معالم المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٠٤

ج ـ وقال في حديث آخر بعد أن ذكر الآية الآنفة : «هذه لرسول الله خاصّة قرى عربية فدك وكذا وكذا».

وروى أبو داود عن الزهري أنّه قال :

صالح النبيّ أهل فدك وقرى وهو محاصر قوما آخرين فأرسلوا إليه بالصلح ، قال : «فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب» يقول ، بغير قتال ، قال : وكانت بنو النضير للنبيّ خالصا لم يفتحها عنوة «افتتحوها على صلح» ويثبت ممّا ذكرنا أنّ البحاثة ابن الأثير لم يصب في قوله بمادّة «صفا» من نهاية اللغة حين قال : الصفي ما كان يأخذه رئيس الجيش ويختاره لنفسه من الغنيمة قبل القسمة ويقال له الصفيّة والجمع الصفايا ، ومنه حديث عائشة : كانت صفيّة (رض) من الصفيّ ، يعني صفيّة بنت حييّ كانت ممّن اصطفاه النبيّ (ص) من غنيمة خيبر وقد تكرّر ذكره في الحديث. أي ذكر الصفيّ والصفايا.

وقال : «وفي حديث عليّ والعبّاس انّهما دخلا على عمر (رض) وهما يختصمان في الصوافي الّتي أفاء الله على رسوله (ص) من أموال بني النضير ، الصوافي : الأملاك والأراضي الّتي جلا عنها أهلها أو ماتوا ولا وارث لها واحدها صافية ، قال الأزهري : يقال للضياع الّتي يستخلصها السلطان لخاصّته : الصوافي».

وأخذ من الأزهري وابن الأثير من جاء بعدهما من اللغويّين مثل ابن منظور بمادّة «صفا» من لسان العرب.

وخلاصة قولهم : إنّ الصفيّ ويجمع على الصفايا يقال : لما يصطفيه الرئيس من غنائم الحرب غير المنقولة. والصافية وتجمع على الصوافي لما يستخلصها السلطان من أراض وضياع. وليست أدري كيف يصحّ ذلك وقد رأينا الخليفة عمر يسمي فدك وخيبر وقرى عربية اخرى بصفايا رسول الله.

ووجدنا أبا داود (١) المتوفّى سنة (٢٧٥ ه‍) يعقد بابا في سننه باسم «باب صفايا رسول الله» يذكر شأن تلك القرى الّتي وردت في حديث عمر وغير عمر.

__________________

(١) أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب كتاب السنن ، قال : كتبت عن رسول الله خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب يعني السنن ، جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه ، سكن البصرة وتوفي بها. وراجع تفسير الخبر في تفسير الآية في الدرّ المنثور.

١٠١

ورأينا التقسيم المذكور قد استفيد من الأزهري (١) المتوفّى سنة (٣٧٠ ه‍) أي بعد ما يقارب قرنا من أبي داود ، ولعلّه أخذه من المتعارف في عصره وليس من قبله ، وخاصّة من القرامطة الذين عاشرهم دهرا وهو في اسرهم واستفاد من محاوراتهم كثيرا.

وخلاصة القول :

إنّ الصفايا ومفردها الصفيّ كانت تطلق حتّى عصر أبي داود على كلّ ما كان خالصا لرسول الله من أموال وضياع وعقار.

٥ ـ الأنفال :

الأنفال جمع النفل والنفل في اللغة : العطية والهبة ، والنفل بالسكون : الزيادة على الواجب ونفّله نفلا وتنفيلا ونفله وأنفله إيّاه أعطاه نفلا أي زيادة ، ومنه : نفله سلب القتيل ، ونوافل الصلاة (٢).

واستعمل لفظ الأنفال في الشرع الإسلامي لأوّل مرة بسورة الأنفال في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...) الآية. وشأن هذه السورة أن المسلمين خاضوا أوّل معركة حربية تحت لواء قائدهم الأعظم رسول الله (ص) في غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة ، ولمّا انتهت المعركة بفوزهم الساحق على قريش اختلفوا في ما ظفروا به من جهة العدى ورجعوا إلى رسول الله (ص) في ذلك فنزلت الآيات الكريمة من أوّل سورة الأنفال :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الآيات.

في سيرة ابن هشام والطبري وسنن أبي داود (٣) وغيرها واللفظ للأوّل : «انّ

__________________

(١) الأزهري أبو منصور محمد بن احمد بن الأزهر الهروي الشافعي اللغوي ، أسرته القرامطة فبقي معهم دهرا طويلا يسكن البادية ، فاستفاد من محاوراتهم ألفاظا جمة. من تصانيفه التهذيب ولعله استفاد ما ذكره في تعريف «الصوافي» من محاورات القرامطة في ما يخص الغزو والسلب والنهب. وعلى هذا فليس تعريفه هذا تعريف مصطلح شرعي ليفسر بموجبه ما ورد في الحديث الشريف.

(٢) راجع مادة (نفل) من معاجم اللغة خاصة لسان العرب.

(٣) سنن أبي داود ٣ / ٩ باب في النفل من كتاب الجهاد.

١٠٢

رسول الله (ص) أمر بما في العسكر ممّا جمع الناس فجمع فاختلف المسلمون فيه ، فقال من جمعه : هو لنا ، وقال الّذين كانوا يقاتلون العدوّ ويطلبونه : والله لو لا نحن ما أصبتموه ، لنحن شغلنا عنكم القوم حتّى أصبتم ما أصبتم ، وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله (ص) مخافة أن يخالف إليه العدوّ : والله ما أنتم بأحقّ به منّا ، لقد رأينا أن نقتل العدوّ إذ منحنا الله أكتافهم ، ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه ، ولكنا خفنا على رسول الله (ص) كرّة العدوّ ، فقمنا دونه ، فما أنتم بأحقّ به منّا.

وروى ابن هشام ـ أيضا ـ عن عبادة بن الصامت أنّه قال عن سورة الأنفال : «فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله (ص) فقسّمه بين المسلمين على السواء».

وروى عن أبي أسيد الساعدي قال : أصبت سيف بني عائذ المخزوميين ويسمّى المرزبان يوم بدر فلمّا أمر رسول الله (ص) الناس أن يردّوا ما في أيديهم من النفل أقبلت حتّى ألقيته في النفل.

قال ابن هشام : ثمّ أقبل رسول الله (ص) قافلا إلى المدينة ومعه الأسارى من المشركين حتّى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب ، فقسّم هنا لك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء (١).

نفهم من كلّ ما سبق أن الله سبحانه حين استعمل لفظة الأنفال في الآية الكريمة قصد منها معناها اللغوي وهو الهبة والعطيّة ، أي أنّ ما استوليتم عليها من أموال العدى ليس من باب السلب والنهب وفق قواعد الجاهلية لتتملكوه ، بل هو عطاء من الله ، ثمّ هو لله ولرسوله وعليكم أن تردّوه إلى رسوله ليعمل فيه وفق رأيه.

ومن هنا نعرف المناسبة في ما استعملت فيه لفظة الأنفال بأحاديث أئمة أهل

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٢٨٣ ـ ٢٨٦ ، وفي طبعة أخرى ٢ / ٢٩٦ وتفسير الآية بتفسير الطبري وغيره.

