معالم المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٠٤

وأجمع المفسّرون وغيرهم من العلماء على ذلك ولا خلاف فيه ومن العجيب أن يختم الله هذه الآية بإعلام أنّ الله شديد العقاب.

شرّع الله متعة الحجّ في هذه الآية بكل صراحة وسنّه رسوله في حجّة الوداع كما تواتر الخبر عن ذلك في ما روي عن رسول الله في صحاح الأحاديث مثل ما ورد في الروايات الآتية :

متعة الحج في السنة

بما أنّ العمرة في أشهر الحجّ كانت لدى قريش في الجاهلية من أفجر الفجور فقد تدرّج الرسول في تبليغ حكم عمرة التمتع كما يظهر من الروايات التالية.

في صحيح البخاري وسنن أبي داود وابن ماجة والبيهقي ، واللفظ للأوّل ، في كتاب الحجّ باب قول النبيّ «العقيق واد مبارك» عن عمر بن الخطّاب ، قال : سمعت رسول الله بوادي العقيق يقول : «أتاني آت من ربّي فقال : صلّ في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجّة».

وفي رواية أخرى : «وقل عمرة وحجّة».

وفي لفظ سنن البيهقي : «أتاني جبرئيل (ع)» وفي آخر الرواية : «فقد دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة».

العقيق ، في معجم البلدان : العقيق الّذي جاء فيه إنّك بواد مبارك هو الّذي ببطن وادي ذي الحليفة. وهو الذي جاء فيه أنّه مهلّ أهل العراق من ذات عرق.

وقال ابن حجر في شرح الحديث بفتح الباري : بينه وبين المدينة أربعة أميال (١).

أخبر رسول الله (ص) عمر بنزول الوحي عليه بأن يجمع بين العمرة والحجّ وفي تبليغه خاصّة حكمة نعرفها ممّا جرى على عهده في شأن العمرة.

__________________

ـ لابن القيم ١ / ٢٥٢ ، وطبقات ابن سعد ط. اوربا ٤ / ق ٢ / ٢٨.

(١) صحيح البخاري ج ١ / ١٨٦ والرواية الثانية في باب ما ذكر النبي وحض على اتفاق أهل العلم من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ٤ / ١٧٧ ، وسنن أبي داود المناسك ٢ / ١٥٩ ، وابن ماجة الحديث ٢٩٧٦ ص ٩٩١ باب التمتع بالعمرة إلى الحج ، وسنن البيهقي ٥ / ١٣ ـ ١٤ ، وفتح الباري ٤ / ١٣٥ ، وتاريخ ابن كثير ٥ / ١١٧ و ١٢٨ و ١٣٦.

٢٠١

في وادي عقيق أخبر عمر بنزول الوحي ، عليه وفي منزل عسفان أخبر سراقة بذلك في جواب سؤاله كما رواه أبو داود قال :

حتى إذا كان ـ رسول الله (ص) ـ بعسفان قال له سراقة بن مالك المدلجي : يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كانما ولدوا اليوم ، فقال : «إن الله تعالى قد أدخل عليكم في حجّكم هذا عمرة ، فإذا قدمتم فمن تطوّف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حلّ إلّا من كان معه هدي» (١).

عسفان بين الجحفة ومكّة والجحفة تبعد عن مكة أربع مراحل.

وفي سرف الّتي تبعد ستة أميال أو أكثر من مكة بلّغ عامّة أصحابه أنّ من أحبّ أن يجعلها عمرة فليفعل ، كما روته عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله في أشهر الحجّ وليالى الحجّ وحرم الحجّ فنزلنا بسرف ، قالت : فخرج إلى اصحابه فقال : «من لم يكن معه هدي فأحبّ أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه الهدي فلا» قالت : فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه (٢).

يظهر ممّا سبق أن التاركين لها كانوا من مهاجرة قريش الذين كانوا يرون في الجاهلية أنّ العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور.

وكرّر التبليغ بذلك بعد نزولهم بطحاء مكّة حسب ما رواه ابن عبّاس قال :

قدم لأربع مضين من ذي الحجّة فصلّى بنا الصبح بالبطحاء ثمّ قال : «من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها» (٣).

هكذا تدرّج الرسول في تبليغ هذا الحكم حتى إذا ما أتمّوا الطواف والسعي ، نزل

__________________

(١) سنن أبي داود ج ١ / ١٥٩ باب في الإقران ، الحديث ١٨٠١ من المناسك ، والمنتقى لابن تيمية ، باب ما جاء في فسخ الحجّ الى العمرة ، الحديث ٢٤٢٧.

وسراقة بن مالك بن جعشم أبو سفيان الكناني المدلجي. كان يسكن قديدا بالقرب من مكّة ، وهو الذي تبع الرسول حين هاجر إلى المدينة ليرده إلى قريش فيأخذ الجعالة مائة ناقة فساخت قوائم فرسه ، أسلم عام الفتح مات سنة أربع وعشرين روى عنه غير مسلم من أصحاب الصحاح تسعة عشر حديثا. تقريب التهذيب ١ / ٢٨٤ ، وجوامع السيرة ص ٢٨٣. وسيرة ابن هشام ٢ / ١٠٣ و ٢٥٠ و ٣٠٩.

(٢) صحيح البخاري ١ / ١٨٩ باب قوله تعالى الحجّ أشهر معلومات ، وصحيح مسلم ص ٨٧٥ الحديث ١٢٣ و ١٢١ بإيجاز ، وكذلك بسنن البيهقي ٤ / ٣٥٦ باب المفرد أو القارن يريد العمرة ... ، ومصنف ابن أبي شيبة ٤ / ١٠٢.

(٣) سنن البيهقي ٥ / ٤.

٢٠٢

عليه القضاء في ذلك فأمرهم جميعا بذلك ، كما رواه البيهقي قال :

... نزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة فامر أصحابه من كان منهم اهلّ بالحجّ ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة وقال : «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولكنّي لبّدت رأسي وسقت هديي فليس لي محلّ إلّا محلّ هديي» فقام إليه سراقة بن مالك (رض) فقال : يا رسول الله! اقض لنا قضاء قوم كأنّما ولدوا اليوم أعمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال رسول الله (ص) : بل للأبد دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة ... (١).

* * *

في الأحاديث السابقة قال رسول الله (ص) لعمر : أمرني ربّي أن أقول «عمرة في حجّة» أو «عمرة وحجّة» أي أن أنوي في سفرى هذا الجمع بين الحجّ والعمرة.

وقال في جواب سراقة بعسفان : إنّ الله قد أدخل في حجّكم هذا عمرة ، خصّ التبليغ في حجّهم ذاك.

ثمّ بلّغ عامّة الحاجّ معه بسرف بلفظ من أحبّ أن يجعلها عمرة وفي بطحاء مكة بلفظ من شاء أن يجعلها ، حتى إذا حان وقت الأداء والإحلال من العمرة بلّغهم كافّة أنّ العمرة دخلت في الحجّ للأبد.

وقول سراقة في الحرّتين (قضاء قوم كأنّما ولدوا اليوم) يقصد بغضّ النظر عمّا كانت عليه قريش في الجاهلية. وهاهنا تواترت الروايات بما فعله الرسول وكيف بلّغ حكم التمتّع بالعمرة إلى الحجّ كما يأتي :

قال أنس كما في مسند أحمد والمنتقى : خرجنا نصرخ بالحجّ فلمّا قدمنا مكّة أمرنا رسول الله أن نجعلها عمرة وقال «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة ولكنّي سقت الهدي وقرنت بين الحجّ والعمرة» (٢).

