معالم المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٠٤

تمتّع النبي (ص) (١).

وفي سنن الدارمي عن محمّد بن عبد الله بن نوفل ، قال : سمعت عام حجّ معاوية يسأل سعد بن مالك : كيف تقول بالتمتّع بالعمرة إلى الحجّ؟ قال : حسنة جميلة. قال : قد كان عمر ينهى عنها ، فأنت خير من عمر؟! قال : عمر خير منّي ، وقد فعل ذلك النّبيّ وهو خير من عمر (٢).

ويبدو من بعض الروايات أنّ هذه المحاولة على عهد معاوية لم تقتصر عليه فحسب بل أعانه عليها بعض جلاوزته أيضا كما تدلّ عليه الرواية التالية :

في موطّأ مالك وسنن النسائي والترمذي والبيهقي وغيرها ، واللفظ للأوّل ، عن محمّد بن عبد الله بن الحارث : انّه سمع سعد بن أبي وقّاص والضّحاك بن قيس عام حجّ معاوية بن أبي سفيان ، وهما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ، فقال الضحّاك بن قيس : لا يفعل ذلك إلّا من جهل أمر الله عزوجل ، فقال سعد : بئس ما قلت يا ابن أخي! فقال الضحّاك : فإنّ عمر بن الخطّاب قد نهى عن ذلك ، فقال سعد : قد صنعها رسول الله (ص) وصنعناها معه (٣).

والضّحاك بن قيس قرشيّ فهريّ ، ولذا قال له سعد «يا ابن أخي». ولد الضحّاك قبل وفاة النبي بسبع سنين ، ولي على شرطة معاوية ، وله في الحروب معه بلاء عظيم ، وسيره على جيش على عهد الإمام عليّ فأغار على سواد العراق وقتل من لقي من الأعراب ، وأغار على الحاجّ وأخذ أمتعتهم وقتل منهم. ولي دفن معاوية وأخبر يزيد بموته وبايع ابن الزبير بعد يزيد وقاتل مروان بمرج راهط فقتل بها سنة اربع وستين (٤).

هذا هو الضحّاك بن قيس قائد جلاوزة معاوية ولا غرابة بعد ذلك في أن يحتطب. هذا بحبال معاوية ويعينه على ما يبتغيه.

ويبدو أنّ معاوية ـ بالإضافة إلى ما ذكرنا ـ استعان بوضع الحديث للمنع من حجّ

__________________

(١) سنن النسائي ، باب التمتع.

(٢) سنن الدارمي ٢ / ٣٥. ومحمد بن عبد الله بن نوفل هو محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب ، في تقريب التهذيب ٢ / ١٧٥ مقبول من الثالثة.

(٣) موطأ مالك ١ / ٣٤٤ باب ما جاء في التمتع الحديث ٦٠ ، وسنن النسائي ٢ / ١٥ باب التمتع ، والترمذي ٤ / ٣٨ باب ما جاء في التمتع ، والبيهقي ٥ / ١٧ ، وتفسير القرطبي ٢ / ٣٨٨ ، وقال : هذا حديث صحيح وزاد المعاد ٢ / ٢١٨ ، وبدائع المنن ح ٩٠٣ ، وابن كثير ٥ / ١٢٧ و ١٣٥.

(٤) ترجمة الضحاك بأسد الغابة وفصل : (مع معاوية) من كتاب (أحاديث أم المؤمنين عائشة) ١ / ٢٤٣.

٢٢١

التمتّع حسب ما رواه كلّ من البيهقي وأبي داود في سننهما وغيرهما واللفظ للأوّل : إنّ معاوية قال لنفر من أصحاب رسول الله (ص). ولفظ أبي داود : قال لأصحاب رسول الله أتعلمون ... أنّ رسول الله نهى عن صفف النمور؟ قالوا : اللهم نعم.

قال : وأنا اشهد. قال : أتعلمون أنّ النبيّ (ص) نهى عن لبس الذهب إلا مقطّعا؟ قالوا : اللهم نعم!

قال : أتعلمون أنّ النبي (ص) نهى أن يقرن بين الحجّ والعمرة؟ قالوا : اللهم لا!

قال : والله إنّها لمعهنّ.

قال ابن القيّم بعد إيراد الحديث : «ونحن نشهد بالله أنّ هذا وهم من معاوية أو كذب عليه ، فلم ينه رسول الله عن ذلك قطّ» (١) هكذا قال ابن القيّم لحسن ظنّه بمعاوية والطريف في الأمر أنّ معاوية يروي رواية أخرى عن رسول الله يناقض فيها نفسه. وروايته هذه حسب ما رواها كلّ من البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وأحمد في مسنده ، واللفظ للأوّل ، عن ابن عبّاس قال : قال لي معاوية : أعلمت اني قصّرت من رأس رسول الله عند المروة بمشقص؟ فقلت له : لا أعلم هذا إلّا حجّة عليك.

وفي لفظ المنتقى «في أيام العشر بمشقص».

قال ابن القيّم : وهذا ممّا أنكره الناس على معاوية وغلّطوه فيه (٢).

في الرواية الأولى يحلف أصحاب النبيّ أنّ النبيّ لم ينه عن قران العمرة بالحجّ ضمن ما نهى عنه ، ويحلف معاوية أنّه معهنّ ، وتدلّنا رواية معاوية هذه على أنّ الروايات الأخرى الّتي رويت موافقة لرأي معاوية أيضا وضعت في عصر معاوية كما سندرسها في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى. أمّا الرواية الثانية التي ناقض فيها روايته الأولى فإنّ معاوية أراد أن يتبجّح فيها بأنّه كان مقرّبا من رسول الله وفي خدمته ، وفاته أنّها تناقض فتواه وروايته الأولى وقد لاقى معاوية في سبيل إحياء سنّة عمر مخالفة شديدة من سعد

__________________

(١) سنن البيهقي ٥ / ٢٠ باب كراهية من كره القران والتمتع ، وسنن أبي داود باب في إفراد الحج ص ١٥٧ ، وزاد المعاد ١ / ٢٢٩ ، ومجمع الزوائد ٣ / ٢٣٦ باختصار. وأورد ابن كثير في تاريخه ٥ / ١٤٠ ـ ١٤١ جملة من أحاديث الباب.

(٢) صحيح البخاري ١ / ٢٠٧ باب الحلق والتقصير ، وصحيح مسلم ، باب التقصير في العمرة ح ٢٠٩ ، وسنن أبي داود ٢ / ١٥٩ ـ ١٦٠ ح ١٨٠٢ ـ ١٨٠٣ من كتاب المناسك ، ومسند أحمد ٤ / ٩٦ ـ ٩٨ ، والمنتقى ٢ / ٢٧٠ ح ٢٥٧٩ ، ٢٥٨٠ ، ومنحة المعبود ح ١٥٠٣ ، والمشقص : نصل عريض يرمى به الوحش.

٢٢٢

ابن أبي وقّاص فقد روى مسلم في صحيحه عن غنيم بن قيس ، قال «سألت سعد بن أبي وقّاص عن المتعة فقال : فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعرش» (١).

قال الراوي : يعنى بيوت مكّة.

وفي رواية اخرى : يعني معاوية.

قال المؤلّف : جعلوا لفظ العرش بضمّتين ليكون جمع العرش بضم العين ويكون بمعنى بيوت مكّة. ولعلّ سعدا تلفظه بفتح العين وسكون الراء وقصد أنّه كان يوم ذاك كافرا بربّ العرش.

هكذا عارض سعد معاوية في أكثر من مكان ولم يكن سائر الصحابة بمكانة سعد بن أبي وقّاص فاتح العراق والفرد الباقي من الستة أهل الشورى الذين رشّحهم عمر بن الخطّاب (رض) للخلافة ليستطيعوا مجاهرة عصبة الخلافة بالمخالفة يوم ذاك بل كان فيهم مثل الصحابي عمران بن حصين الّذي كتم أنفاسه طيلة حياته حتّى إذا وجد نفسه على فراش الموت جاهر برأيه كما رواه مسلم وغيره واللفظ لمسلم عن مطرّف قال : بعث إليّ عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه ، فقال : إني كنت محدّثك بأحاديث لعلّ الله أن ينفعك بها بعدي ، فإن عشت فاكتم عنّي وإن متّ فحدّث بها إن شئت ، إنّه قد سلّم عليّ واعلم أنّ نبيّ الله (ص) قد جمع بين حجّ وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب ولم ينهنا عنهما رسول الله ، قال فيها رجل برأيه ما شاء (٢).