وعبادة بن الصامت : أبو الوليد الأنصاري الخزرجي ، شهد العقبة الأولى والثانية ومشاهد رسول الله كلّها ، وكان أحد نقباء الأنصار وممن حفظ القرآن على عهد النبي ، توفي سنة ٣٤ أو ٤٥ بالرملة أو بيت المقدس ، ترجمته بأسد الغابة ٣ / ١٠٧.

وأبو أسيد مالك بن ربيعة الأنصاري الخزرجي ، شهد بدرا وما بعدها ، اختلف في وفاته أكانت في ستين أو خمس وستين للهجرة ، ترجمته بأسد الغابة ٤ / ٢٧٩.

وبنو عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم من قريش ، نسبهم في : نسب قريش لمصعب الزبيري ص ٢٩٩.

ومضيق الصفراء بوادي الصفراء بينه وبين بدر مرحلة. معجم البلدان.

١٠٣

البيت ، واريد بها : «كلّ ما اخذ من دار الحرب بغير قتال ، وكلّ أرض انجلى عنها أهلها بغير قتال ، وعلى قطائع الملوك إذا كانت في أيديهم من غير غصب ، والآجام وبطون الأودية والأرضون الموات وما شابهها» (١) فإنّها جميعا عطاء من الله ، وهبة لرسوله ثمّ للأئمة من بعده. وبهذا الاستعمال الأخير أصبحت الأنفال في العرف الإسلامي لدى مدرسة أئمّة أهل البيت اسما لما ذكرناه بين القوسين آنفا.

٦ ـ الغنيمة والمغنم :

انّ الغنيمة والمغنم قد تطوّر مدلولاهما بعد العصر الجاهلي مرّتين : مرّة في التشريع الإسلامى ، واخرى لدى المتشرّعة (أي بين المسلمين) حتى أصبح أخيرا مدلولاهما عندهم مساوقين للسلب والنهب والحرب. وبيان ذلك أنّ العرب كانت تقول :

سلبه سلبا إذا أخذ سلبه وسلب الرجل ثيابه ، وما يأخذه القرن من قرنه ممّا يكون عليه ومعه من لباس وسلاح ودابة وغيرها ، والجمع أسلاب.

وتقول : حربه حربا ، إذا سلبه كلّ ماله وتركه بلا شيء ، وحرب الرجل ماله سلبه فهو محروب وحريب والجمع حربى وحرباء ، وحريبته ماله الّذي سلب منه ، وأخذت حريبته أى ماله الّذي يعيش به ، وأحربه : دلّه على ما يسلبه من عدوّه.

وتقول : نهبه ونهبه إذا أخذ ماله قهرا ، والنهب والنهبى والنهيبى : أخذ المال قهرا والجمع نهاب ونهوب ، والنهب أيضا ضرب من الغارة والسلب ، وأنهب عرضه وماله أباحه لمن شاء.

هكذا فسّرت الألفاظ الآنفة في معاجم اللغة (٢) واستعملت في تلكم المعاني أيضا في السيرة والحديث ومن قبل الصحابة كما يأتي في ما يلي :

في الحديث :

«من قتل قتيلا فله سلبه» (٣).

__________________

(١) راجع البحار للمجلسي ، باب الأنفال من كتاب الخمس ج ٩٦ / ٢٠٤ ـ ٢١٤ ط. الجديدة.

(٢) مثل الصحاح للجوهري ، ونهاية اللغة لابن الأثير ، ولسان العرب لابن منظور. والقاموس وشرحه.

(٣) سنن الدارمي ٢ / ٢٢٩ باب من قتل قتيلا فله سلبه من كتاب السير ، ومسند أحمد ٥ / ٢٩٥ و ٣٠٦ و ١٢ ، وراجع سنن أبي داود ، كتاب الجهاد ج ٢ / ٣ ، وسنن أبي داود أيضا باب في السلب يعطى القاتل من كتاب الجهاد ٢ / ١٣.

١٠٤

وفي قول رسول الله للمغنّي الّذي استجازه ان يغنّي في المدينة «وأحللت سلبك نهبة لفتيان أهل المدينة» (١).

وفي السيرة :

لمّا أعطى رسول الله (ص) في غزوة حنين كلا من أبي سفيان بن حرب وصفوان بن امية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس دونهم قال عباس بن مرداس.

أتجعل نهبي ونهب العبي

د بين عيينة والأقرع

الأبيات (٢).

وقالت قريش في قصّة بدر : «اخرجوا إلى حرائبكم» (٣).

وفي حديث رسول الله : «فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين» (٤).

وفي حديث عمر : «إيّاكم والدّين فانّ أوّله همّ وآخره حرب» (٥).

وفي تاريخ عصر الصحابة : قال معاوية في وصيّته لسفيان بن عوف الغامدي لما بعثه لغزو بلاد المسلمين خارج بلاد الشام : «فاقتل من لقيته ممّن ليس هو على رأيك ، وأحرب كل ما مررت به من القرى ، وأحرب الأموال فإنّ حرب الأموال شبيه بالقتل وهو أوجع للقلب» (٦) ، يقصد اسلب جميع أموالهم.

__________________

(١) سنن ابن ماجة كتاب الحدود ، الحديث ٢٦١٣.

(٢) صحيح مسلم ٣ / ١٠٨ باب اعطاء المؤلفة قلوبهم من كتاب الزكاة وفي الاغاني بترجمة عباس بن مرداس ١٤ / ٢٩٠ وترجمته بأسد الغابة ، والعبيد اسم لفرسه وغزوة حنين كانت في السنة الثامنة وبعد فتح مكة ، وابو سفيان بن حرب حارب رسول الله في احد والخندق وفي غيرهما. وأظهر الاسلام بعد الفتح وتوفي سنة ٣١ ه‍.

وصفوان بن امية القرشي الجمحي توفي بمكة في عصر عثمان أو معاوية.

وعيينة بن حصن الفزاري قيل ان الخليفة عمر قتله ، وقيل مات في عصر عثمان.

والأقرع بن حابس التميمي اصيب بالجوزجان مع الجيش الغازي بلاد خراسان.

اعطى النبي هؤلاء في حنين سهم المؤلفة قلوبهم فاعترض عليه ابن مرداس وقال دفعت سهمى وسهم فرسي العبيد الى عيينة والاقرع.

(٣) بمادة «حرب» من نهاية اللغة لابن الاثير ، وحرائب جمع حريبة.

(٤) مسند أحمد ٤ / ٣٢٨ ، والبخارى ٣ / ٣١ واللفظ للاول ومحروبين : مسلوبي المال.

(٥) موطأ مالك ٢ / ٢٣٦ باب جامع القضاء وكراهيته من كتاب الوصية وآخره حرب : أي ذهاب المال.

(٦) أورد هذا إبراهيم بن محمد الثقفي ت ٢٨٠ ه‍ في كتابه الغارات حسب رواية ابن أبي الحديد عنه في ـ

١٠٥

وفي الحديث : إنّ أصحاب النبيّ أصابوا غنما فانتهبوها فطبخوها فقال النبيّ (ص) : «انّ النهبى أو النهبة لا تصلح» فأكفئوا القدور (١).

وفي غزاة كابل أصاب الناس غنما فانتهبوها فأمر عبد الرحمن مناديا ينادي : إنّي سمعت رسول الله يقول : «من انتهب نهبة فليس منّا» فردّوا هذا الغنم فردّوها فقسّمها بالسوية (٢).

