معالم المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٠٤

نصّت على أنّ التحريم كان قبل فتح مكّة وفي يوم فتح خيبر مثلا ، وروايات نصّت على أنّ التجويز والتحريم كانا بعد فتح مكّة ، وبما أنّهم التزموا صحّة جميع تلك الروايات المتناقضات ، اضطرّوا إلى أن يخترعوا جوابا لهذا التناقض فنسبوا إلى التشريع الإسلامي ما هو براء منه ، ونسبوا تكرار النسخ في هذه الواقعة كما يأتي بيانه.

نسخ حكم المتعة مرتين أو اكثر

عنون مسلم في صحيحه هذا الباب ب «باب نكاح المتعة وبيان أنّه أبيح ثمّ نسخ ، ثمّ أبيح ثمّ نسخ واستقر حكمه إلى يوم القيامة» (١).

وقال ابن كثير في تفسيره : وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنّه أبيح ثمّ نسخ ثمّ أبيح ثمّ نسخ مرّتين (٢).

وقال ابن العربي كما يأتي تفصيل قوله : تداوله النسخ مرّتين ثمّ حرّم.

وأشار إلى ذلك الزمخشري في الكشّاف (٣).

وقال آخرون : إنّ النسخ وقع أكثر من مرّتين (٤).

والحقّ معهم فإنّه إن جاز لنا أن نقول بتكرّر النسخ في حكم واحد دفعا لتناقض الأحاديث فلا بد لنا أن نقول بتكرّر النسخ على عدد الأحاديث المتناقضة. وعلى هذا فقد صحّ ما نقله القرطبي بعد إيراده قول ابن العربي حيث قال : وقال غيره ممّن جمع الأحاديث فيها : أنّها تقتضي التحليل والتحريم سبع مرّات ، فروى ابن عمرة : أنّها كانت صدر الإسلام ، وروى سلمة بن الأكوع أنّها كانت عام أوطاس ، ومن روايات على تحريمها يوم خيبر ، ومن رواية الربيع بن سبرة إباحتها يوم الفتح ، وهذه الطرق كلّها في صحيح مسلم ، وفي غيره عن عليّ نهيه عنها في غزوة تبوك ، وفي سنن أبي داود عن الربيع بن سبرة النهي في حجة الوداع ، وذهب أبو داود إلى أنّ هذا أصح ما روي في ذلك ، وقال عمرو عن الحسن : ما حلت قبلها ولا بعدها ، وروى هنا عن سبرة أيضا. فهذه سبعة مواطن أحلّت فيها المتعة ثمّ حرّمت ... (٥)

* * *

هكذا دفعهم التزامهم صحّة كلّ ما ورد في الكتب الموسومة بالصحّة إلى القول

__________________

(١) صحيح مسلم ، كتاب النكاح ، ص ١٠٣٢.

(٢) تفسير ابن كثير ١ / ٤٧٤ بتفسير «فما استمتعتم ...».

(٣) الكشاف ١ / ٥١٩.

(٤) حسب إحصاء ابن رشد في بداية المجتهد ٢ / ٦٣ بلغت خمس مرات.

(٥) تفسير القرطبي ٥ / ١٣٠ ـ ١٣١.

٢٨١

بنسخ حكم المتعة في الشرع مرّات متعدّدة. ولنعم ما قاله ابن القيم في هذا الصدد حيث قال : وهذا النسخ ، لا عهد بمثله في الشريعة البتة ، ولا يقع مثله فيها (١).

ومن السخف قول ابن العربي في هذا المقام حيث قال : أمّا هذا الباب فقد ثبت على غاية البيان ونهاية الإتقان في الناسخ والمنسوخ من الأحكام وهو من غريب الشريعة فإنّه تداوله النسخ مرّتين ... (٢).

* * *

وبالإضافة إلى ما ذكرنا لست أدري كيف تصح واحدة من تلك الروايات مع ما تواتر نقله عن الخليفة عمر (٣) أنه قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) أنا أنهى عنهما ، متعة النساء ومتعة الحجّ وفي لفظ : وأحرّمهما.

كيف تصحّ واحدة من تلك الروايات وقد صحّ عن جابر أنّه قال : استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر ، وفي رواية : حتى إذا كان في آخر خلافة عمر ، وفي رواية كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيّام على عهد رسول الله وأبي بكر حتّى نهى عنه في شأن عمرو بن حريث (٤).

كيف تصحّ واحدة من تلك الأحاديث ولم يسمع بها الخليفة عمر ولا أحد من الصحابة ولا التابعين حتّى عصر ابن الزبير ، ولا كان عند أحد من المسلمين علم بإحدى تلك الروايات في كلّ تلك العصور وإلّا لأسعفوا بها الخليفة عمر فاستشهد بها ، وأسعفوا بها عصبة الخلافة حتى عهد ابن الزبير فاستشهدوا بها ، في حين أنّ المعارضين أمثال ابن عبّاس وجابر وابن مسعود وغيرهم كانوا يجبهونهم بسنّة الرسول ، ويستشهد بعضهم الآخر على ذلك فيسألون أسماء أمّ ابن الزبير ويقول عليّ وابن عبّاس لو لا نهي عمر لما زنى إلّا شقي ، وفي كل تلك الموارد لم يقل أحد بأن الرسول (ص) نهى عن متعة النساء.

أجل ، إن تلكم الأحاديث وضعت احتسابا للخير ، وتأييدا لموقف ثاني خلفاء المسلمين ، ودفعا للقالة عنه ، كما وضعت أحاديث الأمر بإفراد الحج والنهي عن العمرة احتسابا للخير ودفعا للقالة عنه ، وهذا مثل ما وضعوا في فضائل سور القرآن احتسابا

__________________

(١) زاد المعاد ٢ / ٢٠٤.

(٢) شرح الترمذي ٥ / ٤٨ ـ ٥١.

(٣) سبق ذكر مصادره في أول بحث متعة الحجّ ومتعة النساء وراجع زاد المعاد ٢ / ٢٠٥.

(٤) مر ذكر مصادره في سبب تحريم عمر متعة النساء من هذا البحث.

٢٨٢

للخير كما في تقريب النواوي (١) :

والواضعون أقسام أعظمهم ضررا قوم ينسبون إلى الزهد وضعوه حسبة في زعمهم ، فقبلت موضوعاتهم ثقة بهم.

