الشعر والنثر ، فكل كلام عربي أمّا أن يكون قرآنا وإمّا أن يكون نثرا أو شعرا.

ويقال لجميع القرآن : قرآن ، وللسورة قرآن ، وللآية قرآن ، وأحيانا لبعض الآية قرآن ، كما يقال للديوان شعر وللقصيدة والبيت والشطر شعر.

وهو مصطلح إسلامي لوروده في كلام الله وحديث الرسول. وقد عدّ العلماء من أسماء القرآن بعض ألفاظ وردت وصفا لكلام في القرآن وقد استعملها الله من قبيل الوصف والتعريف للقرآن مثل : الكتاب والذكر.

وسمّى الخليفة أبو بكر القرآن بالمصحف ، ولما لم يرد هذا اللفظ في القرآن والحديث النبوي الشريف فقد سميناه بالمصطلح الإسلامي.

وكان رسول الله (ص) يعلم كل ما نزل عليه من القرآن نجوما ، من حضره من المسلمين ، وقد أمرهم في المدينة بكتابة القرآن وحفظه ، فتسابقوا إلى حفظ القرآن وكتابته على ما حضرهم من جلد وخشب وعظم وغيرها ، ولما توفي الرسول (ص) بادر الإمام علي إلى جمعه في كتاب وكانت عند بعض الصحابة ـ مثل ابن مسعود أيضا ـ نسخ خاصّة بهم ، وأمر الخليفة أبو بكر بعض الصحابة فدنوه في نسخة وأودعها عند أمّ المؤمنين حفصة ، وأمر الخليفة عثمان بكتابة نسخ عليها ووزعها على المسلمين في أقطار البلاد الإسلامية فاستنسخ منها المسلمون آلاف النسخ ثم مئات الألوف وملايينها وبقيت بأيديهم حتى اليوم ، شأنه شأن ألفية ابن مالك التي لم تتغير منذ كتبها ناظمها إلى

٣٧٣

اليوم ، لأن الحوزات لم تنقطع عن تدريسها في كل الأزمنة ولم يسمع بأن لدى أحد من المسلمين في عصر من العصور نسخة من القرآن تختلف في كلمة واحدة عما في أيدينا.

أما ما ورد في بعض الأحاديث بكتب مدرسة الخلفاء أو مدرسة أهل البيت فإن تلك الروايات لم يأخذ بها أحد من المسلمين في عصر من العصور بل بقيت في محلّها من كتب الحديث.

وأما مصحف فاطمة (ع) فإن الأئمة من أهل البيت قالوا عنه : إن فيه أسماء من يحكم هذه الأمّة من حكّام وليس فيه شيء من القرآن ، وشأن هذه التسمية شأن تسمية كتاب سيبويه في النحو ب «الكتاب» ، فانه لم يقصد منه أنّه القرآن.

أمّا السنة فهي في اللغة : الطريقة ، وفي عرف المسلمين : سيرة الرسول وحديثه وتقريره ، وقد ورد في حديث الرسول الحث على الأخذ بسنته ، فهي إذا من المصطلحات الإسلامية وإن كانت دلالتها على الحديث والتقرير ضمنية.

وينحصر طريق وصول السنة حديثا وسيرة وتقريرا بما روي عن رسول الله (ص).

والفقه في اللغة : الفهم ، وفي القرآن والحديث ورد بمعنى علم الدين الإسلامي ، وفي اصطلاح علماء المسلمين خص بعلم الأحكام وبما أنّه استعمل في القرآن والحديث بمعنى عامة علم الدين ، فاستعماله في خصوص علم الأحكام لا يخرجه عن كونه مصطلحا إسلاميا.

والاجتهاد في عرف علماء مدرسة الخلفاء : استنباط الأحكام عن طريق الكتاب والسنة والقياس.

وفي عرف علماء مدرسة أهل البيت : مساوق للفقه.

وتتّفق المدرستان في الأخذ بكل ما ورد في كتاب الله وكل ما ثبت لديهم من سنّة الرسول.

وتختلفان في من يأخذون عنه سنة الرسول ، فإنّ أتباع مدرسة الخلفاء تأخذ الأحكام من كل من سمّوه صحابيّا ، ولا يأخذ أتباع مدرسة أهل البيت السنّة ممن عادى الإمام عليا (ع) مثل عمران بن حطّان الخارجي سواء أكان المعادي للإمام علي صحابيا أم تابعيا أم ممن جاء بعدهم لأنّ رسول الله (ص) قال للإمام علي : «يا علي لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق» وقال الله سبحانه : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا

٣٧٤

عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ).

