المصابيح

الإمام أبو العباس الحسني

المصابيح

المؤلف:

الإمام أبو العباس الحسني


المحقق: عبدالله بن عبدالله بن أحمد الحوثي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٢

فلما قرأ كتابه بعث إليه ، وقال : ويحك كيف يجوز نسخ هذا الأمر وقد تقدمت في إبرامه أو الرجوع عنه ، وقد سعيت في تأكيده؟

فقال له : تحتال برفقك ولطفك حتى تطلق عنك عقاله وتفك (١) يدك من غله ، فإن الرأي في يدك ما لم تمضه فإذا أمضيته لزمك خطؤه وصوابه ، واعلم أن هذا الأمر الذي تطلب ليس بصغير القدر ولا بيسير الخطر ، وإن جل أصحابك لهولاء القوم كارهون ، ولو قد بارزت الخليفة بخلعه وعاندته بنصب إمام دونه لصرف (٢) إليك رأيه ومكيدته ، ورماك بأنصاره وجنوده ، ثم لا عراق لك ولا شام ، إن لجأت إلى العراق فهم أهل الكوفة المجبولون على الغدر والختر والمعروفون بقلة الوفاء والصبر ، ثم هم بعد أهواء متفرقة وآراء مختلفة ، كل يريد أن تكون الرئاسة في يده ، وأن يكون من فوقه تبعا له ، وإن صرت إلى الشام فكيف لك بالمقام فيهم والامتناع بهم ، وعامتهم من قتل علي عليه‌السلام أباه وجده وابن عمه وحميمه ، وكلهم يطلب هؤلاء القوم بوتر ويرى أن له عندهم (٣) دخلا ، فأنشدك الله أن تفرق جماعة قيس ، وتشتت أمرها ، وتحمل العرب طرا على أكتافها (٤) ، فو الله لئن مضيت على رأيك وشهرت بهذا الرجل نفسك ليرمينك الناس عن (٥) قوس واحدة وليجمعن على قتالك.

فندم نصر على ما كان منه وتخوف العواقب ، وأتى محمدا عليه‌السلام وقال له : يا بن محمد رسول الله ، قد كان سبق إليك مني قول عن غير مشاورة لأصحابي ولا معرفة لرأي قومي ، وكنت أرجو أن لا يتخلف عليّ منهم متخلف ، ولا يتنكر علي منهم متنكر ، وقد عرضت عليهم بيعتك فكرهوها ، وامتنعوا من إجابتي إليها ، فإن رأيت أن تقيلني وتجعلني في سعة من رجوعي ، وأنا مقويك بما احتجت إليه ، وهذه خمسة آلاف دينار ففرقها في أصحابك ،

__________________

(١) في (ب ، ج ، د) : ونفك.

(٢) في (ب) : اصرف ، ولعله تصحيف.

(٣) نهاية الصفحة [٣١٤ ـ أ].

(٤) في (ج) : أكنافها.

(٥) في (ج) : على.

٥٢١

واستعن بها على أمرك ، فأبى محمد أن يقيله وامتنع من قبول ما بذله (١) ورجع مغضبا ، فأنشأ يقول :

سنغني بعون الله عنك بعصبة

يهشون للداعي (٢) إلى أرشد الحق

ظننت بك الحسنى فقصرت

وأصبحت مذموما وفاز ذوو

[أبو السرايا ومواقفه مع صاحب الترجمة] (٣)

قال نصر بن مزاحم : حدثني الحسن بن خلف (٤) قال : كنت ممن شخص مع محمد عليه‌السلام إلى نصر بن شبيب ، فلما بلغنا في رجعتنا إلى غانات (٥) ، قال : إن بهذه الناحية رجلا أعرابي المنشأ علوي الرأي صادق النية في محبتنا أهل البيت المعروف بأبي السرايا ، فالتمسوه (٦) لي لعلنا نستعين به على بعض أمرنا ، ونكثر به جماعتنا ، فخرجنا في طلبه فما وجدنا (٧) أحدا من أهل تلك الناحية يعرفه ، ولا يخبر بخبره ، فلما أردنا الانصراف لقينا رجل من أنباط (٨) تلك الناحية فسألناه عنه ، فقال : أما الرجل الذي تطلبونه فلا أعرفه ، ولكن في هذه القرية ؛ وأومأ بيده إلى بعض قرى غانات أعرابي يعلف أفرسا له ، فأتوه لعلكم تجدون عنده علما من صاحبكم.

__________________

(١) في (ب ، ج ، د) : دونها.

(٢) في (د) : يمشون إلى الداعي.

(٣) انظر : الأعلام (٣ / ٨٢) ، البداية والنهاية (١٠ / ٢٤٤) ، والطبري (٧ / ١١٨) وما بعدها ، الكامل (٥ / ١٧٤ ، ١٧٥ ، ١٧٦ ، ١٧٧ ، ١٧٨ ، ١٧٩ ، ١٩٠) ، مقاتل الطالبيين ص (٤٢٩ ، ٤٤٦) وما بعدها ، مروج الذهب (٢ / ٢٢٤) ، ومراجع أخرى عديدة تناولت التاريخ الإسلامي ، خصوصا زمن صاحب الترجمة.

(٤) في (ب ، ج) : الحسين بن خلف.

(٥) انظر : الأنساب للسمعاني (٤ / ١١٩) ، الروض المعطار (٤٢٥ ـ ٤٢٦) ، معجم البلدان (٤ / ١٨٤) ، ولعل فيها تصحيف.

(٦) نهاية الصفحة [٣١٥ ـ أ].

(٧) في (ب ، ج) : عرفنا.

(٨) في (أ، د) أبناء. والأنباط : شعب شامي ، كانت له دولة في شمالي الجزيرة العربية ، وعاصمتهم سلع ، وتعرف اليوم بالبتراء ، وأيضا المشتغلون بالزراعة ، وقد استعمل أخيرا في أخلاط الناس من غير العرب ، المعجم الوسيط (٨٩٨).

٥٢٢

قال : فأتيناه وهو في قصر من قصور القرية وبين يديه مرآة ودواء وهو ينظر في المرآة ويداوي جراحة به في وجهه ، فلما رآنا أنكرنا حتى عرفنا في وجهه (١) التغير والغضب ، فسلمنا فرد جواب سلامنا ، ثم قال : من أنتم؟

قلنا : بعض أبناء السبيل ، انتجونا ابن عم لنا فخفي علينا موضعه ، فرجونا أن تكون عارفا به وبمكانه.

قال : ومن هو ابن عمكم؟

قلنا : أبو السرايا السري بن منصور الشيباني (٢).

قال : هل تعرفونه إن رأيتموه (٣)؟

قلنا : نعرف النسب وننكر الرؤية.