وفي شرحه : ومن أمثلة ما وضع حسبة ما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمّار المروزي أنّه قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم : من أين لك عن عكرمة عن ابن عبّاس في فضائل القرآن سورة سورة ، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال : إني رأيت النّاس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة!

قال الزركشي بعد إيراد هذا الخبر : ثمّ قد جرت عادة المفسّرين ممّن ذكر الفضائل أن يذكرها في أوّل كلّ سورة لما فيها من الترغيب والحثّ على حفظها إلّا الزمخشري فإنّه يذكرها في أواخرها (٢).

ونوح بن أبي مريم هو أبو عصمة القرشي ـ مولاهم ـ المروزى كان قاضي مرو ، يعرف بنوح الجامع لأنّه اخذ الفقه عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى والحديث عن حجّاج بن أرطاة وطبقته ، والمغازي عن ابن إسحاق ، والتفسير عن الكلبي ومقاتل ، وكان عالما بأمور الدنيا ، فسمّي الجامع ، وكان شديدا على الجهميّة والردّ عليهم. قال الحاكم : أبو عصمة مقدّم في علومه. لقد كان جامعا رزق كلّ شيء إلّا الصدق ... ، وأخرج حديثه الترمذي في سننه وابن ماجة في التفسير (٣).

وفي تدريب الراوي وميزان الاعتدال ، ولسانه ، واللفظ للأوّل ، عن ابن مهدي قال : قلت لميسرة بن عبد ربّه : من أين جئت بهذه الأحاديث : من قرأ كذا فله كذا؟ قال : وضعتها أرغّب الناس.

وفي تدريب الراوي : وكان غلاما جليلا يتزهّد ويهجر شهوات الدنيا وغلقت أسواق بغداد لموته ومع ذلك كان يضع الحديث.

وفيه أيضا : تنبيهات :

__________________

(١) تقريب التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير ، للحافظ محي الدين النواوي ٦٣١ ـ ٦١٦ ه‍ ، وشرحه السيوطي (ت ٩١١ ه‍) وسماه تدريب الراوي في شرح النواوي ط. الثانية سنة ١٣٩٢ منشورات المكتبة العلمية بالمدينة ١ / ٢٨١ ـ ٢٨٣.

(٢) تدريب الراوي ١ / ٢٨٢ ، والبرهان في علوم القرآن للزركشي ص ٤٣٢.

(٣) تهذيب التهذيب ١٠ / ٤٨٠ ـ ٤٨٦.

٢٨٣

الأوّل : من الباطل أيضا في فضائل القرآن سورة سورة حديث ابن عبّاس وضعه ميسرة كما تقدم ، وحديث أبي أمامة الباهلي أورده الديلمي من طريق سلام بن سليم المدني.

وفي لسان الميزان : وضع في فضل قزوين أربعين حديثا وكان يقول : إنّي احتسب في ذلك (١).

وفي تقريب النواوي : ومن الموضوع ؛ الحديث المرويّ عن أبيّ بن كعب في فضل القرآن سورة ، سورة ...

وفي شرحه ذكر تفصيلا إنّ الراوي بحث عن أصل الرواية فأحاله شيخ إلى شيخ ، من المدائن إلى واسط فالبصرة فعبّادان ، وهناك سأل الشيخ الأخير عمّن حدّثه الحديث ، فقال: لم يحدّثني أحد ولكنّا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن!

ثم قال السيوطي : لم أقف على تسمية هذا الشيخ إلّا أنّ ابن الجوزيّ أورده في الموضوعات عن طريق بزيع بن حسّان بسنده إلى أبيّ ، وقال : الآفة فيه من بزيع ، ثمّ أورده من طريق مخلّد بن عبد الواحد وقال : الآفة فيه من مخلّد ، فكأنّ أحدهما وضعه والآخر سرقه أو كلاهما سرقه من ذلك الشيخ الواضع ، وقد أخطأ من ذكره من المفسّرين في تفسيره كالثعلبيّ والواحدي والزمخشري والبيضاوي (٢).

وفي تدريب الراوي : وكان أبو داود النخعي أطول الناس قياما بليل وأكثرهم صياما بنهار وكان يضع.

قال ابن حبّان : وكان أبو بشر أحمد بن محمّد الفقيه المروزي من أصلب أهل زمانه في السنّة وأذبّهم عنها وأقمعهم لمن خالفها ، وكان يضع الحديث.

وقال ابن عدي : كان وهب بن حفص من الصالحين مكث عشرين سنة لا يكلّم أحدا ، وكان يكذب كذبا فاحشا (٣).

* * *

هؤلاء المعروفون بالصلاح والعبادة وترك الدنيا ، وضعوا الأحاديث في فضائل

__________________

(١) كلما أوردناه عن ميسرة فمن تدريب الراوي ١ / ٢٨٣ و ٢٨٩ ، ومن ترجمته بميزان الاعتدال ولسان الميزان ٦ / ١٣٨ ـ ١٤٠.

(٢) تدريب الراوي ١ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

(٣) تدريب الراوي ١ / ٢٨٣.

٢٨٤

سور القرآن وفضائل بلاد الثغور ، واعترفوا ببعض ما وضعوا ، ومع ذلك انتشرت في كتب التفسير وغيرها ، ونرى أيضا أنّ الأحاديث التي وضعت تأييدا للخليفة عمر في نهيه عن المتعتين من هذا القبيل وخاصّة ما روي في نهي الرسول عن متعة النساء نراها وضعت بعد عهد ابن الزبير وقبل عصر التدوين أي في أخريات القرن الأوّل وأوائل القرن الثاني وتسابق في تبرير فعل الخليفة الثاني ، الصلحاء :

فوضع أحدهم حديثا في أنّ الرسول نهى عن متعة النساء في غزوة خيبر وروى آخر أنّه أباحها وحرّمها في عمرة القضية ، وروى ثالث أنّ ذلك كان في فتح مكّة ، ورابع رواها في أوطاس ، وخامس في تبوك ، وسادس في حجة الوداع (١). وهكذا ، كل واحد أراد أن يقول أنّ الإباحة والتحريم وقعا معا في مكان وزمان خاص وعلى عهد رسول الله (ص) ولهذا حرّمها الخليفة. وهكذا تناقضت الأحاديث ، فبحث العلماء عن مخرج لهذا التناقض فلم يروا عذرا إلّا في ما فيه انتقاص للشرع الإسلامي فتقوّلوه وتمسّكوا به وإن كان فيه افتراء على الشرع ، فقالوا : إن هذا الحكم أبيح مرّتين ، ونسخ مرّتين وقالوا أبيح ونسخ أكثر من ذلك إلى سبع مرّات ، لم يكترثوا لتوهين الإسلام ما دام في ذلك المحافظة على القول بصحّة الأحاديث التي التزموا بصحّتها ، وقد انتفع علماء مدرسة الخلفاء بتلكم الأحاديث في تأييد تحريم نكاح المتعة ، مثل ما وقع ليحيى بن أكثم (٢) والمأمون في أوائل القرن الثالث الهجري كما رواه ابن خلكان عن محمّد بن منصور.