وفي رواية أخرى : أنّي لاحدّثك بالحديث اليوم ينفعك الله به بعد اليوم : واعلم انّ رسول الله قد أعمر طائفة من أهله في العشر ـ أي عشر ذي الحجّة ـ فلم تنزل آية تنسخ ذلك ولم ينه عنه حتّى مضى لوجهه ارتأى كلّ امرئ بعد ما شاء أن يرتئي.

وفي رواية : ارتأى رجل برأيه ـ يعني عمر ـ (٣).

* * *

__________________

(١) صحيح مسلم باب جواز التمتع ح ١٦٤ ص ٨٩٨ ، وشرح الحديث عند النووي ٧ / ٣٠٤ ، والمنتقى ح ٢٣٨٦ ، وتاريخ ابن كثير ٥ / ١٢٧ و ١٣٥.

(٢) صحيح مسلم ، باب جواز التمتع ، الحديث ١٦٨ و ١٦٦ و ١٦٩ ص ٨٩٩ ، وشرح النووي ٣٠٥ ـ ٣٠٦ ، وعمران بن حصين في أسد الغابة بعثه عمر قاضيا على البصرة وكان مجاب الدعوة وكانت الملائكة تسلم عليه في مرض وفاته. توفي بالبصرة سنة اثنتين وخمسين أي في خلافة معاوية. ترجمته بأسد الغابة ٤ / ١٣٧.

(٣) صحيح مسلم كتاب الحج باب جواز التمتّع الحديث ١٦٥ و ١٦٦ وقد اخترنا لفظ مسلم ، ومسند ـ

٢٢٣

هكذا كان الأمر على عهد معاوية حتّى إذا مات وبويع ابنه يزيد بالخلافة انصرف في عامه الأوّل إلى قتال الحسين واستئصال أهل بيته ، وبعد ذلك انصرف إلى قتال الصحابة والتابعين بمدينة الرسول حتّى فتحها وفعل فيها الأفاعيل ثمّ انصرف الى حرب ابن الزبير بمكّة ، ثمّ هلك وبويع عبد الله بن الزبير فجاهد عبد الله بن الزبير في إحياء سنّة الخلفاء في شأن عمرة التمتع كما يلي بيانه :

على عهد عبد الله بن الزبير

أبو بكر وأبو خبيب عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي ، وأمّه أسماء ابنة أبي بكر وخالته عائشة ولد في المدينة بعد الهجرة. شهد الجمل مع خالته. قال فيه الإمام عليّ : ما زال الزبير منّا أهل البيت حتّى نشأ ابنه عبد الله.

جاور عبد الله مكّة بعد موت معاوية ، وامتنع عن بيعة يزيد ، ودعا لنفسه بعد قتل الإمام الحسين فأرسل يزيد جيشا أوقعوا بأهل المدينة يوم الحرّة ، ثمّ نازلوا ابن الزبير بمكّة لأربع بقين من المحرّم سنة أربع وستّين وحاصروه في الحرم فاحترقت في حربهم الكعبة وقرنا الكبش الذي فدي به إسماعيل وكان في سقفها ، وبويع بالخلافة بعد موت يزيد في الحجاز واليمن والعراق وخراسان ، ولمّا ولي الخلافة عبد الملك بن مروان بعث الحجّاج لحربه فقتله في النصف من جمادي الآخرة سنة ثلاث وسبعين إ ه‍ ـ أسد الغابة (٣ / ٦١ ١ ـ ١٦٣).

* * *

ولي ابن الزبير مكّة أكثر من عشر سنوات ، فجدّ هو وبنو أبيه في منع المسلمين من عمرة التمتع ، فوقعت بينهم وبين أتباع مدرسة الإمام علي مناظرات ومساجلات كما شرحتها الروايات التالية :

في صحيح مسلم : كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها ... الحديث (١).

__________________

ـ أحمد ٤ / ٤٣٤ ، وسنن الدارمي ٢ / ٣٥ ، والبخاري ، كتاب الحج ، باب التمتع ١ / ١٩٠ ، ويختلف لفظه مع ما سبق وسنن ابن ماجة ، الحديث ٢٩٧٨ باب التمتع بالعمرة إلى الحج ، ومسند أحمد ٤ / ٤٢٩ و ٤٣٦ و ٤٣٨ و ٤٣٩ ، وسنن البيهقي ٤ / ٣٤٤ ، وج ٥ / ١٤ ، والمنتقى ، الحديث ٢٣٨٠ و ٢٣٨١ ، وزاد المعاد ١ / ٢١٧ و ٢٢٠ ، وتاريخ ابن كثير ٥ / ١٢٦. وفي ص ١٣٧ منه أحاديث الباب.

(١) صحيح مسلم ، ص ٨٨٥ ، الحديث ١٤٥.

٢٢٤

وفيه وفي البخارى عن أبي جمرة الضبعي قال : تمتّعت فنهاني ناس عن ذلك فأتيت ابن عباس فسألته عن ذلك فأمرني بها ، قال : ثمّ انطلقت إلى البيت فنمت ، فأتاني آت في منامي فقال : عمرة متقبّلة وحجّ مبرور ، قال : فأتيت ابن عبّاس فأخبرته بالّذي رأيت. فقال : الله أكبر! سنّة أبي القاسم (ص) (١).

وفي مسند أحمد وغيره واللفظ لأحمد عن كريب مولى ابن عبّاس قال : قلت له : يا أبا العباس أرأيت قولك ما حجّ رجل لم يسق الهدي معه ثم طاف البيت إلّا حلّ بعمرة ، وما طاف بها حاجّ قد ساق الهدي إلّا اجتمعت له عمرة وحجّة. والناس لا يقولون هذا.

فقال : ويحك! إنّ رسول الله خرج ومن معه من أصحابه لا يذكرون إلّا الحجّ فأمر رسول الله (ص) من لم يكن معه الهدي أن يطوف بالبيت ويحلّ بعمرة فجعل الرجل منهم يقول : يا رسول الله! إنّما هو الحجّ فيقول رسول الله (ص) «إنّه ليس بالحجّ ولكنّها عمرة» (٢).

محاججة ابن عبّاس وابن الزبير حول عمرة التمتّع

روى مسلم عن مسلم القريّ قال : سألت ابن عباس عن متعة الحجّ : فرخّص فيها وكان ابن الزبير ـ عبد الله ـ ينهى عنها فقال ـ ابن عباس ـ هذه أمّ ابن الزبير تحدّث أنّ رسول الله (ص) رخّص فيها. فادخلوا عليها فاسألوها قال : فدخلنا عليها فإذا امرأة ضخمة عمياء. فقالت : قد رخّص رسول الله (ص) فيها (٣).

وفي زاد المعاد قال عبد الله بن الزبير : أفردوا الحجّ ـ أي لا تجمعوا بين الحجّ والعمرة ـ ودعوا قول أعماكم هذا. فقال عبد الله بن عباس : إنّ الذي أعمى قلبه لأنت. ألا تسأل أمّك عن هذا؟ فأرسل إليها فقالت : صدق ابن عبّاس. جئنا مع

__________________

(١) صحيح مسلم ، باب جواز العمرة في أشهر الحج ، الحديث ٢٠٤ ص ٩١١ ، ومسند أحمد ١ / ٢٤١ ، وسنن أبي داود المناسك باب ٨٠ ، والدارمي ، باب ٤١ ، والبيهقي ٥ / ١٩ ، والبخاري ١ / ١٩٠.

وأبو جمرة نصر بن عمران الضبعي البصري نزيل خراسان ، من الثالثة ، مات سنة ١٢٨. أخرج حديثه جميع أصحاب الصحاح. تقريب التهذيب ٢ / ٣٠٠.

(٢) مسند احمد ١ / ٢٦١ ، ومجمع الزوائد ٣ / ٢٣٣. وكريب بن ابي مسلم أبو رشيدين من الثالثة. أخرج حديثه أصحاب الصحاح تقريب التهذيب ٢ / ١٣٤.