قال : فأنا هو.

فأكببنا عليه وصافحناه وعانقناه ، ثم قلنا : إن في السفر معنا بعض من تحب لقاءه وترغب في السلام عليه ، فهل يخف عليك النهوض معنا إليه؟

قال : ومن هو؟

قلنا : بعض أهل بيت نبيك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولاة دينك.

فقال : الحمد لله رب العالمين ، والله ما انفككت داعيا إلى الله «أن» (٤) يريني بعض ولد نبيه ، فأبذل نفسي له وأموت تحت ركابه.

قلنا : من تحب أن ترى منهم؟

فقال : محمد بن إبراهيم فإنه وصف (٥) لي برأي ودين ، فإني كنت كاتبته ودعوته إلى الذب عن دينه وطلب وراثة جده.

__________________

(١) في (ب ، ج ، د) : عرفنا فيه.

(٢) هو السري بن منصور أحد بني ربيعة بن ذهل بن شيبان ، وقد سبق التنويه إلى أهم مراجع ومصادر ترجمته.

(٣) في (ب ، ج ،) : إذا رأيتموه.

(٤) ساقط في (ج).

(٥) نهاية الصفحة [٣١٦ ـ أ].

٥٢٣

قال : قلنا : فإنه معنا ، فخر لله ساجدا ، ثم وثب ولبس ثيابه وتقلد سيفه ، وأقبل إليه ، فلما رآه محمد اعتنقه وأدنى مجلسه (١).

قال (٢) نصر بن مزاحم : حدثني عبد الله بن محمد قال : لما كان في يوم الخميس لسبع ليال خلون من رجب وهو اليوم الذي تواعد فيه محمد بن إبراهيم وأبو السرايا ، خرج محمد من جبانة بشر (٣) من منزل عمران بن مسعد (٤) فيمن كان بايعه من الزيدية ، ومن معه من عوام الناس إلى مسجد السهلة (٥) لموعده فأبطأ عليهم حتى ندم محمد وخاف أن يكون قد غدر به وعرف الكآبة في وجهه ، فلما تعالى النهار وافاهم أبو السرايا مما يلي القنطرة.

قال نصر بن مزاحم : فحدثني محبوب بن يزيد النهشلي ، قال : سمعت صيحة (٦) الناس وتكبيرهم فخرجت لأستعلم الخبر ، فلقيت أبا الفضل مولى العباسيين ، فقلت : ما الخبر؟ فقال :

ألم تر أن الله أظهر دينه

وضلت بنو العباس خلف بني علي

وقد ظهر ما كنتم تسرون وعلا ما كنتم تكتمون ، وهذا محمد بن إبراهيم في المسجد

__________________

(١) انظر المقاتل ص (٤٢٦) وما بعدها.

(٢) القائل هو : المنقري بنفس الإسناد السابق.

(٣) جبّانة : الجبّان في الأصل الصحراء وأهل الكوفة يسمون المقابر جبّانة ، كما يسميها أهل البصرة المقبرة ، وبالكوفة محالّ تسمى بهذا الاسم وتضاف إلى القبائل منها : جبانة كندة ، وجبانة السبيع كان بها يوم للمختار بن عبيد ، وجبانة ميمونة منسوبة إلى أبي بشير ميمون مولى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس صاحب الطاقات ببغداد بالقرب من باب الشام ، وجبانة عرزم نسب إليها بعض أهل العلم ، وجبانة سالم تنسب إلى سالم بن عمارة بن عبد الحارث بن ملكان بن نهار ، وجبانة بشر لعلها تنسب إلى بشر بن مروان ، ولي إمرة الكوفة والبصرة لأخيه عبد الملك سنة (٧٤ ه‍) ، انظر : معجم البلدان (٢ / ٩٩ ـ ١٠٠) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ٣٥٩).

(٤) في (ب ، ج) : سعد.

(٥) مسجد بالكوفة ، قال أبو حمزة الثمالي : قال لي أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : يا أبا حمزة هل تعرف مسجد سهل؟ قلت : عندنا مسجد يسمى السهلة قال : أما إني لم أرد سواه لو أن زيدا أتاه فصلى فيه واستجار ربه من القتل لأجاره ، إن فيه لموضع البيت الذي كان يحط فيه إدريس عليه‌السلام ، ومنه رفع السلام ، ومنه كان إبراهيم عليه‌السلام يخرج إلى العمالقة وفيه موضع الصخرة التي صورة الأنبياء فيها ، وفيه الطينة التي خلق الله الأنبياء منها ، وهو موضع مناح الخضر وما أتاه مغموم إلّا فرج الله عنه ، معجم البلدان (٣ / ٢٩٠ ـ ٢٩١).

(٦) في (أ) : ضجة.

٥٢٤

يدعو الناس إلى الرضا من آل محمد ، فرجعت إلى منزلي فلبست (١) سلاحي ومضيت مع الناس (٢) فبايعت.

قال : فأقام محمد عليه‌السلام بالمسجد حتى بايعه خلق كثير عظيم من أهل الكوفة ، وصلى بالناس ، ثم دخل القصر ، فلما صلّى الظهر بعث إلى الفضل بن العباس بن موسى (٣) بن عيسى رسولا يقول له : يقرئك ابن عمك السلام ، ويقول لك : أمددنا (٤) بما قدرت عليه من سلاح وكراع.

فوافى الرسول الفضل وقد بلغه خبر محمد فخندق على داره وجمع مواليه وأتباعه ، ففرق فيهم الصلاة وقوّاهم بالأسلحة ، وأقام على سور قصره (٥) ، فلما وصل الرسول إليه رماه خادم «بسهم» (٦) من فوق الدار فجرحه ، فرجع إلى أبي السرايا متخضبا بدمه ، فدخل أبو السرايا على محمد ، فقال : يا ابن رسول الله إن الفضل بدأنا بالقتال ، ونصب لنا الحرب وأظهر لنا المعاندة ، وجرح رسولنا وقد استحق أن نحاربه فأذن لي فيه ، فإنا نرجوا أن يجاز لنا عليه وأن يغنمنا الله ماله وسلاحه ، فأذن له فيه وأمره أن لا يسفك دما ولا ينتهك حرمة (٧).

وقال نصر بن مزاحم : عن عبد الله بن محمد قال : نادى أبو السرايا في الناس : أن اخرجوا إلى دار العباس فخرجوا حتى النساء والصبيان ، قال : فلقيته حين فصل من طاق المحامل على فرس أدهم عليه قباء أبيض ، وهو يقول :

قد وضح الحق لكم فسيروا

فكلكم مؤيد منصور

سيروا بنيّات لها تشمير

ولا يميلن بكم غرور

__________________

(١) في (أ) : ولبست سلاحي ومضيت إلى الناس.