كانت هذه معاني السلب والنهب والحرب ، أمّا الغنيمة والمغنم فقد قال الراغب والأزهري في مادّة غنم : «الغنم معروف ... والغنم إصابته والظفر به ، ثم استعمل في كلّ مظفور به من جهة العدى وغيرهم ، قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) والمغنم ما يغنم وجمعه مغانم قال تعالى : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) انتهى (٣).

وفي لسان العرب وتهذيب اللغة للأزهري ونهاية اللغة ، وفي معجم ألفاظ القرآن الكريم: «الغنم : الظفر بالغنم ، ثم استعمل في كلّ ما يظفر به من جهة العدو وغيرهم. غنم كسمع غنما والغنم ما يغنم وجمعه مغانم.

«الغنم : الفوز بالشيء من غير مشقّة».

«وغنم الشيء : فاز به. والاغتنام انتهاز الغنم». (٤).

وفيه وفي نهاية اللغة لابن الأثير بنفس المادّة : في الحديث «الرّهن لمن رهنه ، له غنمه وعليه غرمه» غنمه : زيادته ونماؤه وفاضل قيمته. انتهي.

__________________

ـ شرح النهج ج ٢ / ٥٨ ـ ٩٠ تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم ، والغامدي توفي بأرض الروم بعد الخمسين من الهجرة أميرا على الصائفة من قبل معاوية. راجع «أحاديث أم المؤمنين عائشة» ص ٢٤٢

(١) مسند أحمد ٥ / ٣٦٧ ، وسنن ابن ماجة كتاب الفتن الحديث ٣٩٣٨ واللفظ للأوّل.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٦٢ و ٦٣ ، وعبد الرحمن بن سمرة القرشي توفي بالبصرة سنة خمسين أو إحدى وخمسين ترجمته بأسد الغابة ٣ / ٢٩٧.

(٣) مفردات القرآن للراغب الاصبهاني بمادة «غنم» والآية الاولى بسورة الأنفال ٤١ والثانية الآية ٦٩ منها والثالثة الآية ٩٤ من سورة النساء ، وتهذيب اللغة للأزهري (ت ٣٧٠ ه‍) ج ٨ / ١٤٩ ، ومعجم ألفاظ القرآن ٢ / ٢٩٣.

(٤) مادة «غنم» بنهاية اللغة لابن الأثير ٣ / ١٧٣ ، ولسان العرب ج ١٢ / ٤٤٥ وتهذيب اللغة للأزهري ، (ت ٣٧٠ ه‍) ، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس (ت ٣٩٥ ه‍) ج ٤ / ٣٩٧ ، وتفسير الفخر الرازي ج ١٥ / ١٦٦.

١٠٦

وفي صحاح الجوهري : «المغنم والغنيمة بمعنى» (١).

وورد في الحديث من هذه المادّة واريد به الفوز بالشيء في باب ما يقال عند إخراج الزكاة من سنن ابن ماجة عن رسول الله (ص) : «اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما»(٢).

وفي مسند أحمد عن رسول الله (ص) : «غنيمة مجالس الذكر الجنّة» (٣).

وفي وصف شهر رمضان : «هو غنم للمؤمن» (٤). إلى غير هذه الموارد من الحديث. وورد في كتاب الله تعالى : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) (٥).

ويتلخص ما سبق :

إنّ العرب كانت تقول في الجاهلية والإسلام : سلبه إذا أخذ ما مع المسلوب وما عليه من ثياب وسلاح ودابّة ، وتقول : حربه إذا أخذ كلّ ماله ، وكانت النهيبة والنهبى عندهم تساوق الغنيمة والمغنم في عصرنا.

ووجدنا غنم الشيء غنما عندهم بمعنى فاز به بلا مشقة ، والاغتنام : انتهاز الغنم ، والمغنم : ما يغنم وجمعه مغانم. وفي الحديث : «له غنمه» أي نماؤه وفاضل قيمته ، وفي وصف شهر رمضان : «هو غنم للمؤمن» ، وفي الدعاء عند أداء الزكاة : «اللهمّ اجعلها مغنما» و «غنيمة مجالس الذكر الجنة».

وقالوا : الغنم في الأصل : الظفر بالغنم ثمّ استعمل في كلّ ما ظفر به من جهة العدى وغيرهم. وأرى شمول الغنم لما ظفر به من جهة العدى وغيرهم صار في العصر الإسلامي لا قبله.

وذلك لأنّ المسلمين خاضوا أوّل معركة حربية تحت لواء رسول الله (ص) في بدر وتنازعوا في الأسلاب بعد انتصارهم وسلب الله عنهم ملكية ما استولوا عليه من أموال العدى وجعله لله ولرسوله وسمّاه بالأنفال ، وبعد نزول هذا الحكم في سورة الأنفال ، كان الغزاة في جميع الغزوات يأتون بكلّ ما ظفروا به إلى القائد ليتصرف فيه كما يراه ،

__________________

(١) بمادة «غنم» من صحاح اللغة للجوهري ، ص ١٩٩٩.

(٢) سنن ابن ماجة كتاب الزكاة ، الحديث ١٧٩٧.

(٣) مسند أحمد ٢ / ١٧٧.

(٤) مسند أحمد ٢ / ٣٣٠ و ٣٧٤ و ٥٢٤.

(٥) النساء / ٩٤.

١٠٧

ولم يكن لأحد منهم أن ينهب شيئا جهارا أو يغلّه سرا فقد حرّم رسول الله الانتهاب كما رواه ابن ماجة وأحمد واللفظ للأوّل ، قال : قال رسول الله : «ان النهبة لا تحلّ».

وقال : «من انتهب نهبة فليس منا» (١).

وفي صحيح البخاري ومسند أحمد عن عبادة قال : بايعنا النبيّ على أن لا نتهب(٢).

وفي صحيح البخاري عن رسول الله (ص) : «لا ينتهب نهبة ذات شرف وهو مؤمن» (٣).

وفي سنن أبي داود باب النهي عن النهبى عن رجل من الأنصار قال : خرجنا مع رسول الله في سفرنا فاصاب الناس حاجة شديدة وجهدوا وأصابوا غنما فانتهبوا ، فإنّ قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله يمشي على قوسه ، فأكفأ قدورنا بقوسه ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال : «ان النهبة ليست بأحلّ من الميتة» (٤).

وحرّم الله ورسوله الإغلال قال الله سبحانه : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٥).

وفي حديث رسول الله (ص) : «لا نهب ولا إغلال ولا إسلال ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة» (٦). الإغلال : السرقة الخفيّة والإسلال : السرقة.

في هذا الحديث ذكر النهب والإغلال في عداد السرقة.

وفي حديث آخر قال : «أدّوا الخيط والمخيط فما فوق ذلك فما دون ذلك ، فانّ الغلول عار على أهله يوم القيامة وشنار وعار» (٧).

قال ابن الأثير : الغلول : الخيانة في المغنم ، والسرقة من الغنيمة قبل القسمة ، والشنار أقبح العيب.

