معالم المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٠٤

و «من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين» (١).

و «إنّ رجالا يأتونكم من أقطار الأرضين يتفقّهون في الدين. فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا» (٢).

وإنّه دعا لابن عباس وقال : «اللهم فقّهه في الدين» (٣).

وورد في محاورات أهل البيت والصحابة بعد رسول الله :

أ ـ قول الإمام عليّ : «ألا أخبركم بالفقيه حقّ الفقيه؟ قالوا بلى يا أمير المؤمنين ، قال : من لم يقنط الناس من رحمة الله ، ولم يؤمنهم من عذاب الله ، ولم يرخّص لهم في معاصي الله» (٤).

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري : ما أدركت فقهاء أرضنا إلّا يسلّمون في كلّ اثنتين من النهار» (٥).

وقال عمر : «تفقّهوا قبل أن تسوّدوا» (٦).

فمن سوّده قومه على فقه كان حياة له ولهم ، ومن سوّده قومه على غير فقه كان هلاكا له ولهم (٧).

وقال ابن عبد الرحمن في وصف ابن عبّاس : «إنّه قارئ لكتاب الله ، فقيه في دين الله» (٨).

وفي باب اختلاف الفقهاء من سنن الدارمي : «كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق ليقضي كلّ قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم» (٩).

وفيه أيضا : وإذا جلسوا العشاء ـ الآخرة ـ جلسوا في الفقه» (١٠) ،

__________________

(١) صحيح البخاري ١ / ١٦ ، و ٤ / ١٧٥ ، وسنن الدارمي ١ / ٧٤ ، ومسند احمد ١ / ٣٠٦ و ١ / ٢٣٤ و ٤ / ٩٢ و ٩٣ و ٩٥ ـ ٩٩ و ١٠١.

(٢) سنن الترمذي ١٠ / ١١٩ ، وسنن ابن ماجة ، المقدمة ، الباب ٢٢.

(٣) صحيح البخاري ١ / ٢٨ ، ومسند احمد ١ / ٢٦٦ و ٣١٤ و ٣٢٨ و ٣٣٥.

(٤) سنن الدارمي ١ / ٨٩. والكافي ١ / ٣٦. وتحف العقول باب ما روى عن أمير المؤمنين ، فصل وروى عنه في قصار هذه المعاني. ومعاني الاخبار للصدوق باب معنى الفقيه حقا ، ص ٣٧٤. وكنز العمال كتاب العلم ، باب الترغيب فيه ، الحديث ٢٧٨ ، ١٠ / ١٠٣. وحلية الأولياء ١ / ٧٧. والبحار ١٧ / ٤٠٧.

(٥) صحيح البخاري ، ١ / ١٤١ ، كتاب التهجد باب ٢٥.

(٦) صحيح البخاري ، كتاب العلم ١ / ١٦ ، وسنن الدارمي ١ / ٧٩.

(٧) سنن الدارمي ١ / ٧٩.

(٨) مسند احمد ١ / ٣٤٩.

(٩) سنن الدارمي ١ / ١٥١.

(١٠) سنن الدارمي ١ / ١٤٩.

٢١

«ولا بأس بالسمر في الفقه» (١) ، «وكانوا يتجالسون بالليل ويذكرون الفقه» (٢)

وفي صحيح البخاري باب السمر في الفقه (٣). وقال الشعبي : «لمّا قدم عديّ ابن حاتم الكوفة أتيناه في نفر من فقهاء أهل الكوفة» (٤)

وعن عمران المنقريّ قال : قلت للحسن يوما في شيء قاله : «يا أبا سعيد ليس هكذا يقول الفقهاء! فقال : ويحك ورأيت أنت فقيها قطّ ، إنّما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بأمر دينه المداوم على عبادة ربّه» (٥)

هذا بعض ما ورد في كتب حديث مدرسة الخلفاء ، وورد في كتب حديث مدرسة أهل البيت :

أ ـ عن رسول الله (ص) : «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا» (٦) ، «من حفظ على أمّتي أربعين حديثا من أمر دينها ينتفعون بها في أمر دينهم ، بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما» (٧).

ب ـ في نهج البلاغة من كلام الإمام عليّ : «من اتّجر بغير فقه فقد ارتطم في الرّبا»(٨) ، «وربيعا لقلوب الفقهاء» (٩) ، «وتفقّه في الدين» (١٠).