وقال أبو سعيد الخدري كما في صحيح مسلم ومسند أحمد : خرجنا مع رسول الله نصرخ بالحجّ صراخا فلمّا قدمنا مكّة أمرنا أن نجعلها عمرة إلّا من ساق الهدي فلمّا

__________________

(١) سنن البيهقي ٥ / ٦ وتلبيد الشعر أن يجعل فيه شيئا من صمغ عند الإحرام لئلا يشعث ويقمل إبقاء على الشعر وإنما يلبد من يطول مكثه في الإحرام ، نهاية اللغة.

(٢) المنتقى ، الحديث : ٢٣٩٣ ، نقله عن مسند أحمد ٣ / ٢٦٦.

٢٠٣

كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحجّ (١).

وفي زاد المعاد لابن القيم قال : وفي الصحيحين عن عائشة : (خرجنا مع رسول الله لا نذكر إلا الحجّ). فذكرت الحديث وفيه (فلمّا قدمنا مكّة قال النبي (ص) لأصحابه اجعلوها عمرة فأحلّ الناس إلّا من كان معه الهدي ... (أ).

قال : وفي لفظ البخاري : خرجنا مع رسول الله (ص) ولا نرى إلّا الحجّ فلمّا قدمنا تطوّفنا بالبيت فأمر النبيّ (ص) من لم يكن ساق الهدي أن يحلّ فحلّ من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن فاحللن (ب).

قال وفي صحيح مسلم عن ابن عمر عن حفصة زوج النبي قال : حدّثتني انّ النبيّ أمر أزواجه أن يحللن عام حجّة الوداع. فقلت ما منعك أن تحلّ؟ فقال : «إنّي لبّدت رأسي وقلّدت بدني فلا أحلّ حتى أنحر الهدي (ج).

قال وفي صحيح البخاري عن ابن عبّاس (رض) : أهلّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي في حجة الوداع وأهللنا فلمّا قدمنا مكّة أمرنا أن نجعلها عمرة قال رسول الله (ص) «اجعلوا إهلالكم بالحجّ عمرة إلّا من قلّد الهدي ...» الحديث (د).

وأتمّ ما ورد في هذا الباب رواية جابر بن عبد الله الأنصاري في كيفية حجّة النبي والّتي أخرجها أصحاب الصحاح ونحن نورد ملخّصها هاهنا عن صحيح مسلم.

روى مسلم في صحيحه في باب حجّة النبي عن جابر أنّه قال ما ملخّصه : انّ رسول الله (ص) مكث تسع سنين لم يحجّ ، ثمّ أذّن في العاشرة أنّ رسول الله حاجّ فقدم المدينة بشر كثير كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله ويعمل مثل عمله ، فخرجنا معه حتّى أتينا ذا الحليفة فصلّى رسول الله في المسجد ثمّ ركب القصواء ـ ناقته ـ حتّى إذا

__________________

(١) صحيح مسلم ، الحديث ٢١١ ، وفي ٢١٢ عنه ، وعن جابر ص ٩١٤ ، ومسند أحمد ج ٣ / ٣ و ٥ و ٧١ و ٧٥ و ١٤٨ و ٢٦٦ ، والمنتقى ، الحديث ٢٤١٨ واللفظ للأول.

أ) هذا الحديث وثلاثة بعده أخرجها ابن القيم في زاد المعاد بفصل (في إحلال من لم يكن ساق الهدى ١ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧) ونحن نبين مواضعها.

الحديث (أ) بصحيح مسلم الحديث ١٢٠ ص ٨٧٣ و ٨٧٤ ، وابن ماجة الحديث ٢٩٨١.

ب) صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج ، الحديث الأوّل ١ / ١٨٩ ، وصحيح مسلم الحديث ١٢٨ ص ٨٧٧ وسنن أبي داود ٢ / ١٥٤ باب في إفراد الحج ، الحديث ١٧٨٣ وليس في لفظه : ونساؤه ...

ج) صحيح مسلم ، الحديث ١٧٧ ـ ١٧٩ ص ٩٠٢ ـ وسنن أبي داود ٢ / ١٦١ الحديث ١٨٠٦.

د) صحيح البخاري ج ١ / ١٩١ كتاب الحج باب ٣٦.

٢٠٤

استوت به ناقته على البيداء نظرت مدّ بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به ، فأهلّ بالتوحيد ...

إلى قوله : لسنا ننوي إلّا الحجّ لسنا نعرف العمرة ، حتّى إذا أتينا البيت معه استلم الركن ...

وهكذا وصف جابر ما عمل به رسول الله إلى قوله : حتّى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال «لو أنّي استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلّ وليجعلها عمرة».

قال جابر : فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبّك رسول الله (ص) أصابعه واحدة في الأخرى وقال : «دخلت العمرة في الحجّ» مرّتين. «لا ، بل لأبد أبد» (١).

وفي البخاري : قال سراقة : ألنا هذا خاصة قال : «لا بد للأبد» (٢).

كيف تلقى الصحابة حكم التمتع بالعمرة

ذكرنا في ما سبق كيف تدرّج النبي (ص) في تبليغهم تشريع التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ، وفي ما يلي نذكر كيف تلقّته الصحابة يوم ذاك :

في صحيح مسلم عن ابن عبّاس قال : قدم النبيّ (ص) وأصحابه لأربع خلون من العشر ـ أي من العشرة الأولى من ذي الحجّة ـ وهم يلبّون بالحجّ فأمرهم أن يجعلوها عمرة.

وفي رواية اخرى بعده : أن يحوّلوا إحرامهم بعمرة إلّا من كان معه الهدي (٣).

__________________

(١) صحيح مسلم باب حجّة النبي ، الحديث ١٤٧ ص ٨٨٦ ـ ٨٨٨ ، وسنن أبي داود ، المناسك ج ٢ / ١٨٢ ، وسنن ابن ماجة ، المناسك ص ١٠٢٢ ، وسنن الدارمي المناسك باب في سنة الحاج ٢ / ٤٤ ، ومسند أحمد ٣ / ٣٢ ، وسنن البيهقي ٥ / ٧ باب ما يدل على أنّ النبي (ص) أحرم إحراما واحدا ، ومنحة المعبود الحديث ٩٩١ وفي المحلى : لأبد أبد قيل : بإضافة الأول للثاني أي لآخر الدهر ، ٧ / ١٠٠.

(٢) صحيح البخاري كتاب التمنى باب قول النبي لو استقبلت من أمري ما استدبرت ٤ / ١٦٦.

(٣) صحيح مسلم ، الحديث ٢٠١ ـ ٢٠٣ من باب جواز العمرة في أشهر الحج ص ٩١١ ، وفي سنن أبي داود ٢ / ١٥٦ ، الحديث ١٧٩١ عن ابن عباس : أن النبي قال : «اذا أهل الرجل بالحج ثم قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حلّ ، وهي عمرة» ...

٢٠٥

وفي ثالثة : قدم النبي وأصحابه صبيحة رابعة مهلّين بالحجّ فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله! أيّ الحلّ؟! قال : «الحلّ كلّه» (١).

وفي رابعة : قال رسول الله (ص) : «هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن عنده الهدي فليحلّ الحلّ كلّه فإنّ العمرة قد دخلت في الحجّ إلى يوم القيامة» (٢).

وفي رواية أخرى بصحيحي البخاري ومسلم عن جابر : انّه حجّ مع رسول الله عام ساق معه الهدي وقد أهلّوا بالحجّ مفردا ، فقال رسول الله (ص) : «أحلّوا من إحرامكم فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصّروا وأقيموا حلالا حتّى إذا كان يوم التروية فأهلّوا بالحجّ واجعلوا الّتي قدمتم متعة» ـ أي عمرة التمتّع ـ قالوا : كيف نجعلها متعة وقد سمّينا الحجّ؟! قال «افعلوا ما آمركم به فإنّي لو لا أنّي سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به ولكن لا يحلّ منّي حرام حتى يبلغ الهدي محلّه» (٣).