__________________

(١) الحديثان في كتاب الفتن من سنن ابن ماجة ، باب النهي عن النبي ص ١٢٩٩ ، والحديث الأوّل بمسند أحمد ٤ / ١٩٤ ، والثاني في مسنده ٣ / ١٤٠ و ١٩٧ و ٣١٢ و ٣٢٣ و ٣٨٠ و ٣٩٥ و ٤ / ٤٣٩ و ٤٤٣ و ٤٤٦ و ٥ / ٦٢.

(٢) صحيح البخاري ٢ / ٤٩ كتاب المظالم ، باب النّهي بغير إذن صاحبه ، ومسند أحمد ٥ / ٣٢١ او عبادة سبقت ترجمته.

(٣) صحيح البخاري ٣ / ٢١٤ كتاب الأشربة ، وراجع ٢ / ٤٨.

(٤) سنن أبي داود كتاب الجهاد ، باب في النهي عن النهبى ، ٣ / ٦٦.

(٥) آل عمران / ١٦١.

(٦) سنن الدارمي ٢ / ٢٣٠.

(٧) سنن الدارمي ٢ / ٢٣٠ باب «ما جاء أنه قال أدّوا الخيط والمخيط» من كتاب السير.

١٠٨

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص : كان رسول الله إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسّمه فجاء رجل من ذلك بزمام من شعر ، فقال : يا رسول الله هذا ما كنّا أصبنا من الغنيمة ، فقال. «أسمعت بلالا نادى ثلاثا» قال : نعم ، قال : «ما منعك أن تجيء به؟» فاعتذر ، فقال : «كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك» (١).

وفي باب الغلول من كتاب الجهاد بسنن ابن ماجة : توفي رجل من أشجع بخيبر فقال النبيّ : «صلّوا على صاحبكم» فأنكر الناس ذلك وتغيّرت له وجوههم فلمّا رأى ذلك قال : «إنّ صاحبكم قد غلّ» (٢).

وفي باب «ما جاء في الغلول من الشدّة» من كتاب السير بسنن الدارمي عن عمر بن الخطاب قال : «قتل نفر يوم خيبر فقالوا : فلان شهيد حتى ذكروا رجلا فقالوا : فلان شهيد ، فقال رسول الله : «كلّا إنّي رأيته في النّار في عباءة أو في بردة غلّها» (٣).

وفي باب الغلول من كتاب الجهاد بسنن ابن ماجة : كان على ثقل النبيّ رجل يقال له كركرة فمات فقال النبيّ : «... وهو في النار» فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كسا أو عباءة قد غلّها (٤).

وفي صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود بلفظ آخر وفي آخر الحديث : فجاء رجل ـ حين سمع ذلك ـ بشراك أو بشراكين ، فقال رسول الله (ص) «شراك أو شراكان من نار» (٥).

* * *

وإذا كان الإسلام قد منع أفراد الجيش من النه ب ـ أى استملاك المال المظفور به من جهة العدى جهارا ـ حتّى أنّ الرسول أكفأ قدور الجائعين الّذين كانوا قد نهبوا الأغنام وأرمل لحومها. ونهى عن الاستيلاء عليه سرّا وسمّاه الغلول أي الخيانة وقال

__________________

(١) بسنن أبي داود ٢ / ١٣ باب تعظيم الغلول من كتاب الجهاد ، وفي الكتاب باب في عقوبة الغال ذكر فيه أنهم كانوا يحرقون متاع الغال وفيه باب من كتم غالّا فهو مثله.

(٢) بسنن ابن ماجة ص ٩٥٠.

(٣) بسنن الدارمي ٢ / ٢٣٠.

(٤) بسنن ابن ماجة ص ٩٥٠.

(٥) تمام الحديث في صحيح البخاري ٣ / ٣٧ باب غزوة خيبر ، وصحيح مسلم ١ / ٧٥ بكتاب الإيمان ، وسنن أبي داود ٢ / ١٣ من كتاب الجهاد ، وراجع باب تحريم الغلول من كتاب الإمارة بصحيح مسلم ٦ / ١٠.

١٠٩

الرّسول : «أدّوا الخيط والمخيط فما فوق ذلك فما دون ذلك» ولم يصلّ على من غلّ ولم يسمّ القتيل الّذي غلّ عباءة بشهيد ، وبذلك سلب الإسلام عن أفراد الجيش الغازي ملكيّة المال المظفور به من جهة العدى مهما كان ، ولو كان شراك نعل ، وكيفما كان ، سرّا أو جهارا ، وسمّاه القرآن أنفالا ، وجعله لله ولرسوله وليتصرف فيه رسول الله كيفما يرى ، فما ذا فعل رسول الله بالمال المظفور به من جهة العدى.

أعطى الرسول في غزواته للراجل ما رأى أن يعطيه وللفارس كذلك (١) ، سواء أكانا ممّن استولى على المظفور به أو لم يكونا منهم ، ورضخ للمرأة (٢).

وأكثر من ذلك أنّه أعطي لمن لم يشهد الغزاة بالمرّة ، مثل ما فعل مع عثمان في غزاة بدر ، ومع أصحاب جعفر في غزاة خيبر ، كما في صحيح البخاري ومسندي الطيالسي وأحمد وطبقات ابن سعد : أنّ رسول الله خلّف عثمان في غزاة بدر على زوجته ابنة رسول الله وكانت مريضة ، وأسهم له في ما أصابوا كواحد ممّن حضر الغزوة (٣).

وفي الصفحة نفسها من صحيح البخاري عن أبي موسى قال : بلغنا مخرج النبيّ (ص) ونحن باليمن ، فخرجنا مهاجرين إليه في بضع وخمسين رجلا من قومي ، فركبنا سفينة فألقتنا إلى النجاشي بالحبشة ، ووافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، فأقمنا معه حتّى قدمنا جميعا فوافقنا النبيّ (ص) حين افتتح خيبر ، فأسهم لنا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه وقسّم لهم معهم (٤).

وكذلك اعطى النبيّ المؤلفة قلوبهم في حنين ـ كما مر ذكره ـ أضعاف سهم المؤمن المجاهد.

هكذا سلب الإسلام ملكيّة المال المظفور به من جهة العدى ممّن ظفر به وجعله لله ولرسوله فتصرّف فيه الرسول وقسّمه حسب ما رآه ، وصحّ بهذا الاعتبار أنّ

__________________

(١) في صحيح البخاري ٣ / ٣٦ «باب غزوة خيبر» أنه قسم للفارس سهمين وللراجل سهما.

(٢) رضخ له : أعطاه عطاء غير كثير.

(٣) صحيح البخاري ٢ / ١٣١ باب إذا بعث الإمام رسولا إلى حاجة أو أمر بالمقام هل يسهم له من كتاب الجهاد والسير ، وبمسند الطيالسي الحديث ١٩٨٥ ومسند أحمد ١ / ٦٨ و ٧٥ وج ٢ / ١٠١ و ١٠٢ ، وطبقات ابن سعد ٣ / ٥٦ ، وبداية المجتهد ١ / ٤١٠ ـ ٤١٢ في الفصل الثاني من كتاب الجهاد.

(٤) أوردنا الحديث من البخاري باختصار.