قال : كنا مع المأمون في طريق الشام. فأمر فنودي بتحليل المتعة ، فقال يحيى ابن أكثم لي ولأبي العيناء : بكّرا غدا إليه ، فإن رأيتما للقول وجها فقولا ، وإلّا فاسكتا إلى أن أدخل ، قال : فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ : متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) وعلى عهد أبي بكر (رض) وأنا أنهى عنهما! ومن أنت يا جعل

__________________

(١) هكذا سلسلها ابن حجر في فتح الباري ١١ / ٧٣.

(٢) أبو محمد يحيى بن أكثم المروزي من ولد أكثم بن صيفي التميمي الأسيدي ، ولاه المتوكل على قضاء القضاة وتدبير أهل مملكته ، كان يرمى بعمل قوم لوط.

وقال فيه الشاعر :

متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها

وقاضي قضاة المسلمين يلوط

وقال غيره :

قاض يرى الحد في الزناء ولا

يرى على من يلوط من بأس

مات بالربذة عند رجوعه من الحج الى العراق سنة ١٤٢ ه‍. وفيات الأعيان ٥ / ١٩٧ ـ ٢١٣.

٢٨٥

حتى تنهى عما فعله رسول الله (ص) وأبو بكر (رض)؟ فأومأ أبو العيناء إلى محمّد بن منصور وقال : رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلمه نحن! فأمسكنا ، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا ، فقال المأمون ليحيى : ما لي أراك متغيرا؟ فقال : هو غمّ يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام ، قال : وما حدث فيه؟ قال : النداء بتحليل الزنا ، قال : الزنا؟ قال : نعم ، المتعة زنا ، قال : ومن أين قلت هذا؟ قال : من كتاب الله عزوجل ، وحديث رسول الله (ص) ، قال الله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ،) إلى قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ») يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا ، قال : فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال : لا ، قال : فقد صار متجاوز هذين من العادين.

وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن ابني محمّد بن الحنفية عن أبيهما عن علي بن أبي طالب (رض) قال : أمرني رسول الله (ص) أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان قد أمر بها ، فالتفت إلينا المأمون فقال : أمحفوظ هذا من حديث الزهري؟ فقلنا : نعم يا أمير المؤمنين ، رواه جماعة منهم مالك (رض) ، فقال : أستغفر الله ، نادوا بتحريم المتعة ، فنادوا بها.

قال أبو إسحاق إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم الأزدي القاضي الفقيه المالكى البصري ، وقد ذكر يحيى بن أكثم ، فعظّم أمره وقال : كان له يوم في الإسلام لم يكن لأحد مثله ، وذكر هذا اليوم (١).

كان علماء مدرسة الخلفاء يحتجّون بالأحاديث التي مرّت علينا إذا ما نوظروا ، وإذا ما ثبت قول عمر «متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما» قالوا اجتهد الخليفة ، إذا فقد قال الله وقال رسوله واجتهد الخليفة (٢)!!!

خلاصة البحث :

تواتر عن الخليفة عمر قوله : متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما. وسبق البحث في متعة الحجّ أمّا متعة النساء فتعريفها في مدرسة الخلفاء

__________________

(١) وفيات الأعيان ، نشر مكتبة النهضة المصرية ، ط. مطبعة السعادة سنة ١٩٤٩ م ، ٥ / ١٩٩ ـ ٢٠٠.

(٢) راجع شرح نهج البلاغة للمعتزلي ٣ / ٣٦٣ في جواب الطعن الثامن.

٢٨٦

أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الوليّ إلى أجل مسمّى ، ويعطيها ما اتفقا عليه فإذا انقضت المدّة فليس عليها سبيل ، وتستبرئ رحمها لأنّ الولد لا حقّ فيه بلا شكّ ، فإن لم تحمل حلّت لغيره ، وعدّتها حيضة واحدة ولا يتوارثان ، وإذا انقضى الأجل فبدا لهما أن يتعاودا فليمهرها مهرا آخر.

وتعريفها في مدرسة أهل البيت : أن تزوج المرأة نفسها أو يزوّجها وكيلها أو ـ وليها إن كانت صغيرة ـ لرجل تحلّ له ولا يكون هناك مانع شرعا من نسب أو سبب أو رضاع أو عدّة أو إحصان ، بمهر معلوم إلى أجل مسمّى ، وتبين عنه بانقضاء الأجل أو أن يهب الرجل ما بقى من المدّة ، وتعتدّ المرأة بعد المباينة مع الدخول وعدم بلوغها سنّ اليأس بقر أين إذا كانت ممّن تحيض وإلّا فبخمسة وأربعين يوما ، وإن لم يمسسها فهي كالمطلّقة قبل الدخول لا عدّة عليها ، وشأن المولود في الزواج الموقّت شأن المولود من الزواج الدائم.

نكاح المتعة في كتاب الله :

قال الله سبحانه : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ...) النساء / ٢٤.

كانت في مصحف ابن عبّاس «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى» وقرأها كذلك ابيّ بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير والسدّي ، ورواها قتادة ومجاهد.

نكاح المتعة في السنّة :

عن عبد الله بن مسعود ، قال : رخّص رسول الله (ص) أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ، ثمّ قرأ عبد الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا ...) المائدة / ٨٧.

وعن جابر وسلمة بن الأكوع قالا : خرج علينا منادي رسول الله ، فقال : إنّ رسول الله قد أذن لكم أن تستمتعوا ، يعني متعة النساء.

وعن سبرة الجهني قال : أذن لنا رسول الله بالمتعة ، فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر فعرضنا عليها أنفسنا فقالت ما تعطي فقلت ردائي ... قالت أنت ورداؤك

٢٨٧

يكفيني ، فمكثت معها ثلاثا ثمّ إنّ رسول الله قال : من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع بها فليخلّ سبيلها.