(٢) في (أ) : إلى الناس.

(٣) نهاية الصفحة [٣١٧ ـ أ].

(٤) في (أ) : أمدنا.

(٥) الخبر في : مقاتل الطالبيين ص (٤٢٩).

(٦) ساقط في (أ، د).

(٧) الخبر في : مقاتل الطالبيين ص (٤٢٩).

٥٢٥

فتبعته إلى دار العباس فلما انتهينا إلى الخندق صاح بالناس فعبروه «وتطاعنوا» (١) بالرماح ساعة ، ورماهم النشابة من فوق الدار حتى قتلوا رجلا من أهل الكوفة ، ثم إن الموالي انهزموا وظفر أبو السرايا (٢) بالدار فأمر الناس بانتهاب ما فيها ، وخرج النساء متلدمات (٣) ، واستبطن الفضل بطن الخندق هاربا في ستة فوارس ، حتى أخذ على قرية أبي حمار ، ثم خرج إلى شاطئ الفرات فعبر إلى الفرات ، وركب وجهة إلى بغداد.

عن نصر بن مزاحم لما نزل زهير وأصحابه ، وهو على برذون أدهيم (٤) وعليه قباء ملجم بسواد (٥).

فقال : يا أبا السرايا علاما نكثت الطاعة ، وفرقت الجماعة ، وهربت من الأمن إلى الخوف ، ومن العز إلى الذل ، أما والله لكأني بك قد أسلمك من غرّك ، وخذلك من استفزك ، وصرت كالأشقر إن تقدمت نحرت ، وإن تأخرت عقرت ، وإن طلبت دنيا فالدنيا عندنا ، وإن التمست الآخرة فباب الآخرة التمسك بطاعتنا الأمان قبل العثار ، والتقدم قبل التندم.

فقال له أبو السرايا : يا أبا الأزهر ، الكلام يطول ، والاحتجاج يكثر ، وقد أعطيت الله عهدا أن لا أراجع (٦) لابس سواد بسلم ، ولا أنزع له عن منكر ، فإن رأيت أن تنزع سوادك وتحاورني فافعل.

قال : فولى زهير وجهه إلى أصحابه ، فابتدره الخدم ينزعون سواده فكبر أبو السرايا ، ثم

__________________

(١) ورد في الأصل : اطعنوا.

(٢) نهاية الصفحة [٣١٨ ـ أ].

(٣) لدم لدما : ضربه بشيء ثقيل يسمع وقعة ، وتلدمت النساء : ضربن وجوههن في المآثم ، المعجم الوسيط : مادة (لدم).

(٤) برذون أدهيم : البرذون يطلق على غير العربي من الخيل والبغال من الفصيلة الخيلية ، عظم الخلقة ، غليظ الأعضاء ، قوي الأرجل ، عظيم الحوافر ، المعجم الوسيط مادة : (برذن). وأدهيم : الدهم الفرس الأسود ، والدهيم الأحمق.

(٥) قباء : القباء ثوب يلبس فوق الثياب أو القميص ويتمنطق عليه ، والقباء : قباء القوس من مقبض القوس إلى طرفها أي نصفها ، يقال : بينها قباء قوسين : طول قوس ، المعجم الوسيط مادة : (قباه).

(٦) في (ب ، ج) : أرجع.

٥٢٦

قال : ولّاني ظهره وخلع (١) سواده ، والله لأهزمن جمعه ، ولأخلعن سواده يعني جماعته وعزه.

[٤٣] [أخبرنا أبو العباس الحسني قال : حدثنا أبو زيد العلوي عن أبي جعفر أحمد بن الحسين الكوفي] عن نصر بن مزاحم ، عن يزيد بن موسى الجعفي قال : كنت مع العلاء بن المبارك ، في الرابئين (٢) يوم القنطرة ، فنظر إلى الناس يمرون إلى الكناسة (٣) إلى العسكر والوقعة ، فقال لي : يا أبا خالد ، أترى الله ينصر (٤) هؤلاء جميعا ، أو يدفع بهم عن حريم (٥) ، فما افترقنا من مجلسنا حتى رأيت الناس يتباشرون بالفتح ، والرءوس على أطراف الرماح ، وصدور الخيل.

[وفاته ووصيته لأبي السرايا] (٦)

قال نصر بن مزاحم : رجع أبو السرايا والناس من الوقعة وقد طعن محمد عليه‌السلام على خاصرته (٧) ، وهو يجود بنفسه ، فقعد عند رأسه ، ثم قال : يا ابن رسول الله ، إن كل حي ميت ، وكل جديد بال ، وهذا مقام فراق ، ومحل وداع ، فمرني بأمرك ، وأودعني وصيتك.

فقال عليه‌السلام : أوصيك بتقوى الله ، فإنها أحرز جنة ، وأمنع عصمة ، والصبر فإنه أفضل مفزع وأحمد معول ، وأن تستتم الغضب لربك ، وتدوم على منع دينك ، وتحسن صحبة من استجاب لك ، وولي الناس الخيرة لأنفسهم في من يقوم مقامي فيهم من آل علي عليه‌السلام فإن اختلفوا فالأمر إلى علي بن عبيد الله بن الحسين ، فإني قد بلوت دينه ورضيت طريقته ، فارضوا به ، واسكنوا إليه ، وأحسنوا طاعته تحمدوا رأيه وبأسه.

ثم اعتقل لسانه (٨) عليه‌السلام وهدأت جوارحه فغمضه أبو السرايا وسجاه ، وكتم أمره ،

__________________

(١) في (أ) : وخلع لي سواده.

(٢) الرابئين : لعله نهر بين واسط ، وبغداد قرب النعمانية ، وأظنها نهر قوسان ، انظر معجم البلدان (٣ / ١٢٥).

(٣) بالضم ، والكنس : كسح ما على وجه الأرض من القمام ، والكناسة ملقي ذلك وهي بالكوفة ، انظر : معجم البلدان (٤ / ٤٨٠).

(٤) نهاية الصفحة [٣١٩ ـ أ].

(٥) في (أ) : ويدفع بهم عن حريم.

(٦) انظر مقاتل الطالبيين ص (٤٣٤). ومنه : الطبري (١٠ / ٢٢٧) ، ابن الأثير (٦ / ١١٢).

(٧) في (ب ، ج ، د) : في خاصرته.

(٨) في (أ) : ثم انعقل.