وفي رواية ثانية لجابر بصحيح البخاري وسنن أبي داود ومسند أحمد وغيرها واللفظ للأوّل ، قال : فقالوا : ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر؟ ... الحديث (٤).

وفي ثالثة بصحيحي البخاري ومسلم وسنن ابن ماجة وأبي داود ومسند أحمد واللفظ للأوّل : عن عطاء ، قال : سمعت جابر بن عبد الله في أناس معه ، قال : أهللنا أصحاب رسول الله (ص) في الحجّ خالصا ليس معه عمرة ، قال : فقدم النبيّ (ص) صبح رابعة مضت من ذي الحجّة فلمّا قدمنا أمرنا النبي أن نحلّ وقال : أحلّوا وأصيبوا من النساء ، قال : ولم يعزم عليهم ولكن أحلّهنّ لهم فبلغه أنّا نقول : لمّا لم يكن بيننا وبين عرفة إلّا خمس أمرنا أن نحلّ إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا! قال : فقام رسول الله (ص) فقال «قد علمتم أنّي أتقاكم لله وأصدقكم وأبرّكم ، ولو لا هديي لحللت كما

__________________

(١) صحيح مسلم ، الحديث ١٩٨ ص ٩٠٩ باب جواز العمرة ، وصحيح البخاري ١ / ١٩١ وهذه الروايات الثلاث في زاد المعاد لابن القيم ١ / ٢٤٦.

(٢) صحيح مسلم ص ٩١١ باب جواز العمرة في أشهر الحج ، الحديث ٢٠١ ـ ٢٠٣ ، وسنن أبي داود ٢ / ١٥٦ ، والبيهقي ٥ / ١٨ ، والحديث ٢٤٢٣ من المنتقى ، والمصنف لابن أبي شبية ٤ / ٢٠٢.

(٣) صحيح البخاري ١ / ١٩٠ باب التمتع والإقران والإفراد بالحج ... ، وصحيح مسلم ص ٨٨٤ ـ ٨٨٥ باب بيان وجوه الإحرام ... الحديث ١٤٣ ، وزاد المعاد ١ / ٢٤٨ فصل في إهلاله بالحجّ.

(٤) صحيح البخاري ١ / ٢١٣ ، و ٤ / ١٦٦ كتاب التمني باب لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، وسنن أبي داود ٢ / ١٥٦ باب إفراد الحج ، الحديث ١٧٨٩ باختلاف يسير ، ومسند أحمد ٣ / ٣٠٥ ، وسنن البيهقي ٥ / ٣ باب من اختار الأفراد ... ، وج ٤ / ٣٣٨ منه ، وزاد المعاد ١ / ٢٤٦ فصل في إحلال من لم يكن ساق الهدي.

٢٠٦

تحلّون فحلّوا فلو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ... الحديث (١).

وفي رابعة بصحيح البخاري : قال : قدم رسول الله (ص) صبيحة رابعة من ذي الحجّة مهلّين بالحجّ لا يخلطهم شيء ، فلمّا قدمنا أمرنا فجعلناها عمرة وأن نحلّ إلى نسائنا ، ففشت في ذلك القالة.

إلى قوله : فبلغ ذلك النبيّ (ص) فقام خطيبا ، فقال : «بلغني أنّ أقواما يقولون : كذا وكذا والله لأنا أبرّ واتقى لله منهم ...» الحديث (٢).

وفي رواية الصحابي البراء بن عازب بسنن ابن ماجة ومسند أحمد ومجمع الزوائد ـ واللفظ للأوّل ـ قال : خرج رسول الله (ص) وأصحابه فأحرمنا بالحجّ فلمّا قدمنا مكّة ، قال : «اجعلوا حجّكم عمرة» فقال الناس : يا رسول الله! قد أحرمنا بالحجّ فكيف نجعلها عمرة؟! قال : «انظروا ما آمركم به فافعلوا» فردّوا عليه القول ، فغضب فانطلق ثمّ دخل على عائشة غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت : من أغضبك أغضبه الله! قال : «ما لي لا أغضب وأنا آمر أمرا فلا أتّبع» (٣).

وقد حدّثت عائشة عن هذا ـ كما في صحيح مسلم وغيره واللفظ لمسلم عن عائشة ـ وقالت : قدم رسول الله لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس فدخل عليّ وهو غضبان ، فقلت : من اغضبك يا رسول الله أدخله الله النار قال : «ا وما شعرت انّي أمرت الناس بأمر فإذا هم يتردّدون» (٤).

وفي رواية ابن عمر ذكر ما قالوه ، قال : قالوا : يا رسول الله أيروح إلى منى وذكره يقطر منيّا؟! قال : «نعم». وسطعت المجامر (٥).

__________________

(١) فتح الباري ١٧ / ١٠٨ ـ ١٠٩ باب نهى النبي على التحريم من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، وصحيح مسلم ص ٨٨٣ باب وجوه الإحرام ، الحديث ١٤١ ، وسنن أبي داود ، باب إفراد الحج ، وابن ماجة باب التمتع بالعمرة ، والبيهقي ٤ / ٣٣٨ ، وج ٥ / ١٩ ، وزاد المعاد ٣ / ٢٤٦ ، ومسند أحمد ٣ / ٣٥٦.

(٢) البخاري ٢ / ٥٢ كتاب الشركة ، باب الاشتراك في الهدي ، وسنن ابن ماجة ١ / ٩٩٢ الحديث ٢٩٨.

(٣) سنن ابن ماجة ص ٩٩٣ باب فسخ الحج ، ومسند أحمد ٤ / ٢٨٦ ، ومجمع الزوائد ٣ / ٢٣٣ باب فسخ الحج الى العمرة ، وزاد المعاد ١ / ٢٤٧ ، والمنتقى ، باب ما جاء في فسخ الحج إلى العمرة الحديث ٢٤٢٨.

(٤) صحيح مسلم ، ص ٨٧٩ باب بيان وجوه الإحرام ، وأنه يجوز إفراد الحج ... الحديث ١٣٠ ، وزاد المعاد ١ / ٢٤٧ ، وسنن البيهقي ٥ / ١٩ باب من اختار التمتع بالعمرة إلى الحج ، ومنحة المعبود ح ١٠٥١.

(٥) صحيح مسلم ص ٨٨٤ باب بيان وجوه الإحرام ، الحديث ١٤٢ ، وقريب منه لفظ زاد المعاد ١ / ٢٤٨ فصل في إهلاله (ص) بالحج ، وسنن البيهقي ٤ / ٣٥٦ ، و ٥ / ٤ ، والمنتقى الحديث ٢٤٢٦ ، ومجمع الزوائد ٣ / ٢٣٣.

٢٠٧

سطعت المجامر أي سطعت رائحة المسك من المجامر وفي الجملة كناية عن مباشرة الرجال للنساء بعد تهيئهنّ لذلك.

وفي رواية جابر بصحيح مسلم قال : أهللنا مع رسول الله بالحجّ فلمّا قدمنا مكّة أمرنا أن نحلّ ونجعلها عمرة فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا فبلغ ذلك النبي فما ندري أشيء بلغه من السماء أم شيء من قبل الناس ، فقال : «أيّها الناس أحلّوا فلو لا الهدي الذي معي فعلت كما فعلتم» قال : فأحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا ما يفعل الحلال ، حتّى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكّة بظهر أهللنا بالحجّ (١).

وفي رواية أخرى قال : قلنا : أيّ الحلّ؟ قال : «الحلّ كلّه» ، قال : فأتينا النساء ومسسنا الطيب ، فلمّا كان يوم التروية أهللنا بالحجّ (٢).