ج ـ وعن الإمام الصادق : «ليت السياط على رءوس أصحابي حتّى يتفقّهوا في الحلال والحرام» (١١) ، «لا يكون الرجل منكم فقيها حتّى يعرف معاريض كلامها» (١٢).

__________________

(١) سنن الدارمي ١ / ١٥٠.

(٢) سنن الدارمي ١ / ١٥٠.

(٣) صحيح البخاري ١ / ٧٩ ، كتاب المواقيت باب ٤٠.

(٤) سنن ابن ماجة ح ٨٧.

(٥) سنن الدارمي ١ / ٨٩.

(٦) البحار ٢ / ١١٠.

(٧) البحار ٢ / ١٥٦ الحديث ١٠ ، ونظيره الحديث ٩.

(٨) نهج البلاغة ، باب الحكم ، الرقم ٤٤٧ ج ٣ / ٢٥٩.

(٩) نهج البلاغة ، في وصف القرآن ، الخطبة ١٩٦ ج ٢ / ٢٥٢.

(١٠) نهج البلاغة ، من وصية له للامام الحسن ، رقم ٣١ ج ٣ / ٤٢.

(١١) البرقي في المحاسن ، الحديث ١٦١ والبحار ، ط. أمين الضرب ١ / ٦٦.

(١٢) البحار ، ٢ / ١٨٤ ، ح ٥.

٢٢

وقوله : «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه.» (١)

كان هذا مدلول الفقه والفقيه في الكتاب والسنّة. ثمّ اختص لدى علماء مدرسة أهل البيت بالعلم بالأحكام الشرعية عن أدلّتها التفصيلية.

قال جمال الدين الحسن بن زين الدين (ت : ١٠١١ ه‍) في كتابه ، معالم الدين ، المشهور ب (معالم الاصول) :

الفقه في اللغة : الفهم

وفي الاصطلاح : هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية» (٢).

يقصد بالاصطلاح ، اصطلاح علماء مدرسة أهل البيت.

__________________

(١) سفينة البحار ٢ / ٣٨١ بمادة فقه.

(٢) معالم الدين ، تصحيح عبد الحسين محمد علي البقال ، ص ٦٦

٢٣

(٥)

الاجتهاد

أوّلا ـ الاجتهاد في اللغة

قال ابن الأثير : «الاجتهاد بذل الجهد في طلب الأمر ، وهو افتعال من الجهد الطاقة» (١).

وفي هذا المعنى ، استعمل على عهد الرسول وأصحابه إلى آخر القرن الأوّل.

فقد ورد عن رسول الله :

أ ـ أمّا السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (٢).

ب ـ صلّوا عليّ واجتهدوا في الدعاء (٣).

ج ـ فضل العالم على المجتهد مائة درجة (٤) ، أي المجتهد في العبادة.

وعن محمّد القرظي : «كان في بني إسرائيل رجل فقيه عالم ، عابد مجتهد» (٥).

وعن عائشة : «كان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره (٦).

أي يجتهد في العبادة».

وفي حديث طلحة عن رجلين على عهد رسول الله : «كان أحدهما أشدّ اجتهادا

__________________

(١) مادة جهد من نهاية اللغة لابن الاثير.

(٢) صحيح مسلم كتاب الصلاة ح ٢٠٧ ، ومسند احمد ١ / ٢١٩.

(٣) سنن النسائي ١ / ١٩٠ باب الامر بالصلاة على النبي ، وفي مسند احمد ١ / ١٩٩ باختصار.

(٤) مقدمة سنن الدارمي ، ١ / ١٠٠.

(٥) موطا مالك ، كتاب الجنائز ح ٤٣.

(٦) صحيح مسلم ، كتاب الاعتكاف ، ح ٨ ، وسنن ابن ماجة ، كتاب الصيام ، ح ١٧٦٧.

٢٤

من الآخر فغزا المجتهد منهما فاستشهد» (١).

وعن أبي سعيد : «كان رسول الله (ص) إذا حلف واجتهد في اليمين ، قال» (٢).

وفي خبر عبد الله بن أبي في غزوة بني المصطلق : «فاجتهد بيمينه ما فعل» (٣).

وفي سؤال الصحابية أمّ حارثة عن شأن ابنها حارثة من رسول الله (ص) : إن كان في الجنّة ، صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء (٤).