٥٢٧

فلما كان الليل غسله وأدرجه في أكفانه ثم شده على حمار (١) فأخرجه هو ونفر من الزيدية إلى الغري (٢) ، فلما استودعه قبره قال أبو السرايا : يرحمك الله يا أبا عبد الله عشت بقدر ، ومت بأجل ، عمرت فعملت ، ودعيت فأجبت ، أما والله لقد كنت وفيّ العهد (٣) ، ومحكم العقد لطيف النظر ، نافذ البصر ، ثم بكى ، وقال منشدا :

عاش الحميد فلما أن قضى ومضى

كان الفقيد فمن ذا بعده خلف

لله درك أحييت الهدى (٤) وبدت

بك المعالم عنها الجور ينكشف

[٤٤] قال أبو زيد العلوي رحمه‌الله : قبره عليه‌السلام عندنا بالكوفة فتراه إذا رأيته كأنه قطعة جنة ، قد بقلت.

قال أبو زيد : سمعت من الناس من يقول : أنا أفضله (٥) بعد زيد بن علي عليه‌السلام على الجميع (٦).

وذكر أنه عليه‌السلام لم ير في زمانه أكمل منه ، وكان إذا باشر الجهاد أشجع من أوضع (٧) فيه الروح ، وأبذله مهجة في ذات الله ، ثم بكى أبو زيد.

[٤٥] قال أبو العباس الحسني : سألت أبا زيد كم كانت مدة محمد بن إبراهيم ومكثه بعد الخروج والمبادرة بالدعوة؟ فقال : قرابة شهرين فيما سمعت علماءنا يذكرون ، فقيل : إنه شهر وأيام دون كمال العشر (٨).

__________________

(١) في (أ، ج) : ثم شد على حماره.

(٢) انظر : معجم البلدان (٤ / ١٩٦ ـ ٢٠٠).

(٣) نهاية الصفحة [٣٢٠ ـ أ].

(٤) في (ج ، د) : لله درك أجبت الهدى.

(٥) في (ب) : أتفضله.

(٦) روي عن الإمام زيد عليه‌السلام قوله : (يبايع الناس لرجل منا عند قصر الضرتين سنة تسع وتسعين ومائة في عشر من جمادى الأول يباهي الله به الملائكة) ، انظر : مقاتل الطالبيين ص (٤٢٨ ـ ٤٢٩).

(٧) في (أ، ب ، ج) : وضع.

(٨) ذكر الطبري أنه خرج يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ١٩٩ ه‍ ، وفي المقاتل في عشرة من جمادى الأولى من نفس السنة ، وفي الإفادة أنه توفي يوم السبت لليلة دخلت من رجب أي من نفس السنة (١٩٩ ه‍) ، وعلى هذا فإن المدة من خروجه إلى استشهاده ـ إذا ما اعتبرنا تاريخ خروجه الأخير والذي ذهب إليه أبو الفرج الأصفهاني ـ خمسين يوما يزيد بيوم أو ينقص. والله أعلم.

٥٢٨

[خطبة أبي السرايا بعد استشهاده (ع)]

[٤٦] عن نصر بن مزاحم ، عن عبد الله بن محمد قال : لما أصبح أبو السرايا جمع من بالكوفة من العلويين ، ثم قام فيهم خطيبا ، فقال : الحمد لله الخالق الرازق الباعث الوارث المحيي المميت ، رب الدنيا والآخرة ، والعاجلة والآجلة ، أحمده إقرارا به ، وأشكره تأدية لحقه.

[وحدثنا أبو العباس الحسني قال : حدثنا أبو زيد العلوي عن الكوفي] ... إلى أن قال : أما بعد فإن أخاكم محمد بن إبراهيم عليه‌السلام عاش إلى مدته (١) ، وانتهى إلى غايته ، فلما نفدت أيامه ، وتصرم أجله ، واستوفى رزقه اختار الله له ما عنده ، واستأثره بما أحب (٢) أن يصيره إليه من جواره ومقارنة نبيه ، فقبضه إليه أحوج ما كنا إلى حياته حين شمر عن ساقه ، وحسر عن ذراعه ، وغضب لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذب عن أمة نبيه ، فرحمه‌الله وغفر له ، وتجاوز عن ذنوبه «ونوّر له في قبره» (٣) ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وقد أوصى أبو عبد الله رحمه‌الله بهذا الأمر إلى شبهه ، ومن وقع عليه اختياره ، وكان ثقته ، وهو علي بن عبيد الله فإن رضيتم به وإلا فاختاروا لأنفسكم ، وولوا من يجمع (٤) عليه رأيكم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

قال : فصاحوا ما بين باك ومسترجع حتى ارتفعت أصواتهم إعظاما لوفاته ، فمكثوا عامة النهار (٥) يكره كل واحد منهم أن يتكلم.

__________________

(١) في (ب) : مدة.

(٢) نهاية الصفحة [٣٢١ ـ أ].

(٣) ساقط في (أ).

(٤) في (أ، ب ، د) : يجتمع.

(٥) في (ب ، ج) : فمكثوا عليه عامة النهار.

٥٢٩

[(٢٠) محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين] (١)

(١٧٤ ه‍ ـ ٢٠٢ ه‍ / ٧٩٠ م ـ ٨١٨ م)

[خروجه وبيعته]

[٤٧] حدثنا (٢) أبو العباس الحسني بإسناده عن عبد الله بن محمد قال : لما مات محمد بن إبراهيم ، وخطب أبو السرايا من الغد فقام إليه الناس وضجوا ، وتكلم القراء وغيرهم ، قال : فوثب محمد بن محمد بن زيد ؛ وهو «يومئذ» (٣) أحدثهم سنا ؛ فقال : يا آل علي فات الهالك فنجا ، وبقي الباقي فلزمه النظر إلى دين الله ، إن دين الله لا ينصر بالفشل ، وعدو الله لا يدفع بالتخاذل ، ثم التفت إلى علي بن عبيد الله ، فقال : ما تقول يا أبا الحسن ، فقد رضينا «باختيارك» (٤) ، وقبلنا وصية أبي عبد الله عليه‌السلام وقد اختار فلم يعد الثقة في نفسه ، ولم

__________________

(١) انظر : تأريخ الطبري (٧ / حوادث سنة ١٩١ ، ١٩٩ ، ٢٠١) ، الجامع الوجيز (خ) ، ابن الأثير (٥ / ١٧٥) ، مقاتل الطالبيين (٤٢٢ ، ٤٣٤ ، ٤٣٦ ، ٤٤٣ ، ٤٤٧) ، التحف (١٤٩ ـ ١٥٠) وفيه توفي وهو في (٢٨ ه‍) وعليه اعتمدنا ، عمدة الطالب لابن عنبة (٣٢) ، وفيه أنه توفي سنة (٢٠٢ ه‍) وهو ابن عشرين سنة ، وقد اختلف في تاريخ وفاته ، وكذا عمره ، ففي الكتاب موضوع الدراسة والتحقيق قال : وهو ابن (٣١ سنة) ويقال : (٣٣ ه‍) ، وانظر اللآلي المضيئة في أخبار أئمة الزيدية (خ) ، مطمح الآمال (تحت الطبع).

