معالم المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٠٤

واحدة وقد غمّت على العلماء أخبار تلك الخرجات ، والتبست ونحن نوجز أخبارها في ما يلي ليتبيّن لنا الصواب في الأمر.

في صحيح البخاري عن البراء بن عازب ، قال : بعثنا رسول الله (ص) مع خالد بن الوليد إلى اليمن ، قال : ثمّ بعث عليّا بعد ذلك مكانه ، فقال : «مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب» الحديث (١).

وقد روى البيهقي تفصيل هذا الخبر عن البراء قال : إنّ رسول الله (ص) بعث خالد بن الوليد إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام ، قال البراء فكنت في من خرج مع خالد ابن الوليد فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه ، ثمّ إنّ رسول الله (ص) بعث عليّ بن أبي طالب وأمره أن يقفل خالدا إلّا رجلا كان مع خالد فأحبّ أن يعقب مع عليّ فليعقب معه قال البراء فكنت في من عقب مع عليّ فلمّا دنونا من القوم خرجوا إلينا ثمّ تقدّم فصلّى بنا عليّ ثمّ صفّنا صفّا واحدا ثم تقدّم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله (ص) فأسلمت همدان جميعا ، فكتب عليّ إلى رسول الله بإسلامهم ، فلمّا قرأ رسول الله (ص) الكتاب خرّ ساجدا ثمّ رفع رأسه فقال : «السلام على همدان السلام على همدان» (٢).

وفي عيون الأثر وإمتاع الأسماع بعده واللفظ للإمتاع : فقال : السلام على همدان وكرّر ذلك ثلاثا ، ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام (٣).

هذا خبر إحدى الغزوتين ، أورده البخاري مقتضبا ، وأورد غيره تمام الخبر لما في بقية الخبر من انتقاص لمقام الصحابي الشهير خالد بن الوليد مقابل منقبة للإمام علي. وإمام المحدّثين البخاري (رض) يتجنب ذكر ما فيه منقصة لذوي الجاه من الصحابة من فرط غيرته عليهم وتعصّبه لهم.

وخبر الغزوة الثانية في العدد لا في من أورده الواقدي والمقريزي وابن سيده وهذا موجز خبره : بعث النبيّ عليا مع ثلاثمائة إلى أرض مذحج وكانت خيله أوّل خيل دخلت تلك البلاد ففرّق أصحابه فأتوا بنهب وسبي ، ثمّ لقي جمعا فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا في أصحابه فحمل عليهم وقتل منهم عشرين فارسا ، فانهزموا فلم

__________________

(١) البخاري ٣ / ٥٠ وكتاب المغازي ، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن.

(٢) عيون الأثر ٢ / ٢٧٢ باب سرية علي بن أبي طالب ، والإمتاع ص ٥١٠.

(٣) نقل الخبر ابن كثير في ٥ / ١٠٥ من تاريخه ، باب بعث رسول الله (ص) علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن.

١٨١

يتبعهم ، ودعاهم إلى الإسلام فأجابوا وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام ، فخمّس الغنائم ، ووزّع أربعة أخماسها على جنده ، وسار بهم راجعا وأسرع ليلقى رسول الله ، وخلّف عليهم أبا رافع فسألوا أبا رافع أن يكسوهم فكساهم ثوبين ثوبين ، فلمّا رجع إليهم عليّ وتلقّاهم جرّدهم منها فشكوه إلى النبي (١).

كان هذا موجز أخبار الغزوتين. أمّا خبر بعثه لجباية المال فقد قال البخاري وابن القيّم: أنّه كان لقبض الخمس (٢) وقال ابن هشام ومن تبعه أنّه كان لقبض الصدقة وجزية أهل نجران.

وهناك أخبار أخرى عن خرجات الإمام إلى اليمن منتشرة في كتب الصحاح والمسانيد والسير ، غير أنّها لم تعيّن في أي خرجاته كانت ، مثل ما رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد واللفظ للأوّل ، قال : بعث عليّ وهو باليمن إلى النّبي بذهيبة في تربتها (٣).

وفي رواية : في أديم مقروظ لم تحصّل من ترابها (٤).

في تربتها : أي أنّها غير مسبوكة ولم تصفّ من تراب معدنها ، وأديم مقروظ : جلد مدبوغ بالقرظ.

وهناك روايات عن إرسال النبيّ إيّاه قاضيا إلى اليمن وشرح بعض أحكامه عند ذاك مثل ما في مسند أحمد وسنن أبي داود ، باب كيف القضاء؟ عن عليّ ، قال :

بعثني رسول الله (ص) إلى اليمن قاضيا ، فقلت : يا رسول الله : تبعثني إلى قوم يكون بينهم أحداث ولا علم لي بالقضاء ، فقال : «إنّ الله سيهدي قلبك ويثبّت لسانك».

__________________

(١) مغازي الواقدي ٣ / ١٠٧٩ ـ ١٠٨١ ، وإمتاع الأسماع ص ٥٠٣ ـ ٥٠٤ ، وعيون الأثر ٢ / ٢٧١ ـ ٢٧٢.

(٢) البخاري ٣ / ٥٠ باب بعث علي وخالد إلى اليمن ، وابن القيم بهامش شرح المواهب ١ / ١٢١ قال في فصل أمرائه : وولى علي بن أبي طالب الأخماس باليمن والقضاء بها.

(٣) البخاري ٤ / ١٨٨ كتاب التوحيد ، باب قوله تعالى (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ ... ،) والنسائي ٢ / ٣٥٩ كتاب الزكاة ، باب المؤلفة قلوبهم ، ومسند احمد ج ٣ / ٦٨ و ٧٢ و ٧٣ ، وقريب منه في البخاري ٢ / ١٥٥ ، ومسلم كتاب الزكاة ح ١٤٣ ، وسنن أبي داود ٣ / ٣٠١ و ٤ / ١٧٤ باب تحريم الدم ، وص ٢٤٣ منه ح ٤٧٦٤ كتاب السنة ، باب في قتال الخوارج.

(٤) البخاري ٣ / ٥٠ كتاب المغازي باب بعث علي ، ومسلم ج ٢ / ٧٤١ ح ١٤٣ ، وص ٧٤٣ منه ح ١٤٤ ، ومسند احمد ٣ / ٤ ، وص ٣ منه بإيجاز مخل.

١٨٢

وفي مسند أحمد : فوضع يده على صدري ، فقال : «ثبّتك الله وسدّدك.

فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضينّ حتّى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل ، فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء» قال : ما شككت في قضاء بعد (١).

وذكروا من قضاياه في هذه الخرجة بعض ما استطرفوه ، مثل ما رووا أنّ ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليّا يختصمون إليه في ولد وقد وقعوا على المرأة في طهر واحد ، فقال لاثنين منهما : طيبا بالولد لهذا ، فأبيا ، ثمّ قال لاثنين طيبا لهذا بالولد فأبيا فقال : أنتم شركاء متشاكسون! إنّي مقرع بينكم فمن قرع فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية ، فأقرع بينهم ، فجعله لمن قرع ، فأتى من اليمن أحدهم وأخبر النبي بذلك فضحك رسول الله (ص) حتّى بدت نواجذه (٢).

وقضية أخرى نوردها من لفظ الإمام بإيجاز ، قال : بعثني رسول الله إلى اليمن ، ثمّ حدّث عن قوم بنوا زبية للأسد فوقع فيها الأسد فأكبّ الناس عليه فوقع فيها رجل فتعلّق بآخر وتعلّق الآخر بآخر حتّى صاروا فيها أربعة فجرحهم الأسد ، فانتدب له رجل بحربة فقتله ، وماتوا عن جراحتهم كلّهم ، فقام أولياء الأوّل إلى أولياء الآخر فأخرجوا السلاح ليقتتلوا ، فأتاهم عليّ على تفيئة ذلك ، فقال : أتريدون أن تقاتلوا ورسول الله (ص) حيّ؟!

وفي رواية : أتقتلون مائتين في أربعة؟! إنّي أقضي بينكم قضاء إن رضيتم فهو القضاء ، وإلّا حجز بعضكم عن بعض حتّى تأتوا النبيّ (ص) فيكون هو الّذي يقضي بينكم فمن عدا بعد ذلك فلا حقّ له. اجمعوا من قبائل الّذين حفروا البئر ربع الدية وثلث الدية ونصف الدية والدية كاملة ، فللأوّل الربع لأنّه أهلك من فوقه ، وللثاني ثلث الدية وللثالث نصف الدية وللرابع الدية كاملة ، فأبوا أن يرضوا ، فأتوا النبي وهو عند مقام إبراهيم فقصّوا عليه القصّة ، فقال «أنا أقضي بينكم» واحتبى ، فقال رجل

__________________

(١) سنن أبي داود ٣ / ٣٠١ ح ٣٥٨٢ ، وابن ماجة ، كتاب الأحكام ح ٢٣١٠ ، ومسند أحمد ١ / ١٤٩ وص ١١١ منه ح ٨٨٢ ، وراجع ص ٨٤ منه ح ٦٣٦ ، وص ٨٨ منه ح ٦٦٦.

(٢) سنن ابن ماجة ، كتاب الأحكام ح ٢٣٤٨ ، وسنن أبي داود ٢ / ٢٨١ باب من قال بالقرعة ، وتاريخ ابن كثير ٥ / ١٠٧.

أو جزت لفظ الحديث ، ويبدو أن محادثة وقوعهم على امرأة واحدة في طهر واحد وقعت من الرجال الثلاثة زمن جاهليتهم وولدت المرأة بعد إسلامهم فتحاكموا عند الإمام حال إسلامهم.

١٨٣

من القوم ، إنّ عليّا قضى فينا ، فقصّ عليه القصّة فأجازه رسول الله (ص) (١).

هذه أخبار خرجات الإمام إلى اليمن ، نسب العلماء وقوع حوادث بعث خرجاته إلى غيره توهّما ، وبعضهم أورد أخبار خرجاته الثلاث مجتمعة في مكان واحد (٢) ، وآخرون أوردوها في مكانين (٣). لهذا ولغير هذا (٤) وردت أخبار خرجات الإمام إلى اليمن غامضة وموهمة ، ولعلّنا نستطيع أن نستكشف الحقيقة من طبيعة الحوادث المرويّة عن خرجات الإمام إلى اليمن ، فلنا أن نقول مثلا : إنّ غزاة مذحج كانت الأولى في خرجاته إلى اليمن وغزاة ، همدان الثانية ، وفي الثالثة ذهب واليا وقاضيا ومخمّسا ودليلنا على ما نقول :

أوّلا ـ إنّهم في غزاة مذحج قالوا : كانت خيله أوّل خيل دخلت تلك البلاد ، أي بلاد اليمن.

ثانيا ـ وقوع القتال في غزاة مذحج دون غزاة همدان وينبغي أن يكون القتال قبل السلم ، وإنّهم قالوا في غزاة همدان : «أسلمت همدان جميعا» وقالوا : «ثمّ تتابع أهل اليمن على الإسلام». إذا لا قتال في اليمن بعد هذا وإنّما أرسل النبيّ ولاته وجباته إليها ومن ضمنهم الإمام ، وكانت هذه ثالثة خرجاته إليها حيث أرسله النبيّ واليا وقاضيا ومخمّسا ، وصدرت منه في هذه المرّة أحكام سارت بذكرها الركبان ، وفي هذه المرّة أرسل ذهيبة في ترابها إلى النبيّ ولم تكن الذهبية من غنائم الحرب لأنّ أهل اليمن كانوا قد أسلموا وبعث النبيّ إليهم الولاة والقضاة والمصدّقين ، ولأنّ غنائم الحرب يحملها الجيش الغازي معه إلى المدينة بعد انتهاء الغزوة سواء سهام الخمس منها أو بقيّة الغنائم الموزّعة على أفراد الجيش ولا معنى لإرسال المال في هذه الحالة قبل عودة الجيش إلى

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٧٧ ح ٥٧٣ ، وح ٥٧٤ ، وص ١٢٨ منه ح ١٠٦٤ ، وص ١٥٢ ح ١٣٠٩ ومجمع الزوائد ٦ / ٢٨٧ ، والمنتقى ح ٣٩٩٤.

(٢) مثل ابن كثير في تاريخه فإنّه أورد جميع أخبار خرجاته تحت عنوان «باب بعث رسول الله علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن.»

(٣) مثل ابن هشام ومن تبعه فإنّهم أوردوها في باب خروج الأمراء والعمال على الصدقات في السنة العاشرة ، وفي باب تعداد السرايا والبعوث.