نعرف من هذه الموارد والكثرة الكاثرة من نظائرها ، أنّه كان المتبادر من الاجتهاد في القرن الأوّل ، هو بذل الجهد ، ثمّ تطور مدلول الاجتهاد لدى المسلمين ، وأصبح يدلّ في اصطلاحهم على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.

ثانيا ـ الاجتهاد في اصطلاح المسلمين

قال الغزالي في تعريف الاجتهاد : «هو عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال. ولا يستعمل إلّا في ما فيه كلفة وجهد ... لكن صار اللفظ في عرف العلماء مخصوصا ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة ...» (٥).

وقال الدهلوي : «حقيقة الاجتهاد استفراغ الجهد في إدراك الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية الراجعة كلياتها إلى أربعة أقسام : الكتاب والسنّة والإجماع والقياس» (٦).

وكذلك عرّف محمّد أمين أدلّة الأحكام في كتاب تيسير التحرير (٧).

__________________

(١) سنن ابن ماجة ، كتاب الرؤيا ، ح ٣٩٢٥ ، ومسند احمد ، ١ / ١٦٣ و ٢ / ٣٢٣ و ٣٦٣ و ٦ / ٨٢ و ١٢٣ و ٢٥٦ و ٥ / ٤٠.

(٢) مسند احمد ، ٣ / ٣٣ و ١٤٨.

(٣) صحيح البخاري ، ٣ / ١٣٦ كتاب التفسير ، تفسير سورة (المنافقون). وصحيح مسلم ، كتاب المنافقين ، ح ١. ومسند أحمد ٤ / ٣٧٣

(٤) صحيح البخاري ، ٢ / ٩٣ كتاب الجهاد ، ومسند احمد ٣ / ٢٦٠ و ٢٨٣.

(٥) أبو حامد محمد الغزالي (ت : ٥٠٥ ه‍) في كتاب المستصفى في أصول الفقه ، ط مصطفى البابي بمصر سنة ١٣٥٦ ه‍ (ج ٢ / ١٠١) ، راجع ترجمته بكشف الظنون ٢ / ١٦٧٣ ، وراجع الأحكام للآمدي ٤ / ١٤١.

(٦) نقل ذلك محمد فريد وجدي في مادة جهد من دائرة معارف القرن العشرين ٣ / ٢٣٦ عن رسالة الإنصاف في بيان سبب الاختلاف لأحمد بن عبد الرحيم الدهلوي الفاروقي الحنفي المحدث الفقيه (ت ١١٧٦ أو ١١٧٩ ه‍) ترجمه الزركلي في الأعلام ١ / ١٤٤.

(٧) أصل الكتاب اسمه التحرير في أصول الفقه للعلامة كمال الدين محمد بن عبد الواحد الشهير بابن همام الحنفي (ت : ٨٦١ ه‍) وشرحه تلميذه الفاضل محمد بن محمد بن أمير الحاج الحلبي الحنفي (ت : ٨٧٩ ه‍)

٢٥

كان هذا لدى أتباع مدرسة الخلفاء ، وقد شاع هذا الاصطلاح لدى علماء مدرسة أهل البيت بعد القرن الخامس كما ورد في كتاب مبادي الوصول للعلامة الحلّي (ت : ٧٢٦ ه‍) في الفصل الثاني عشر ، البحث الاول في الاجتهاد ما ملخصه :

«الاجتهاد : هو استفراغ الوسع في النظر فيما هو من المسائل الظنّية الشرعية ، على وجه لا زيادة فيه.

ولا يصحّ في حقّ النبيّ (ص) لقوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) النجم ٥٣ / ٤. ولأنّ الاجتهاد إنّما يفيد الظنّ ، وهو (عليه‌السلام) قادر على تلقيه من الوحي. ولأنّه كان يتوقف في كثير من الأحكام حتّى يرد الوحي ولو ساغ له الاجتهاد لصار إليه.

ولأنّه لو جاز له ، لجاز لجبرئيل عليه‌السلام.

وذلك يسدّ باب الجزم ، بأنّ الشرع الّذي جاء به محمد (عليه‌السلام) من الله تعالى.

ولأنّ الاجتهاد قد يخطئ وقد يصيب ، فلا يجوز تعبده (عليه‌السلام) به لأنّه يرفع الثقة بقوله.