(٢) في (ب) : السند «حدثنا أبو العباس الحسني ، قال : حدثنا أبو زيد العلوي عن أحمد الحسني الكوفي ، قال : حدثنا نصر بن مزاحم عن عبد الله بن محمد ... إلخ».

(٣) ساقط في (أ).

(٤) ساقط في (أ).

٥٣٠

يأل جهدا في تأدية حق (١) الله الذي قلده؟ فقال : ما أرد وصيته تهاونا بأمره ، ولا أدع القيام بهذا الأمر نكولا عنه ، ولكني أتخوف أن أشعل به عن غيره مما هو أحمد مغبة ، وأفضل عاقبة ، فامضي رحمك الله لأمرك واجمع شمل بني عمك ، فقد قلدتك «الأمر» (٢) ، وأنت رضا عندنا ثقة في أنفسنا ، وقد قلدناك الرئاسة ، فتقلدها بطاعة الله والحزم ، وقولي تبع لقولك (٣).

فمدوا يد محمد (٤) بن محمد فبايعوه ، ثم خرج (٥) إلى الناس ، وأبو السرايا أمامه ، فحمد الله أبو السرايا وأثنى عليه ، ثم قال : يا معشر الزيدية ، إن محمد بن إبراهيم عليهم‌السلام كان عبدا من عباد الله قدر الله حياته وأجل مماته ، فلما انقضى القدر ووفي الأجل قبضه الله إليه ، ونقله إلى ما اختار له من ثوابه ورحمته ، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصبنا به من فقده ، وعدمنا من رأيه وفضله ، ونسأل الله أن يغفر له ويرحمه ، ويتجاوز عنه ، ويلحقه بنبيه «محمد» (٦) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويربط على قلوبكم وقلوبنا بالصبر.

ثم أخذ بيد محمد بن محمد فقال : هذا شبيهه (٧) ونظيره المقتفي أثره ، والمحيي سنته قد تقلد القيام بأمركم بعده ، وندب نفسه لما نكل عنه غيره من أهل بيته محتسبا للأجر ملتمسا للثواب لدين الله والذب عن عباد الله (٨) ، والدعاء إلى أوليائه (٩) ، فمن كان منكم مقيما على نيته راغبا في الوفاء لله بعهده فليبايع له ، وليسارع إلى طاعته (١٠) وإجابته ، فبكى الناس حتى ارتفعت أصواتهم (١١) ، وعلا نحيبهم ، وجزعوا (١٢) حتى تخوف عليهم الفتنة.

__________________

(١) نهاية الصفحة [٣٢٢ ـ أ].

(٢) ساقط في (أ).

(٣) انظر مقاتل الطالبيين ص (٤٣٤ ـ ٤٣٥).

(٤) في (د) : لمحمد.

(٥) في (ج) : وخرج.

(٦) ساقط في (أ، د).

(٧) في (ب ، ج) : شبهه.

(٨) في (ب ، ج) : عبيد الله.

(٩) في (ب ، ج) : أولياء الله.

(١٠) ساقط في (أ).

(١١) نهاية الصفحة [٣٢٣ ـ أ].

(١٢) في (أ) : خرجوا.

٥٣١

[خطبته بعد مبايعته]

فقام (١) محمد بن محمد ، فقال : الحمد لله الذي كتب على خلقه الفناء ، ولم يخلقهم للبقاء والخلود ، ولم يجعل الموت عقابا عاقب به أهل معصيته ، ولا الحياة ثوابا أثاب به أهل طاعته ، أحمده على سراء الأمور وضرائها ، ومحبوبها ومكروهها.

أما بعد : فإن أبا عبد الله محمدا عليه‌السلام كان لكم كهفا حصينا ، وحرزا منيعا جمع الله به أمركم ، وأعز على طاعته نصركم ، فعمره الله ما أحب أن يعمره ، ثم قبضه إليه (٢) بالأجل الذي قدر له ، فإنا لله وإنا إليه راجعون على المصيبة ، ونسأل الله أن يحسن الخلافة علينا وعليكم بعده ، ولا يحرمنا وإياكم الأجر والثواب ، وإني قد قمت مقامه ، وتحملت حمله ، من غير مشاورة مني لملئكم ، ولا معرفة بما اجتمعت (٣) عليه في أمري أهواؤكم ، طلبا للمّ شعثكم ، وتسكين نفرتكم ، وجمع شتيتكم (٤) ، فمن كان راضيا بي وولايتي فرضاه التمست ، وإلى ما وافقه وأصلحه أسرعت ، ومن كان كارها فليظهر كراهته ، ويجعلني على علم من ذات نفسه ، لأجتنب مساءته ، وأعتزل عنه (٥) ، فإنه لا حاجة لي في أمر اختلف فيه مختلف ، ونقمه ناقم ، وأنا أسأل الله خير القضاء ، وحسن عواقب الأمور ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم ، وصلّى الله على محمد وآله أجمعين.

فقال محمد بن علي الأنصاري (٦) : فيما كان من ذلك من أمورهم (٧) :

__________________

(١) في (أ) : فجاء.

(٢) في (ب ، ج ، د) : الله.

(٣) في (أ) : لما اجتمعت.

(٤) في (ب) : كلمتكم.

(٥) في (أ) : منه.

(٦) محمد بن علي الأنصاري : لم تسعفني المصادر والمراجع المتوفرة الوقوف على ترجمته ، والأبيات في الحدائق الوردية (١ / ٢٠٩) عما هنا.

(٧) نهاية الصفحة [٣٢٤ ـ أ].

٥٣٢

أبت السكون فما تجف مدامعي

عين تفيض بدمعها المتتابع

لما تذكرت الحسين وبعده

زيدا تحرك حزن قلب جازع

صلى الإله على الحسين وفتية

في كربلاء تتابعوا بمصارع

وعلى قتيل بالكناسة مفرد

نائي المحل عن الأحبة شاسع

وجزى ابن إبراهيم عن أشياعه

خيرا وأكرمه بصنع الصانع

نعم الخليفة والإمام المرتضى

ذا الدين (١) كان ومستقر ودائع

وجزى الإله أبا السرايا خير ما

يجزي وصولا من مطيع سامع

حاط الإمام بسيفه وبنفسه

بلسان ذي صدق وفعل نافع (٢)

في فتية جعلوا السيوف حصونهم

مع كل سلهبة وطرف رائع

فتلقين يا ابن النبي فما لها

أحد سواك برغم أنف الطامع

فلقد رأيت بها عليك طلاوة

وضياء نور في جبينك ساطع

قال نصر بن مزاحم : دخلت عليه في «اليوم» (٣) الذي بويع فيه مع رجل من المحبين والمهنئين فعزاه أكثر الناس ودخل رجل من الزيدية ، فقال : يا ابن رسول الله ، لم يمت من قمت مقامه ، ولم يعدم من سددت مكانه ، فأنت خير خلف من أفضل سلف ، كشف الله بك الكربة ، ودمل بك كلوم (٤) الرزية ، وراجع بك آمال الشيعة ، وقطع بقيامك ظنون الأعداء والحسدة (٥) ، فرحم الله أبا عبد الله قد قضى حق الله عليه ، وخرج من الدنيا سالما بدينه ، فإنا لله وإنا إليه راجعون (٦) ، ثم بكى ، فقال له (٧) : اقعد رحمك الله فقعد ، وسألت بعض من حضر :

من هذا؟ فقال : هذا محمد بن علي الأنصاري.