* * *

هكذا قبلوا أن يجمعوا بين الحجّ والعمرة في أشهر الحجّ ويتمتعوا بالحلّ بينهما بكلّ صعوبة لأنّه كان يخالف ما دأبوا عليه في العصر الجاهلي ، وبما أنّ أم المؤمنين عائشة حرمت من العمرة قبل الحجّ لمّا حاضت ، فقد دعا النبي أن تعتمر بعد الحجّ. كما صرّحت به الروايات الآتية :

عائشة فاتتها العمرة قبل الحج فأمرها النبيّ أن تعتمر بعده

في صحيح مسلم عن عائشة ، قالت : خرجنا مع النبيّ ولا نرى إلا الحجّ حتّى إذا كنّا بسرف أو قريبا منه حضت ، فدخل عليّ النبيّ وأنا أبكي فقال : «أنفست؟» (يعني الحيضة ، قالت) قلت : نعم. قال «انّ هذا شيء كتبه الله على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاجّ غير أن لا تطوفي بالبيت حتّى تغتسلي» (٣).

وفي رواية قبلها : فلمّا قضينا الحجّ أرسلني رسول الله مع عبد الرحمن بن أبي بكر

__________________

(١) صحيح مسلم ص ٨٨٢ الحديث ١٣٨ ، والمنتقى ، الحديث ٢٤٠٠ و ٢٤١٥ باب إدخال الحجّ على العمرة.

(٢) زاد المعاد ١ / ٢٤٦.

(٣) «سرف» بين مكّة والمدينة وعلى أميال من مكّة. والحديث ١١٩ بباب «بيان وجوه الإحرام» من صحيح مسلم ، ص ٨٧٣ ، وفي سنن أبي داود ٢ / ١٥٤ مع اختلاف يسير ، وكذلك في ابن ماجة ، الحديث ٢٩٦٣.

٢٠٨

إلى التنعيم فاعتمرت فقال «هذه مكان عمرتك» (١).

وفي رواية أخرى بصحيح مسلم وسنن أبي داود ، أتم ممّا مضى : قالت : خرجنا مع رسول الله في حجّة الوداع فأهللنا بعمرة ، ثمّ قال رسول الله (ص) «من كان معه هدي فليهلّ بالحجّ مع العمرة ، ثمّ لا يحلّ حتّى يحلّ منهما جميعا» فقدمت مكّة وأنا حائض ، ولم أطف بالبيت ، ولا بين الصفا والمروة ، فشكوت ذلك إلى رسول الله (ص) فقال «انقضي رأسك وامتشطي وأهلّي بالحجّ ودعي العمرة» قالت : ففعلت ، فلمّا قضينا الحجّ أرسلنى رسول الله (ص) مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم ، فاعتمرت ، فقال : «هذه مكان عمرتك» قالت : فطاف الّذين أهلّوا بالعمرة بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم حلّوا ، ثمّ طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجّهم ... الحديث (٢).

وفي رواية أخرى قالت : فأردفني خلفه على جمل له فجعلت أرفع خماري أحسره عن عنقي فيضرب رجلي بعلّة الراحلة. قلت : وهل ترى من أحد. قالت : فأهللت بعمرة. ثمّ أقبلنا حتّى انتهينا إلى رسول الله وهو بالحصبة (٣).

وفي صحيح البخاري عن عائشة أنّها قالت : يا رسول الله! اعتمرتم ولم أعتمر. فقال : يا عبد الرحمن اذهب بأختك فأعمرها من التنعيم. فأحقبها على ناقة فاعتمرت (٤).

وفي سنن أبي داود والبيهقي واللفظ للأوّل عن ابن عبّاس ، قال : ما أعمر رسول الله (ص) عائشة ليلة الحصبة إلّا قطعا لأمر أهل الشرك فإنّهم كانوا يقولون : إذا برأ الدّبر وعفا الأثر ودخل صفر فقد حلّت العمرة لمن اعتمر.

ولفظ البيهقي : قال : ما أعمر رسول الله (ص) عائشة في ذي الحجة إلّا ليقطع

__________________

(١) «التنعيم» موضع على ثلاثة أميال أو أربعة من مكّة. أقرب أطراف الحل إلى البيت. سمّي بالتنعيم لأن على يمينه جبل نعيم ، وعلى يساره جبل ناعم.

والحديث في باب «بيان وجوه الإحرام» من صحيح مسلم ص ٨٧٠ الحديث ١١١ ، وأورد أحاديث الباب ابن كثير في تاريخه ٥ / ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٢) سنن أبي داود ج ٢ / ١٥٣ باب في إفراد الحج ، الحديث ١٧٨١ ، ومنحة المعبود الحديث ٩٩٠ صحيح مسلم ، باب بيان وجوه الإحرام ، الحديث ١١١ ص ٨٧٠.

(٣) الحديث ١٣٤ من باب «بيان وجوه الإحرام» بصحيح مسلم ، ص ٨٨٠ ، الخمار : ثوب تغطى به المرأة رأسها و «احسره» أي اكشفه وأزيله و «يضرب رجلي بعلة الراحلة» أي يضرب رجلها بعود بيده حين تكشف خمارها غيرة عليها و «الحصبة» المحصب وهو موضع رمي الجمار بمنى.

(٤) صحيح البخاري ٢ / ١٨٤.

٢٠٩

بذلك أمر أهل الشرك ، فإنّ هذا الحيّ من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون : إذا عفا الأثر وبرأ الدبر ودخل صفر حلّت العمرة لمن اعتمر وكانوا يحرّمون العمرة حتّى ينسلخ ذو الحجّة ومحرّم.

وفي لفظ الطّحاوي : والله ما أعمر رسول الله (ص) عائشة في ذي الحجّة إلّا ليقطع بذلك أمر الجاهليّة (١).

* * *

وقع كلّ ما ذكرنا من أمر التمتع بالعمرة إلى الحجّ في حجّة الوداع وفي آخر سنة من حياة النبيّ ، ويبدو أنّ الممتنعين من التمتّع بالعمرة إلى الحجّ الّذين تعاظم عليهم ذلك كانوا من مهاجرة قريش من أصحاب النبي ويدلّ على ذلك :

أوّلا : ما رواه ابن عبّاس في حديثه «أن هذا الحيّ من قريش ومن دان دينهم كانوا يحرّمون العمرة حتّى ينسلخ ذو الحجّة ومحرّم» (٢).

ثانيا : إنّ الّذين منعوه بعد رسول الله ـ أيضا ـ هم ولاة المسلمين من قريش كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

وكانوا يقصدون من وراء ذلك احترام الحجّ على حدّ زعمهم وأن يأتي الناس إلى مكّة مرّتين : مرّة للحجّ ومرّة للعمرة لما فيه ربيع قريش من سكّان مكّة كما يفهم هذا من حديث للخليفة عمر حين نهى عن التمتع بالعمرة (٣).

على عهد أبي بكر

حرّمت قريش في العصر الجاهلي الجمع بين الحجّ والعمرة في أشهر الحجّ ورأته من أفجر الفجور ، وشرّعه الإسلام وسنّه الرسول فلم ير من ولي من قريش بعد الرسول العمل بذلك ، فأفردوا الحجّ عن العمرة وأوّل من ذكروا أنّه أفرد الحجّ هو الخليفة القرشيّ أبو بكر حسب ما روى البيهقي في سننه عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال :

__________________

(١) سنن أبي داود ، باب العمرة ٢ / ٢٠٤ ، ومسند أحمد ١ / ١٦١ الحديث ٢٣٦١ ، والسنن الكبرى للبيهقي ٤ / ٣٤٥ باب العمرة في أشهر الحج ، وراجع مشكل الآثار للطحاوي ج ٣ / ١٥٥ و ١٥٦.

(٢) راجع قبله حديث البيهقي في فصل : عائشة فاتتها العمرة.