وعن أبي سعيد الخدري ، قال : كنّا نتمتع على عهد رسول الله (ص) بالثوب.

وعن أسماء بنت أبي بكر ، قالت : فعلناها على عهد النبي (ص).

وعن جابر ، قال : كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام ، على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر ، حتى إذا كان في آخر خلافة عمر استمتع عمرو بن حريث بامرأة فحملت المرأة فبلغ ذلك عمر فنهى عنها.

وفي رواية : استمتع عمرو بن حوشب بجارية بكر من بني عامر بن لؤي فحملت فقال عمر : ما بال رجال يعملون بالمتعة ولا يشهدون عدولا؟ ما تمتع رجل ولم يبيّنها إلّا حددته فتلقاه الناس منه.

وفي رواية : تزوج ربيعة بن أميّة بن خلف مولدة بشهادة امرأتين فحملت فصعد عمر المنبر وقال لو كنت تقدمت في هذا لرجمت.

وفي رواية : إن سلمة بن أميّة استمتع من مولاة حكيم بن أميّة فولدت فجحد الولد فنهى عمر عن المتعة وقال : لو اتيت برجل تمتّع بامرأة لرجمته إن كان أحصن ، فإن لم يكن أحصن ضربته.

وبعد نهي عمر أصبح نكاح المتعة محرّما في المجتمع الإسلامي ، وبقي الخليفة عمر مصرّا على تحريمه ، روى عمران بن سوادة أنّه قال للخليفة : نصيحة ، فقال : مرحبا بالناصح هات :

فقال عابت أمتك منك انّك حرّمت العمرة في أشهر الحج ولم يفعل ذلك رسول الله ولا أبو بكر وهي حلال.

فقال : إنّهم لو اعتمروا في أشهر الحجّ لرأوها مجزية وبقيت مكّة خالية منهم ، وقد أصبت.

قال : ذكروا إنّك حرّمت متعة النساء وقد كانت رخصة من الله نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث.

قال : إنّ رسول الله أحلّها في زمان ضرورة ثم رجع الناس إلى سعة ، والآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق.

قال المؤلف : هل يسوغ تحريم ما أحلّ الله من متعة الحج بسبب أنّ ذلك يؤدي

٢٨٨

إلى فراغ مكّة من المعتمرين بقيّة السنة؟!

وفي متعة النساء ، هل كان السفر خاصّا بعصر الرسول حيث تمتعوا في السفر بإذن الرسول؟ وما ذا يفعل المسافر الذي يطول سفره شهورا وسنين في سائر العصور؟ وكذلك الإنسان الّذي لا يستطيع الزواج الدائم في وطنه ، هل يتنكر لغريزته ، أم يخون المجتمع سرّا أو يسمح المجتمع له بالزنا علنا كما هو الحال في المجتمعات المعاصرة؟ أمّا ما ذكره الخليفة : أن ينكح بقبضة ويفارق عن ثلاث بطلاق ، فإذا كان ذلك باتّفاق ونية مسبقة من الزوجين فهو نكاح المتعة بعينه ، وإذا يخفى الزوج نيّة الفراق في نفسه فهو غدر وخيانة للمرأة ولا يقرهما الإسلام.

وهذه المحاورة من الخليفة وسائر أحاديثه في شأن المتعة وكذلك أحاديث الصحابة عن رسول الله وأخبارهم عن تمتعهم زمن النبي وأبي بكر وخلافة عمر ، كل ذلك يثبت إن الروايات التي رويت عن رسول الله في تحريم المتعة قد وضعت بعد عصر عمر وإلّا لاستشهد بها هو ولما قال الصحابة أنّ التحريم صدر في آخر خلافته ومن ثمّ قال عليّ وابن عباس لو لا نهي عمر ما زنى إلّا شقيّ.

وقد بقي على تحليلها بعد رسول الله من الصحابة على وابن مسعود ، وابن عباس وأسماء ، وأبو سعيد الخدري وجابر ، وسلمة ومعبد ابنا أميّة ، ومعاوية بن أبي سفيان وعمران بن الحصين.

ومن التابعين : طاوس وعطاء ، وسعيد بن جبير وسائر فقهاء مكّة وأهل اليمن كلهم.

أمّا من تابع عمر في تحريمها فقد اعتمد قسم منهم على الروايات الموضوعة على رسول الله ، وقال آخرون : إن الخليفة اجتهد في ذلك ، واتّخذوا اجتهاد الخليفة دينا.

* * *

أوردنا في ما سبق أمثلة من استناد الخلفاء إلى آرائهم في ما أفتوه في الأحكام الإسلامية ودانوا بها ووجدنا أتباعهم يسمّون ذلك منهم بالاجتهاد ، ومن تتبع سيرتهم وفقههم وجد ذلك طابعهم المميز لمدرستهم عن مدرسة أئمة أهل البيت فإن أئمة أهل البيت خالفوهم في ذلك ، كما سنراه في البحوث الآتية ، إن شاء الله تعالى.

وندرس في ما يأتي ما استنبطوه من عمل الصحابة ، وكيف أصبح الاجتهاد بعد ذلك من مصادر الشريعة الإسلامية.

٢٨٩

كيف وجد التناقض في ما روي عن رسول الله (ص)؟

وأخيرا نقول : إنّا وجدنا تناقضا في ما روي عن رسول الله (ص) في عمرة التمتع فبينا نجد في روايات أنّ رسول الله أفرد الحجّ ونهى عن الجمع بين العمرة والحجّ معا ، نجد في روايات أخرى رويت عنه (ص) ، أنّه أمر بالتّمتّع بالعمرة إلى الحجّ في حجّة الوداع ، وفعل ذلك جميع من حضر حجّة الوداع ، فكيف وقع هذا التناقض في حديث الرسول؟

والجواب : إنّ الأحاديث التي رويت عن رسول الله أنّه أمر بإفراد الحجّ ونهى عن عمرة التّمتّع إنّما وضعت تأييدا لموقف الخلفاء وأمرهم بإفراد الحجّ ونهيهم عن عمرة التمتع.

وبناء على هذا فكلّما رأينا حديثين متناقضين تعيّن علينا أن نترك منهما ما وجدناه موافقا لرأي السلطة الحاكمة (١).

__________________

(١) راجع بحث : «اتجاه السلطة زهاء ثلاثة عشر قرنا» في آخر الجزء الأول من هذا الكتاب ، ط ٢ ص ٥٠١.