وكذلك لا يجوز لأحد من الأئمة (عليهم‌السلام) الاجتهاد عندنا ، لأنّهم معصومون ، وإنّما أخذوا الأحكام بتعليم الرسول (عليه‌السلام) وأما العلماء فيجوز لهم الاجتهاد ، باستنباط الأحكام من العمومات ، في القرآن والسنّة ، وبترجيح الأدلة المتعارضة.

أمّا بأخذ الحكم من القياس والاستحسان فلا» (١).

* * *

ونرى أنّ علماء مدرسة أهل البيت حين استعملوا مصطلح الاجتهاد والمجتهد لم يتركوا اصطلاح الفقه والفقيه بل جمعوا بين الاصطلاحين كما فعل ذلك جمال الدين صاحب المعالم فإنّه قال في أوّل كتابه كما مرّ علينا :

__________________

ـ وشرح الشرح ، المحقق محمد أمين ، المعروف بأمير بادشاه البخاري ، نزيل مكة وسماه تيسير التحرير. ورجعنا إليه ط. مصطفى البابي بمصر ، سنة ١٣٥١ ه‍ (ج ١ / ١٧١) راجع تراجمهم بكشف الظنون (١ / ٣٥٨).

(١) مبادئ الوصول إلى علم الأصول ، ص : ٢٤٠ ـ ٢٤١.

٢٦

«الفقه في اللغة : الفهم.

وفي الاصطلاح : هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية».

وعقد بعد ذلك فصلا لتعريف الاجتهاد وقال في فصل آخر :

«الاجتهاد في اللغة : تحمل الجهد ... وأمّا في الاصطلاح : فهو استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظنّ بحكم شرعيّ ...» (١).

* * *

وبالإضافة إلى ما سبق تختلف المدرستان في بعض أدلّة الأحكام الشرعية كما سنبينه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

* * *

بعد دراستنا للمصطلحات الخمسة الماضية ، ندرس في ما يأتي بحوله تعالى موقف المدرستين من كلّ منها.

__________________

(١) معالم الدين ، المطلب التاسع في الاجتهاد والتقليد ، ص ٣٨١.

٢٧
٢٨

الفصل الأوّل

موقف المدرستين من القرآن الكريم

اهتمام الرسول (ص) والصحابة بجمع القرآن وتدوينه

ضجّة مفتعلة حول مصحف فاطمة

٢٩
٣٠

اهتمام الرسول (ص) والصحابة بجمع القرآن وتدوينه

كان رسول الله (ص) يتلو على عامّة من حضره من المسلمين كلّما نزلت عليه آيات من القرآن الكريم ، ويفسر لهم منها ما يحتاجون إلى تفسيرها ، ويلقن ذلك خاصّة الإمام عليّا (ع) ويأمره بكتابتها كما يأتي بيانه في بحوث هذا الكتا ب ـ إن شاء الله تعالى ـ.

ولما هاجر إلى المدينة ، حثّ المسلمين على تعلّم الكتابة ، فتبادروا إليها ، وحثّهم على كتابة القرآن وحفظه ، فتسابقوا إليهما ، وكانوا يكتبون ما يتلقونه من آيات القرآن على ما حضرهم من جلود وغيرها ، وكان رسول الله (ص) يعلمهم أسماء السور ومكان الآيات في السور كما علّمه الله ، ولمّا توفّاه الله كان في المدينة عشرات الصحابة ممن حفظ جميع القرآن ، وكثير من الصحابة من كتب جميع القرآن ، غير أنّ ما لديهم لم يكن كتابا مدونا كما هو عليه اليوم ، وإنّما كان أوزاعا في قطع كتبوه عليها ، ولمّا توفي الرسول (ص) بادر الإمام عليّ (ع) إلى تدوين القرآن في كتاب واحد ، كما أنّ عددا من الصحابة ـ غير الإمام أيضا مثل ابن مسعود ـ كانت لديهم نسخة من القرآن مدونة ، لكن الخليفة أبا بكر لم يقتن تلك النسخ ، بل أمر جمعا من الصحابة بتدوين القرآن ككتاب ، ثمّ أودعه عند أمّ المؤمنين حفصة حتّى إذا كان عصر الخليفة عثمان ، واتسعت الفتوح ، وانتشر المسلمون ، أمر الخليفة باستنساخ عدة نسخ على النسخة المحفوظة لدى حفصة ، ووزّعها على بلاد المسلمين ، واستنسخ المسلمون على تلك النسخ وتداولوها جيلا بعد جيل إلى يومنا الحاضر ، ولم يكن لدى أحد من المسلمين في يوم ما نسخة غيرها ، ولم يكن في يوم من الأيام لدى أحد من المسلمين نسخة فيها زيادة كلمة أو نقصان كلمة على هذا المتداول اليوم بين المسلمين سواء في ذلك جميع فرق المسلمين :