١١٠

نقول : إنّ الّذي أصابه سهم من المظفور به سواء من حضر الغزوة أو من لم يحضرها ، ظفر به بلا مشقّة لأنّه ظفر به من يد رسول الله وليس من الغزو ، وصحّ بهذا الاعتبار أن نحسب المظفور به من نوع «الغنيمة والمغنم» بعد ما كانت الغنيمة والمغنم لدى العرب تدلّان على ما ظفر به بلا مشقّة من غير جهة العدى ، وكان للذي ظفر به من جهة العدى تسميات أخرى ذكرناها في ما سبق. وبهذا الاعتبار نزلت آية (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) في هذه الغزوة بعد نزول آية الأنفال بصدر السورة ، أو نزلت في غزوة أحد ، وأصبح للغنيمة بعد نزول هذه الآية معنيان :

١ ـ معنى لغوي : وهو الفوز بالشيء بلا مشقّة ، وليس من ضمنه المظفور به من جهة العدى ، فان له تسميات خاصّة وهي : السلب والنهب والحرب.

٢ ـ معنى شرعي : وهو «ما ظفر به من جهة العدى وغيرهم». كما فسّره الراغب ، وهكذا جعل الإسلام أسلاب الحرب من مصاديق المغنم بعد أن لم تكن من مصاديقه.

ووجدنا الغنيمة والمغنم مستعملين في الحديث والسيرة ، في معناهما اللغويّ تارة ، كما يستعمل اللفظ في معناه الحقيقي دون ما حاجة إلى قرينة كما مرّ بنا سابقا. وتارة في معناهما الشرعي مع وجود قرينة في الكلام ، أو في حال التخاطب تدلّ على المعنى الشرعي المقصود.

هكذا استعمل اللفظان في المعنيين حتّى عصر انتشار الفتوح على عهد الخليفة عمر فما بعد حيث كثر استعمال مشتقات مادة «غنم» في ما ظفر به من جهة العدى خاصّة مع وجود قرائن حالية أو مقالية تدلّ على هذا القصد. وعند ما جاء اللغويون بعد ذلك ، واستقرءوا موارد استعمال مادّة «غنم» لدى العرب في عصرهم فما فوق ، وجدوها مستعملة كما يلي :

أ ـ في الفوز بالشيء بلا مشقة ، في العصر الجاهلي وصدر الإسلام لدى العرب عامّة.

ب ـ في الفوز بالشيء من جهة العدى وغيرهم ، بعد نزول آية الخمس لدى المسلمين خاصّة منذ عصر الرسول حتى عصر الصحابة.

ج ـ في ما ظفر به من جهة العدى خاصّة ، في عصر الفتوح مع قرائن لم ينتبه إليها ، ثمّ استعملت متدرّجا إلى عصر اللغويين بلا قرينة في المجتمع الإسلامي خاصّة

١١١

وعند ما قام روّاد اللغة بتدوينها لم يتنبّهوا إلى تطوّر مدلول مادّة «غنم» كما ذكرنا ، وأنتج ذلك أنّ بعضهم لاحظ استعمالها في المدينة بعد تشريع الخمس مثل الراغب فقال : «استعمل في كلّ مظفور به من جهة العدى وغيرهم».

ولاحظ ابن منظور وغيره تارة استعمالها في العصر الجاهلي ، وقالوا : «غنم الشيء : فاز به ، والاغتنام : انتهاز الغنم ..».

وتارة استعمالها في عصر الفتوح مع قرينة خفيت عليهم وبعدها بلا قرينة ، فقالوا : الغنيمة ما اصيب من أموال أهل الحرب».

وتردّد صاحب القاموس في «الغنم» هل هو بمعنى الفوز والفيء (١) كليهما أي أنّه مشترك بين المعنيين ، أو أنّ الغنيمة بمعنى الفيء وسائر مشتقات المادة بمعنى الفوز بالشيء(٢).

هكذا خلطوا في تفسير مادّة «غنم» ، والصواب أن نلاحظ تطوّر مدلول المادّة كما ذكرنا ونقول : إنّ مادّة «غنم» كانت :

أ ـ في العصر الجاهلي وصدر الإسلام ، في اللغة : حقيقة في الفوز بالشيء بلا مشقّة.

ب ـ بعد نزول آية الخمس في الشرع : حقيقة في ما ظفر به من جهة العدى وغيرهم ، إلى جنب حقيقتها اللغوية فإنّها لم تكن منسيّة يوم ذاك.

ج ـ في عصر تدوين اللغة فما بعد : حقيقة عند المتشرّعة ـ أي المسلمين ـ في ما ظفر به من جهة العدى خاصّة ، وذلك أيضا إلى جنب حقيقتها اللغويّة.

وعلى هذا فإنّا إذا وجدنا إحدى مشتقات هذه المادّة مستعملة في الكلام حتّى صدر الإسلام ، ينبغي أن نحملها على معناها اللغوي خاصّة أي «الفوز بالشيء بلا مشقة» وفي غير ما ظفر به من جهة العدى.

وإذا وجدناها مستعملة بعد تشريع الخمس عند المسلمين أو في التشريع الاسلامي ، فامّا ان تحمل على معناها اللغويّ المذكور وإما على معناها الشرعي : «الظفر بالشيء من جهة العدى وغيرهم» فإنّها مشتركة بينهما.

وإذا وجدناها مستعملة عندهم في عصر تدوين اللغة فما بعد ، فالأرجح حملها

__________________

(١) فسر صاحب القاموس الفيء في مادة (الفيء) بالغنيمة.

(٢) بمادة «غنم» من القاموس.

١١٢

على المشهور منها يوم ذاك عندهم ، أعني الظفر بمال العدى خاصّة.

ويتضح ممّا ذكرنا أنّا إذا وجدنا إحدى مشتقات هذه المادّة مستعملة في الحديث وغيره بعد تشريع الخمس منذ عصر الرسول وحتّى عصر الصحابة ، فلا بدّ أن نحملها على أحد معنيين إمّا اللغويّ «الفوز بالشيء بلا مشقة» ، وإمّا الشرعي «الظفر بالشيء من جهة العدى وغيرهم» فينبغي والحالة هذه أن نبحث عند ذاك عن قرينة تدلّ على المقصود.

وفي استقرائنا لموارد استعمال هذه الكلمة في ذلك العصر غالبا ما وجدناها مصحوبة بقرينة حاليّة أو مقاليّة تدلّ على المعنى الشرعي ، مع وجود موارد كثيرة استعملت فيها في معناها اللغوي دون ما قرينة.

٧ ـ الخمس

الخمس في اللغة : أخذ واحد من خمسة ، وخمست القوم : أخذت خمس أموالهم.

أمّا معناه الشرعي فينبغي لدركه أن نرجع أوّلا إلى عرف العرب في العصر الجاهلي لمعرفة نظامهم الاجتماعي يوم ذاك في هذا الخصوص ، ثمّ نعود إلى التشريع الإسلامي لندرس الخمس فيه ، وندرس أمره بعد ذلك لدى المسلمين بالتفصيل إن شاء الله تعالى. فإلى دراستهما في ما يلي :

أولا : في العصر الجاهلي

كان الرئيس عند العرب يأخذ في الجاهليّة ربع الغنيمة ، ويقال : ربع القوم يربعهم ربعا أي أخذ ربع أموالهم ، وربع الجيش أي أخذ منهم ربع الغنيمة ، ويقال للربع الّذي يأخذه الرئيس : المرباع. وفي الحديث ، قال الرسول لعديّ بن حاتم قبل أن يسلم : «انّك لتأكل المرباع وهو لا يحلّ في دينك» (١). وقال الشاعر :

لك المرباع منها والصفايا

وحكمك والنشيطة والفضول

الصفايا ما يصطفيه الرئيس ، والنشيطة ما أصاب من الغنيمة قبل أن تصير

__________________

(١) بمادة ربع من القاموس واللسان وتاج العروس ونهاية اللغة لابن الأثير وفي صحاح الجوهري بعضه ، وسيرة ابن هشام ٤ / ٢٤٩.