٢٩٠

ـ ٧ ـ

الاجتهاد في القرن الثاني فما بعد

واستنباط الأحكام من عمل الصحابة

الاجتهاد : حقيقته ، تطوره ، أدلة صحة العمل به

حقيقة الاجتهاد د ـ كما أشرنا إليها في ما سبق ـ هي العمل بالرأي ، ومنشؤه عمل الصحابة والخلفاء بآرائهم ، واقتداء أتباعهم بهم في ذلك. وفي ما يلي بيانه :

قال الدواليبي (١) : كانت ترد على الصحابة أقضية لا يرون فيها نصّا من كتاب أو سنّة ، وإذ ذاك كانوا يلجئون إلى الاجتهاد ، وكانوا يعبّرون عنه بالرأي أيضا ، كما كان يفعل أبو بكر (رض) ... وكذلك كان عمر يفعل ...

ثمّ استشهد بما روي أنّ عمر كتب به إلى شريح وإلى أبي موسى ، وقال : ولم يكن الصحابة في اجتهادهم يعتمدون على قواعد مقرّرة ، أو موازين معروفة ، وإنّما كان معتمدهم ما لمسوا من روح التشريع ... ثم قال :

وهذه المعرفة لم تتوفّر لمن جاء بعدهم بنفس السهولة ... ولذلك لم يلبث الاجتهاد بعدهم أن تطوّر تطوّرا محسوسا ... ومتأثرا إلى حدّ كبير بمحيط المجتهد ، وكان ذلك مدعاة إلى اشتداد النزاع العلمي في مادّة الأحكام كلّما اشتدّ البعد بين المجتهدين وعصر التنزيل ، وهذا ما حمل رجال الاجتهاد على وضع قواعدهم في الاجتهاد ، وسمّوه بعلم أصول الفقه ، وأصبح الاجتهاد في دوره الثاني هذا متميّزا عن دوره الأوّل بما وضع له من قواعد وقوانين جعلت أصوله معلومة بعد أن كان الذوق السليم لأسرار

__________________

(١) في كتاب : المدخل إلى علم أصول الفقه ، تأليف محمّد معروف الدواليبي ، أستاذ علم أصول الفقه والقانون الروماني في كلية الحقوق ، دكتور في الحقوق من جامعة پاريس ، حامل شهادة الدراسات العليا في الحقوق الرومانية ، مجاز في العلوم الإسلامية من الكلية الشرعية بحلب. ط. دار العلم للملايين / بيروت لبنان ، سنة ١٣٨٥ ه‍ ١٩٦٥ م.

٢٩١

الشريعة وحده هو الميزان والمعيار (١).

وقال في باب مصادر الحكم المعترف بها في القرآن :

إنّ أوّل مصدر للحكم والحقوق يعترف به القرآن هو آياته.

وثانيا : هو السنّة ، فقد قال «وما آتاكم الرسول فخذوه ..»

وثالثا : يعتبر القرآن من مصادر الحكم والحقوق ما اعترفت به السنّة مثل الإجماع والاجتهاد (٢).

هكذا جعل للتشريع أربعة مصادر أو أربعة اصول :

أ ـ الكتاب.

ج ـ السنّة.

د ـ الإجماع.

ه ـ الاجتهاد.

وقال الدواليبي : يتبيّن ممّا ذكرنا أنّ الأصل الرابع يسمّى بالاجتهاد ، وبالرأي ، وبالعقل (٣).

نكتفي بهذا المقدار من البيان هنا لنعود إليه بعد عرض أدلّتهم على صحة العمل بالاجتهاد.

أهم أدلتهم على صحة الاجتهاد :

أ ـ حديث معاذ :

في سنن الدارمي وغيره : إنّ النبي (ص) لمّا بعث معاذا إلى اليمن قال له : «كيف تقضي؟» قال : أقضي بكتاب الله. قال : «فإن لم يكن في كتاب الله؟» قال : فبسنّة رسول الله (ص) قال : «فإن لم يكن في سنّة رسول الله (ص)؟» قال : اجتهد رأيي ولا آلو ، قال : فضرب صدري وقال : «الحمد لله الّذي وفّق رسول رسول الله (ص)»(٤).

ب ـ حديث عمرو بن العاص :

في صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد وغيرها ، واللفظ للأوّل :

إنّ رسول الله قال : «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا

__________________

(١) المدخل ص ١٤ ـ ١٧ أوردنا قوله باختصار.

(٢) المدخل ٣٠.

(٣) المدخل ٥٣.

(٤) مقدمة الدارمي ١ / ٦٠ ، ومسند أحمد ٥ / ٢٣٠ و ٢٧٦.

٢٩٢

حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجر» (١).

ج ـ كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري :

ورد فيه : الفهم ، الفهم في ما يتلجلج في صدرك ممّا ليس في الكتاب والسنّة ثم قس الأمور بعضها ببعض .. (٢)

هذا أهم أدلّتهم في إثبات صحّة الاجتهاد ، وما عداها لا حاجة إلى إيرادها ومناقشتها لضعف أسنادها ووضوح عدم دلالتها على مرادهم ، أمّا الحديثان وكتاب عمر ، فقد ناقش ابن حزم حديث معاذ وقال :

وأمّا خبر معاذ فإنه لا يحلّ الاحتجاج به لسقوطه ، وذلك انّه لم يرو قطّ إلّا من طريق الحارث بن عمرو وهو مجهول ، لا يدري أحد من هو ، وقال البخاري في تاريخه الأوسط : «ولا يعرف الحارث إلّا بهذا ـ الحديث ـ ولا يصحّ». ثم إنّ الحارث روى عن رجال من أهل حمص لا يدرى من هم! ثمّ لم يعرف قطّ في عصر الصحابة ولا ذكره أحد منهم. ثمّ لم يعرفه أحد قطّ في عصر التابعين ، حتّى أخذه أبو عون وحده عمّن لا يدرى من هو ، فلمّا وجده أصحاب الرأي عند شعبة طاروا به كلّ مطار ، وأشاعوه في الدنيا وهو باطل لا أصل له (٣).

وقال : وبرهان وضع هذا الخبر وبطلانه هو أنّ من الباطل الممتنع أن يقول رسول الله (ص) فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنّة رسول الله وهو يسمع قول ربّه تعالى (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) وقوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وقوله تعالى (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) مع الثابت عنه (ع) من تحريم القول بالرأي في الدين ...