واختلفت المدرستان أيضا بعد وفاة رسول الله ، في نشر حديث الرسول (ص) وكتابته. فبينما منع الخلفاء الأوّلون إذاعة حديث الرسول (ص) وحرّموا كتابته وبقي تحريم الكتابة جاريا إلى عصر عمر بن عبد العزيز ؛ جدّت مدرسة أهل البيت في إذاعة حديث الرسول (ص) وكتابته جيلا بعد جيل.

وبالإضافة إلى ما ذكرنا اختلفت المدرستان أيضا في العمل بالرأي والاجتهاد في الأحكام الإسلامية فبينا منعت مدرسة أهل البيت العمل بالرأي والاجتهاد في الأحكام ؛ عملت مدرسة الخلفاء في الأحكام الإسلامية بالرأي والاجتهاد كما سنذكر خلاصة بعض أمثلتها فيما يأتي.

٣٧٥

أمثلة من اجتهاد الخلفاء

في مقابل نصوص الكتاب والسنّة

أ ـ قال الله عزوجل (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الحشر / ٧ ، (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) النجم / ٣ ، ٤ ، (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) النحل / ٤٤.

وحثّ رسول الله (ص) على نشر حديثه ، وأمر بكتابة حديثه وأكّد عليه ، ثم اجتهد الخلفاء ومنعوا من نشر حديث الرسول (ص) ونهوا عن كتابته وأصبح اجتهادهم حكما إسلاميا ، ثم رووا الحديث عن رسول الله (ص) أنه نهى عن كتابة حديثه تأييدا لموقف الخلفاء وبقي الأمر كذلك ، وامتنع المسلمون عن كتابة الحديث النبوي زهاء تسعين سنة حتى إذا أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بكتابة الحديث النبوي الشريف ، كتب المسلمون من أتباع مدرسة الخلفاء حديث الرسول (ص) وألفوا المسانيد والصحاح والمصنفات الكثيرة الوفيرة في ذلك.

ب ـ قال الله عزوجل : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) الأنفال / ٤١.

وسنّ رسول الله (ص) ذلك وعمل به في عصره ، واجتهد الخلفاء فأسقطوا سهم رسول الله (ص) وسهم ذي القربى وجعلوهما في الكراع والسلاح ، وأصبح اجتهادهم حكما إسلاميا.

ج ـ قال الله عزوجل : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ).

وسنّ رسول الله (ص) عمرة التمتع وعمل بها المسلمون في حجة الوداع ، ثم اجتهد الخلفاء ونهوا عن عمرة التمتع وأمروا بإفراد الحجّ ، وأصبح اجتهادهم حكما إسلاميا ، ثمّ رووا الحديث عن رسول الله (ص) بأنه أمر بإفراد الحجّ ، وأنه نهى عن عمرة

٣٧٦

التمتع تأييدا لموقف الخلفاء ، وحجّ المسلمون بلا عمرة وبقى ذلك معمولا به عند بعضهم حتى اليوم.

د ـ قال الله عزوجل : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ).

وسنّ رسول الله (ص) متعة النساء وعمل بها المسلمون على عهده ، ثم اجتهد الخلفاء وحرّموا متعة النساء ، وأصبح اجتهادهم حكما إسلاميا ، ورووا الحديث عن رسول الله (ص) أنه نهى عن متعة النساء وامتنع أتباع مدرسة الخلفاء عن متعة النساء حتى اليوم.

ه ـ قال الله عزوجل : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) وجعل مكّة وحواليها حرما آمنا.

وسنّ رسوله ذلك وحدّد حدود حرم الله ، ثم اجتهد الخلفاء ، فاستباحوا حرمة الكعبة ورموها بالمنجنيق.

و ـ قال الله عزوجل : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).

وقال رسول الله (ص) الكثير في الوصية بأهل بيته ، ثم اجتهد الخلفاء ، فقتلوا سبط الرسول (ص) وأهل بيته وسبوا نساءه.

إلى الكثير مما قال الله ورسوله (ص) واجتهد الخلفاء وسنّوا خلافه ، وأصبح اجتهادهم في بعضها حكما إسلاميا اتّبعه المسلمون من أتباع مدرسة الخلفاء ، وما أوردنا من ذلك كان على سبيل المثال وليس الحصر فإن لهم اجتهادات أخرى أيضا مثلها مما سمّاها المؤرّخون بالأوّليات ، فقد قال السيوطي ـ مثلا ـ في ذكر أوليات عمر من تاريخه : هو أوّل من سنّ قيام شهر رمضان ، أي سنّ الجماعة في نافلة شهر رمضان ويسمّى صلاة التراويح (١) ، وأوّل من حرّم المتعة ، وأوّل من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات (٢) ، وأوّل من أعال الفرائض (٣).