(٤) ما كانت الظروف في عصور يلعن الإمام على جميع منابر المسلمين وخاصة في خطبة الجمعة تسمح لنشر أخبار فيها فضيلة ومنقبة للإمام ، فإنّ الولاة كانوا يطاردون من يذكر الإمام بخير منذ عصر معاوية حتى القرن الأول من عصر بني العباس عدا عصر ابن عبد العزيز وعصر السفاح.

١٨٤

المدينة بل ينبغي أن يكون بعث المال من قبل الوالي والعامل.

ولم تكن الذهبية من الصدقات لما ثبت أنّ النبيّ لا يبعث الإمام عاملا على الصدقة. ويؤيّد ذلك ما في فقه أئمّة أهل البيت من اشتراط كون الذهب والفضّة مسكوكين لتجب فيهما الصدقة (١).

ولم تكن الذهبية من جزي أهل نجران لأنّ جزيتهم كانت محدّدة في ألفي حلّة ثمن كلّ حلّة أربعون درهما (٢). إذا فقد كانت الذهبية من خمس السيوب أو خمس أرباح المكاسب. وعلى ما ذكرنا كان النبيّ قد بعث الإمام إلى اليمن في هذه المرّة مخمّسا كما أرسل رسوليه ابيّا وعنبسة إلى سعد هذيم من قضاعة وإلى جذام مصدّقين ومخمسين (٣) ولعل غيرهم من عمّال رسول الله ممّن ذكروا في عداد المصدّقين أيضا كانوا مأمورين بأخذ الخمس بالإضافة إلى أخذ الصدقة ، وأنّهم كانوا قد أخذوا الخمس من موارده ودفعوه إلى رسول الله ، غير أنّ الخلفاء لمّا رفعوا الخمس بعد رسول الله (٤) أهمل الرواة والعلماء ذكره ، لأنّه كان يخالف سياسة الخلفاء في أدوار الخلافة الإسلامية.

وإذا أضفنا إلى ما ذكرنا ملاحظة ثروة سكان شبه الجزيرة العربية يوم ذاك ، وأنّ عامّة ثروة القبائل كانت من الأنعام وقليلا من الغرس والزرع ، وأنّ كلّ تلك كانت من موارد الصدقات ولم تكن من موارد الخمس ، وكانت المدينة عاصمة الإسلام أيضا بلدا زراعيا ، وكانت عامّة ثروة أهلها الزرع والضرع ، وأنّ التجارة كانت منحصرة بأهل مكة وبعض قبائل أهل الكتاب ، وأنّ انصراف المسلمين بالمدينة إلى الحرب ضدّ قريش واليهود وسائر القبائل العربية والّتي ناف عددها على الثمانين بين غزوة وسريّة في زهاء عشر سنوات ، أي بمعدل ثماني معارك حربيّة في كلّ سنة ؛ أدّى ذلك كلّه إلى جعل الطرق التجارية في الحجاز مجالا للإغارة والغزو والسلب بين الأطراف المتحاربة وانقطاع التجارة في تلك السنوات ، ومن أجل ذلك ندر وجود مورد ربح غير موارد الصدقات.

__________________

(١) راجع فصل زكاة النقدين في فقه الإمامية مثل مصباح الفقيه للهمداني ص ٥٣ من كتاب الزكاة.

(٢) راجع إمتاع الأسماع ص ٥٠٢.

(٣) راجع قبله ص ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٤) كما جابهت به ابنة النبيّ أبا بكر.

١٨٥

كلّ هذا العوامل أدّت إلى عدم انتشار أخبار أخذ الرسول الخمس من أرباح المكاسب في كتب السيرة والحديث. أمّا اخبار أخذه الخمس من الكنوز والمعادن وبعثه المخمّسين مع المصدّقين فقد أوردنا ما وجدنا من أخبارها على قلّة ما لدينا من مصادر هذه الدراسات.

الصدقة بعد الرسول (ص)

تابع أئمة أهل البيت الرسول (ص) في تحريمهم الصدقة على ذوي قربى الرسول (ص) فقد قال الإمام جعفر الصادق في جواب من قال له : إذا منعتم الخمس هل تحلّ لكم الصدقة؟ : «لا والله ما يحلّ لنا ما حرّم علينا بغصب الظالمين حقّنا ، وليس منعهم إيّانا ما أحلّ الله لنا بمحلّ لنا ما حرّم الله علينا».

أمّا الخلفاء فقد استولوا على تركة الرسول وهي :

أ ـ الحوائط السبعة (وصية مخيريق).

ب ـ أرضه من أموال بني النضير.

ج ، د ، ه ـ الحصون الثلاثة : في خيبر.

و ـ الثلث من أرض وادي القرى.

ز ـ مهزور (موضع سوق بالمدينة).

ح ـ فدك.

وكان الرسول قد وقف ستة من الحوائط السبعة فهي صدقة الرسول ، ووهب شيئا من أراضي بني النضير لأبي بكر وعبد الرحمن بن عوف وأبي دجانة ، وأعطى أزواجه من حصون خيبر ، واعطى فدك لفاطمة وأعطى ، حمزة بن النعمان العذري رمية سوط من وادي القرى.

لمّا توفّي الرسول جاء أبو بكر وعمر إلى عليّ فقال له عمر : ما تقول في ما ترك رسول الله؟

قال علي : نحن أحقّ الناس برسول الله.

قال عمر : والّذي بخيبر؟

قال علي : والّذي بخيبر.

قال عمر : والّذي بفدك؟

قال علي : والّذي بفدك.

١٨٦

قال عمر : أما والله حتّى تحزّوا رقابنا بالمناشير فلا.

ودفع أبو بكر إلى عليّ آلة رسول الله ودابّته وحذاءه وقال : ما سوى ذلك صدقة ، واستولى على كلّ ما تركه الرسول مرّة واحدة حتّى فدك ولم يتعرّض لشيء ممّا وهبه النبيّ لسائر المسلمين فخاصمتهم فاطمة في ثلاثة أمور :

أ ـ في فدك منحة الرسول إيّاها : فطلب أبو بكر منها البيّنة فشهد لها رجل وامرأة فرفض شهادتهما لأنّهما لم يكونا رجلين أو رجلا وامرأتين.

ب ـ في إرثها من الرسول : بعد عشرة أيّام من وفاة رسول الله جاءت فاطمة إلى أبي بكر ومعها عليّ والعباس فقالت : ميراثي من رسول الله أبي ، فقال أبو بكر : أمن الرثّة أو من العقد؟ قالت : فدك وخيبر وصدقته بالمدينة أرثها كما ترثك بناتك ، فقال أبو بكر : أبوك والله خير منّي ، وأنت والله خير من بناتي.