(٣) صحيح مسلم ، باب في متعة الحج ، الحديث ١٩٤ ، وسنن البيهقي ٥ / ٢١ ـ ٢٢. ومسلم بن مخراق العبدي القري البصري من الرابعة. تقريب التهذيب ٢ / ٢٤٦.

٢٢٥

رسول الله (ص) حجّاجا فجعلناها عمرة ، فحللنا الإحلال كلّه حتّى سطعت المجامر بين الرجال والنساء (١).

محاججة عروة بن الزبير وابن عباس

في مسند أحمد : قال عروة لابن عبّاس حتى متى تضلّ الناس يا ابن عباس؟! قال : ما ذاك يا عريّة؟ قال : تأمرنا بالعمرة في أشهر الحجّ وقد نهى عنها أبو بكر وعمر؟! فقال ابن عبّاس : قد فعلها رسول الله (ص) ... الحديث (٢).

وفي رواية أخرى. فقال ابن عبّاس : أراهم سيهلكون أقول : قال النبيّ (ص) ويقول نهى أبو بكر وعمر (٣).

وفي رواية أخرى : قال عروة : ألا تتّقي الله ترخّص في المتعة فقال ابن عبّاس : سل أمّك يا عريّة! فقال عروة : أمّا أبو بكر وعمر فلم يفعلا فقال ابن عبّاس : احدّثكم عن رسول الله وتحدثوني عن أبي بكر وعمر (٤).

وفي رواية اخرى محاججة بين عروة ورجل لم يسمّ :

في زاد المعاد : ان عروة بن الزبير قال لرجل من أصحاب رسول الله تأمر الناس بالعمرة في هؤلاء العشر وليس فيها عمرة ، قال : أولا تسأل أمّك عن ذلك قال عروة : فإنّ أبا بكر وعمر لم يفعلا ذلك ، قال الرجل : من هاهنا هلكتم ما أرى الله عزوجل إلّا سيعذّبكم ، إنّي احدّثكم عن رسول الله (ص) وتخبروني عن أبي بكر وعمر ، قال عروة : انّهما والله كانا أعلم بسنة رسول الله (ص) منك ، فسكت الرجل (٥).

أرى انّ الرجل هو ابن عباس نفسه.

وفي مجمع الزوائد روى أنّ عروة أتى ابن عباس فقال : يا ابن عبّاس : طالما

__________________

(١) زاد المعاد ١ / ٢٤٨ فصل في إحلال من لم يكن ساق الهدي ، وفي زوائد المسانيد الثمانية ١ / ٣٣٠ الحديث ١١٠٨ : إلى أمّك ، وفي المصنف لابن أبي شيبة ٤ / ١٠٣ : اعمى الله قلبه وعينه. وابن عباس كان قد كف بصره ؛ ولذلك وصفه ابن الزبير بالأعمى.

(٢) مسند أحمد ١ / ٢٥٢ الحديث ٢٢٧٧ ، وزاد المعاد ١ / ٢٥٧. وعريّة تصغير عروة وهو ابن الزبير أبو عبد الله ، مدني من الثانية ، مات سنة أربع وتسعين. أخرج حديثه اصحاب الصحاح. تقريب التهذيب ٢ / ١٩.

(٣) مسند أحمد ١ / ٣٣٧ الحديث ٣١٢١ ، وزاد المعاد ١ / ٢٥٧ باب ما جاء في المتعة من الخلاف.

(٤) زاد المعاد ١ / ٢٥٧ ، وفي المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية ١ / ٣٦٠ ح ١٢١٤ مع اختلاف في اللفظ.

(٥) زاد المعاد ١ / ٢٥٧.

٢٢٦

أضللت الناس ، قال : وما ذاك يا عريّة؟ قال : الرجل يخرج محرما بحجّ أو عمرة ، فإذا طاف زعمت أنّه قد حلّ فقد كان أبو بكر وعمر ينهيان عن ذلك ، فقال : أهما ويحك آثر عندك أم ما في كتاب الله وما سنّ رسول الله (ص) في أصحابه وفي أمّته؟ فقال عروة : هما كانا أعلم بكتاب الله وما سنّ رسول الله منّي ومنك.

قال الراوي : فخصمه عروة (١).

عروة ينهى عن عمرة التمتّع

في صحيح مسلم ، عن محمّد بن عبد الرحمن أنّ رجلا من أهل العراق قال له : سل عروة بن الزبير عن رجل يهلّ بالحجّ فإذا طاف بالبيت أيحلّ أم لا؟ فإن قال لك : لا يحلّ ، فقل له : إنّ رجلا يقول ذلك. قال فسألته فقال : لا يحلّ من أهلّ بالحجّ إلّا بالحجّ. قلت : فإنّ رجلا كان يقول ذلك. قال : بئس ما قال. فتصدّاني الرجل فسألني فحدّثته فقال : فقل له : فإنّ رجلا كان يخبر أنّ رسول الله (ص) قد فعل ذلك وما شأن أسماء والزبير فعلا ذلك. قال : فجئته فذكرت له ذلك. فقال : من هذا؟ فقلت : لا أدري. قال : فما باله لا يأتينى بنفسه يسألني؟ أظنّه عراقيا. قلت : لا أدري. قال : فإنّه قد كذب. قد حجّ رسول الله فأخبرتني عائشة (رض) ، أنّ أوّل شيء بدأ به حين قدم مكّة أنّه توضّأ ثمّ طاف بالبيت. ثم حجّ أبو بكر فكان أوّل شيء بدأ به الطواف بالبيت ثمّ لم يكن غيره ـ أى عمرة وغيرها ـ ثمّ عمر مثل ذلك. ثمّ حجّ عثمان فرأيته أوّل شيء بدأ به الطواف بالبيت. ثم لم يكن غيره. ثمّ رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك. ثمّ لم يكن غيره ، ثمّ آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ثمّ لم ينقضها بعمرة وهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه؟ ولا أحد ممّن مضى ما كانوا يبدءون بشيء حين يضعون أقدامهم أوّل من الطواف بالبيت. ثمّ لا يحلّون. وقد رأيت أمّي وخالتي حين تقدمان لا تبدءان بشيء أوّل من البيت تطوفان به ثمّ لا تحلّان! وقد أخبرتني أمّي أنّها أقبلت هي واختها والزبير وفلان وفلان بعمرة قطّ فلمّا مسحوا الركن حلّوا ، وقد كذب في ما ذكر ذلك (٢).

__________________

(١) مجمع الزوائد ٣ / ٢٣٤. ويبدو أن هذا غير ما رواه ابن القيم في زاد المعاد ، وان الخلاف هناك حول الاعتمار في العشرة الأولى من ذي الحجة ، والخلاف هنا حول الإحلال بعد الطواف والسعي أي أن الناسك يخرج من إحرامه.

(٢) صحيح مسلم ، ص ٩٠٦ ـ ٩٠٧ ، الحديث ١٩٠ من باب ما يلزم من طاف بالبيت وسعى من البقاء ـ

٢٢٧

بحث لغوي حول الحديث

«تصدّاني» هكذا في جميع النسخ والصواب «تصدّى لى». «وقد أخبرتني أمّي أنّها أقبلت ... بعمرة قطّ فلما مسحوا الركن حلّوا» أي : ما كان ذلك ، وفي مادّة «قطّ» من القاموس وشرحه : تختصّ بالنفي ماضيا. وفي مواضع من البخاري جاء بعد المثبت.

تعليق على الحديث

في هذا الحديث لم يذكر عروة ما ذا فعل رسول الله بعد الطواف وما نسبه إلى أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية فهو كما قال.

أمّا قوله : ولا أحد ممّن مضى .. ثمّ لا يحلّون وقد رأيت أمّي وخالتي ... تطوفان به ثمّ لا تحلّان ... وقد كذب في ما ذكر من ذلك .. الحديث. فقد سبق تكذيبه في الروايات الكثيرة السابقة ، ويخالف ما ذكر عن أمّه وخالته ما رواه مسلم ـ أيضا ـ بعد هذا الحديث عن خالته أسماء بنت أبي بكر (رض) قالت :

خرجنا محرمين فقال رسول الله (ص) «من كان معه هدي فليقم على إحرامه. ومن لم يكن معه هدي فليحلل» فلم يكن معى هدي فحللت ، وكان مع الزبير هدي فلم يحلل.