__________________

(١) في (ب ، ج) : للدين.

(٢) في (أ) : وقلب خاشع.

(٣) ساقط في (أ).

(٤) في (أ) : الكلوم.

(٥) في (أ) : الحساد.

(٦) نهاية الصفحة [٣٢٥ ـ أ].

(٧) ساقط في (أ).

٥٣٣

[بعض أخباره]

[٤٨] [أخبرنا أبو العباس الحسني قال : حدثنا أبو زيد العلوي عن الكوفي] عن نصر بن مزاحم قال : لما قعد محمد للناس دخل عليه أشراف الكوفة ورؤساء (١) الزيدية ، ووفد عليه الأعراب من القرى ، والبوادي ، وقدم عليه مسافر الطائي (٢) ، وموسى النهروي (٣) ، ومنصور المحلمي ، وركضة التميمي ، ويعقوب بن حمران (٤) العجلي ، ورستم الغنوي ، ولم تبق (٥) قبيلة من قبائل العرب إلّا أجابته ، وسارعت إليه ، إلّا بني ضبة (٦) فإنها قعدت عن نصرته «وخذلت الناس عنه» (٧) ، فغلظ ذلك قلوب أهل الكوفة عليهم ، وأغراهم باللعنة لهم.

قال نصر : لما مضت لمحمد بن محمد ثالثة يوم بويع له فرّق عماله وعقد ألويته (٨) ، فولى إسماعيل (٩) بن علي خلافته (١٠) على الكوفة ، وولى روح بن الحجاج العجلي شرطته ، وأحمد بن السري الأنصاري ديوانه (١١) ، وأقر عاصم بن عامر على القضاء ، وولى نصر بن مزاحم السوق (١٢) ، وعقد لإبراهيم بن موسى بن جعفر على اليمن ، ولزيد أخيه على الأهواز ،

__________________

(١) في (أ) : وسائر.

(٢) مسافر الطائي : أحد أعوان أبي السرايا كان من بني شيبان ، إلّا أنه نزل في قبائل طيئ فنسب إليهم ، وقد حمل على المسودة فهزمهم حتى ردهم إلى موقعهم ، انظر : مقاتل الطالبيين ص (٤٤٩).

(٣) وفي (أ) : اليهودي ، ولعله تصحيف ، والصحيح أنه موسى النهروي.

(٤) في (أ) : عمران.

(٥) في (أ، د) : يسبق.

(٦) انظر : معجم كحالة (٢ / ٦٦١ ـ ٦٦٢).

(٧) ساقط في (أ).

(٨) انظر : مقاتل الطالبيين ص (٤٣٥).

(٩) هو إسماعيل بن علي بن إسماعيل بن جعفر.

(١٠) ساقط في (أ).

(١١) في مقاتل الطالبيين : (رسائله) والمعنى واحد.

(١٢) هو سوق الكوفة.

٥٣٤

وللعباس بن محمد على البصرة ، وولى جرير بن الحصين على السنين وسورا (١) ، وولى علي بن الفهد بالبداة ، وعمير بن جعفر العطاردي تستر (٢) ، ويحيى بن فزعة الساحلين ونهر يوسف وناروشا (٣) ونهر الملك وكسور (٤) الراوي (٥) ، وولى الفلوجتين عبد الملك بن شاه (٦) والنهرين وعين التمر الصقر بن برزة (٧) ، وعقد لابن الأفطس على مكة ، وفرض للولاة الفروض ، وقواهم بالرجال ، وأقام أبو السرايا رحمه‌الله بالكوفة حتى سكنت روعة الناس ، واندملت مصيبتهم (٨) ، ثم توجه بهم إلى القصر (٩).

قال نصر : حدثني رجل من أهل الكوفة ممن سكن (١٠) القصر ، قال : وافى زهير (١١) القصر

__________________

(١) السنين سوار : السنين بلد فيه رمل وفيه هضاب ووعورة وهو من بلاد بني عوف بن عبد أخي قريط بن عبد بن أبي بكر. معجم البلدان (٣ / ٢٧٠). أمّا سورا : فمدينة بناحية سواد الكوفة ، حسنة متوسطة القدر ذات سور وأسواق وفيها يصب الفرات فيما يحاذي قطر ابن هبيرة ، وبها قبر الإمام الشهيد الحسين بن علي عليهم‌السلام وله مشهد عظيم ، الروض المعطار ص (٣٣٢) المقدس (١١٧) البدء والتاريخ ، نزهة المشتاق (٢٠٢).

(٢) تستر مدينة بالأهواز ، بينها وبين سابور ثمانية فراسخ ، انظر : الروض المعطار ص (١٤٠ ـ ١٤١) ، نزهة المشتاق (١٢٣) ، فتوح البلدان (٤٦٧).

(٣) في (د) : باروشا.

(٤) في (د) : كنوز.

(٥) نهر يوسف : راجع معجم البلدان (٥ / ٣١٥ ـ ٣٢٤). ناروشا : لم أقف على هذا الموضع. نهر الملك : كورة واسعة ببغداد عد نهر عيسى. انظر معجم البلدان (٥ / ٣٢٤). كسور الراوي : لم أقف على هذا الموضع.

(٦) الفلوجتين ... ، شاة : الفلوجتين : الفلوجة الكبرى والفلوجة الصغرى ، قريتان كبيرتان من سواد بغداد والكوفة قرب عين التمر ، ويقال : الفلوجة العليا والفلوجة السفلى ، معجم البلدان (٤ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦). وشاة : لعلها شاة دز أو شاة هنبر ، انظر معجم البلدان (٣ / ٣١٦).