وفي رواية قالت : من يرثك إذا متّ؟

قال ولدي وأهلي.

قالت : ما بالك ورثت رسول الله دوننا؟

قال : يا بنت رسول الله ما فعلت ، ما ورثت أباك أرضا ولا ذهبا ولا فضّة ولا غلاما ولا ولدا.

فقالت : سهمنا بخيبر وصافيتنا بفدك.

قال : سمعت رسول الله يقول : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة ، إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال ـ يعني مال الله ـ ليس لهم أن يزيدوا على المأكل» ما كان النبيّ يعول فعليّ. فقال عليّ «وورث سليمان داود» وقال : «يرثني ويرث من آل يعقوب» قال أبو بكر : هو هكذا ، وانت والله تعلم مثل ما أعلم ، فقال عليّ : هذا كتاب الله ينطق ، فسكتوا وانصرفوا.

ج ـ في سهم ذي القربى : لمّا منع أبو بكر فاطمة وبني هاشم سهم ذوي القربى وجعله في السلاح والكراع أتته فاطمة وقالت :

لقد علمت الّذي ظلمتنا أهل البيت من الصدقات (أي أخذت أوقاف رسول الله) وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى ثمّ قرأت عليه : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ...) الآية.

وفي رواية قالت : عمدت الى ما أنزل الله فينا من السماء فرفعته عنّا.

١٨٧

فقال أبو بكر : بأبي أنت وأمّي ووالد ولدك ، السمع والطاعة لكتاب الله ولحق رسول الله وحق ابنته وأنا أقرأ من كتاب الله الّذي تقرئين منه ولم يبلغ علمي منه أنّ هذا السهم من الخمس مسلّم إليكم كاملا! قالت : أفلك هو ولاقربائك؟ قال : لا! وأنفق الباقي في مسالح المسلمين ، قالت : ليس هذا حكم الله.

وفي رواية : قال لها : حدّثني رسول الله «انّ الله تعالي يطعم النبيّ الطعمة ما كان حيّا فاذا قبضه إليه رفعت».

وفي رواية : سمعت رسول الله يقول «سهم ذوي القربى لهم في حياتي وليس لهم بعد موتي» فغضبت فاطمة وقالت : أنت وما سمعت من رسول الله أعلم ، ما أنا بسائلتك بعد مجلسي. والله لا أكلّمكما أبدا ، فماتت وما تكلّمهما.

* * *

* لمّا أدلت فاطمة بكل ما لديها من دليل وشهود وأبى أبو بكر أن يردّ إليها شيئا ممّا أخذ ، رأت أن تبسط الخصومة على ملأ من المسلمين وتستنصر أصحاب أبيها وتشركهم في المسئولية فذهبت إلى مسجد أبيها في لمّة من حفدتها ما تخرم مشيتها مشية الرسول حتّى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار فنيطت دونها ملاءة فخطبت فيهم وقالت في خطبتها :

أيّها الناس أنا فاطمة وأبي محمّد (ص) أقولها عودا على بدء (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) الآية ثم قالت في كلامها :

أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول الله (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) وقال تعالى في ما قصّ من خبر يحيى بن زكريا ربّ (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) وقال عزّ ذكره (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وقال (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وقال (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) وزعمتم أن لا حقّ ولا إرث لي من أبي ولا رحم بيننا ، أفخصّكم الله بآية أخرج نبيّه (ص) منها أم تقولون أهل ملّتين لا يتوارثون؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟ لعلّكم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من النبيّ (ص) أفحكم الجاهلية تبغون؟ ...

ثمّ عادت فاطمة إلى بيتها وهجرت أبا بكر ولم تزل مهاجرته حتّى توفيّت وعاشت بعد النبيّ ستة أشهر فلمّا توفيّت دفنها زوجها عليّ ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر.

١٨٨

تأوّل الخليفة أبو بكر حديثا رواه هو ، فمنع ابنة الرسول من إرث أبيها ، واجتهد فرفع الخمس عن ذوي قربى الرسول ، وعلى ذلك انتهى عهده!

على عهد عمر

قال الإمام عليّ في جواب سؤال من قال له : بأبي وأمّي ما فعل أبو بكر وعمر في حقّكم أهل البيت من الخمس ...؟

«انّ عمر قال : لكم حقّ ولا يبلغ علمي إذا كثر أن يكون لكم كلّه فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى لكم. فأبينا عليه إلّا كلّه فأبى أن يعطينا».

أراد عمر أن يدفع إلى الإمام وإلى عمّه العبّاس بعض تركة النبيّ في المدينة وكان كلّ ذلك بعد ما انهالت الثروة عليهم على أثر اتّساع الفتوح.

اجتهد عمر فاستمرّ على منع ذوي القربى من سهامهم في الخمس واجتهد فاستمرّ على مصادرة تركة الرسول ، وأخيرا لمّا انهالت الثروة عليهم اجتهد وأراد أن يدفع إليهم بعضها وعلى هذا انتهى عهده.

على عهد عثمان

أعطى عثمان خمس غزوة إفريقيا الأولى عبد الله بن أبي سرح ابن خالته وأخاه من الرضاعة ، وأعطى خمس الغزوة الثانية ابن عمّه وصهره مروان بن الحكم وأقطعه فدك ، وأقطع الحارث ابن عمّه وصهر «المهزور» موضع سوق بالمدينة ، وكان رسول الله قد تصدّق به على المسلمين ، وأعطى عمّه الحكم صدقات قضاعة ، وإذا أمسى عامل صدقات المسلمين على سوق المسلمين أتاه عثمان فقال له : ادفعها إلى الحكم ، قال البيهقى في ما أقطع عثمان من تركة الرسول ذوي قرباه : تأوّل في ذلك ما روي عن رسول الله إذا أطعم الله نبيّا طعمة فهي للّذي يقوم من بعده ، وكان مستغنيا عنها بماله فجعلها لاقربائه ووصل بها رحمهم.

إذا اجتهد عثمان فأقطع أقرباءه تركة الرسول وصدقاته ، واجتهد فأعطاهم الخمس ، واجتهد فأعطاهم الصدقات. اجتهد ثمّ اجتهد ثمّ اجتهد. فما أوسع باب هذا الاجتهاد!؟!

١٨٩

على عهد الإمام عليّ (ع)

لم يكن باستطاعة الإمام أن يغيّر شيئا من سنّة أبي بكر وعمر خاصّة في ما يعود على أهل البيت بالمال.