قالت : فلبست ثيابي ثمّ خرجت فجلست إلى الزبير فقال : قومي عنّي. فقلت : أتخشى أن أثب عليك؟

وفي أخرى بعدها : فقال : استرخي عنّي استرخي عنّي. فقلت أتخشى أن أثب عليك.

وفي أخرى بعدها عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر (رض) أنّه كان يحدّث عن أسماء :

أنها كلّما مرّت بالحجون تقول : صلّى الله على رسوله وسلّم. لقد نزلنا معه هاهنا ونحن يومئذ خفاف الحقائب قليل ظهرنا ، قليلة أزوادنا ، فاعتمرت أنا واختى عائشة والزبير وفلان وفلان فلمّا مسحنا بالبيت أحللنا. ثمّ أهللنا من العشيّ بالحجّ (١).

__________________

ـ على الإحرام وترك التحلل من كتاب الحج وشرح النووي ج ٨ / ٢١٩ ـ ٢٢١.

(١) صحيح مسلم ، الاحاديث ١٩١ ـ ١٩٣ ص ٩٠٧ ـ ٩٠٨ ، والحديث الأخير بصحيح البخاري ـ

٢٢٨

وما نسب عروة في حديثه إلى ابن عمر بقوله : «ثمّ لم ينقضها بعمرة وهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه» فقد وجدنا موقف ابن عمر مختلفا في ما روي عنه.

موقف ابن عمر

في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي والترمذي والبيهقي وغيرها ، واللفظ للأوّل عن ابن عمر قال : تمتّع رسول الله (ص) في حجّة الوداع بالعمرة إلى الحجّ فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ، ومنهم من لم يهد ، فلمّا قدم رسول الله (ص) مكّة قال للنّاس «من كان منكم أهدى فإنّه لا يحلّ من شيء حرم منه حتّى يقضي حجّه ، ومن لم يكن منكم أهدى ، فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثمّ ليهلّ بالحجّ وليهد ...» الحديث (١).

واعترض عليه بقول أبيه ونهيه كما رواه الترمذي في سننه عن ابنه سالم : أنّه سمع رجلا من أهل الشام وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ، فقال عبد الله بن عمر : هي حلال. فقال الشامي : إنّ اباك قد نهي عنها ، فقال عبد الله بن عمر : أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله (ص) أأمر أبي أتّبع أم أمر رسول الله (ص)؟ فقال الرجل : بل أمر رسول الله (ص). فقال : لقد صنعها رسول الله (٢).

وفي رواية قال : اعتمر النبيّ قبل أن يحجّ (٣).

وقال ابن كثير : وكان ابنه عبد الله يخالفه فيقال له : إنّ أباك كان ينهى عنها! فيقول : خشيت أن يقع عليكم حجارة من السماء! قد فعلها رسول الله ، أفسنّة رسول الله نتّبع أم سنّة عمر بن الخطّاب (٤)؟

__________________

ـ ١ / ٢١٤. والحجون هو الجبل المشرف على مسجد الحرس بأعلى مكة على يمينك وأنت مصعد عند المحصب.

(١) صحيح مسلم ، باب وجوب الدم على المتمتع ، الحديث ١٧٤ ص ٩٠١ ، وشرح النووي ج ٨ / ٢٠٨ ، وسنن أبي داود ٢ / ١٦٠ باب في الإقران الحديث ١٨٠٥ ، وسنن النسائي ج ٢ / ١٥ باب التمتع ، وسنن الترمذي ٤ / ٣٩ باب ما جاء في التمتع وقال : هذا حديث صحيح ، وسنن البيهقي ٥ / ١٧ باب من اختار التمتع بالعمرة إلى الحج ... ، و ٥ / ٢٠ و ٢٣ منه ، وزاد المعاد ١ / ٢١٦ فصل في جمعه بين الحج والعمرة ، وص ٢٣٦ منه ، والمنتقى الحديثان ٢٣٨٧ و ٢٤١٦.

(٢) صحيح الترمذي ٤ / ٣٨ باب ما جاء في التمتع من كتاب الحج.

(٣) سنن البيهقي ٤ / ٣٥٤ باب العمرة قبل الحج عن البخاري.

(٤) تاريخ ابن كثير ٥ / ١٤١.

٢٢٩

وروى عنه أيضا خلاف هذا الموقف (١) ولعلّ سبب اختلاف فتاويه في العمرة اختلاف أزمنة الفتاوى والروايات عنه كما لو كان السؤال منه على عهد أبيه ، أو على عهد عثمان مثلا. فينبغي أن يكون الجواب موافقا لموقف الخلافة الراشدة. أمّا في عصر ابن الزبير ومناهضة الخلافة الأمويّة له ، فكان يسهل مخالفته.

وبهذا تيسّر وقوع الخلاف الشديد حول عمرة التمتع في هذا العصر ووقع فكان منهم من ينهى عنها وهم عصبة الخلافة ، ومنهم من يحبذها ويخبر عن أمر الرسول بها وهم بعض من بقى من أصحاب الرسول مثل جابر بن عبد الله الأنصاري الّذي كان يخبر عن سنة الرسول في ذلك كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي نضرة ، قال : كنت عند جابر فأتاه آت فقال : إنّ ابن عبّاس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما (٢).

وبقي هذا الخلاف بين أتباع الطرفين مدّة من الزمن. ومن مظاهر ذلك الخلاف ما روي عن موسى بن نافع الأسدي أنّه قال : قدمت مكّة وأنا متمتّع بعمرة فدخلت قبل التروية بثلاثة أيّام فقال لي ناس من أهل مكّة : تصير حجّتك مكّيّة فدخلت على عطاء بن أبي رباح أستفتيه ، فقال : حدّثني جابر بن عبد الله انّه حجّ مع رسول الله (ص) يوم ساق البدن وقد أهلّوا بالحجّ مفردا فقال لهم رسول الله (ص) : «أحلّوا من إحرامكم بالطواف بالبيت وبين الصفا والمروة واقصروا وانتم حلال فاذا كان يوم التروية فأهلّوا بالحجّ واجعلوا الّتي قدمتم بها متعة» قالوا : كيف نجعلها متعة وقد سمّينا الحجّ ، فقال «افعلوا ما أمرتكم فلو لا أنّي سقت الهدي لفعلت مثل الّذي أمرتكم به ولكنّي لا يحلّ منّي حرام حتّى يبلغ الهدي محلّه» ففعلوا (٣).

وفي عصر ابن الزبير ـ أيضا ـ ظهرت أمارات انتصار من أحيا سنّة الرسول وتعلّقت قلوب الناس بعمرة التمتع حسب ما يظهر من روايات مسلم في صحيحه مثل الرواية الآتية :

__________________

(١) سنن البيهقي ٤ / ٥.

(٢) صحيح مسلم ، الحديث ١٢٤٩ ص ٩١٤.

(٣) سنن البيهقي ٤ / ٣٥٦ باب المتمتع بالعمرة إلى الحج إذا أقام بمكة حتى ينشئ الحج إن شاء من مكة لأمن الميقات. وصحيح مسلم ، ص ٨٨٤ ، الحديث ١٤٣ : وتصير الآن حجتك مكية لإنشائك إحرامها من مكة فتفوتك فضيلة الإحرام من الميقات فيقل ثوابك بقلة مشقتك.

٢٣٠

قال رجل من بني الهجيم لابن عبّاس ما هذه الفتيا الّتي تشغّفت أو تشغبت بالناس انّ من طاف بالبيت فقد حلّ؟! فقال : سنّة نبيّكم وإن رغمتم.

وفي رواية بعدها : إنّ هذا الأمر قد تفشّغ بالناس من طاف بالبيت فقد حلّ. الطواف عمرة (١).

«تشغّفت» أي علقت بقلوب الناس و «تشغّبت» أي خلطت عليهم أمرهم و «تفشّغ» أي انتشر وفشا بين الناس.