١١٣

إلى مجتمع الحيّ ، والفضول ما عجز ان يقسّم لقلّته فخصّ به الرئيس (١).

وفي النهاية : «إن فلانا قد ارتبع أمر القوم ، أي انتظر أن يؤمّر عليهم ، وهو على رباعة قومه أي هو سيّدهم».

وفي مادة «خمس» من النهاية : ومنه حديث عديّ بن حاتم «ربعت في الجاهلية وخمست في الإسلام» أي قدت الجيش في الحالين ، لأنّ الأمير في الجاهلية كان يأخذ ربع الغنيمة وجاء الإسلام فجعله الخمس وجعل له مصاريف. انتهي (٢).

ثانيا : في العصر الإسلامي

هذا ما كان في الجاهليّة ، أمّا في الإسلام فقد فرض الخمس في التشريع الإسلامي ، وذكر في الكتاب والسنة كما يلي :

أ ـ الخمس في كتاب الله :

قال الله سبحانه : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الأنفال / ٤١.

هذه الآية وإن كانت قد نزلت في مورد خاصّ ، ولكنّها أعلنت حكما عامّا وهو وجوب أداء الخمس من أيّ شيء غنموا ـ أي فازوا به ـ لأهل الخمس. ولو كانت الآية تقصد وجوب أداء الخمس ممّا غنموا في الحرب خاصّة ، لكان ينبغي أن يقول عزّ اسمه : واعلموا أنّ ما غنمتم في الحرب ، أو انّما غنمتم من العدى لا أن يقول : ان ما غنمتم من شيء.

في هذا التشريع : جعل الإسلام سهم الرئاسة الخمس بدل الربع في الجاهلية ، وقلّل مقداره ، وكثّر أصحابه فجعله سهما لله ، وسهما للرسول ، وسهما لذوي قربى الرسول ، وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل من فقراء أقرباء الرسول ، وجعل الخمس لازما لكلّ ما غنموا من شيء عامّة ولم يخصّصه بما غنموا في الحرب ،

__________________

(١) في نهاية اللغة ٢ / ٦٢.

(٢) في نهاية اللغة ١ / ٣٢١ ، ومسند أحمد ٤ / ٢٥٧ وعدي : أبو طريف ، أسلم سنة ٩ ه‍ وشهد فتح العراق والجمل وصفين ونهروان مع الإمام ، وفقئت عينه بصفين. روى عنه المحدثون ٦٦ حديثا. توفي بالكوفة سنة ٦٨ ه‍. ترجمته بالاستيعاب وأسد الغابة والتقريب.

١١٤

وسمّاه الخمس مقابل المرباع في الجاهلية.

ولمّا كان مفهوم الزكاة مساوقا لحقّ الله في المال ـ كما أشرنا إليه في ما سبق ـ فحيث ما ورد في القرآن الكريم حثّ على أداء الزكاة في ما ينوف على ثلاثين آية (١) ، فهو حثّ على أداء الصدقات الواجبة والخمس المفروض في كلّ ما غنمه الإنسان ، وقد شرح الله حقّه في المال في آيتين : آية الصدقة وآية الخمس.

كان هذا ما استفدناه من كتاب الله في شأن الخمس.

ب ـ الخمس في السنّة :

أمر الرسول بإخراج الخمس من غنائم الحرب ومن غير غنائم الحرب مثل الركاز كما روى ذلك كلّ من ابن عباس ، وأبي هريرة ، وجابر ، وعبادة بن الصامت ، وأنس بن مالك كما يلي :

في مسند أحمد وسنن ابن ماجة ـ واللفظ للأوّل ـ عن ابن عباس قال : «قضى رسول الله (ص) في الركاز الخمس» (٢).

وفي صحيحي مسلم والبخاري ، وسنن أبي داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، وموطّأ مالك ، ومسند أحمد واللفظ للأوّل : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (ص) : «العجماء جرحها جبار ، والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس» وفي بعض الروايات عند أحمد: البهيمة عقلها جبار (٣).

شرح هذا الحديث أبو يوسف في كتاب الخراج وقال : كان أهل الجاهلية إذا عطب الرجل في قليب جعلوا القليب عقله ، وإذا قتلته دابّة جعلوها عقله ، وإذا قتلته

__________________

(١) راجع مادة «الزكاة» في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

(٢) مسند أحمد ١ / ٣١٤ ، وسنن ابن ماجة ص ٨٣٩.

(٣) صحيح مسلم ٥ / ١٢٧ باب (جرح العجماء والمعدن والبئر جبار) أي هدر من كتاب الحدود بشرح النووي ١١ / ٢٢٥ ، وصحيح البخاري ١ / ١٨٢ باب «في الركاز الخمس» ، و ٢ / ٣٤ باب «من حفر بئرا في ملك لم يضمن» من كتاب المساقاة وسنن أبي داود ٢ / ٢٥٤ باب «من قتل عميا بين قوم» من كتاب الحدود ، وباب «ما جاء في الركاز» ، ٢ / ٧٠ ، وسنن الترمذي ٣ / ١٣٨ باب «ما جاء في العجماء جرحها جبار وفي الركاز الخمس لله ، وسنن ابن ماجة ص ٨٠٣ باب من «أصاب ركازا» من كتاب اللقطة ، وموطأ مالك ج ١ / ٢٤٤ باب «زكاة الشركاء». ومسند أحمد ج ٢ / ٢٢٨ و ٢٣٩ و ٢٥٤ و ٢٧٤ و ٢٨٥ و ٣١٩ و ٣٨٢ و ٣٨٦ و ٤٠٦ و ٤١١ و ٤١٥ و ٤٥٤ و ٤٥٦ و ٤٦٧ و ٤٧٥ و ٤٨٢ و ٤٩٣ و ٤٩٩ و ٥٠١ و ٥٠٧ ، والأموال لأبي عبيد ص ٣٣٦.

١١٥

معدن جعلوه عقله ، فسأل سائل رسول الله (ص) عن ذلك فقال : «العجماء جبار ، والمعدن جبار ، والبئر جبار ، وفي الركاز الخمس» فقيل له : ما الركاز يا رسول الله؟ فقال : «الذهب والفضّة الّذي خلقه الله في الارض يوم خلقت» (١) انتهى.

وفي مسند أحمد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله (ص) : «السائمة جبار ، والجبّ جبار ، والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس» قال الشعبي : الركاز الكنز العادي (٢).

وفي مسند أحمد عن عبادة بن الصامت قال : من قضاء رسول الله (ص) أنّ المعدن جبار ، والبئر جبار ، والعجماء جرحها جبار ، والعجماء البهيمة من الأنعام وغيرها. والجبار هو الهدر الّذي لا يغرّم وقضى في الركاز الخمس (٣).