على عهد معاوية

كان اجتهاد معاوية في منع ذوي قربى الرسول من الخمس ومصادرة تركة الرسول مشابها لاجتهاد الخلفاء من قبله ، وإنّما زاد اجتهادا على اجتهاد لمّا كتب يأمر بأن تصطفى له كلّ صفراء وبيضاء والروائع من غنائم الفتوح وألّا يقسّم منها شيء بين المسلمين.

على عهد عمر بن عبد العزيز

حاول عمر بن عبد العزيز أن يتابع النصّ الشرعي فدفع إلى ذريّة الرسول شيئا من سهامهم في الخمس وأعاد إليهم فدك فمات ميتة مجهولة السبب عندنا.

بعد ابن عبد العزيز

اجتهد يزيد بن عبد الملك فقبض فدك من بني فاطمة فلمّا ولي السفاح ردّها إلى بني فاطمة ، ثمّ اجتهد المنصور وقبضها عنهم ، وردّها المهديّ إلى ولد فاطمة ، واجتهد موسى ابن المهديّ وقبضها عنهم وردّها المأمون إليهم ، وبقيت في أيديهم حتّى ولي المتوكّل فاجتهد وقبضها منهم وأقطعها عبد الله البازيار (١) فقطع إحدى عشرة نخلة كان الرسول قد غرسها وكان هذا آخر ما بلغنا من أخبار اجتهاد الخلفاء في الخمس وفي تركة الرسول ويأتي بعد ذلك آراء العلماء في موارد اجتهاد الخلفاء.

آراء العلماء في مصرف الخمس

تضاربت آراء العلماء في مصرف الخمس بعد الرسول (ص) تبعا لتضارب أفعال الخلفاء فقال القوم : إنّ سهم رسول الله (ص) للإمام أي الخليفة ، وإنّ سهم ذي

__________________

(١) كلمة فارسيّة : اي صاحب البازي ومربيه ، ويبدو انه كان يلى طيور صيد المتوكل.

١٩٠

القربى لقرابة الإمام ، وقال قوم : بل يجعلان في السلاح والعدّة ، وقال آخرون : إنّ تعيين مصرف الخمس منوط باجتهاد الخلفاء.

وقال بعضهم في منع عمر أهل البيت خمسهم : «إنّه من باب الاجتهاد» «وانّ عمر لم يخرج بما حكم عن طريقة الاجتهاد ومن قدح في ذلك فانّما يقدح في الاجتهاد الّذي هو طريق الصحابة» و «إنّها مسألة اجتهادية» وقالوا في جواب من انتقده وقال «إنّه أعطى أزواج النبي وافرض ، ومنع فاطمة وأهل البيت من خمسهم ... ولم يكن ذلك في زمن النبيّ» قالوا في جوابه : «إنّه من مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية» (١).

ولا يعزب عن بالنا انّ كلّ هذا الكلام يجري في مورد خمس غنائم الفتوح ، وأنّ كلّ هؤلاء القائلين بهذه الأقوال يقولون : إنّ الآية الكريمة (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ...) إنّما تخصّ خمس غنائم الفتوح. إذا فإنّ هؤلاء يقولون ـ مع تعيين الله سبحانه مصرف خمس غنائم الفتوح في هذه الآية ـ ؛ فإنّ تعيين مصرف الخمس منوط باجتهاد الخلفاء».

وقد عيّن الخلفاء مصرف الخمس كما يلي :

اجتهد أبو بكر وعمر فمنعا فاطمة ابنة رسول الله وسائر ذوي قربى الرسول وأقربائه من بني هاشم وبني المطّلب من سهامهم في الخمس ، وزاد عثمان في هذه المسألة اجتهادا فدفع الخمس وتركة الرسول إلى أقاربه ووصل بذلك رحمهم ، وزاد معاوية في هذه المسألة اجتهادا فضمّ إلى ذلك كلّ صفراء وبيضاء وروائع غنائم الفتوح وأدخل كلهنّ خزائنه الخاصّة ، واجتهد الخلفاء الأمويّون والعبّاسيّون من بعد اولئك فأدخلوا الخمس خزائنهم الخاصّة وأنفقوا من كلّ ذلك على الشعراء الخلعاء والجواري المغنّيات.

واجتهد العلماء وعدّوا كل ما فعله الخلفاء حكما من أحكام الشرع الإسلامي وأنّ على المسلمين أن يدينوا به وأنّ من خالف ذلك فقد خالف السنّة والجماعة.

إذا فإنّ قولهم «اجتهد الخليفة في المسألة» يعني : إنّ الخليفة ارتأى ذلك ، وأنّ «المسألة اجتهاديّة» يعني : إنّ رأي الخليفة فيها هو الحكم الإسلامي! وعلى هذا فإنّهم يقولون : قال الله وقال رسوله واجتهدت الخلفاء ، وإنّ اجتهاد الخلفاء مصدر للتشريع

__________________

(١) أي أن مخالفة عمر لرسول الله هي من باب مخالفة مجتهد لمجتهد آخر.

١٩١

الإسلامي في عداد كتاب الله وسنة رسوله : وإنا لله وإنّا إليه راجعون!!

* * *

أوردنا بشيء من التفصيل آراء مدرسة الخلفاء في الخمس وأعمالهم فيه واستدلالهم على ما ارتأوا ، وأشرنا إلى قول أئمة أهل البيت في الخمس وأنّه يقسّم لديهم على ستة أسهم ثلاثة منها لله ولرسوله ولذوي قرباه للعنوان ، يقبض الرسول هذه الأسهم في حياته ويعود أمرها من بعده إلى الأئمة الاثني عشر من أهل بيته ، والأسهم الثلاثة الأخرى منه لفقراء بني هاشم وأيتامهم وأبناء سبيلهم مع وصف الفقر (١).

وقالوا أيضا : إنّ الخمس يجب إخراجه من كلّ مال فاز به المسلم من جهة العدى وغيرهم (٢). واستدلّوا في كلتا المسألتين بعموم آية الخمس مع ما لديهم من سنّة الرسول ، قال فقهاء مدرستهم في مقام الاستدلال بالآية على المسألة الثانية :

إنّ الآية وإن كانت قد نزلت في غنائم غزوة بدر ، ولكن ليس للمورد أن يخصّص (٣) ، والتخصيص من غير دليل باطل (٤) وبيان الإيراد على الاستدلال وجوابه كما يلي : (٥)

إنّ المورد على الاستدلال بالآية قال : إنّ الآية نزلت في غنائم غزوة بدر فلا تشمل ما عدا غنائم الحرب.