ثمّ لو صحّ لكان معنى قوله «أجتهد رأيي» أستنفد جهدي حتّى أرى الحقّ في القرآن والسنّة ولا أزال اطلب ذلك أبدا.

وأيضا ، لو صحّ لكان لا يخلو من احد وجهين : إمّا أن يكون لمعاذ وحده فيلزمهم

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ / ١٧٨ باب أجر الحاكم من كتاب الأحكام ، ومسلم بكتاب الأقضية ، باب بيان أمر الحاكم ص ١٢٤٢ ح : ١٥ ، وابن ماجة باب الحاكم يجتهد فيصيب ح ٢٣١٤ من كتاب الأحكام ، ومسند أحمد. ٢ / ١٨٧ و ٤ / ١٩٨ و ٢٠٤ و ٢٠٥ منه : «إذا أصبت فلك عشر حسنات».

(٢) الكتاب المنسوب إلى عمر وشرحه في الأحكام لابن حزم ٥ / ١٠٠٣ ، وراجع أعلام الموقعين ١ / ٨٥ ـ ٨٦.

(٣) الأحكام لابن حزم ٥ / ٧٧٣ ـ ٧٧٥ ط. مطبعة العاصمة بالقاهرة.

٢٩٣

أن لا يتبعوا رأي أحد الّا رأي معاذ ، وهم لا يقولون بهذا.

أو يكون لمعاذ وغيره ، فإن كان ذلك فكلّ من اجتهد رأيه فقد فعل ما أمر به ، فهم كلّهم محقّون ليس أحد منهم أولى بالصواب من آخر ، فصار الحقّ على هذا في المتضادّات ، وهذا خلاف قولهم ، وخلاف المعقول ، بل هذا المحال الظاهر ، وليس لأحد أن ينصر قوله بحجّة لأنّ مخالفه أيضا قد اجتهد رأيه ، وليس في الحديث الّذي احتجّوا به أكثر من اجتهاد الرأي ولا مزيد ، فلا يجوز لهم أن يزيدوا فيه ترجيحا لم يذكر في الحديث ، وأيضا فليس أحد أولى من غيره ، ومن المحال البيّن أن يكون ما ظنّه الجهّال في حديث معاذ لو صحّ من أن يكون (ع) يبيح لمعاذ أن يحلّل برأيه ويحرّم برأيه ويوجب الفرائض برأيه ويسقطها ، برأيه وهذا ما لا يظنه مسلم ، وليس في الشريعة شيء غير ما ذكرنا البتة (١). انتهى.

وقال ابن حزم عن حديث عمرو بن العاص : وأمّا حديث عمرو بن العاص فأعظم حجة عليهم لأنّ فيه انّ الحاكم المجتهد يخطئ ويصيب ، فإن كان ذلك كذلك فحرام الحكم في الدين بالخطإ ، وما أحلّ الله تعالى قطّ امضاء الخطأ فبطل تعلّقهم (٢).

وقال عن كتاب عمر بعد إيراده بسندين : وهذا لا يصحّ ، لأنّ السند الأوّل فيه عبد الملك بن الوليد بن معدان ، وهو كوفي متروك الحديث ساقط بلا خلاف ، وأبوه مجهول.

وأما السند الثاني : فمن بين الكرجي إلى سفيان مجهول وهو أيضا منقطع فبطل القول به جملة (٣).

مناقشتنا في صحّة ما قالوا حول الاجتهاد :

أوّلا ـ مدلول الاجتهاد.

وثانيا ـ مفاهيم الأدلة الثلاثة.

أمّا الاجتهاد فقد سبق إيراد دليلنا على أنّ :

مدلول الاجتهاد في القرن الأوّل ، كان معناه اللغوي ، وهو بذل الجهد في أيّ أمر

__________________

(١) الاحكام ٥ / ٧٧٥.

(٢) الاحكام لابن حزم ٥ / ٧٧١.

(٣) الاحكام ٥ / ١٠٠٣ ، وراجع اعلام الموقعين ١ / ٨٥ ـ ٨٦ ، وقال عن السند ان جعفرا احد رواة السند لم يسنده.

٢٩٤

كان ، والحديثان المرويّان عن معاذ وابن العاص إن صحّ سندهما أيضا استعمل فيها «اجتهد» في معناه اللغوي المذكور.

ثمّ إن مورد الحديثين خارج عن محل النزاع ، فإنّ موردهما باب القضاء ، ومحلّ النزاع جواز تشريع الأحكام من قبل المجتهدين ، وكذلك الحال في الكتاب المنسوب إلى عمر ، وكذلك الأمر في غيرها ممّا استدلوا به فإنّها رغم ضعف أسنادها إلى حدّ الاطمئنان بأنّها موضوعة فإنّ موارد جميعها شئون القضاء وليس التشريع.

وفي مورد القضاء أيضا لا تدلّ الأحاديث المذكورة على جواز تشريع القضاة لمورد حاجتهم ، ففي حديث معاذ مثلا الذي ظنوا أن فيه دلالة على دعواهم قد وهموا فيه فإنّ مغزى الحديث أن الأحكام الإسلامية وردت في الكتاب والسنّة على ضربين منها ما ورد في أحدهما أو كليهما منصوصا على القضية الجزئية ، ومنها ما ورد بيانه ضمن قاعدة كلية وعلى الحاكم أن يبذل جهده ليتعرّف على الحكم الكلّي الّذي ينطبق على مورد حاجته ، وهذا هو الاجتهاد اللغوي الذي هو بمعنى بذل الجهد في البحث عن الحكم المطلوب.

غير أنّ كيفية استشهاد علماء مدرسة الخلافة بهذا الحديث تدل على أنّهم يقولون إنّ التشريع الإسلامي الّذي بلّغه الرسول كان ناقصا في بعض جوانبه ممّا احتاج معه الحكّام والقضاة والمفتون أن يشرّعوا بآرائهم أحكاما لقضايا أهمل حكمها في الإسلام ، ويأتي مزيد بيان له بعد عرض كيفيّة استخراج القواعد من عمل الصحابة في ما يلي :

استخراج القواعد من عمل الصحابة

قال الدواليبي في تعريف الاجتهاد : إنّه رأي غير مجمع عليه ، وقال : فإذا أجمع عليه فهو الإجماع ولذلك فالاجتهاد بعد الإجماع في المنزلة (١).

وقسّم أنواع الاجتهاد إلى ثلاثة :

أوّلا : البيان والتفسير لنصوص الكتاب والسنّة (٢).