٣١

سنّيهم وشيعيّهم ، أشعريّهم ومعتزليّهم ، حنفيّهم وشافعيّهم ، حنبليّهم ومالكيّهم ، زيديّهم وإماميّهم ، ووهابيّهم إلى الخوارج. لم تكن لدى فرقة منها أو غيرها في يوم من الأيّام نسخة فيها زيادة كلمة أو نقصان كلمة ، أو أنّ ترتيب السور والآيات فيها مخالف لهذا المتداول بين المسلمين اليوم.

أما ما ورد في بعض كتب الحديث من نقص مزعوم في القرآن الكريم ، فقد بقي في مكانه من كتب الحديث ولم ينتقل إلى نسخة واحدة من نسخ القرآن في يوم من الأيام ، مثل ما ورد في الصحاح الستّة : البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجة والدارمي وغيرها :

عن الخليفة عمر (رض) أنّه قال وهو على المنبر : «إنّ الله بعث محمدا (ص) بالحقّ ، وأنزل عليه الكتاب. فكان مما أنزل الله ، «آية الرجم» فقرأناها وعقلناها ووعيناها رجم رسول الله (ص) ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله والرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن» (١).

والآية المزعومة في رواية ابن ماجة عن عمر قال وقد قرأتها : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة». وفي موطأ مالك : «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة» فإنّا قد قرأناها.

وفي الحديث نفسه في صحيح البخاري : ثم إنّا كنّا نقرأ من كتاب الله : «أن لا ترغبوا عن آبائكم ، فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم».

والحديث المروى عن أمّ المؤمنين عائشة (رض) أنّها قالت : كان فيما أنزل من

__________________

(١) أ ـ البخاري ج ٤ / ١٢٠ باب رجم الحبلى من الزنا من كتاب الحدود واللفظ له.

ب ـ ومسلم ج ٥ / ١١٦.

ج ـ وسنن أبي داود ج ٢ / ٢٢٩ باب في الرجم من كتاب الحدود.

د ـ والترمذي ج ٦ / ٢٠٤ باب ما جاء في تحقيق الرجم من كتاب الحدود.

ه ـ وابن ماجة باب الرجم من كتاب الحدود الحديث المرقم ٢٥٥٣.

و ـ والدارمي ج ٢ / ١٧٩ باب في حد المحصنين بالزنا من كتاب الحدود.

ز ـ والموطأ ج ٣ / ٤٢ كتاب الحدود.

٣٢

القرآن «عشر رضعات معلومات» فتوفي رسول الله (ص) وهن فيما يقرأ من القرآن (١).

وفي صحيح ابن ماجة : قالت نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشرا. ولقد كان في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله (ص) تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها.

وفي صحيح مسلم أن أبا موسى الأشعري بعث إلى قراء أهل البصرة وكانوا ثلاثمائة رجل ، فقال فيما قال لهم : «وإنّا كنا نقرأ سورة كنّا نشبهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها غير أنّي قد حفظت منها «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب».

وكنّا نقرأ سورة كنّا نشبهها بإحدى المسبّحات فأنسيتها غير أنّي حفظت منها «يا أيّها الّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة» (٢).

* * *

مع وجود هذه الأحاديث في صحاح مدرسة الخلفاء ، لم يرم أحد من أتباع مدرسة أهل البيت أتباع مدرسة الخلفاء ويقول إنّ أتباع مدرسة الخلفاء يقولون بنقصان القرآن ، أو إنّهم يضيفون إلى القرآن سورا وجملا من عند أنفسهم.

وعلى العكس من ذلك لما وردت نظير هذه الأقوال في بعض كتب حديث أتباع مدرسة أهل البيت ، أثار بعض الكتّاب بمدرسة الخلفاء ضجّة كبرى على أتباع مدرسة أهل البيت وقالوا إنّهم يقولون بنقصان القرآن ويضيفون إلى القرآن من عند أنفسهم عبارات وجملات ، ويستدلون على قولهم بما ورد في بعض كتب الحديث.

__________________

(١) أ ـ صحيح مسلم ج ٤ / ١٦٧ باب التحريم بخمس رضعات ، من كتاب الرضاع.