واجيب عنه : بأنّ نزول الآية في غزوة بدر لا يخصّص الحكم العام الوارد في الآية ـ وهو وجوب أداء الخمس من المغنم ـ ويجعل الحكم خاصّا بغنائم الحرب. ومثاله من غير هذا المورد ؛ حكم جلد الشهود على الزنا إن لم يبلغ عددهم الأربعة والوارد في قصّة الإفك ، فإنّ المورد وهو قصّة الإفك لا يخصّص الحكم العام الذي ورد في الآيات وهو جلد الشهود إن لم يبلغوا أربعة بتلك الواقعة ، وكذلك شأن حكم الظهار الوارد في سورة المجادلة فإنّه ما خصّ المرأة الّتي جادلت وزوجها يوم ذاك وإن نزلت الآية في شأنهما ، وهكذا الأمر في ما عداهما.

__________________

(١) مضى بيانه في باب مواضع الخمس لدى مدرسة أهل البيت.

(٢) ورد ذلك بباب الخمس في الموسوعات الحديثية والكتب الفقهية لدى مدرسة أهل البيت.

(٣) راجع كتاب الخمس بمستند النراقي وغيره.

(٤) المنتهى ، للعلامة الحلي (ت ٧٢٩ ه‍) ج ١ / ٧٢٩.

(٥) توخينا الشرح والتبسيط في هذا الكتاب وتجنبنا المصطلحات العلمية مهما أمكن ليعم نفعه إن شاء الله تعالى.

١٩٢

وقالوا في الجواب أيضا : انّ تخصيص الآية وتقييدها ـ بغنائم دار الحر ب ـ أولى بطلب الدليل عليه (١) وانّ على من يخصّص الآية بها إقامة الدليل (٢).

وممّا يؤيّد هذه الأجوبة ما ذكره القرطبي من مدرسة الخلفاء بتفسير الآية قال : والاتّفاق ـ أي اتّفاق علماء مدرسة الخلفاء ـ حاصل على انّ المراد بقوله تعالى (أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) مال الكفّار اذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر ، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بيّناه (٣).

إذا فتخصيص الغنائم بغنائم دار الحرب خلاف المتبادر من اللفظ عند أهل اللغة ، وقول علماء مدرسة الخلفاء بالتخصيص يخالف المعنى المتبادر من اللفظ عند إطلاقه.

وأجيب على الإيراد أيضا : بأنّ الآية وإن كانت نازلة في مورد خاص ـ هو غزوة بدر ـ ولكن من المعلوم عدم اختصاصها بذلك المورد الخاصّ حتّى انّ من ذهب من العامّة إلى عدم وجوب الخمس في مطلق الغنائم لم يخصّه بخصوص مورد الآية بل عمّمه إلى مطلق الغنائم المأخوذة في الحروب. انّا لو بنينا على الجمود في استفادة الحكم من الآية بحيث لم نتعدّ موردها بوجه لوجب القول بعدم وجوب الخمس إلّا على من شهد غزوة بدر في ما اغتنم من المشركين في تلك الغزوة ، ولم يقل بهذا احد ، فلا بدّ من التعدّي من مورد الآية لا محالة ، فنحن نتعدّى منه إلى مطلق ما يصدق عليه الغنيمة سواء كان مكتسبا من الحرب أو التجارة أو الصناعة أو غير ذلك (٤).

وبالإضافة إلى استدلالهم بآية الخمس يستدلّون بما ورد عن أئمة أهل البيت في هذا الحكم كما يفعلون في سائر الأحكام فانّ الرسول قد أمر بالتمسّك بهم في حديث الثقلين وغيره ، سواء أسند الأئمة حديثهم إلى جدّهم الرسول مثل الحديث الّذي رواه الصدوق في الخصال عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عن عليّ بن أبي طالب عن النبي (ص) قال في وصيّته له : يا عليّ إنّ عبد المطّلب سنّ في الجاهلية خمس سنن أجراها الله له في الإسلام ، حرّم نساء الآباء على الأبناء فأنزل الله عزوجل (وَلا تَنْكِحُوا

__________________

(١) مسالك الإفهام ج ٢ / ٨٠.

(٢) الخلاف للشيخ الطوسي ج ٢ / ١١٠ ، وج ١ / ٣٥٨ ، وقريب منه لفظ مصباح الفقيه ص ١٩ من كتاب الخمس.

(٣) تفسير القرطبي ٨ / ١.

(٤) تقريرات الحاج السيد حسين البروجردي زبدة المقال ص ٥.

١٩٣

ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) (١) ووجد كنزا فاخرج منه الخمس وتصدّق به فانزل الله عزوجل (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ...) ولمّا حفر زمزم ... الحديث (٢).

وهذا الحديث يعني أنّ الآية تشمل غير غنائم الحرب ، وقد سبق ذكر سنّة الرسول في ذلك أيضا.

هذه خلاصة أدلّة أتباع مدرسة أئمة أهل البيت في هذا المقام.

__________________

(١) سورة النساء الآية ٢٢.

(٢) الخصال ط. وتحقيق الغفاري ص ٣١٢.

١٩٤

ـ ٦ ـ

اجتهاد الخليفة عمر في المتعتين

حرّم عمر متعتي الحجّ والنساء فعدّ ذلك منه من مسائل الاجتهاد كما قاله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (١) ورواه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري ـ قال:

تمتّعنا على عهد النبيّ الحجّ والنساء فلمّا كان عمر نهانا عنهما فانتهينا (٢).

وفي تفسير السيوطي وكنز العمال عن سعيد بن المسيّب قال : نهى عمر عن المتعتين متعة النساء ومتعة الحجّ (٣).

وفي بداية المجتهد وزاد المعاد وشرح نهج البلاغة والمغني لابن قدامة والمحلّى لابن حزم واللفظ للأوّل : روي عن عمر ـ وفي زاد المعاد : ثبت عن عمر ـ أنّه قال : «متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) أنا أنهى عنهما واعاقب عليهما : متعة الحجّ ومتعة النساء»(٤).

__________________

(١) في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ / ٣٦٣ في جواب الطعن الثامن.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٣٦٣ ، ونظيره في ص ٣٥٦ منه ، وفي ص ٣٢٥ منه بإيجاز.