(٣) راجع في ما يأتي رواية كنز العمال وحلية الأولياء في باب : على عهد عمر.

٢١٠

حججت مع أبي بكر (رض) فجرّد ، ومع عمر (رض) فجرّد ، ومع عثمان (رض) فجرّد (١).

جرّد : أي أفرد الحجّ.

على عهد الخليفة عمر

كان أوّل من أفرد الحجّ بعد الرسول الخليفة القرشي أبو بكر وكذلك كان أوّل من نهى المسلمين عن عمرة التّمتّع بعد الرسول ، الخليفة القرشيّ عمر ، كما دلّت عليه الروايات الآتية :

في صحيح مسلم ومسند الطيالسي وسنن البيهقي وغيرها ، واللفظ للأوّل ، عن جابر ، قال : تمتّعنا مع رسول الله (ص) فلمّا قام عمر قال : إنّ الله كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء ، وإنّ القرآن قد نزل منازله فأتمّوا الحجّ والعمرة لله كما أمركم الله وابتوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلّا رجمته بالحجارة.

وبعده في صحيح مسلم : فافصلوا حجّكم عن عمرتكم فإنّه أتمّ لحجّكم وأتمّ لعمرتكم(٢).

وأورد البيهقي الرواية في سننه بتفصيل أوفى ، قال جابر : تمتّعنا مع رسول الله (ص) ومع أبي بكر (رض) فلمّا ولي عمر خطب الناس فقال : «إنّ رسول الله (ص) هذا الرسول ، وإنّ القرآن هذا القرآن ، وإنّهما كانتا متعتان على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : إحداهما متعة النساء ، ولا أقدر على رجل تزوّج امرأة إلى أجل إلّا غيبته بالحجارة ، والاخرى متعة الحجّ. افصلوا حجّكم عن عمرتكم فإنّه أتمّ لحجّكم وأتمّ لعمرتكم(٣).

يشير الخليفة في الحديث الأوّل إلى أنّ الله أحل لرسوله التمتّع بالعمرة إلى الحجّ لأنّه كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء وليس من تمام العمرة أنّ يجمع بينهما فافصلوا حجّكم عن عمرتكم فإنّه أتمّ لحجكم وأتمّ لعمرتكم.

__________________

(١) سنن البيهقي ٥ / ٥ باب من اختار الافراد ورآه افضل ، وتاريخ ابن كثير ٥ / ١٢٣.

(٢) صحيح مسلم ، ص ٨٨٥ ، باب في المتعة بالحج والعمرة ، الحديث ١٤٥ ، ومسند الطيالسي ، ص ٢٤٧ الحديث ١٧٢٩ ، وسنن البيهقي ٥ / ٢١.

(٣) سنن البيهقي ٧ / ٢٠٦ باب نكاح المتعة وفي لفظه : «هذا القرآن هذا القرآن» تحريف.

٢١١

ويعين الحديث الآتي الحادثة الّتي نهى عمر بعدها عن الجمع بين الحجّ والعمرة :

عن الأسود بن يزيد قال : بينما أنا واقف مع عمر بن الخطّاب بعرفة عشيّة عرفة فإذا هو برجل مرجّل شعره يفوح منه ريح الطيب. فقال له عمر : أمحرم أنت؟ قال : نعم. فقال عمر : ما هيئتك بهيئة محرم ، إنّما المحرم الأشعث الأغبر الأذفر ، قال : إنّي قدمت متمتعا وكان معي أهلي وإنّما أحرمت اليوم فقال عمر عند ذلك : لا تتمتعوا في هذه الأيّام ، فإنّي لو رخّصت في المتعة لهم لعرّسوا بهنّ في الأراك ، ثمّ راحوا بهن حجّاجا (١).

ترجيل الشعر تسريحه وتنظيفه وتحسينه ، والإذفر هنا : الرائحة الكريهة.

قال ابن القيم بعد ايراد الرواية : وهذا يبيّن أنّ هذا من عمر رأي رآه ، قال ابن حزم : وكان ما ذا وحبذا ذلك ، وقد طاف النبيّ (ص) على نسائه ثمّ أصبح محرما ، ولا خلاف في أنّ الوطء مباح قبل الإحرام بطرفة عين.

وتحدّث أبو موسى الأشعري عمّا جرى له مع الخليفة في شأن متعة الحجّ وقال كما رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما وغيرهما واللفظ لمسلم :

كان رسول الله (ص) بعثني إلى اليمن فوافقته في العام الّذي حجّ فيه فقال لي رسول الله (ص) : «يا أبا موسى! كيف قلت حين أحرمت؟» قال : قلت : لبّيك إهلالا كإهلال النّبي (ص) فقال : «هل سقت هديا؟» فقلت : لا ، قال «فانطلق فطف بالبيت وبين الصفا والمروة ثمّ أحلّ ...».

وتمام الحديث في رواية قبلها : فطفت بالبيت وبالصفا وبالمروة ثمّ أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي.

وفي رواية : ثم أهللت بالحجّ.

وزاد عليه أحمد بمسنده ، يوم التروية ، قال : فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر ، فإنّي لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال : إنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك.

__________________

(١) زاد المعاد ١ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩ فصل : في ما جاء في المتعة من الخلاف.

والأسود بن يزيد بن قيس النخعى : أبو عمرو أو أبو عبد الرحمن ، مخضرم ، ثقة ، مكثر فقيه ، من الطبقة الثانية. أخرج حديثه جميع أصحاب الصحاح. مات سنة أربع أو خمس وسبعين. تقريب التهذيب ١ / ٧٧.

٢١٢

ولفظ البيهقي : «فبينا أنا عند الحجر الأسود والمقام أفتي الناس بالّذي أمرني به رسول الله (ص) إذ جاءني رجل فسارّني فقال : لا تعجل بفتياك فإنّ أمير المؤمنين أحدث في المناسك» (١).

فقلت : أيّها الناس من كنّا أفتيناه بشيء فليتّئد ، فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فائتمّوا ، قال : فلما قدم قلت : يا أمير المؤمنين ما هذا الذي أحدثت بشأن النسك؟

ولفظ البيهقي : «أحدث في النسك شيء؟ فغضب عمر أمير المؤمنين من ذلك ثم قال ... إن نأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمر بالتمام» (٢).

وفي رواية : فإنّ الله عزوجل قال : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (٣) وإن نأخذ بسنّة نبينا عليه الصلاة والسلام فإنّ النبي لم يحلّ حتّى نحر الهدي (٤).

وقد بيّن الخليفة في حديث آخر ما يراه أتمّ للحجّ والعمرة كما رواه مالك في موطّئه ، والبيهقي في سننه ، عن عبد الله بن عمر قال : إنّ عمر بن الخطّاب ، قال : افصلوا بين حجّكم وعمرتكم فإنّ ذلك أتمّ لحجّ أحدكم ، وأتمّ لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحجّ (٥).

وفي رواية أخرى : قال عمر : افصلوا بين حجّكم وعمرتكم ، اجعلوا الحجّ في أشهر الحجّ واجعلوا العمرة في غير أشهر الحجّ أتمّ لحجّكم وعمرتكم (٦).

__________________

(١) سنن البيهقي ٥ / ٢٠.

(٢) سنن البيهقي ٤ / ٣٣٨ باب : الرجل يحرم بالحج تطوعا ، وج ٥ / ٢٠ منحة المعبود ح ١٥٠٢.

(٣) البقرة / ١٩٦.