وقد علّق ابن القيم على رواية ابن عبّاس السابقة وقال : «وصدق ابن عبّاس : كلّ من طاف بالبيت ممّن لا هدي معه من مفرد أو قارن أو متمتّع فقد حلّ إمّا وجوبا وإمّا حكما ، هذه هي السنّة الّتي لا رادّ لها ولا مدفع وهذا كقوله (ص) : «إذا أدبر النّهار من هاهنا وأقبل الليل من هاهنا ، فقد أفطر الصائم» إمّا أن يكون المعنى أفطر حكما أو دخل وقت إفطاره ، وصار الوقت في حقّه وقت إفطار ، فهكذا هذا الّذي قد طاف بالبيت إمّا أن يكون قد حلّ حكما ، وإمّا أن يكون ذلك الوقت في حقّه ليس وقت إحرام ، بل هو وقت حلّ ليس إلّا ، ما لم يكن معه هدي وهذا صريح السنّة».

وروى عن أبي الشعثاء عن ابن عبّاس قال : «من جاء مهلّا بالحجّ فإنّ الطواف بالبيت يصيّره إلى عمرة شاء أو أبى» قلت : إنّ الناس ينكرون ذلك عليك قال : هي سنة نبيّهم وإن رغموا (٢).

هكذا جاهد ابن عبّاس في عصره وأعانه غيره من أتباع مدرسة الأئمة أمثال جابر بن عبد الله الأنصاري. ومن هؤلاء وبعد هؤلاء تسرّى القول بعمرة التمتّع إلى أتباع مدرسة الخلفاء ، كما يظهر ذلك من رواية ابن حزم عن منصور بن المعتمر ، قال :

حجّ الحسن البصري وحججت معه في ذلك العامّ ، فلمّا قدمنا مكّة ، جاء رجل إلى الحسن ، فقال : يا أبا سعيد! إنّي رجل بعيد الشقّة من أهل خراسان وإنّي قدمت مهلّا بالحجّ ، فقال له الحسن : اجعلها عمرة واحلّ ، فأنكر ذلك الناس على الحسن (٣) وشاع قوله بمكّة فأتى عطاء بن أبي رباح فذكر ذلك له ، فقال : صدق الشيخ ولكنّا نفرق أن نتكلّم بذلك (٤).

__________________

(١) صحيح مسلم. الحديث ٢٠٦ و ٢٠٧ ص ٩١٢ ـ ٩١٣.

(٢) زاد المعاد ١ / ٢٤٩.

(٣) هكذا نجد سنة رسول الله في هذا العصر منكرا لدى المسلمين.

(٤) المحلى لابن حزم ٧ / ١٠٣. والمنصور بن المعتمر أبو عتاب السلمي الكوفي أخرج حديثه جميع أصحاب ـ

٢٣١

ويزول هذا التخوّف في عصر بني العبّاس وينتشر القول بعمرة التمتّع على عهدهم ولعلّ لموقف جدّهم عبد الله بن العبّاس دخلا في ذلك ، وعلى عهدهم يتبنّى أحمد بن حنبل القول بعمرة التمتّع ومن الطبيعي أن يستمرّ ذلك في أتباع مدرسته.

ويشهد لذلك قول ابن القيّم : وقد روى هذا ـ أي حجّ التمتّع ـ عن النبيّ من سمّينا وغيرهم ، وروى ذلك عنهم طوائف من كبار التابعين ، حتّى صار منقولا نقلا يرفع الشكّ ويوجب اليقين ، ولا يمكن أحدا أن ينكره أو يقول : لم يقع وهو مذهب أهل بيت رسول الله (ص) ، ومذهب حبر الأمّة وبحرها ابن عبّاس وأصحابه ومذهب أبي موسى الأشعريّ ومذهب إمام أهل السنّة والحديث أحمد بن حنبل وأتباعه ومذهب أهل الحديث معه (١).

وهكذا يزول الحرج عن المسلمين في اتّباع سنّة الرسول بعد ذلك إلى يومنا الحاضر.

الأحاديث الّتي وضعت في سبيل تبرير موقف الخلفاء :

إلى هنا استعرضنا الجهود الّتي بذلها الرسول في سبيل إماتة سنّة الجاهلية في شأن عمرة التمتّع ، ثمّ الجهود التي بذلتها مدرسة الخلفاء في سبيل إحياء تلك السنّة ، وكذلك الجهود الّتي بذلتها مدرسة أئمة أهل البيت في سبيل إماتة سنّة الجاهلية وإحياء سنّة الرسول ، وكيف شغف الناس بعدئذ بعمرة التمتع ، ونختم هذا البحث باستعراض الجهود التي بذلك في سبيل تبرير موقف الخلفاء من عمرة التمتع والدفاع عنهم مثل الأحاديث الآتية التي وضعت في هذا السبيل :

١ ـ روى مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي وغيرهم عن القاسم ابن محمّد بن أبي بكر عن أمّ المؤمنين عائشة أنّها ، قالت : إنّ رسول الله أفرد الحجّ (٢).

__________________

ـ الصحاح ، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. التقريب ٢ / ٢٧٧. والحسن بن أبي الحسن يسار البصري مولى الأنصار كان يرسل كثيرا ويدلس ، رأس الطبقة الثالثة (ت ١١٠ ه‍) وقد قارب التسعين ، أخرج حديثه أصحاب الصحاح. تقريب التهذيب ١ / ١٦٥. وعطاء بن أبي رباح أسلم ، مولى قريش ، (ت ١١٤ ه‍) روى حديثه جميع أصحاب الصحاح ، تقريب التهذيب ٢ / ٢٢.

(١) زاد المعاد ١ / ٢٤٩ كان مذهب أبي موسى التمتع بالعمرة إلى الحج ويفتي به من قبل أن يسمع من الخليفة ما أحدثه في شأن النسك ، ومن بعد ذلك تابعه على رأيه.

(٢) صحيح مسلم ، ح ١٢٢ ص ٨٧٥ ، وسنن أبي داود ٢ / ١٥٢ ح ١٧٧٧ ، وسنن النسائي ٢ / ١٣ باب إفراد الحجّ ص ٩٨٨ ح ٢٩٦٤ ، والترمذي ٤ / ٣٦ باب ما جاء في إفراد الحج ، والبيهقي ٥ / ٣ باب من اختار ـ

٢٣٢

٢ ـ عن عروة بن الزبير عن عائشة : انّ رسول الله (ص) أفرد الحجّ (١).

٣ ـ وعن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جابر : انّ رسول الله أفرد الحجّ (٢).

٤ ـ وعن عبد الله بن عمر :

أ ـ أنّ النبي (ص) أفرد الحجّ وأبو بكر وعمر وعثمان.

ب ـ أهللنا مع رسول الله بالحج مفردا.

وفي رواية : انّ رسول الله أهلّ بالحجّ مفردا (٣).

٥ ـ عن سعيد بن المسيّب : أن رجلا من أصحاب رسول الله (ص) : أتى عمر ابن الخطّاب (رض) فشهد عنده أنّه سمع رسول الله (ص) في مرضه الّذي قبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج (٤).

٦ ـ عن جابر : أنّ رسول الله وأبا بكر وعمر وعثمان أفردوا الحجّ (٥).

٧ ـ عن الحارث بن بلال ، قال : قلت : يا رسول الله! فسخ الحجّ لنا خاصّة ، أم للناس عامّة ، قال : «بل لنا خاصّة» (٦).

٨ ـ عن عبد الله والحسن ابني محمّد بن عليّ عن أبيهما انّ علي بن أبي طالب (رض) قال : يا بنيّ أفرد الحجّ (٧).

٩ ـ عن أبي ذرّ ، قال : كانت المتعة في الحجّ لأصحاب محمّد خاصّة.

__________________

ـ الإفراد ، والمنتقى ح ٢٣٨٩ ج ٢ / ٢٢٨ ، ومسند أحمد ج ٦ / ٣٦ ، وموطأ مالك ، باب إفراد الحج ٢ / ٣٣٥ ح ٣٧.

(١) سنن ابن ماجه ، ص ٩٨٨ ح ٢٩٦٥ ، وموطأ مالك ج ٢ / ٣٣٥ ح ٣٨ ، وراجع تاريخ ابن كثير ٥ / ١٢٠ ـ ١٢٣ ففيه بحث مفصل عن عمرة التمتع.