(٧) النهرين : ... برزة : النهرين : راجع معجم البلدان (٥ / ٣١٥ ـ ٣٢٤). عين تمر : بلدة قريبة من الأنبار غربي الكوفة بقربها ، افتتحها المسلمون في أيام أبي بكر سنة (١٢ ه‍) ، معجم البلدان (٤ / ١٧٦).

(٨) نهاية الصفحة [٣٢٦ ـ أ].

(٩) في (أ) : ثم توجه إلى القصر ، وانظر الطبري حوادث سنة (٢٠١ ، ١٩٩ ، ١٩١) ، مقاتل الطالبيين ص (٤٣٦) وما بعدها. والقصر : لعله قصر ابن هبيرة ، راجع الروض المعطار ص (٤٧٥).

(١٠) في (أ) : يسكن.

(١١) هو زهير بن المسيب ، انظر مقاتل الطالبيين (٤٣٠ ، ٤٣٢ ، ٤٣٣).

٥٣٥

في اليوم الذي هزم فيه فأقام به أياما ، حتى سكن قلبه ووافى من كان تفرق عليه بالهزيمة من أصحابه ، ثم نادى فيمن كان بالقصر من الكوفيين : برأت الذمة ممن أقام بعد ثلاث ، فكان الكوفيون يلقى ببعضهم بعضا ، ويقولون (١) : ما ترون ما أصبنا به من ظلم هذا الرجل إيانا ، وتحامله علينا ، إن تركنا القصر وخرجنا عنه أضعنا معايشنا ، وإن أقمنا بعد ندائه فينا عرّضنا نفسنا.

قال : فما وفت الثلاث حتى رأينا أعلام أبي السرايا قد أقبلت من جسر سوراء ، فكبرنا سرورا بها ، وسمع زهير التكبير فخرج هاربا ، ودخلت خيل أبي السرايا القصر فأقاموا بها حتى أراحوا «خيولهم» (٢) ودوابهم ، وودعوا أنفسهم ، ثم رجع إلى سوق أسد.

[٤٩] حدثنا (٣) أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني بإسناده عن نصر بن مزاحم ، عن رجل من أهل الجامع قال : نزل عبدوس بن أبي خالد الجامع فيمن كان معه من خيول أهل بغداد ورجالهم ، فلما (٤) بلغه هزيمة زهير ودخول أبي السرايا سوق أسد (٥) خندق حوله ، وحصن عسكره ، وعمد إلى ما كان في البيادر من الأطعمة فاحتازه ، وجمعه ، ثم فرقه في أهل الجامع وأمرهم (٦) أن يطحنوه (٧) لأصحابه ، وتهيأ للقتال ، واستعد للحرب ، قال : فتقاعد أهل الجامع به ، انتظارا (٨) لقدوم أبي السرايا فنادى فيهم وعاقب بعضهم ، فما قطع (٩) المنادي نداءه حتى وافى أبو السرايا سوراء فيمن معه.

__________________

(١) في (أ) : فيقولون ، (ج ، د) : يقولون.

(٢) ساقط في (أ).

(٣) السند : «قال : حدثنا أبو زيد عيسى بن محمد العلوي ، قال : حدثنا نصر بن مزاحم ... إلخ»

(٤) في (ب) : لما.

(٥) هو السوق المسمى بسوق أسد بن عبد الله القسري ، أخي خالد بن عبد الله أمير العراقين ، انظر : معجم البلدان (٣ / ٢٨٣).

(٦) في (أ، ج ، د) : يأمرهم.

(٧) في (أ) : أن يطحنوا الدقيق.

(٨) في (أ) : استبطاء.

(٩) نهاية الصفحة [٣٢٧ ـ أ].

٥٣٦

عن نصر بن مزاحم عن عبد الله بن محمد قال : وقف أبو السرايا على شاطئ سوراء (١) مما يلي الكوفة ، ونادى عبدوس في أصحابه ، فركبوا دوابهم ولبسوا أسلحتهم ، ووقف حياله ، وقال : يا أبا السرايا على من تجاهل (٢) وإلى كم تمادي في غيك ، وتتابع في ضلالك مرة شارد تحارب جنود أمير المؤمنين وتقتل رعيته ، ومرة لص تقطع الطريق وتخيف السابلة ، ومرة تستنهض السفهاء إلى خلع الطاعة ونكث البيعة ، أما آن لك أن ترجع إلى حظك ، ويفارقك شيطانك ، أترجوا أن تزيل الدولة وتغير الخلافة بغوغاء الكوفة ويهود الحيرة؟ هيهات .. هيهات دون ذلك سيوف خراسان ورماحها (٣) ، وفرسان الأنبار وحماتها ، أما والله إن الأمان لأودع وأعود عليك ، وأحقن لدمك ، فالنهضة قبل الصرعة والرجعة قبل الندامة (٤).

قال : وإنه ليكلمه بهذا الكلام إذ أتى أبا السرايا رجل من أهل القرى فدله على مخاضة ، فدعا أبا كتيلة (٥) فوجهه عليها ، فسار على سوراء يريد العبور من تلك المخاضة ، وأتاه رجل آخر فدله على مخاضة أخرى فوجه عليها أبا الشوك (٦) ، وأمره أن يعبر منها ، فلم يلبث أن سمعنا التكبير من ناحية الجامع ، والنداء بشعار أبي السرايا ، فعبر الكوفيون النهر بالتراس والرماح فوضعوا فيهم أسيافهم وانهزم أهل بغداد ، فلم ينج منهم إلّا (٧) القليل ، وقتل عبدوس ، واصطلم عسكره وأسر أخوه هارون (٨).

عن نصر بن مزاحم (٩) ، عن عبد الله بن محمد قال : رأيت ظفر بن عصام (١٠) يعترض عسكر

__________________

(١) موضع يقال له : جنب بغداد ، وقيل : هو بغداد نفسها ، قيل : سميت بسوراء بنت أردوان بن باطي الذي قتله كسرى أردشير وهي ابتنها ، والشاطئ منسوب إليها مما يلي الكوفة ، معجم البلدان (٣ / ٢٧٨).

(٢) في (أ) : تحمل.

(٣) في (ج) : أرماحها.

(٤) انظر مقاتل الطالبيين ص (٤٢٩) وما بعدها.

(٥) انظر مقاتل الطالبيين ص (٤٤٢).

(٦) أبا الشوك : انظر مقاتل الطالبيين ص (٤٢٦ ـ ٤٤٦).

(٧) نهاية الصفحة [٣٢٨ ـ أ].

(٨) إخوة هارون : انظر مقاتل الطالبيين ص (٤٣٣) ، وفي الطبري ، وهارون بن محمد بن أبي خالد.

(٩) عنه بنفس الإسناد السابق.

(١٠) لم أقف على ترجمته.