(٤) صحيح مسلم ، الحديث ١٥٦ و ١٥٥ من : باب في فسخ التحلل ص ٨٩٥ ـ ٨٩٦ ، والبخاري ١ / ١٨٨ ـ ١٨٩ ، وسنن النسائي ، باب التمتع ٢ / ١٥ ، وباب الحج بغير نية يقصد المحرم ص ١٨ ، ومسند أحمد ٤ / ٣٩٣ و ٣٩٥ و ٤١٠ ، وسنن البيهقي ٤ / ٨٨ ، وكنز العمال ، باب التمتع من كتاب الحجّ ج ٥ / ٨٦ ، والبخاري ١ / ٢١٤ أورد الحديث بإيجاز.

(٥) موطأ مالك كتاب الحج باب جامع ما جاء في العمرة ـ ١ / ٣١٩ ، وسنن البيهقي ٥ / ٥ باب من اختار الإفراد ورآه أفضل.

(٦) تفسير السيوطي ج ١ / ٢١٨ بتفسير «الحج أشهر معلومات» عن ابن أبي شيبة ، وحلية الأولياء لأبي نعيم ٥ / ٢٠٥ ، وشرح معاني الآثار ، مناسك الحجّ ، ص ٣٧٥.

٢١٣

خلاصة ما في هذه الأحاديث :

إنّ الخليفة عمر كان يرى الفصل بين الحجّ والعمرة أتمّ لهما ، وذلك بأن يجعل الحجّ في أشهر الحجّ ويجعل العمرة في غيرها ، ويستدل من الكتاب لما يرى بقوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ومن السنّة بعمل النبي في حجّة الوداع حيث لم يحلّ حتّى نحر الهدي.

في حين أن المراد بإتمام الحج والعمرة في الآية أداء مناسكهما وإتمام سننهما بحدودهما في مقابل المصدود والخائف الذي لا يستطيع أداءها. وقد نصّت الآية بعد هذه الجملة على تشريع عمرة التمتع بقوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) ونصّ النبي على أنّه لم يحلّ لأنّه ساق الهدي وقال : «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة» وقال : «دخلت العمرة في الحجّ إلى الأبد» وحاشا أبا حفص ألّا يدرك كل ذلك وخاصّة بعد ما روى عنه ابن عباس كما في سنن النسائي وقال : سمعت عمر يقول : والله إنّي لأنهاكم عن المتعة وإنّها لفي كتاب الله ولقد فعلتها مع رسول الله (ص) يعني العمرة في الحجّ (١).

إذا فاستشهاده بالكتاب والسنّة غير وجيه ، وإن دافعه إلى ما فعل هو ما أفصح عنه في حديث آخر له رواه أبو نعيم في حلية الأولياء والمتقي في كنز العمّال واللفظ للأوّل قال : إنّ عمر بن الخطّاب نهى عن المتعة في أشهر الحجّ وقال : فعلتها مع رسول الله (ص) وأنا أنهى عنها وذلك أنّ أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا أشهر الحجّ وإنّما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثمّ يقدم فيطوف بالبيت ويحلّ ويلبس ويتطيّب ويقع على أهله إن كانوا معه حتّى إذا كان يوم التروية أهلّ بالحجّ وخرج إلى منى يلبّي بحجّة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلّا يوما والحجّ أفضل من العمرة ، لو خلّينا بينهم وبين هذا لعانقوهنّ تحت الأراك ، وإنّ أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنّما ربيعهم في من يطرأ عليهم (٢).

وفي رواية أخرى ، قال عمر : قد علمت أنّ النبيّ فعله وأصحابه ولكن كرهت

__________________

(١) النسائي كتاب الحج ، باب التمتع ج ٢ / ١٦ ، وط. بيروت ، دار إحياء التراث العربي ج ٥ / ١٣٥ ، وتاريخ ابن كثير ٥ / ١٢٢ ولفظه «وقد فعله النبيّ» ، قال ابن كثير : أسناده جيد ولم يخرجوه.

(٢) كنز العمال ٥ / ٨٦ ، وحلية الأولياء ٥ / ٢٠٥.

٢١٤

أن يظلّوا معرّسين بهنّ في الأراك ثم يروحون في الحجّ تقطر رءوسهم (١).

في هذين الحديثين صرّح الخليفة بأنّ دافعه إلى ما فعل أمران :

أوّلا : احترام الحجّ ، ويحتجّ هنا لما يرى بعين الاحتجاج الّذي احتجّت به الصحابة عند ما أبت على رسول الله التمتّع بالعمرة إلى الحجّ في حجّة الوداع ، ومن هنا نرى أنّ قائل القول في المقامين أيضا واحد ، وهم مهاجرة قريش الّذين رأوا في عمرة التّمتّع مخالفة لما دأبوا عليه من سنن الحجّ والعمرة في الجاهلية.

والدافع الثاني له إلى منع الجمع بين الحجّ والعمرة في سفرة واحدة ما صرّح به في أحد الحديثين من «أنّ أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنّما ربيعهم في من يطرأ عليهم».

إذا فالخليفة يأمر بالفصل بين الحجّ والعمرة ، وأن تجعل العمرة في غير أشهر الحج ، ليأتي المسلمون إلى مكة مرّتين ، مرّة للحج وأخرى للعمرة ففيه ربيع ذوي أرومته من قريش سكان الحرم.

ويقصد هذا ـ أيضا ـ في جوابه لعلي بن أبي طالب كما في سنن البيهقي قال : قال علي بن أبي طالب لعمر (رض) أنهيت عن المتعة؟! قال : لا ، ولكني أردت كثرة زيارة البيت ، قال : فقال علي (رض) من أفرد الحجّ فحسن ومن تمتّع فقد أخذ بكتاب الله وسنّة نبيّه (ص) (٢).

* * *

كان ما تقدّم كلّ ما انتهى إلينا من أخبار نهي عمر (رض) عن عمرة التّمتّع على قلّة ما لدينا من مصادر البحث ، وما ذكرناه على قلته ألقى بعض الضوء على اجتهاد عمر في هذا الحكم ودافعه إلى ما تأوّل ، وقد أدركنا من مجموع ما تقدّم أن نهي عمر كان شديدا عن متعة الحجّ ، وكان يضرب الناس عليها (٣). قال ابن كثير : وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يهابونه كثيرا فلا يتجاسرون على مخالفته (٤) ، ولم نجد من يعارضه

__________________

(١) صحيح مسلم ، الحديث ١٥٧ ص ٨٩٦ ، ومسند الطيالسي ، الحديث ٥١٦ ج ٢ / ٧٠ ، ومسند أحمد ١ / ٤٩ و ٥٠ ، وسنن النسائي ، كتاب الحج باب التمتع ٢ / ١٦ ، وسنن البيهقي ٥ / ٢٠ ، وابن ماجة ، الحديث ٢٩٧٩ ص ٦٩٢ ، وكنز العمال ٥ / ٨٦.

(٢) سنن البيهقي ٥ / ٢١.

(٣) نقل ذلك النووي في شرح صحيح مسلم ١ / ١٧٠ عن القاضي عياض.

(٤) تاريخ ابن كثير ٥ / ١٤١.

٢١٥

على عهده أو يتكلّم ببنت شفة في خلافه عدا ما كان من قول عليّ له (ومن تمتّع فقد أخذ بكتاب الله وسنّة نبيّه) (١).