(٣) تفسير السيوطي ٢ / ١٤١ ، وكنز العمال ط. الأولى ٨ / ٢٩٣ ، وراجع مشكل الآثار للطحاوي ص ٣٧٥ ، وسعيد بن المسيب قرشي مخزومي من كبار التابعين. أخرج حديثه أصحاب الصحاح. مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين. تقريب التهذيب ١ / ٣٠٦.

(٤) بداية المجتهد ١ / ٣٤٦ باب القول في التمتع ، وزاد المعاد لابن القيم ٢ / ٢٠٥ فصل «إباحة متعة النساء» ولفظة «أنا أعاقب عليهما» تحريف. وشرح النهج ٣ / ١٦٧ ، والمغني لابن قدامة ٧ / ٥٢٧ ، والمحلى لابن حزم ٧ / ١٠٧ ، وتفسير القرطبي والرازي ٢ / ١٦٧ ، و ٣ / ٢٠١ و ٢٠٢ ، وكنز العمال ٨ / ٢٩٣ و ٢٩٤ ، والبيان والتبيين للجاحظ ٢ / ٢٢٣. وراجع الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار ، مناسك الحج ص ٣٧٤ عن ابن عمر ، ـ

١٩٥

وفي رواية الجصّاص وابن حزم واللفظ للأوّل : متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) أنا أنهى عنهما واضرب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج (١).

* * *

تشير الروايات الآنفة الى اجتهادين للخليفة عمر في حكمين من أحكام الإسلام : في متعة الحجّ ومتعة النساء وفي ما يلي تفصيل القول فيهما.

__________________

ـ وكنز العمال ط. الاولى ٨ / ٢٩٣ و ٢٩٤.

(١) أحكام القرآن للجصّاص ١ / ٢٧٩ ، والمحلى لابن حزم ٧ / ١٠٧ ، ولعل منشأ الاختلاف في اللفظ ان الخليفة قالها مرتين مرة قال : اضرب عليهما واخرى اعاقب.

١٩٦

«أ»

متعة الحجّ

تقع متعة الحجّ ضمن حجّ التمتّع وبيان ذلك أنّ الحجّ ينقسم إلى ثلاثة أنواع ١ ـ حجّ التّمتّع ٢ ـ حجّ الإفراد ٣ ـ حجّ القران.

١ ـ حجّ التّمتّع وهو فرض من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وصورته : أن يحرم بالعمرة إلى الحجّ ويلبي بها من الميقات في أشهر الحجّ : شوّال وذي القعدة وذي الحجّة ثمّ يأتي مكّة ويطوف بالبيت سبعا ويصلّي ركعتي الطواف ويسعى بين الصفا والمروة سبعا ثمّ يقصّر فيحلّ له جميع ما حرم عليه بالإحرام ، ويقيم بمكّة محلّا حتّى ينشئ يوم التروية من تلك السنة إحراما آخر للحجّ ثمّ يخرج إلى عرفات ثمّ يفيض منها بعد غروب التاسع إلى المشعر ومنها إلى منى وهكذا حتى يتمّ مناسك الحجّ ويحلّ بالحلق أو التقصير من إحرامه. ويسمّى هذا الحجّ بحجّ التّمتّع وعمرته بعمرة التّمتّع لقوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) ولأنّ الحاجّ يتمتّع بالحلّ بين إحرامي العمرة والحجّ ومدّة الحلّ بين الإحرامين هي متعة الحجّ الّتي حرّمها الخليفة عمر ومن تبعه على ذلك ويأتي بها جلّ المسلمين في هذا اليوم.

٢ و ٣ حجّ الإفراد وحجّ القران :

أوّلا في فقه أهل البيت :

صورة الإفراد : أن يحرم للحجّ من الميقات أو من منزله إن كان دون الميقات ثمّ يمضي إلى عرفات ويقف بها يوم التاسع ، ثمّ يأتي بباقي مناسك الحجّ حتّى يتمّها جميعا ، ثمّ يحلّ من إحرامه وعليه عمرة مفردة يأتي بها من أدنى الحلّ أو من أحد المواقيت وتصحّ

١٩٧

تمام السنة ويسمّيان بالإفراد والمفردة لأنّ الحاجّ يأتي بكلّ منهما مفردا.

وصورة حجّ القران : كالإفراد في جميع مناسكه ويتميّز عنه بأنّ القارن يسوق الهدي عند إحرامه أي يقرن بين التلبية والهدي فيلزمه بسياقه ، وليس على المفرد هدي أصلا.

وأحدهما فرض حاضري المسجد الحرام على سبيل التخيير (١).

ثانيا : في فقه مدرسة الخلفاء :

أ ـ القران : أن يقرن بين العمرة والحجّ أي يجمع بينهما بنيّة واحدة وتلبية واحدة فيقول : لبّيك بحجّة وعمرة ، أو يهلّ بالعمرة في أشهر الحجّ ثمّ يردف ذلك بالحجّ قبل أن يحلّ من العمرة. ويلزم القارن من غير حاضري المسجد الحرام هدي المتمتّع (٢). والإفراد : أن لا يكون متمتّعا ولا قارنا بل يهلّ بالحجّ فقط (٣) ويقال : أفرد الحجّ ، وفي بعض الروايات جرّد (٤).

* * *

كانت تلكم أنواع الحجّ لدى المسلمين. أمّا المشركون في الجاهلية فكان عندهم ما رواه كلّ من البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وأحمد في مسنده ، والبيهقي في سننه الكبرى وغيرهم في غيرها ، واللفظ للأوّل ، عن ابن عباس أنّه أخبر عن المشركين في الجاهلية وقال :

«كانوا يرون العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرّم صفر (٥) ويقولون : إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلّت العمرة لمن اعتمر» (٦).

__________________

(١) دليل الناسك للسيد محسن الحكيم ط. الآداب ـ النجف سنة ١٣٧٧ ه‍ ص ٣٧ ـ ٤٥.

(٢) خلافا لبعض أصحاب مالك حسب نقل بداية المجتهد.

(٣) رجعنا لما أوردناه هنا إلى بداية المجتهد ١ / ٣٤٨ فصل «القول بالقارن» وإلى مادة «القرآن» من نهاية اللغة لابن الأثير.

(٤) سنن البيهقي ٥ / ٥ باب من اختار الإفراد.

(٥) هكذا ورد مراعاة للسجع.