ثانيا : القياس على الأشباه ممّا في الكتاب والسنّة.

ثالثا : الرأي الّذي لا يعتمد على نصّ خاصّ ، وإنّما على روح الشريعة المبثوثة في جميع نصوصها معلنة : «إنّ غاية الشرع إنّما هي المصلحة ، وحيثما وجدت المصلحة فثم

__________________

(١) المدخل ص ٥٥.

(٢) المدخل ص ٥٥.

٢٩٥

شرع الله» وإنّ «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن».

وقال : ولعلّ من أبرز المسائل الاجتهاديّة ، والوقائع الّتي حدثت في عهد الصحابة بعد وفاة النبيّ ، هي قضية قسمة الأراضي الّتي فتحها المقاتلون عنوة في العراق وفي الشام وفي مصر.

فلقد جاء النصّ القرآني يقول بصراحة لا غموض فيها إنّ خمس الغنائم يرجع لبيت المال ويصرف في الجهات التي عينتها الآية الكريمة ، (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ...)

أمّا الاخماس الأربعة الباقية فتقسم بين الغانمين عملا بمفهوم الآية المذكورة وبفعله عليه الصلاة والسلام حين قسّم خيبر بين الغزاة.

وعملا بالقرآن والسنة جاء الغانمون إلى عمر بن الخطّاب وطلبوا إليه أن يخرج الخمس لله ولمن ذكر في الآية ، وأن يقسم الباقي بين الغانمين.

فقال عمر : فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت ، وورثت عن الآباء وحيزت؟ ما هذا برأي.

فقال له عبد الرحمن بن عوف : فما الرأي؟ ما الأرض والعلوج إلّا ممّا أفاء الله عليهم.

فقال عمر : ما هو إلّا ما تقول ، ولست أرى ذلك ...

فأكثروا على عمر ، وقالوا تقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا ، ...

فكان عمر لا يزيد على أن يقول هذا رأيي.

فقالوا جميعا الرأي رأيك (١).

وقال ابن حزم : الرأي ما تخيّلته النفس صوابا دون برهان.

وقال : القياس : أن يحكم بشيء بحكم لم يأت به نصّ لشبهه بشيء آخر ورد فيه ذلك الحكم (٢).

وعرّف الاستحسان في المدخل بقوله : الاستحسان : الأخذ في مسألة بحكم

__________________

(١) المدخل الى علم أصول الفقه ص ٩١ ـ ٩٥ باب أنواع الاجتهاد.

(٢) الأحكام بأصول الأحكام لابن حزم ط. مطبعة العاصمة بالقاهرة ونشر زكريا على يوسف راجع ١ / ٤٠ ـ ٤١ منه.

٢٩٦

يخالف الحكم المعروف في القياس أمّا لرجحان علّة في دليل الاستحسان وإمّا لضرورة توجب مصلحة وتدفع حرجا (١).

وروى عن الحنفية قولها عن الاستحسان أنّه : العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر لوجه أقوى يقتضي هذا العدول.

وعن المالكية انّهم قالوا عن الاستحسان انّه : ان لا يتقيّد الفقيه المجتهد عند بحث الجزئيات بتطبيق ما يؤدّي إليه اضطرار القياس من جلب مضرّة أو مشقّة ، أو منع مصلحة(٢).

وقال في تعريف الاستصلاح : الاستصلاح في حقيقته نوع من الحكم بالرأي المبني على المصلحة (٣).

وقال في الفرق بين الأصول الثلاثة : إنّ مسائل القياس والاستحسان تتطلّب دوما المقارنة بمسائل أخرى.

ففي القياس توجب الحاق مسائل القياس بحكم المسائل الأخرى المقيس عليها وتوحيد الحكم فيها بسبب الاتحاد في العلّة.

وفي الاستحسان توجب العدول بمسائل الاستحسان عن حكم المسائل الأخرى في النظائر والأشباه والمغايرة في الحكم فيها بسبب عدم الاتحاد في بعض الوجوه ممّا هو أقوى من بعض مظاهر الاتحاد.

أمّا مسائل الاستصلاح فهي لا تستلزم المقارنة بمسائل أخرى على نحو ما مرّ في القياس والاستحسان للحكم فيها بل يعتمد في الحكم في مسائل الاستصلاح على المصلحة فقط (٤).

وقال في باب النصوص وتغيير الأحكام بتغير الزمان في الشرع الإسلامي : أمّا التغيير لحكم لم ينسخ نصّه من قبل الشارع فقد أجازته للمجتهدين من قضاة ومفتين ، تبعا لتغيّر المصالح في الأزمان أيضا ؛ وامتازت بذلك على غيرها من الشرائع ، وأعطت فيه درسا بليغا عن مقدار ما تعطيه من حريّة للعقول في الاجتهاد ، ومن مرونة لتحكيم

__________________

(١) المدخل ص ٢٩٣.

(٢) المدخل ص ٢٩٦.

(٣) المدخل ص ٣٠١ في الباب الثامن.

(٤) المدخل ص ٣٠٤ ـ ٣٠٥ الباب الثامن.

٢٩٧

المصالح في الأحكام. وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقرّرة في التشريع الإسلامي ، تعلن بأنّه «لا ينكر تغيّر الأحكام بتغيّر الزمان» (١).

واستشهد بقول ابن القيم في أعلام الموقعين : هذا فصل عظيم النفع جدّا ... (٢).

وقد أورد ابن القيم في هذا الباب عدّة أمثلة منها قوله : المثال السابع : إنّ المطلّق في زمن النبي (ص) وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة كما ثبت في الصحيح ...

ثم أورد الأحاديث الصحاح في ذلك ومنها خبر تطليق ركانة بن عبد يزيد زوجته حيث طلّقها ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها ، فسأله رسول الله (ص) : كيف طلّقتها؟ قال : طلّقتها ثلاثا. قال : في مجلس واحد؟ قال : نعم. قال : فإنّما تلك واحدة فأرجعها إن شئت ، فراجعها.

وقال : والمقصود أنّ عمر بن الخطاب (رض) لم يخف عليه أنّ هذا هو السنّة وأنّه توسعة من الله لعباده ، إذ جعل الطلاق مرّة بعد مرّة وما كان مرّة بعد مرّة لم يملك المكلّف إيقاع مرّاته كلّها جملة واحدة كاللعان فإنّه لو قال : «أشهد الله بالله أربع شهادات أنّه لمن الصادقين» كان مرّة واحدة ولو حلف في القسامة وقال : أقسم بالله خمسين يمينا أنّ هذا قاتله» كان ذلك يمينا واحدا ..