(٢) سنن ابن ماجة ، ص ٩٨٩ ح ٢٩٦٦.

(٣) أ ـ سنن الترمذي ٤ / ٣٦ باب ما جاء في إفراد الحج.

ب ـ صحيح مسلم ، ص ٩٠٤ ـ ٩٠٥ ح ١٨٤ ، والمنتقى ٢ / ٢٢٨ ح ١٣٩١.

(٤) سنن أبي داود ٢ / ١٥٧ ح ١٧٩٣ ، وسنن البيهقي ٥ / ١٩ باب كراهية من كره القرآن والتمتع.

(٥) سنن ابن ماجة ح ٢٩٦٧ ص ٩٨٩.

(٦) أبو داود ٢ / ١٦١ ، كتاب المناسك ، باب الرجل يهل بالحج ثم يجعلها عمرة ح : ١٨٠٨ ، وابن ماجة ص ٩٩٤ ح ٢٩٨٤ ، وقد علّق ابن ماجة على الحديث والمنتقى ٢ / ٢٣٨ ح ٢٤٢٩ وقال : رواه الخمسة إلّا الترمذي ، والحارث بن بلال بن الحارث المزنى من الثالثة. أخرج حديثه بعض أصحاب الصحاح. تقريب التهذيب ١ / ١٣٩.

(٧) سنن البيهقي ٥ / ٥ باب من اختار الإفراد. وعبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب من الطبقة الرابعة مات سنة تسعين بالشام ، تقريب التهذيب ١ / ٤٤٨.

٢٣٣

١٠ ـ وفي رواية قال : كانت لنا رخصة يعني المتعة في الحجّ.

١١ ـ وفي رواية أخرى قال : لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصّة.

١٢ ـ عن عبد الرحمن بن أبي الشعثاء قال : أتيت إبراهيم النخعي وإبراهيم التيمي فقلت : إنّي أهمّ أن أجمع العمرة والحجّ ، العام ، فقال إبراهيم النخعي لكن أبوك لم يكن ليهمّ بذلك.

ثمّ روى عن التيمي عن أبيه أنّه مرّ بأبي ذرّ (رض) بالربذة فذكر له ذلك ، فقال : إنّما كانت لنا خاصّة دونكم.

وفي سنن البيهقي : إنّ أبا ذر كان يقول في من حجّ ثمّ فسخها بعمرة : لم يكن ذلك إلّا للركب الّذين كانوا مع رسول الله (ص) (١).

علل الأحاديث

علّق إمام الحنابلة أحمد بن حنبل على الحديث السابع وقال : (حديث بلال بن الحارث عندي غير ثابت. ولا أقول به ، ولا نعرف هذا الرجل ، يعنى الحارث بن بلال.

وقال : رأيت لو عرف الحارث بن الحارث بن بلال ، إلّا أنّ أحد عشر رجلا من أصحاب النبيّ (ص) يروون ما يروون من الفسخ ، أين يقوم الحارث بن بلال منهم؟)(٢).

__________________

وأخوه الحسن من الطبقة الثالثة توفي سنة مائة. أخرج أحاديثهما أصحاب الصحاح. تقريب التهذيب ١ / ١٧١.

(١) وردت الروايتين ١١ ـ ١٢ متواليتين في صحيح مسلم ح ١٦٠ ـ ١٦٣ ص ٨٩٧ ، وبشرح النووي عليه ٨ / ٢٠٣ ، وفي سنن ابن ماجة ص ٩٩٤ ح ٢٩٨٥ ، وفي سنن أبي داود ٢ / ١٦١ ح ١٨٠٧ مع اختلاف في اللفظ ، وفي سنن البيهقي ٥ / ٢٢ ح ٩ و ١٠ و ١٢ ، وفي ج ٤ / ٣٤٥ باب العمرة في أشهر الحج ورد القسم الأخير من الحديث ١٢ ، وفي المنتقى ح ٢٤٣٠. وعبد الرحمن بن أبي الشعثاء ، سليم بن الأسود المحاربي. قال ابن حجر مقبول من السادسة له حديث واحد متابعة ، التهذيب ٦ / ١٩٤ وتقريبه ١ / ٤٨٤.

وإبراهيم بن يزيد بن عمرو الكوفي النخعي (ت ٩٦ أو ٩٥ ه‍) التهذيب ١ / ١٧٧ والتقريب ١ / ٤٦ ، والجمع بين رجال الصحيحين ١ / ١٨ ـ ١٩.

وإبراهيم التيمي لعله أبو اسماء الكوفي ابن يزيد بن شريك من تيم الرباب (ت ٩٢ أو ٩٤ ه‍) في حبس الحجاج التهذيب ١ / ١٧٦ ، وتقريبه ١ / ٤٦ ، والجمع بين رجال الصحيحين ١ / ١٩.

(٢) سنن ابن ماجة ص ٩٩٤ باب : من قال كان فسخ الحج لهم خاصة من كتاب المناسك وراجع التعليق على الحديث ٢٤٢٩ في المنتقى من أخبار المصطفى لابن تيمية ٢ / ٢٣٨. وأورد ابن كثير في موجزه في ٥ / ١٦٦ من تاريخه.

٢٣٤

قال المؤلف : قصد إمام الحنابلة من رواية أحد عشر صحابيا الفسخ : روايتهم فسخ الإحرام ، والتمتّع بالحلّ بين العمرة والحجّ. ولعلّه قصد من عدم معرفته للحارث عدم معرفته بالوثاقة.

وعلق أيضا ابن حنبل على حديث أبي ذر وقال : رحم الله أبا ذر هي في كتاب الرحمن «فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ» (١) قصد إمام الحنابلة إنّ الآية تفيد أنّ الحكم عامّ ولا يخص ناسا دون آخرين فكيف خالف أبو ذر بقوله الآية الكريمة وفاته أن الرواية وضعت على أبي ذر كما وضعت الروايات الأخرى على غيره.

وكما نسب إلى رسول الله (ص) أنّه أفرد الحجّ ، وإلى الإمام عليّ أنّه قال لابنه محمّد : يا بنيّ أفرد الحجّ مع ما رأينا في ما سبق من مخالفته للخليفة عثمان ، وكذلك ما روى عن سعيد بن المسيّب أنّ رجلا من أصحاب رسول الله أتى عمر وشهد عنده أنّه سمع رسول الله في مرضه ينهى عن العمرة قبل الحجّ ، ولست أدري من هو هذا الصحابي وكيف لم يستشهد عمر بقول هذا الصحابي في عصره ، ولا استشهد به عثمان ولا معاوية ولا ابنا الزبير ولا غيرهم؟

كلّ هذه الأحاديث وغيرها وضعت متأخّرا وفي سبيل تبرير موقف الخلفاء من تحريمهم متعة الحجّ وما أجود ما قاله في هذا المقام كلّ من ابن القيم في كتابه زاد المعاد وابن حزم في المحلّى ، قال ابن القيم : ونحن نشهد الله علينا أنّا لو أحرمنا بحجّ لرأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة تفاديا من غضب رسول الله (ص) واتّباعا لأمره ، فو الله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده ولا صحّ حرف واحد يعارضه ، ولا خصّ به أصحابه دون من بعدهم ، بل أجرى الله سبحانه على لسان سراقة أن يسأله هل ذلك مختصّ بهم؟ فأجاب «بأن ذلك كائن لأبد الأبد» فما ندري ما نقدّم على هذه الأحاديث ، وهذا الأمر المؤكّد الذي غضب رسول الله (ص) على من خالفه.

ولله درّ الإمام أحمد (ره) إذ يقول لسلمة بن شبيب وقد قال له : يا أبا عبد الله كلّ أمرك عندي حسن إلّا خلّة واحدة ، قال : وما هي؟ قال : تقول بفسخ الحجّ إلى العمرة ، فقال : يا سلمة! كنت أرى لك عقلا ، عندي في ذلك أحد عشر حديثا صحاحا عن رسول الله (ص) أأتركها لقولك؟! (٢).

__________________

(١) المنتقى من أخبار المصطفى لابن تيمية ١ / ٢٣٩ بهامش ح ٣٤٣١

(٢) راد المعاد ٢ / ٢٤٧ فصل في إحلال من لم يكن ساق الهدي معه. والمحلى لابن حزم ٧ / ١٠٠ ـ ١١٠.