ب ـ وأبو داود ج ١ / ٢٧٩ باب هل يحرم ما دون خمس رضعات ، من كتاب النكاح.

ج ـ والنسائي ج ٢ / ٨٢ باب القدر الّذي يحرم من الرضاعة ، من كتاب النكاح.

د ـ وابن ماجة ج ١ / ٦٢٦ باب رضاع الكبير ، من كتاب النكاح الحديث ١٩٤٤.

ه ـ والدارمي ج ١ / ١٥٧ باب كم رضعة تحرم ، من كتاب النكاح.

و ـ وموطأ مالك ج ٢ / ١١٨ باب جامع ما جاء في الرضاعة ، من كتاب الرضاع.

(٢) صحيح مسلم ج ٣ / ١٠٠ باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى واديا ثالثا ، من كتاب الزكاة.

٣٣

على أن أتباع مدرسة أهل البيت لا يلتزمون صحّة كتاب ما عدا كتاب الله ، وأتباع مدرسة الخلفاء يلتزمون صحّة جميع ما ورد في صحيح البخاري ومسلم ، ويعالجون هذه الأحاديث بقولهم نسخت تلاوتها (١).

ضجّة مفتعلة حول مصحف فاطمة

وأقام بعض الكتّاب أيضا ضجة مفتعلة اخرى على أصحاب مدرسة أهل البيت وقالوا بأن لهم قرآنا آخر اسمه «مصحف فاطمة (ع)» وذلك لأنّ كتاب فاطمة سمي بالمصحف ، والقرآن أيضا سمّي من قبل بعض المسلمين بالمصحف ، مع أنّ الأحاديث تصرّح بأنّ مصحف فاطمة ليس فيه شيء من القرآن ، وإنّما فيه ما سمعته من أخبار من يحكم الأمّة الإسلاميّة ، حتّى أنّ الإمام جعفرا الصادق (ع) لما ثار محمد وإبراهيم من أبناء الإمام الحسن (ع) على أبي جعفر المنصور قال : «ليس في كتاب أمّهم فاطمة اسم هؤلاء في من يملك هذه الأمّة» (٢).

وفي مدرسة الخلفاء سمّوا كتاب سيبويه في النحو ب (الكتاب) أضف إلى ذلك أنّ لفظ «المصحف» لم يرد في القرآن ولا في الحديث النبويّ الشريف.

ووردت تسمية القرآن ب (الكتاب) في القرآن في قوله تعالى :

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) البقرة / ٢.

(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) البقرة / ٨٥.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) البقرة / ٨٩.

(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) البقرة / ١٢٩.

(وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) البقرة / ١٥١.

إلى عشرات آيات أخرى مع هذا لو قال أحد انّ كتاب سيبويه حجمه ضعف كتاب الله ، لم يقصد أنّ كتاب سيبويه قرآن أكبر من كتاب الله ، ولم يعترض على هذه

__________________

(١) صحيح البخاري كتاب الحدود باب رجم الحبلى من الزنى ح ١ ، وصحيح مسلم كتاب الحدود باب رجم الثيب في الزنى ح ١٥.

(٢) راجع اخر الكتاب باب مصدر الشريعة الإسلامية لدى أهل البيت.

٣٤

التسمية من أتباع مدرسة أهل البيت أحد.

* * *

وأخيرا ، إن هذه الأقوال يستفيد منها خصوم الإسلام ويتّخذون منها وسيلة للطعن في القرآن ، بصر الله بعض الكتّاب ليكف عن هذا الهذيان.

إنّ القرآن الّذي في أيدي المسلمين اليوم ، هو الّذي أكمل الله إنزاله على خاتم أنبيائه في أخريات حياته ، وجمعه ـ أيضا ـ الصحابة بعد وفاته ودونه واستنسخوه ووزّعوه على المسلمين. أوّله :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، وآخره : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ). لم يكن في يوم من الأيّام منذ ذلك العصر إلى يومنا هذا قرآن في يد مسلم ، يزيد على هذا المتداول كلمة أو ينقص كلمة ، لا خلاف في ذلك بينهم ، وإنّما الخلاف في تفسير القرآن وتأويل متشابهه ، وذلك لأنّهما مأخوذان من الحديث.

وقد اختلف المسلمون في شأن حديث رسول الله (ص) كما سنذكره في باب موقف المدرستين من السنّة الآتي إن شاء الله تعالى.