وفي مسند أحمد عن أنس بن مالك قال : خرجنا مع رسول الله (ص) إلى خيبر فدخل صاحب لنا إلى خربة يقضي حاجته فتناول لبنة ليستطيب بها فانهارت عليه تبرا فأخذها فأتى بها النبي (ص) فأخبره بذلك ، قال : «زنها» فوزنها فاذا مائتا درهم فقال النبي : «هذا ركاز وفيه الخمس» (٤).

وفي مسند أحمد : ان رجلا من مزينة سأل رسول الله مسائل جاء فيها : فالكنز نجده في الخرب والآرام؟ فقال رسول الله (ص) : «فيه وفي الركاز الخمس» (٥).

__________________

(١) أبو يوسف يعقوب بن ابراهيم الانصاري ولد بالكوفة ١١٣ ه‍ وتتلمذ على أبي حنيفة وهو اوّل من وضع الكتب على رأي أبي حنيفة وولي القضاء ببغداد أيام المهدي والهادي والرشيد ، وتوفي سنة ١٨٢ هو نقلنا عن كتاب خراجه ط. القاهرة ١٣٤٦ ه‍ ص ٢٦ وقد وضعه لخليفة عصره الرشيد. وعطب : اي هلك. والقليب : البئر لم تطو. والعقل : الدية.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٣٣٥ و ٣٣٦ و ٣٥٦ و ٣٥٣ ـ ٣٥٤ ، ومجمع الزوائد ٣ / ٧٨ باب «في الركاز والمعادن» وأبو عمرو عامر بن شراحيل الكوفي الشعبي. نسبة إلى شعب بطن من همدان. روى عن خمسين ومائة من أصحاب رسول الله. توفي بالكوفة سنة ١٠٤ ه‍ ، أنساب السمعاني ص ٣٣٦.

(٣) مسند أحمد ٥ / ٣٢٦.

(٤) مسند أحمد ٣ / ١٢٨ ، ومجمع الزوائد ٣ / ٧٧ باب «في الركاز والمعادن» ، ومغازي الواقدي ص ٦٨٢.

(٥) مسند أحمد ٢ / ١٨٦ و ٢٠٢ و ٢٠٧ ، وفي سنن الترمذي ١ / ٢١٩ باب اللقطة من كتاب الزكاة مع إختلاف في اللفظ. والأموال لأبي عبيد ص ٣٣٧.

وأشار إلى هذه الأحاديث الترمذي في باب : (ما جاء في العجماء جرحها جبار ، وفي الركاز الخمس) قال : «وفي الباب عن أنس بن مالك وعبد الله بن عمرو وعبادة بن الصامت وعمرو بن عوف المزني وجابر».

١١٦

وفي مادّة «سيب» من نهاية اللغة ولسان العرب وتاج العروس وفي نهاية الإرب والعقد الفريد وأسد الغابة واللفظ للأوّل : «وفي كتابه ـ أي كتاب رسول الله ـ لوائل بن حجر : «وفي السيوب الخمس» السيوب : الركاز».

وذكر انهم قالوا : «السيوب عروق الذهب والفضة تسيب في المعدن أي تتكون فيه وتظهر» «والسيوب جمع سيب يريد به ـ أي يريد النبيّ بالسي ب ـ المال المدفون في الجاهلية أو المعدن لأنّه من فضل الله تعالى وعطائه لمن أصابه».

وتفصيل كتاب رسول الله هذا في نهاية الارب للقلقشندي (١).

تفسير ألفاظ الأحاديث :

في سنن الترمذي (٢) : العجماء : الدابّة المنفلتة من صاحبها فما أصابت في انفلاتها فلا غرم على صاحبها والمعدن : جبار ، يقول : إذا احتفر الرجل معدنا فوقع فيها إنسان فلا غرم عليه ، وكذلك البئر إذا احتفرها الرجل للسبيل فوقع فيها إنسان فلا غرم على صاحبها ، وفي الركاز الخمس. والركاز ، ما وجد من دفن أهل الجاهلية ، فمن وجد ركازا أدّى منه الخمس إلى السلطان وما بقي له ، انتهى.

وفي نهاية اللغة لابن الأثير بمادة «ارم» : الآرام ، الأعلام وهي حجارة تجمع وتنصب في المفازة يهتدى بها ، واحدها ارم كعنب ، وكان من عادة الجاهلية أنّهم إذا وجدوا شيئا في طريقهم لا يمكنهم استصحابه تركوا عليه حجارة يعرفونه بها حتى إذا عادوا أخذوه.

وفي لسان العرب وغيره من معاجم اللغة : ركزه يركزه : إذا دفنه. والركاز : قطع ذهب وفضّة تخرج من الارض أو المعدن واحده الركزة كانّه ركز في الأرض.

وفي نهاية اللغة : والركزة : القطعة من جواهر الأرض المركوزة فيها ، وجمع الركزة الركاز.

__________________

(١) نهاية الارب ص ٢٢١ يرويه عن كتاب الشفاء للقاضي عياض ، والعقد الفريد ٢ / ٤٨ في الوفود ، وبترجمة الضحاك من أسد الغابة ٣ / ٣٨ واشار الى الكتاب صاحبا الاستيعاب وأسد الغابة بترجمة وائل.

ووائل بن حجر كان أبوه من أقيال اليمن وفد إلى النبي (ص) وكتب له عهدا حاء فيه ما أوردناه في المتن ، بعث الرسول (ص) معه معاوية بن أبي سفيان فقال له معاوية : أردفني فقال : لست من أرداف الملوك ، توفي وائل في خلافة معاوية ، ترجمته بالإصابة ٣ / ٥٩٢.

(٢) سنن الترمذي ٦ / ١٤٥ ـ ١٤٦ باب «ما جاء في العجماء جرحها جبار».

١١٧

خلاصة الروايات السابقة :

خلاصة ما يستفاد من الروايات السابقة ، أن رسول الله (ص) أمر بدفع الخمس من كلّ ما يستخرج من الأرض من ذهب وفضة سواء كان كنزا أو معدنا وكلاهما ليسا من غنائم الحرب ، كما زعموا أنّها ـ اى غنائم الحر ب ـ هي المقصود من «غنمتم» ، في الآية الكريمة ، وانما تدل تلكم الأحاديث على ما برهنّا عليه أن ما «غنمتم» قصد به في التشريع الاسلامى «ما ظفر به من جهة العدى وغيرهم» فثبت من جميع ما سبق أنّ الخمس لا يخصّ غنائم الحرب وحدها في الإسلام ، وكذلك استفاد الفقهاء من تلكم الروايات مثل القاضي أبي يوسف في كتاب الخراج (١) ، فإنّه استنبط من الروايات حكم وجوب أداء الخمس من غير غنائم الحرب.

قال أبو يوسف : في كل ما أصيب من المعادن ـ من قليل أو كثير ـ الخمس ، ولو أن رجلا اصاب في معدن أقلّ من وزن مائتى درهم فضة او اقلّ من وزن عشرين ذهبا ، فإنّ فيه الخمس. ليس هذا موضع الزكاة (٢) ، إنّما هو على موضع الغنائم ، وليس في تراب ذلك شيء إنّما الخمس في الذهب الخالص ، والفضّة الخالصة ، والحديد ، والنحاس والرصاص ، ولا يحسب لمن استخرج ذلك من نفقته عليه شيء ، قد تكون النفقة تستغرق ذلك كلّه ، فلا يجب إذن فيه خمس عليه ، وفيه الخمس حين يفرغ من تصفيته قليلا كان أو كثيرا ، ولا يحسب له من نفقته شيء من ذلك ، وما استخرج من المعادن سوى ذلك من الحجارة ـ مثل الياقوت والفيروزج والكحل والزئبق والكبريت والمغرة ـ فلا خمس في شيء (٣) من ذلك إنما ذلك كلّه بمنزلة الطين والتراب.