وقال في أوّليّات عثمان : هو أوّل من أقطع القطائع ـ مثل فدك أقطعها لمروان ـ وأوّل من حمى الحمى ـ مثل الربذة حماها لنفسه ـ.

__________________

(١) راجع صحيح البخاري باب فضل من قام رمضان من كتاب الصيام ، ومسلم باب الترغيب في قيام رمضان ، وطبقات ابن سعد ط. ليدن ٣ ق ١ / ٢٠٢ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ١٤٠ ، وتاريخ الطبري ٥ / ٣٢ ، وابن الأثير ٣ / ٢٣.

(٢) راجع مسند أحمد ٤ / ٣٧٠ ، و ٥ / ٤٠٦ ، وتاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٣.

(٣) راجع تفصيل قول ابن عباس في مستدرك الحاكم ٤ / ٣٣٩.

٣٧٧

وقال في أوّليات معاوية : هو أول من خطب الناس قاعدا ، وأوّل من أحدث الأذان في العيد ، وأوّل من نقص التكبير ، وأوّل من اتخذ مقصورة في المسجد ، وأوّل من عهد بالخلافة لابنه ، وأوّل من عهدها في صحّته.

واجتهد الخليفة عمر أيضا في حكم الطلاق ، فجعل التلفّظ بالثلاثة في مجلس واحد ثلاث تطليقات ، خلافا لما كانت عليه سنّة الرسول (١) وتبديله حيّ على خير العمل ب «الصلاة خير من النوم» في الصبح (٢) ونهيه عن البكاء على الموتى ، وضربه الباكين مع منح الرسول إيّاه عن ذلك ، وبكاء الرسول على الميّت (٣) ، وطلبه من المسلمين أن يبكوا على حمزة (٤).

ونهيه عن التطوّع بركعتين بعد العصر مع أن رسول الله (ص) لم يتركهما قطّ (٥).

ومثل إتمام عثمان صلاة الرباعيّة في السفر مع أنّ الفرض فيها القصر (٦).

ومثل أمر معاوية بلعن الإمام عليّ على جميع منابر المسلمين في جميع مساجدهم في خطبة الجمعة والعيدين. وقد استمرّوا على هذه السيرة منذ سنة أربعين للهجرة إلى أن رفعها عمر بن عبد العزيز.

ومثل أفعال الخليفة يزيد!!!

__________________

(١) راجع صحيح مسلم ، باب طلاق الثلاث ، من كتاب الطلاق ، ومسند أحمد ١ / ٣١٤ ، وسنن أبي داود في كتاب الطلاق ، باب نسخ المراجعة بعد الثلاث تطليقات ، وسنن البيهقي ٧ / ٣٣٦ ، ومستدرك الحاكم ٢ / ١٩٦ ، وسنن النسائي كتاب الجنائز باب عدد التكبيرات على الجنازة.

(٢) مصنف ابن أبي شيبة ، وموطأ مالك ، باب الأذان والتثويب ، وراجع أواخر مبحث الإمامة من شرح التجريد.

(٣) راجع صحيح البخاري ، أبواب الجنائز ، باب البكاء عند المريض ، وباب يعذب الميت ببكاء أهله عليه ، وباب الرجل ينعى الى أهل الميت بنفسه ، وباب قول النبيّ (ص) إنا بك لمحزونون ، وصحيح مسلم في باب البكاء على الميت من كتاب الجنائز ، وباب رحمته من الصبيان والعيال من كتاب الفضائل ، وتاريخ الطبري وابن الأثير في ذكر موت أبي بكر في حوادث سنة ١٣ ه‍. والنسائي في كتاب الجنائز ، ومسند أحمد ١ / ٣٣٥ ، و ٢ / ٣٣٣ ، وشرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ١١١

(٤) مسند أحمد ٢ / ٤٠ وترجمة حمزة من الاستيعاب.

(٥) صحيح مسلم ، باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما بعد العصر ، وموطأ مالك في موارد النهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر ، وراجع شرحه للزرقاني.