وهكذا أورد الأمثلة عليه ثم قال : فهذا كتاب الله ، وهذه سنّة رسول الله (ص) وهذه لغة العرب ، وهذا عرف التخاطب وهذا خليفة رسول الله (ص) والصحابة كلهم معه في عصره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب ...

وهم يزيدون على الألف قطعا ...

والمقصود أنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب والسنّة والقياس والإجماع القديم ولم يأت بعده إجماع يبطله ولكن رأى أمير المؤمنين عمر (رض) ... أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه(٣).

وفي تعريف الإجماع يقسمه الدواليبي إلى قسمين :

أ ـ اتفاق العالمين من الأمّة في الموضوع المبحوث فيه ، وليس اتفاق الأمّة

__________________

(١) المدخل ص ٣١٧.

(٢) المدخل ص ٣١٩.

(٣) أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية ٣ / ٣٠ ـ ٣٦ فصل حكم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد.

٢٩٨

بكاملها.

ب ـ الاتّفاق الكائن في مكان ما من الأمكنة الّتي تحدث فيها الحادثة ، أو تعرض فيها ، كالمدينة المنورة ، وليس هو الاتّفاق الكائن في جميع الأمكنة والأمصار.

وقال : فلما مضى الصحابة ، وجاء من بعدهم من العلماء أخذ هؤلاء بالإجماع أيضا كأصل من أصول الشريعة.

غير أنّ هؤلاء لم يجدوا أنفسهم أمام أصل واضح في حدوده ... (١).

* * *

جميع ما استعرضناه آنفا لا يعدو كونه عملا بالرأي ، سواء في القضايا الّتي سمّوا رأيهم فيها «تأويلا» أو «اجتهادا» أو موارد التسميات الأخرى.

فالقياس حقيقته : أن يحكم المجتهد في مسألة بحكم ورد في مسألة أخرى لما يرى بين المسألتين من مشابهة.

والاستحسان : ترك الحكم المشابه للمسألة ، لما يرى المجتهد المصلحة في خلافه.

والاستصلاح : العمل في قضية ما بما يراه المجتهد صالحا دون عمل مقارنة.

والإجماع : اتفاق آراء العلماء أو أهل بلد في حكم قضية ما. هكذا تنتهي كلّ قواعد الاجتهاد بمدرسة الخلفاء إلى الرأي ، أضف إليه أنّهم كانوا يقدّمون رأيهم على النصّ الشرعي ، مثل خبر حبس عمر الأراضي المفتوحة عنوة دون تقسيم أربعة أخماسها على الغزاة خلافا لنصّ الكتاب وعمل الرسول ، ومثل جعل القول بالتطليق ثلاثا مرّة واحدة ثلاث مرّات خلافا للكتاب والسنّة ، ثم التباهي بالعمل بالرأي خلافا للكتاب والسنّة ، ومن ثمّ كان إمام مدرسة الرأي في المجتهدين يصرّح أحيانا بتقديم رأيه على الحديث النبوي الشريف وأنّ رأيه أولى بالعمل من قول الرسول كما يأتي في الأمثلة الآتية :

إمام الحنفية والعمل بالرأي

روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن يوسف بن أسباط ، قال : قال أبو حنفية: لو أدركني رسول الله وأدركته لأخذ بكثير من قولي ، وهل الدين إلّا الرأي

__________________

(١) المدخل ص ٥ / ٣٣٤ الباب التاسع.

٢٩٩

الحسن (١).

وروي عن عليّ بن عاصم ، قال : حدّثنا أبا حنيفة عن النّبيّ ، فقال : لا آخذ به ، فقال : فقلت : عن النبيّ؟ فقال : لا آخذ به.

وعن أبي إسحاق الفزاري (٢). كنت آتي أبا حنيفة أسأله عن الشيء من أمر الغزو ، فسألته عن مسألة فأجاب فيها ، فقلت له : إنه يروى فيه عن النبيّ كذا وكذا قال : دعنا عن هذا.

وقال : كان أبو حنيفة يجيئه الشيء عن النبي (ص) فيخالفه إلى غيره.

وقال : حدّثت أبا حنيفة حديثا في ردّ السيف ، فقال : حديث خرافة.

وروي عن حمّاد بن سلمة ، قال : أبو حنيفة استقبل الآثار واستدبرها برأيه. أو استقبل الآثار والسنن فردّها برأيه (٣).

وعن وكيع قال : وجدنا أبا حنيفة خالف مائتي حديث (٤).

وعن صالح الفرّاء قال : سمعت يوسف بن أسباط يقول : ردّ أبو حنيفة على رسول الله (ص) أربعمائة حديث أو أكثر قلت له : يا أبا محمّد أتعرفها؟ قال : نعم ، قلت أخبرني بشيء منها ، فقال : قال رسول الله (ص) «للفرس سهمان وللرجل سهم» قال أبو حنيفة : أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن.

وأشعر رسول الله (ص) وأصحابه البدن وقال أبو حنيفة : الإشعار مثلة.

وقال (ص) : «البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا» وقال أبو حنيفة إذا وجب البيع فلا خيار.

وكان النبيّ يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر وأقرع أصحابه ، وقال أبو حنيفة: القرعة قمار (٥).

__________________

(١) ما نورده في ما يلي عن الخطيب البغدادي فمن ترجمة أبي حنيفة في ج ١٣ من تاريخ بغداد وهذا الحديث بتمامه في ص ٣٩٠ ، وفي ص ٣٨٧ منه دوّن وهل الدين إلا الرأي الحسن ، وترجمة أبي حنيفة من كتاب المجروحين ج ٣ / ٦٥ تأليف ابن حبان البستي (ت ٣٥٤ ه‍)

(٢) أحاديث أبي إسحاق في ص ٣٨٧ منه وتركنا ذكر حديث واحد منه لأن أبا حنيفة كان قد أقذع فيه.

(٣) خبر حماد في ص ٣٩٠ ـ ٣٩١ منه. قوله : خرافة في كتاب المجروحين ٣ / ٧٠.

(٤) حديث وكيع في ص ٣٩٠ منه. حديث «البيعان بالخيار» في كتاب المجروحين ٣ / ٧٠.

(٥) حديث يوسف بن أسباط في ص ٣٩٠ منه.

٣٠٠