قال : ولو انّ الّذي أصاب شيئا من الذهب أو الفضة أو الحديد أو الرصاص أو النحاس ، كان عليه دين فادح لم يبطل ذلك الخمس عنه. ألا ترى لو أن جندا من الأجناد ، أصابوا غنيمة من أهل الحرب ، خمست ولم ينظر أعليهم دين أم لا. ولو كان عليهم دين ، لم يمنع ذلك من الخمس.

قال : وأمّا الركاز فهو الذهب والفضّة الّذي خلقه الله عزوجل في الأرض يوم خلقت ، فيه أيضا الخمس ، فمن أصاب كنزا عاديا في غير ملك أحد فيه ذهب أو فضة

__________________

(١) الخراج ص ٢٥ ـ ٢٧.

(٢) قصد بالزكاة هنا ما يقابل الخمس أي الصدقة.

(٣) هذا يخالف عموم آية الخمس ويخالف ما في فقه أئمة اهل البيت عليهم‌السلام.

١١٨

أو جوهر أو ثياب ، فإن في ذلك الخمس وأربعة أخماسه للذي أصابه ، وهو بمنزلة الغنيمة يغنمها القوم فتخمس وما بقي فلهم.

قال : ولو أن حربيا وجد في دار الإسلام ركازا ، وكان قد دخل بأمان نزع ذلك كلّه منه ، ولا يكون له منه شيء. وإن كان ذميّا أخذ منه الخمس ، كما يؤخذ من المسلم ، وسلم له أربعة أخماسه. وكذلك المكاتب : يجد ركازا في دار الإسلام فهو له بعد الخمس ...

وقال ـ أيضا ـ في «فصل ما يخرج من البحر» : مخاطبا للخليفة هارون الرشيد : «وسألت يا أمير المؤمنين عمّا يخرج من البحر فإنّ في ما يخرج من البحر من حلية والعنبر الخمس» (١).

* * *

استعرضنا في ما سبق روايات رسول الله الّتي أمرت بدفع الخمس عن أشياء غير غنائم الحرب ، وكذلك ما استفادوه من تلك الروايات ، وفي ما يلي نستعرض كتب الرسول (ص) وعهوده الّتي ورد فيها أمر بدفع الخمس.

الخمس في كتب الرسول (ص) وعهوده :

أ ـ في صحيحي البخاري ومسلم وسنن النسائي ومسند أحمد واللفظ للأوّل : أنّ وفد عبد القيس لمّا قالوا لرسول الله (ص) : «إنّ بيننا وبينك المشركين من مضر ، وإنّا لا نصل إليك إلّا في أشهر حرم ، فمرنا بجمل من الأمر إن عملنا به دخلنا الجنّة وندعو إليه من وراءنا».

قال : «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع ؛ آمركم بالإيمان بالله ، وهل تدرون ما الإيمان بالله ، شهادة أن لا إله إلّا الله ، واقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وتعطوا الخمس من المغنم ...» الحديث (٢).

__________________

(١) الخراج ص ٨٣. ونقل أبو عبيد في كتاب الأموال ص ٣٤٥ ـ ٣٤٨ قولين فيه : أ ـ أن فيه الزكاة. ب ـ أن فيه الخمس.

(٢) بصحيح البخاري ٤ / ٢٠٥ باب «والله خلقكم وما تعلمون» من كتاب التوحيد ، وج ١ / ١٣ و ١٩ مننه ، وج ٣ / ٥٣ ، وفي صحيح مسلم ١ / ٣٥ و ٣٦ باب الأمر بالإيمان عن ابن عباس وغيره ، وسنن النسائي ٢ / ٣٣٣ ، ومسند أحمد ٣ / ٣١٨ وج ٥ / ١٣٦ ، وعبد القيس قبيلة من ربيعة كانت مواطنهم بتهامة ، ثم انتقلوا الى البحرين وقدم وفدهم على الرسول في السنة التاسعة ، ولفظه في ص ١٢ من الأموال لأبي عبيد : «وأن تؤدّوا خمس ما غنمتم».

١١٩

إن الرسول (ص) لمّا أمر وفد عبد القيس أن يعطوا الخمس من المغنم ، لم يطلب اخراج خمس غنائم الحرب من قوم لا يستطيعون الخروج من حيّهم في غير الاشهر الحرم خوفا من المشركين من مضر ، وإنّما قصد من المغنم معناه الحقيقي في لغة العرب وهو : الفوز بالشيء بلا مشقة ، كما سبق تفسيره ، أي : أن يعطوا خمس ما يربحون ، أو لا أقلّ من انّه قصد معناه الحقيقي في الشرع وهو : «ما ظفر به من جهة العدى وغيرهم».

وكذلك الأمر في ما ورد في كتب عهوده للوافدين إليه من القبائل العربية وفي ما كتب لرسله إليهم ، وولاته عليهم مثل ما ورد في فتوح البلاذري ، قال :

«لمّا بلغ أهل اليمن ظهور رسول الله وعلوّ حقّه ، أتته وفودهم ، فكتب لهم كتابا بإقرارهم على ما أسلموا عليه من أموالهم وأراضيهم وركازهم ، فأسلموا ، ووجّه إليهم رسله وعمّاله لتعريفهم شرائع الاسلام وسننه وقبض صدقاتهم وجزى رءوس من أقام على النصرانيّة واليهودية والمجوسيّة».

ثمّ ذكر هو وابن هشام والطبري وابن كثير واللفظ للبلاذري قال : كتب لعمرو ابن حزم حين بعثه إلى اليمن :

ب ـ «بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا بيان من الله ورسوله ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) عهد من محمّد النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن. أمره بتقوى الله في أمره كلّه ، وأن يأخذ من المغانم خمس الله ، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عشر ما سقى البعل وسقت السماء ، ونصف العشر ممّا سقى الغرب» (٢).

البعل : ما سقي بعروقه ، والغرب : الدلو العظيمة.

ج ـ ومثل ما كتب لسعد هذيم من قضاعة ، وإلى جذام كتابا واحدا يعلّمهم فرائض الصدقة ويأمرهم أن يدفعوا الصدقة والخمس إلى رسوليه أبيّ وعنبسة أو من

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ١.

(٢) فتوح البلدان ١ / ٨٢ باب «اليمن» ، وسيرة ابن هشام ٤ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ، والطبري ١ / ١٧٢٧ ـ ١٧٢٩ ، وتاريخ ابن كثير ٥ / ٧٦ ، وكتاب الخراج لأبي يوسف ص ٨٥ واللفظ للأوّل. وهناك رواية أخرى أوردها الحاكم في المستدرك ١ / ٣٩٥ و ٣٩٦ ، وفي كنز العمال ٥ / ٥١٧.

وعمرو بن حزم أنصاري خزرجي شهد الخندق وما بعدها ، توفي سنة احدى او ثلاث او أربع وخمسين ه بالمدينة. اسد الغابة ٤ / ٩٩.

١٢٠