(٦) راجع صحيح مسلم. كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، وصحيح البخاري في باب ما جاء في التقصير من أبواب التقصير ، ومسند أحمد ٤ / ٩٤. وتاريخ الطبري وابن الأثير في ذكر ما نقم على عثمان

٣٧٨

هكذا اطّردت اجتهادات الخلفاء وكبراء مدرستهم في مقابل أحكام الكتاب والسنّة وكثر تبديلهم الأحكام الإسلامية وسمّوها بالتأويل تارة ، وبالأوّليات أخرى ، ولكن المشهور تسميتها بالاجتهاد. وزاد في الطين بلّة ما روي من أحاديث تؤيّد الخلفاء في أعمالهم وأقوالهم كما يلي بيانه :

رواية الاحاديث تبريرا لفعل الخلفاء

ضربنا في ما سبق أمثلة من اجتهادات الخلفاء في مقابل نصوص الكتاب والسنّة وتشريعهم أحكاما جديدة في الإسلام.

والأعجب من ذلك تبرع بعض المحدّثين والرواة في مدرسة الخلفاء برواية أحاديث عن لسان رسول الله (ص) أنّه كان قد أمر بتلك الاجتهادات هذا مضافا إلى ما فعله معاوية في مجال وضع الحديث تأييدا لسياسة الخلفاء كما أوضحنا كل ذلك في محلّه من هذا الكتاب وغيره (١).

ومن أمثلة ما رووا عن رسول الله في تأييد الخلفاء الروايات التالية :

رووا عن رسول الله (ص) أنّه نهى عن الخروج على الخلفاء ، وفرض على المسلمين طاعتهم على كلّ حال ، مثل ما رواه مسلم وابن كثير وغيرهما عن عبد الله بن عمر ، واللفظ لابن كثير ، قال : لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ، ثمّ تشهّد ، ثمّ قال : أمّا بعد فإنّا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله ، وقد سمعت رسول الله يقول : «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجّة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» فلا يخلعنّ أحد منكم يزيد ولا يسرفنّ أحد منكم في هذا الأمر ، فيكون الفيصل بيني وبينه (٢).

وروى مسلم عن حذيفة أنّه قال : قال رسول الله (ص) : «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنّون بسنّتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» قال : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال : «تسمع

__________________

(١) ذكرنا قسما منها في باب «مع معاوية» من كتاب أحاديث عائشة وقسما منها في محاضراتنا.

(٢) رواه ابن كثير في تاريخه ٧ / ٢٣٢ ، ورواه مسلم وغيره كما نقلناه عنهم قبل هذا في باب بحث الإمامة لدى المدرستين. ليست طاعة يزيد وبيعته مصداقين لقول الرسول ، وانما مصداقه البيعة الصحيحة وطاعة الإمام بالحق مثل طاعة الرسول وبيعته.

٣٧٩

وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» (١).

وروى الأحاديث الأربعة الآتية مسلم في صحيحه :

١ ـ عن زيد بن وهب ، عن عبد الله. قال : قال رسول الله (ص) : «إنّها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها» قالوا : يا رسول الله كيف تأمر من أدركها منا ذلك؟ قال : «تؤدون الّذي عليكم وتسألون الّذي لكم».

٢ ـ عن وائل الحضرمي أنّ سلمة بن يزيد سأل رسول الله فقال : يا نبيّ الله أرأيت إن قامت علينا أمراؤنا يسألون حقّهم ويمنعونا حقّنا فما تأمرنا ـ إلى ـ : اسمعوا وأطيعوا فإنّما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم.

٣ ـ عن أبي هريرة عن النبي أنّه قال : من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ، مات ميتة جاهلية ... وعن ابن عباس مثله.

٤ ـ وعن عوف بن مالك الأشجعي قال : سمعت رسول الله يقول : «خيار أئمّتكم الذين تحبّونهم ويحبّونكم ، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم ، وشراركم أئمتكم الّذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» قال قلنا : يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال «لا. ما أقاموا فيكم الصلاة. لا ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا من ولي عليه وال ، فرآه يأتي شيئا من معصية الله ، فليكره ما يأتي من معصية الله ، فليكره ما يأتي من معصية الله ، ولا ينزعنّ يدا من طاعة» (٢).

__________________

(١) ذكرنا مصدره في بحث الإمامة بأول الكتاب ، وأرى الحديث موضوعا اخترع واختلق بعد وفاة حذيفة وأسند إليه بعد سنة ٣٦ ه‍ حيث كان قد التحق بربّه وليس مجال البحث حول ذلك هاهنا.

(٢) صحيح مسلم ، كتاب الإمارة ح ٤٥ و ٤٩ و ٥٣ ـ ٥٤ و ٦٦.

٣٨٠