٣٥
٣٦

الفصل الثاني

موقف المدرستين من سنّة الرسول (ص)

١ ـ موقف المدرستين ممن روى عن رسول الله

٢ ـ موقف المدرستين من نشر حديث الرسول (ص) في القرن الأوّل الهجري

٣ ـ منع كتابة سنة الرسول (ص) إلى آخر القرن الأوّل الهجري

أ ـ على عهد الخليفتين أبي بكر وعمر

ب ـ على عهد عثمان

ج ـ على عهد معاوية

د ـ فتح الروافد الإسرائيلية

ه ـ على عهد عمر بن عبد العزيز

و ـ كيف وجد الحديثان المتناقضان

٣٧
٣٨

تتّفق المدرستان :

في الإيمان بوجوب العمل بسنّة الرسول (ص) من مصادر الشريعة الإسلاميّة.

ولما كانت سنة الرسول (ص) سيرة وحديثا وتقريرا ، تصل إلينا بواسطة الرواية عن الرسول (ص) فإنّ المدرستين تختلفان في :

أ ـ بعض الوسائط لنقل الرواية عن الرسول (ص).

ب ـ جواز كتابة حديث رسول الله (ص) في القرن الهجري الأوّل.

وسندرس كلّا من الأمرين على حدّة في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

٣٩

(١)

موقف المدرستين ممّن روى عن رسول الله (ص)

لما سبق ذكره في باب الصحابة والإمامة ، يأخذ أتباع مدرسة أهل البيت بعد عصر الرسول (ص) معالم دينهم من أئمّة آل البيت الاثني عشر في مقابل أتباع مدرسة الخلفاء الّذين يأخذون معالم دينهم من أيّ فرد من أصحاب رسول الله (ص) دون ما تمييز بينهم ، فإنّ جميعهم عدول عندهم ، بينما لا يرجع أتباع مدرسة أهل البيت إلى صحابة نظراء طلحة(١) وعبد الله بن الزبير (٢) اللّذين حاربا عليّا يوم الجمل ، ولا معاوية (٣) وعمرو

__________________

(١) أبو محمد طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي ، وأمّه الصعبة أخت العلاء الحضرمي ، آخى النبيّ بينه وبين الزبير ، كان من أشدّ المؤلّبين على عثمان ، فلما قتل عثمان سبق إلى بيعة علي بن أبي طالب ثمّ خرج إلى البصرة مطالبا بدم عثمان من علي بن أبى طالب ورآه مروان يوم الجمل فرماه بسهم قتل منه سنة ٣٦ ه‍. روى عنه أصحاب الصحاح ٣٨ حديثا. راجع : «أحاديث أم المؤمنين عائشة» ١ / ١٠٩ ـ ١٩٦. وجوامع السيرة ص ٢٨١.

(٢) أبو خبيب عبد الله بن الزبير القرشي الاسدي ، أمه أسماء بنت أبي بكر. كانت أم المؤمنين تحبه وتكنى به ، وكان يبغض آل البيت وكان الامام علي يقول : ما زال الزّبير منّا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبد الله. وكان من المحرضين لها في حرب الجمل ، واستقل بمكة بعد استشهاد الحسين ، وقتله الحجاج سنة ثلاث وسبعين في مكة. روى عنه أصحاب الصحاح ٣٣ حديثا. راجع ترجمته بأسد الغابة وواقعة الجمل في أحاديث عائشة وجوامع السيرة ص ٢٨١.

(٣) أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان القرشي الأموي. أمّه هند بنت عتبة. أسلم بعد الفتح ، وولّاه أخوه لما طعن في عمواس سنة ١٨ ، فأقره عمرو بقي واليا على الشام حتى قتل عثمان ، فتمرّد على الإمام وجهز جيشا لقتاله فتلاقيا بصفين سنة ٣٦ ه‍ ، ولما لاح النصر لجيش الإمام خدعهم برفع المصاحف ودعوتهم إلى حكمه فقرروا التحكيم فغدر عمرو بن العاص بأبي موسى. وفي سنة ٤١. صالحه الإمام الحسن فأصبح خليفة المسلمين وتوفي سنة ٦٠ ه‍ ، روى عنه أصحاب الصحاح ١٦٣ حديثا. راجع فصل : مع معاوية في «أحاديث أم المؤمنين عائشة» ، وجوامع السيرة ص / ٢٧٧.

٤٠