(٦) البخاري ، كتاب الحج ، باب التمتع والقران والإفراد : فتح الباري ج ٤ / ١٦٨ ـ ١٦٩ ، وكتاب مناقب الأنصار منه ، وصحيح مسلم ، باب جواز العمرة في أشهر الحج الحديث ١٩٨ ، ومسند أحمد ١ / ٢٤٩ و ٢٥٢ و ٣٣٢ و ٣٣٩ ، وسنن أبي داود كتاب المناسك ، باب العمرة ، والنسائي ، كتاب الحج ٧٧ ، وسنن البيهقي ٤ / ٣٤٥ ، والمنتقى الحديث ٢٤٢٢ ، وراجع الطحاوي في مشكل الآثار ٣ / ١٥٥ ، وشرح معاني الآثار ١ / ٣٨١ في مناسك الحج.

١٩٨

شرح الرواية : روى النووي في شرح مسلم أنّ العلماء قالوا في شرح الرواية الآنفة :

«ويجعلون المحرّم صفر» المراد الإخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه ، وكانوا يسمّون المحرّم صفرا ويحلّونه وينسئون المحرّم أي يؤخّرون تحريمه إلى ما بعد صفر ، لئلّا يتوالى بينهم ثلاثة أشهر محرّمة تضيق عليهم أمورهم من الغارة وغيرها.

و «إذا برأ الدبر» أي برأ ما كان يحصل بظهور الإبل من الحمل عليها ومشقّة السفر فإنّه كان يبرأ بعد انصرافهم من الحجّ.

و «عفا الأثر» أي اندرس أثر الإبل وغيره في سيرها.

وقال ابن حجر في تعليل هذا الأمر : وجه تعلّق جواز الاعتماد بانسلاخ صفر مع كونه ليس من أشهر الحجّ ، وكذلك المحرّم أنّهم لمّا جعلوا المحرّم صفرا ولا يبرأ دبر إبلهم إلّا عند انسلاخه ، ألحقوه بأشهر الحجّ على طريق التبعية ، وجعلوا أوّل أشهر الاعتماد شهر المحرّم الّذي هو في الأصل صفر ، والعمرة عندهم في غير أشهر الحجّ (١).

كان هذا دأب قريش وسنّتهم في العمرة وقد خالفهم الرسول في ذلك كما يلي بيانه :

سنّة الرسول (ص) في العمرة

قال ابن القيم : اعتمر رسول الله (ص) بعد الهجرة أربع عمر كلّهن في ذي القعدة ، وأيّد ذلك بما رواه عن أنس وابن عباس وعائشة وفي لفظ الأخيرين : «لم يعتمر رسول الله (ص) إلّا في ذي القعدة» (٢).

قال ابن القيم : «والمقصود أنّ عمره كلّها كانت في أشهر الحجّ مخالفة لهدي المشركين ، فإنّهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحجّ ، ويقولون هي من أفجر الفجور. وهذا دليل على أنّ الاعتمار في أشهر الحجّ أفضل منه في رجب بلا شكّ.»

وقال : لم يكن الله ليختار لنبيّه (ص) في عمره إلّا أولى الأوقات وأحقّها بها

__________________

(١) راجع شرح الحديث بشرح النووي على مسلم وشرح ابن حجر بفتح الباري.

(٢) زاد المعاد ١ / ٢٠٩ فصل في هديه (ع) في حجه وعمره. وتفصيل الروايات بصحيح البخاري ١ / ٢١٢ باب كم اعتمر النبي ، وبصحيح مسلم باب بيان عمر النبي (ص) وزمانهن من كتاب الحج الحديث ٢١٧ ـ ٢٢٠ ص ٩١٦ ـ ٩١٧ ، والبيهقي بسننه الكبرى ٤ / ٣٥٧ باب من استحبّ الإحرام بالعمرة من الجعرانة ، وفي ٥ / ١٠ ـ ١٢ منه وابن كثير ٥ / ١٠٩.

١٩٩

فكانت العمرة في أشهر الحجّ نظير وقوع الحجّ في أشهره ، وهذه الأشهر قد خصّها الله تعالى بهذه العبادة ، وجعلها وقتا لها ، والعمرة حجّ أصغر ، فأولى الأزمنة بها أشهر الحجّ ، وذو القعدة أوسطها ، وهذا ممّا «نتخار الله (١)» فيه ، فمن كان عنده فضل علم فليرشد إليه(٢).

* * *

بعد إيراد سنّة المشركين في العمرة وسنّة الرسول فيها نعود إلى البحث عن متعة الحجّ في الكتاب والسنّة ثمّ نذكر كيفية اجتهاد الخلفاء فيها في ما يلي :

متعة الحجّ في الكتاب

شرّع الله الجمع بين العمرة والحجّ في أشهر الحجّ والتّمتّع بالحلّ بينهما خلافا لسنن المشركين وقال في كتابه الكريم :

(فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) البقرة / ١٩٦.

في هذه الآية شرّع الله سبحانه التّمتّع بالعمرة إلى الحجّ لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وأمن ، وبيّن في الآية الّتي تليها بقوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) أنّ الجمع بين العمرة والحجّ يجب أن يقع في أشهر الحجّ. نصّت الآيتان بكلّ جلاء ووضوح على هذا الحكم ، وإلى هذا أشار الصحابيّ عمران بن الحصين حسب رواية البخاري في صحيحه عنه : حيث قال :

أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله (ص) ولم ينزل قرآن يحرّمه (٣) ولم ينه عنها حتى مات ... الحديث (٤).

ولفظ مسلم قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله (يعني متعة الحجّ) وأمرنا بها رسول الله (ص) ، ثمّ لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحجّ ، ولم ينه عنها رسول الله حتى مات ... الحديث (٥).

__________________

(١) هكذا في النسخة ولعل الصواب تختار.

(٢) زاد المعاد ١ / ٢١١ ، وراجع ص ٢٢٣ منه ، وسنن البيهقي ٤ / ٣٤٥ ، باب العمرة في أشهر الحج.

(٣) بهذا اللفظ ورد النصّ في البخاري ، والأولى أن يقول : (يحرمها) لعودة الضمير على المتعة وهي مؤنثة لفظا.

(٤) تفسير الآية بصحيح البخاري ٣ / ٧١ ، وسنن البيهقي ٥ / ١٩.

(٥) الحديث ١٧٢ باب جواز التمتع من صحيح مسلم ص ٩٠٠ ، وتفسير القرطبي ٢ / ٣٣٨ ، وزاد المعاد ـ

٢٠٠