وأصبح إفراد الحجّ بعد ذلك سنّة عمريّة استنّ الخلفاء القرشيون به ، كما نرى ذلك في سيرة عثمان وغيره في ما يأتي :

على عهد عثمان

تابع عثمان عمر في ما استنّ من الفصل بين الحجّ والعمرة ولا غرو في ذلك فإنّ كليهما من مهاجرة قريش ، ولا فارق بينهما وبين عهديهما في ما يعود إلى هذا الحكم عدا ما كان من مجاهرة الإمام عليّ على مخالفة عثمان فيه وأمره من معه أن يجاهروا بمخالفته ، في حين أن أحدا لم يستطع أن يجاهر الخليفة عمر في ذلك : بعد قوله : «متعان كانتا على عهد رسول الله (ص) أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة الحجّ ...» (٢) وبعد ضربه الناس على ذلك ، وفي ما يلي الرّوايات الّتي ذكرت كيفية معارضة الإمام للخليفة :

في مسند أحمد عن عبد الله بن الزبير ، قال : والله أنا لمع عثمان بن عفّان بالجحفة ومعه رهط من أهل الشام فيهم حبيب بن مسلمة الفهري إذ قال عثمان ، وذكر له التمتّع بالعمرة إلى الحجّ : إنّ أتمّ للحجّ والعمرة أن لا يكونا في أشهر الحجّ فلو أخّرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل ، فإنّ الله تعالى قد وسّع الخير ، وعليّ بن أبي طالب في بطن الوادي يعلف بعيرا له ، قال : فبلغه الّذي قال عثمان فأقبل حتّى وقف على عثمان فقال : أعمدت إلى سنّة سنّها رسول الله (ص) ورخصة رخّص الله تعالى بها للعباد في كتابه تضيّق عليهم فيها وتنهى عنها وقد كانت لذي الحاجة ولنائي الدار؟! ثمّ أهل بحجّة وعمرة معا. فأقبل عثمان على الناس فقال : وهل نهيت عنها؟! إنّي لم أنه عنها ، إنّما كان رأيا أشرت به فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه (٣).

__________________

(١) مضى آنفا مصدره.

(٢) مضى في أول هذا البحث مصدره.

(٣) مسند أحمد ١ / ٩٢ ، الحديث ٧٠٧ ، وراجع : ذخائر المواريث ٤١٦ ، والجحفة على ثلاث مراحل من مكة في طريق المدينة.

٢١٦

وفي موطّأ مالك ، عن جعفر بن محمّد عن أبيه أنّ المقداد بن الأسود دخل على عليّ بن أبي طالب بالسقيا وهو ينجع بكرات له دقيقا وخبطا فقال : هذا عثمان بن عفّان ينهى عن أن يقرن بين الحجّ والعمرة. فخرج علي بن أبي طالب وعلى يديه أثر الدقيق والخبط فما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعيه حتّى دخل على عثمان بن عفّان فقال : أنت تنهى عن أن يقرن بين الحجّ والعمرة؟ فقال عثمان ذلك رأيي فخرج عليّ مغضبا وهو يقول : لبّيك اللهم لبيك بحجّة وعمرة معا (١).

وفي سنن النسائي ومستدرك الصحيحين ومسند أحمد واللفظ للأوّل عن سعيد ابن المسيّب ، قال : حجّ علي وعثمان فلمّا كنّا ببعض الطريق نهى عثمان عن التّمتّع فقال عليّ اذا رأيتموه ارتحل فارتحلوا ، فلبّى عليّ وأصحابه بالعمرة فلم ينههم عثمان ، فقال عليّ : ألم أخبر أنّك تنهى عن التمتّع؟ قال : بلى ، قال له عليّ : فلم تسمع رسول الله (ص) تمتّع؟ قال : بلى! (٢)

قال الإمام السندي بهامشه : قوله : «إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا» أي ارتحلوا معه ملبّين بالعمرة ليعلم أنّكم قدّمتم السنّة على قوله وإنّه لا طاعة له في مقابلة السنّة(٣).

وأخرجه أحمد بلفظ آخر هذا نصّه : حجّ عثمان حتّى إذا كان في بعض الطريق أخبر عليّ أنّ عثمان نهى أصحابه عن التمتع بالعمرة والحجّ ، فقال علي لأصحابه إذا راح فروحوا ، فأهلّ عليّ وأصحابه بعمرة ، فلم يكلّمهم عثمان ، فقال علي ألم أخبر أنّك نهيت عن التمتّع؟ ألم يتمتّع رسول الله (ص)؟ قال : فما أدري ما أجابه عثمان (٤).

في الروايات الآنفة نرى من الخليفة في شأن عمرة التمتع لينا وتسامحا وفي غيرها أبدى غلظة وشدّة في شأنها مثل الروايات التالية :

في صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن البيهقي وغيرها واللفظ للأوّل ، عن شعبة عن قتادة عن عبد الله بن شقيق ، قال : كان عثمان ينهى عن المتعة وكان عليّ يأمر

__________________

(١) موطأ مالك ، الحديث ٤٠ من باب القران في الحج ص ٣٣٦ ، وابن كثير ٥ / ١٢٩ ، و «السقيا» قرية جامعة بطريق مكّة ، و «ينجع» يسقي ، و «بكرات» جمع بكرة ولد الناقة أو الفتى منها ، والخبط ورق ينفض بالمخابط ويخلط بدقيق وغيره ويوخف بالماء ويسقى للإبل.

(٢) سنن النسائي ٢ / ١٥ كتاب الحج ، باب التمتع ، ومسند أحمد ١ / ٥٧ ، الحديث ٤٠٢ بمسند عثمان ، ومستدرك الصحيحين ١ / ٤٧٢ ، وتاريخ ابن كثير ٥ / ١٢٦ و ١٢٩.

(٣) الإمام السندي هو أبو الحسن محمّد بن عبد الهادي الحنفي نزيل المدينة المنورة (ت ١١٣٨ ه‍).

(٤) مسند أحمد ١ / ٦٠ ، الحديث ٤٢٤.

٢١٧

بها ، فقال عثمان لعليّ كلمة ، ثم قال علي : لقد علمت أنّا قد تمتّعنا مع رسول الله (ص) فقال : أجل ، ولكنّا كنا خائفين!

وفي رواية بمسند أحمد : فقال عثمان لعليّ إنّك كذا وكذا.

وفي رواية أخرى : فقال عثمان لعلي قولا.

وفي آخر الرواية : قال شعبة فقلت لقتادة : ما كان خوفهم؟ قال : لا أدري (١).

في هذا الحديث كتموا قول عثمان لعلي وأبدلوه مرّة بلفظ. «إنّك كذا وكذا» ومرّة بلفظ «قولا» ، أمّا قول عثمان : «أجل ولكنّا كنا خائفين» فلم يدر قتادة ما خوفهم ولست أدر ي ـ أيضا ـ ولا المنجّم يدري ما كان خوفهم وقد أمرهم رسول الله بأداء عمرة التمتع في حجّة الوداع وأدّوها حينذاك أي في آخر سنة من حياة الرسول وكان ذلك بعد انتشار الإسلام في الجزيرة العربية وبعد انحسار الشرك منها إلى الأبد.

قال ابن كثير : ولست أدري على م يحمل هذا الخوف ، من أيّ جهة كان؟

وقال قبله : قد أطد الله له الإسلام ، وفتح البلد الحرام ، وقد نودي برحاب منى أيّام الموسم في العام الماضي : أن لا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوفنّ بالبيت عريان (٢).

في الحديث السابق احتجّ عثمان على صحّة فتواه بأنّهم أدّوا عمرة التمتع لأنّهم كانوا خائفين وفي الأحاديث الآتية : لم يحتجّ بشيء وأبدى عنفا أكثر.

في صحيح مسلم والبخاري وسنن النسائي ومسند الطيالسي وأحمد وغيرها واللفظ للأوّل عن سعيد بن المسيّب ، قال : اجتمع عليّ وعثمان بعسفان وكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة ، فقال علي : ما تريد إلى أمر فعله رسول الله تنهى عنه؟ فقال عثمان : دعنا منك! قال : لا أستطيع أن أدعك منّي. فلمّا رأى عليّ ذلك أهلّ بهما جميعا (٣).