٢٣٥

وقال أيضا : وقد روى عنه الأمر بفسخ الحجّ إلى العمرة أربعة عشر من أصحابه وأحاديثهم كلّها صحاح وهم عائشة وحفصة أمّا المؤمنين ، وعليّ بن أبي طالب ، وفاطمة بنت رسول الله (ص) وأسماء بنت أبي بكر الصدّيق ، وجابر بن عبد الله ، وأبو سعيد الخدري والبراء بن عازب ، وعبد الله بن عمر ، وأنس بن مالك ، وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن عبّاس وسبرة بن معبد الجهنى وسراقة بن مالك المدلجي (رض) (١).

وقال ابن حزم : روى أمر رسول الله (ص) من لا هدي له أن يفسخ حجّه بعمرة ويحلّ بأوكد أمر جابر بن عبد الله و... خمسة عشر من الصحابة. رضي الله عنهم. ورواه عن هؤلاء نيف وعشرون من التابعين ورواه عن هؤلاء من لا يحصيه إلّا الله عزوجل فلم يسع أحدا الخروج عن هذا (٢).

وقال : وأمر النبيّ كلّ من لا هدي معه عموما بأن يحلّ بعمرة ، وأنّ هذا هو آخر أمره على الصفا بمكّة ، وأنّه (ع) أخبر بأن التّمتّع افضل من سوق الهدي معه وتأسّف إذ لم يفعل ذلك هو ، وأنّ هذا الحكم باق إلى يوم القيامة وما كان هكذا فقد أمنّا أن ينسخ أبدا ، ومن أجاز نسخ ما هذه صفته فقد أجاز الكذب على خبر رسول الله (ص) وهذا ممن تعمّده كفر مجرّد ، وفيه أنّ العمرة قد دخلت في الحجّ وهذا هو قولنا لأنّ الحجّ لا يجوز إلّا بعمرة متقدّمة له يكون بها متمتعا أو بعمرة مقرونة معه ولا مزيد (٣).

وقال : قد أفتى بها أبو موسى مدّة إمارة أبي بكر وصدرا من إمارة عمر (رض) وليس توقّفه ـ عند ما بلغه نهي عمر ـ حجّة على ما روى عن النبيّ وحسبنا قوله لعمر : ما الذي احدثت في شأن النسك فلم ينكر ذلك عمر وامّا قول عمر في قول الله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) فلا إتمام لهما إلّا علّمه رسول الله الناس وهو الذي أنزلت عليه الآية وأمر ببيان ما أنزل عليه من ذلك.

وأمّا كونه لم يحلّ حتّى نحر الهدي فانّ حفصة ابنة عمر روت عن النبي بيان فعله قالت سألته : ما شأن الناس حلّوا ولم تحلّ من عمرتك؟ فقال : إني قلدت هديي فلا أحلّ حتى أنحر ، ورواه أيضا علي ...

__________________

(١) زاد المعاد ١ / ٢٤٦.

(٢) المحلى ج ٧ / ١٠١.

(٣) المحلى ج ٧ / ١٠٣ أوردنا في ما يلي موجز كلام ابن حزم في هذا الباب.

٢٣٦

ثم قال : فهذا أولى أن يتّبع من رأي رآه عمر (١).

وفي مكان آخر أورد الروايات التي جاء فيها أنّ فسخ الحجّ خاصّ بأصحاب رسول الله ، ثمّ استشهد على بطلانها بأنّ سراقة قال لرسول الله حين أمرهم بفسخ الحجّ في عمرة : يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لا بد؟ فقال : بل لأبد الأبد.

ثم قال : فبطل التخصيص والنسخ وأمن من ذلك أبدا. والله أنّ من سمع هذا الخبر ثمّ عارض أمر رسول الله (ص) بكلام أحد ولو أنّه كلام أمّيّ المؤمنين حفصة وعائشة وأبويهما (رض) لهالك فكيف بأكذوبات كنسيج العنكبوت الّذي هو أو هن البيوت عن الحارث بن بلال و... الذين لا يدرى من هم في الخلق. وليس لأحد أن يقتصر بقوله (ع) : «دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة» على أنّه أراد جوازها في أشهر الحجّ دون ما بينه جابر وابن عبّاس من إنكاره (ع) أن يكون الفسخ لهم خاصّة أو لعامهم دون ذلك ، ومن فعل ذلك فقد كذب على رسول الله جهارا.

قال : وأتى بعضهم بطامّة وهي أنّه ذكر الخبر الثابت عن ابن عباس أنّهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور في الأرض فقال قائلهم : إنما أمرهم (ع) بذلك ليوقفهم على جواز العمرة في أشهر الحجّ قولا وعملا. وهذه عظيمة أوّل ذلك أنّه كذب على النبيّ في دعواهم إنّما أمرهم بفسخ الحجّ في عمرة ليعلمهم جواز العمرة في أشهر الحجّ ثم يقال لهم هبك لو كان ذلك ومعاذ الله من أن يكون أبحقّ أمر أم بباطل؟ فإن قالوا بباطل كفروا وإن قالوا : بحقّ قلنا : فليكن أمره (ع) بذلك لأيّ وجه كان فإنّه قد صار بعد ما أمر حقّا واجبا ، ثمّ لو كان هذا الهوس الّذي قالوه فلأي معنى كان يخصّ بذلك من لم يسق الهدي دون من ساق؟

وأطمّ من هذا كلّه أنّ هذا الجاهل القائل بذلك قد علم أنّ النبيّ اعتمر بهم في ذي القعدة عاما بعد عام قبل الفتح. ثمّ اعتمر في ذي القعدة عام الفتح ثمّ قال لهم في حجّة الوداع في ذي الحليفة : من شاء منكم أن يهلّ بعمرة فليفعل ومن شاء أن يهلّ بحجّ وعمرة فليفعل ومن شاء أن يهلّ بحج فليفعل (٢) ، ففعلوا كلّ ذلك فيا لله ويا للمسلمين أبلغ الصحابة رضي الله عنهم من البلادة ، والبله ، والجهل أن لا يعرفوا مع هذا كلّه انّ

__________________

(١) المحلى ٧ / ١٠٢ وقوله «فهذا أولى أن يتبع» أى قول رسول الله وأمره أولى أن يتبع من رأي رآه عمر.

(٢) قصد ان الأمر بعمرة التمتع كان في بدء الأمر في حجة الوداع تخييريا ونزل القضاء به حتما عند ما كان الرسول في آخر شوط من سعيه.

٢٣٧

العمرة جائزة في اشهر الحجّ؟ وقد عملوها معه (ع) عاما بعد عام في اشهر الحج حتى يحتاج إلى ان يفسخ حجّهم في عمرة ليعلموا جواز ذلك ، تالله إنّ الحمير لتميّز الطريق من أقلّ من هذا فكم هذا الإقدام والجرأة على مدافعة السنن الثابتة في نصر التقليد؟ مرّة بالكذب المفضوح ، ومرّة بالحماقة المشهورة ، ومرّة بالغثاثة والبرد حسبنا الله ونعم الوكيل.

قال المؤلف : فات ابن القيم وابن حزم وسائر أتباع مدرسة الإمام أحمد أنّ الباعث على إنكار من أنكر عمرة التّمتّع ليس جهلهم بالروايات الصحيحة المتواترة عن رسول الله (ص) في ذلك ليحتاجوا إلى تعريفهم بها ، وليس سببه عدم فهمهم لمدلول تلك الروايات كي يعرّفوا بمدلولاتها ، وإنّما الدافع لهم إلى ذلك ما يقصدون من تبرير موقف الخلفاء من هذا الحكم الشرعي وفي سبيل ذلك جاهدوا على مرّ القرون ، فمنهم من وضع الأحاديث احتسابا للخير ، ومنهم من التمس للخلفاء أعذارا مثل البيهقي الّذي قال : «أراد عمر (رض) بالّذي أمر به من ترك التّمتّع بالعمرة إلى الحجّ تمام العمرة التي أمر الله عزوجل بها ، وأراد عمر (رض) أن يزار البيت في كلّ عام مرّتين وكره أن يتمتّع الناس بالعمرة إلى الحجّ فيلزم ذلك الناس فلا يأتوا البيت إلّا مرّة واحدة في السنة.».

ودافع عن غيره من الخلفاء بقوله : «اتبعوا ما أمر به عمر بن الخطّاب (رض) في ذلك احتسابا للخير» (١).

وبعض العلماء خلطوا في هذا السبيل بين الحق والباطل ولم يميّزوا الزائف من الصحيح ، وبعضهم ناقض نفسه ، وآخرون اجتهدوا فاستنبطوا من سيرة الخلفاء أحكاما لم يقم عليها دليل من كتاب ولا سنّة ويصيب الباحث الدوار إذا أراد أن يتابعهم في ما ذكروا في هذا الباب ، ولا يحصل منهم على رأي ثابت أو مصيب وللتدليل على ما قلنا نضيف إلى ما أوردناه الى هنا بعض ما أورده النووي في شرح مسلم باختصار ، قال :

اختلف العلماء في هذه الأنواع الثلاثة أيّها أفضل فقال الشافعي ومالك وكثيرون : أفضلها الأفراد ثمّ التمتّع ثم القران وقال أحمد وآخرون : أفضلها التّمتّع وقال أبو حنيفة وآخرون : أفضلها القران ، وهذان المذهبان قولان آخران للشافعي (٢) والصحيح

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي ٥ / ٢١.

(٢) ان اختلاف أقوال الشافعي يدل على تحيره في الحكم الشرعي!

٢٣٨

تفضيل الإفراد ثمّ التّمتّع ثمّ القران ، وأمّا حجّة النبي (ص) فاختلفوا فيها هل كان مفردا أم متمتّعا أم قارنا وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة وكلّ طائفة رجّحت نوعا وادّعت أنّ حجّة النبيّ (ص) كانت كذلك.

إلى قوله : ومن دلائل ترجيح الإفراد أنّ الخلفاء الراشدين (رض) بعد النبي (ص) أفردوا الحجّ (١) وواظبوا على إفراده ، كذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان (رض) واختلف فعل علي (رض) (٢) ، ولو لم يكن الإفراد أفضل وعلموا أنّ النبيّ (ص) حجّ مفردا لم يواظبوا عليه مع أنّهم الأئمّة الأعلام وقادة الإسلام ويقتدي بهم في عصرهم وبعدهم ، وكيف يليق بهم المواظبة على خلاف فعل رسول الله (ص) وأمّا الخلاف عن علي (رض) وغيره فإنّما فعلوه لبيان الجواز (٣). وقد ثبت في الصحيح ما يوضح ذلك ، ومنها ـ أي من دلائل ترجيح الإفراد ـ أنّ الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع وذلك لكماله ويجب الدم في المتمتّع والقران وهو دم جبران لفوات الميقات وغيره فكان ما لا يحتاج إلى جبر أفضل.

ومنها أنّ الأمّة أجمعت على جواز الإفراد من غير كراهة (٤) ، وكره عمر وعثمان وغيرهما التّمتّع والقران فكان الإفراد أفضل والله أعلم. فإن قيل : كيف وقع الاختلاف بين الصحابة (رض) في صفة حجّته (ص) وهي حجّة واحدة ، وكلّ واحد منهم يخبر عن مشاهدة في قضيّة واحدة؟ (٥)

قال القاضي عياض : قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث فمن مجيد منصف ، ومن مقصّر متكلّف ، ومن مطيل مكثر ومن مقتصر مختصر قال : وأوسعهم في

__________________

(١) الواقع الحقّ أن العلماء استندوا إلى فعل الخلفاء المذكور وأوّلوا ما خالفه من نص الكتاب وفعل الرسول وقوله ـ السنّة ـ تبريرا منهم لفعل الخلفاء كما أشرنا إليه.

(٢) إن كان قصده من اختلاف فعل الإمام عليّ ، اختلاف فعله مع أفعال الخلفاء في هذا المقام كما يظهر ذلك من قوله في ما يأتي فهو صحيح. وإن كان قصده أن الإمام اختلفت أفعاله بعضه مع بعض فهو كذب وافتراء على الإمام.

(٣) قد صرح الإمام أنّه خالفهم لإحياء سنة الرسول التي منعوا أقامتها راجع قبله على عهد عثمان.

(٤) وقد خالف أبناء الأمّة هؤلاء ، رسول الله حيث غضب في حجّة الوداع على من تردد في فسخ الإفراد الى التمتع وخالفهم أئمة أهل البيت تبعا لرسول الله وخالفهم أتباع مدرسة أهل البيت وغير هؤلاء ممن رضي بسنة الرسول إذا فالامة لم تجمع على ذلك.

(٥) إنما نشأ هذا الاختلاف بعد مخالفة الخلفاء لسنة الرسول حيث روى بعضهم أحاديث خلافا للواقع تبريرا لعمل الخلفاء.

٢٣٩

ذلك نفسا أبو جعفر الطّحاوي الحنفي فإنّه تكلّم في ذلك في زيادة على ألف ورقة ، وتكلّم معه في ذلك أبو جعفر الطبري ، ثمّ أبو عبد الله بن أبي صفرة ، ثمّ المهلّب ، والقاضي أبو عبد الله المرابط ، والقاضي أبو الحسن بن القصّار البغدادي ، والحافظ أبو عمر بن عبد البرّ وغيرهم (١).

قال القاضي عياض : وأولى ما يقال في هذا على ما فحصناه من كلامهم واخترناه من اختياراتهم ممّا هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث أنّ النبيّ (ص) أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة ليدلّ على جواز جميعها ، ولو أمر بواحد لكان غيره يظنّ أنّه لا يجزي فأضيف الجميع إليه وأخبر كلّ واحد بما أمره به وأباحه له ونسبه إلى النبيّ (ص) إمّا لأمره به وإمّا لتأويله عليه ... (٢)

وقال النووي في مكان آخر من شرحه : «قال المازري : اختلف في المتعة التي نهى عنها عمر في الحجّ ، فقيل : هي فسخ الحجّ إلى العمرة ، وقيل : هي العمرة في أشهر الحجّ ثمّ الحجّ من عامه ، وعلى هذا إنّما نهى عنها ترغيبا (٣) في الإفراد الذي هو أفضل لا أنّه يعتقد بطلانها أو تحريمها.

وقال القاضي عياض : ظاهر حديث جابر وعمران وأبي موسى إنّ المتعة التي اختلفوا فيها إنّما هي فسخ الحجّ إلى العمرة ، قال : ولهذا كان عمر (رض) يضرب الناس عليها ولا يضربهم على مجرّد التمتّع في أشهر الحجّ وإنّما ضربهم على ما اعتقده هو وسائر الصحابة أنّ فسخ الحجّ إلى العمرة كان مخصوصا في تلك السنة للحكمة التي قدّمنا ذكرها. قال ابن عبد البرّ : لا خلاف بين العلماء في أنّ التمتّع المراد بقول الله تعالى

__________________

(١) وتبعهم في الكتابة ابن قيم الجوزية في زاد المعاد وفي الموضوع حقّه ، وكتب فيه أيضا ابن حزم وكتبنا فيه هذا البحث. كتبت في هذا الموضوع طوال القرون آلاف الأوراق ولو اكتفى المسلمون بصريح الكتاب والسنة لكفتهم وريقة صغيرة.

(٢) لا ، والذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ إن الرسول لم يأمر في حجة الوداع إلا بحج التمتع ومنع من غيره ، ولم يظن أحد في عصره ولا من بعده أن الرسول أمر بغير حج التمتع ، وإن كل هذه الأقوال قيلت في سبيل تبرير فعل الخليفة مع علم القائلين ببطلان أقوالهم.

إلى هنا أوردنا في المتن ملخصا من باب «بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع ...» من شرح النووي ج ٨ / ١٣٤ ـ ١٣٧.

(٣) إن الخليفة عمر (رض) نهى عن حج التمتع وعاقب على فعله وأمر بالإفراد في الحج والعمرة كما صرحت بذلك الروايات التي أوردناها في ما سبق ، وإنما قال العلماء هذه الأقوال التماسا لما يعذرون به الخليفة.

٢٤٠