__________________

(١) صحيح مسلم ، الحديث ١٥٨ ص ٨٩٦ باب جواز التمتع من كتاب الحج ، ومسند أحمد ١ / ٩٧ ، الحديث ٧٥٦ والرواية الثانية في ص ٦٠ ، الحديث ٤٣١ ونظيره الحديث ٤٣٢ بعده ، وسنن البيهقي ٥ / ٢٢ ، والمنتقى ، الحديث ٢٣٨٢ ، وراجع كنز العمال ط. الأولى ٣ / ٣٣ ، وشرح معاني الأخبار ، كتاب مناسك الحج ص ٣٨٠ و ٣٨١ ، وفي تاريخ ابن كثير ٥ / ١٢٧ بايجاز ، وقال في ص ١٢٩ منه بعد إيراد الحديث : فهذا اعتراف من عثمان (رض) بما رواه علي. ومعلوم أنّ عليّا (رض) أحرم في حجة الوداع بإهلال النبي.

(٢) تاريخ ابن كثير ٥ / ١٣٧.

(٣) صحيح مسلم ، ص ٨٩٧ ، الحديث ١٥٩ باب جواز التمتع ، وصحيح البخاري ج ١ / ١٩٠ باب التمتع والإقران ، ومسند الطيالسي ١ / ١٦ ، ومسند أحمد ١ / ١٣٦ ، الحديث ١١٤٦ ، وسنن البيهقي ٥ / ٢٢ ، ومنحة المعبود ـ

٢١٨

وفي صحيح البخاري وسنن النسائي والدارمي والبيهقي ومسند أحمد والطيالسي وغيرها ، واللفظ للأوّل ، عن مروان بن الحكم ، قال : شهدت عثمان وعليّا وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما فلمّا رأى عليّ أهلّ بهما : لبّيك بعمرة وحجّة معا ، قال : ما كنت لأدع سنّة النّبيّ (ص) لقول أحد.

ولفظ النسائي : إنّ عثمان نهى عن المتعة وأن يجمع بين الحجّ والعمرة معا فقال عثمان : أتفعلها وأنا أنهى عنها؟ فقال عليّ : لم أكن لأدع سنّة رسول الله لأحد من الناس.

وفي أخرى : لقولك (١).

* * *

قال ابن القيم بعد إيراد الأحاديث الآنفة :

«فهذا يبيّن أنّ من جمع بينهما كان متمتّعا عندهم ، وأن هذا هو الّذي فعله رسول الله (ص) وقد وافقه عثمان على أن رسول الله (ص) فعل ذلك فإنّه لمّا قال له : «ما تريد إلى أمر فعله رسول الله (ص) تنهى عنه» لم يقل له. لم يفعله رسول الله (ص) ولو لا أنّه وافقه على ذلك لأنكره ، ثمّ قصد عليّ موافقة النبيّ (ص) والاقتداء به في ذلك وبيان أنّ فعله لم ينسخ وأهلّ لهما جميعا تقريرا للاقتداء به ومتابعته في القران لسنّة نهى عنها عثمان متأوّلا» (٢) انتهى.

* * *

من مجموع الروايات الآنفة علمنا أنّ الإمام عليّا كان يتعمّد الإجهار بمخالفة الخليفة في إجهاره بنية حجّ التمتّع ، وأنّ الخليفة كان متسامحا فيه أحيانا ومتشدّدا أخرى.

ونرى أنّ تسامحه كان في أوائل عهده وأنّ تشدّده كان بعد ذلك ، وبلغ من

__________________

ـ ١ / ٢١٠ باب ما جاء في القرآن ، الحديث ١٠٠٥ ، وراجع شرح معاني الآثار ، ص ٣٧١ وزاد المعاد ١ / ٢١٨ فصل في جمعه بين الحج والعمرة ، وص ٢٢٠ منه بحث في أنه (ص) كان قارنا لا مفردا ، وتاريخ ابن كثير ٥ / ١٢٩. وعسفان منزل بين الجحفة ومكة. معجم البلدان.

(١) صحيح البخاري ١ / ١٩٠ ، وسنن النسائي ٢ / ١٥ باب القران ، وسنن الدارمي باب القران ٢ / ٦٩ ، وسنن البيهقي ٤ / ٣٥٢ و ٥ / ٢٢ ، ومسند الطيالسي ١ / ١٦ ، الحديث ٩٥ ، ومسند أحمد ١ / ٩٥ ، الحديث ٧٣٣ ، و ١ / ١٣٦ ، الحديث ١١٣٩ ، وزاد المعاد ١ / ٢١٧ ، وراجع الطحاوي في شرح معاني الآثار ص ٣٧٦ كتاب مناسك الحج ، وكنز العمال ٣ / ٣١ ، ومنحة المعبود ح ١٠٠٤ ، وتاريخ ابن كثير ٥ / ١٢٦ و ١٢٩.

(٢) زاد المعاد ١ / ٢١٨.

٢١٩

تشدّده أنّه ضرب وحلق من فعل ذلك. روى ابن حزم : أنّ عثمان سمع رجلا يهلّ بعمرة وحجّ ، فقال : عليّ بالمهلّ ، فضربه وحلقه (١). ضربه الخليفة تعذيبا له وحلقه تشهيرا به ومثلة. ومع كلّ ذلك التشديد فإنّ معارضة المسلمين بدئ على هذا العهد ، وكان الإمام عليّ هو البادئ بها ، فهو الّذي جاهر بخلافهم وأمر رفاقه بذلك ، ثمّ انتشرت المعارضة بعد هذا على عهد الخلفاء الآخرين ، أمّا ما جرى على عهد الإمام فهذا بيانه :

على عهد الإمام عليّ (ع)

رأينا الإمام عليّا على عهد عثمان يعارضه أشدّ المعارضة في إقامة سنّة الرسول هذه (٢) فأحرى به أن يقيمها على عهده حين لا معارض له في إقامتها ومع موافقة رغبة جماهير المسلمين إيّاه في ذلك ، ولهذا السبب لم يكن هناك مسوّغ لحدوث القالة حول عمرة التمتع يوم ذاك لتروي لنا وتدوّن في الكتب ، وإنّما حدثت القالة مرّة ثانية على عهد معاوية حين جاهد في إحياء سنّة عمر وبيانه كما يلي :

على عهد معاوية

كان معاوية على عهده جادّا كلّ الجد في إحياء سنن الخلفاء الثلاثة : أبي بكر وعمر وعثمان ، وخاصّة في ما كان فيها إرغام لأهل البيت ومخالفة لمدرستهم لا سيّما الإمام عليّ ، كانت هذه سياسته على العموم ، وفي ما يخصّ هذا الحكم ذكرت الروايات التالية ما قام به هو وبعض جلاوزته من جهد (٣).

في سنن النسائي عن ابن عبّاس ، قال : هذا معاوية ينهى الناس عن المتعة وقد

__________________

(١) المحلى لابن حزم ٧ / ١٠٧.

(٢) ومما رووا عن الإمام في ذلك ما رواه ابن كثير في تاريخه ٥ / ١٣٢ عن الحسن بن علي قال : خرجنا مع علي فأتينا ذا الحليفة ، فقال علي : إني أريد أن أجمع بين الحجّ والعمرة ، فمن أراد ذلك ، فليقل كما أقول ، ثم لبى ، قال : لبيك بحجة وعمرة.

(٣) من أمثلة ذلك سياستهم في منع نشر حديث الرسول فقد منعه أبو بكر وعمر وتابعهم على ذلك فقال على منبر الرسول «لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع في عهد أبي بكر ولا عمر» منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ٤ / ٦٤ ، وقال معاوية «عليكم من الحديث بما كان في عهد عمر» رواه الذهبي بترجمة عمر من تذكرة الحفاظ ، ومنتخب الكنز ٤ / ٦١ ، وراجع فصل : (مع معاوية) من كتابنا : (أحاديث أم المؤمنين عائشة).

٢٢٠