٥٣٧

عبدوس بسيفه (١) وهو يقول :

كيف رأيتم بأسنا وجدّنا

وفعلنا حين قصدتم قصدنا

قال : وضرب فيها مسافر الطائي بسيفه حتى انكسر وطعن برمحه حتى انقصف ، وحمل عليهم بالعمود وهو يقول :

بغوا فقد صاروا (٢) إلى التدمير

إلى أشد الحال والمصير

ما بين مقتول إلى أسير

ثم تذوقوا لهب السعير

قال نصر بن مزاحم : حدثني عبد الله بن عبد الحميد قال : رأيت أعرابيا بجنب عدة أسرى وفي يده رأس عبدوس ، وهو يقول :

لم تر عيني منظرا كاليوم

وإن على سيوفنا من لوم

ما صنعت ضباتها بالقوم

كأن ذا في خطرات النوم

قال : ورأيت أبا كتيلة على فرس أدهم معمما (٣) بعمامة حمراء ، في يده سيف وترس يشد على أصحاب عبدوس وهو يقول :

اصطبروا أين إلى أين الهرب

واستشعروا الويل ونادوا بالحرب

قد ذهب الرأس فما صبر الذنب

يا أهل بغداد تهيئوا للعطب (٤)

كيف رأيتم وقع أسياف العرب

قال : فأمر أبو السرايا الناس ليعبروا الأسرى ويعبروا الرءوس ، ثم بعثهم إلى الكوفة (٥) ، وتوجه إلى القصر.

__________________

(١) في (أ) : بنفسه.

(٢) في (د) : طاروا.

(٣) في (أ) : معتما.

(٤) في (د) : للقطب.

(٥) نهاية الصفحة [٣٢٩ ـ أ].

٥٣٨

ثم إن الحسن بن سهل دعا بالسندي بن شاهك (١) ، فقال له : ترى ما هجم علينا من هؤلاء القوم ، وقتلهم من قتلوا وأسرهم من أسروا ، وقد أردت توجيهك (٢) إلى هرثمة بن أعين وهو ممن قد عرفت عداوته لنا ، وإنكاره حقنا وسروره بكل ما دخل علينا من الوهن ، والنقص في دولتنا ، ولست أرجو قدومه ولا آمل رجعته ، وكتب إلى هرثمة ، قال السندي : فلحقت هرثمة بحلوان (٣) حين هم بالرحلة منها ، فلما قيل له : السندي بالباب أمر بإدخالي عليه ، فلما قدمت عليه وأخبرته الخبر ، وورد عليه كتاب من منصور بن مهدي (٤) في جوفه رقعة كتب بها إليه أبو السرايا فيها أبيات من شعر :

هزمت زهيرا واصطلمت جيوشه (٥)

وقلدته عارا شديدا إلى الحشر

وأوردت عبدوس المنايا وحزبه

وأخرجت هارونا إلى أضيق الأمر

وأيتمت أولادا أرملت نسوة

وأنهبت أقواما فصاروا إلى الفقر

فلما وصل إليه كتاب منصور وقرأ الشعر الذي فيه بكى حتى رأيت الدموع تنحدر (٦) على لحيته تحدرا وأمر قواده وجنوده بالمسير ، وتوجه نحو بغداد ، فلما وصل إلى النهروان تلقاه بنو هاشم وأشراف الناس سرورا بقدومه وتعظيما لأمره ، وارتفعت الأصوات بالتكبير والدعاء حتى دخل من أبواب خراسان فتلقاه النساء والصبيان بالضجيج والبكاء على قتلاهم ، ورفع إليه الأطفال واليتامى ، فلما رأى كثرة من قتل (٧) منهم بكى ، ثم قال : لا يهدى الله من كان هذا فعله ، وبعث إلى الحسن بن سهل رسولا يسأله تقويته بما في بيت المال من الأموال ،

__________________

(١) السندي بن شاهك. انظر : مقاتل الطالبيين ص (٤١٦ ، ٤١٧ ، ٤٣٦) ، الكامل لابن الأثير (٥ / ١٠٨ ، ١٣٦).

(٢) في (أ، د) : توجهك.

(٣) حلوان في عدة مواضع ، حلوان العراق وهي في آخر حدود السواد مما يلي الجبال من بغداد ، وأيضا بليدة بقوهستان نيسابور وهي آخر حدود خراسان مما يلي أصبهان ، انظر معجم البلدان (٢ / ٢٩٠ ـ ٢٩٤).

(٤) في (ج) : المهدي.

(٥) في (ب ، ج ، د) : خيوله.

(٦) الأولى أن يقول : تنحدر ، وفي (ج) : تنحدر من على.

(٧) نهاية الصفحة [٣٣٠ ـ أ].

٥٣٩

وبما في الخزائن من السلاح ، وأقام بالياسرية (١) يضيف أصحابه وقواده ، ثم توجه إلى نهر صرصر (٢) ، وتوجه أبو السرايا إلى نهر صرصر حين أتاه فتح المدائن (٣) ، وقد نزل هرثمة في الجانب الشرقي منه ، ونزل الرستمي ، وكان على مقدمته ، فلقي الرستمي فقاتله قتالا شديدا حتى انهزم وغلبه أبو السرايا على الجانب الغربي ، فأقام بنهر صرصر خمسة عشر يوما وليلة يترامون بالنشاب والحجارة ، ويقتتلون في السفن ، فلما ارتحل أبو السرايا من نهر صرصر أمر هرثمة عدة من القواد فاقتتلوا قتالا شديدا حتى انهزم أبو السرايا وقتل أخوه فركب وجهه هاربا إلى الكوفة ، واتبعه هرثمة فيمن معه من أصحابه وقواده (٤).

قال : وعسكر هرثمة بالجارية ، وعسكر أبو السرايا بالعباسية (٥) ، ولم يكن بينهما قتال كثير إلّا أن الطلائع تلقى الطلائع فيقاتل بعضها بعضا ، فأمرهم هرثمة بقطع شربهم ، وسد الفرات (٦) عليهم ، وأمر هرثمة من كان في عسكره من الفعلة ، وحشر أنباط (٧) القرى فسكّروا (٨) الفرات بالجارية ، وحفروا مغيضا (٩) يحمل الماء إلى الآجام ، والصحاري بمهل لينقطع عن أهل الكوفة.

__________________

(١) منسوبة إلى ياسر اسم رجل ، وهي قرية كبيرة على ضفة نهر عيسى ـ نهر صرصر ـ بينها وبين بغداد ميلان ، وعليها قنطرة مليحة فيها بساتين بينهما وبين المحوّل نحو ميل واحد ، معجم البلدان (٥ / ٤٢٥) ، وانظر (١ / ٣٢٢).

(٢) صرصر : قريتان من سواد بغداد ، صرصر العليا وصرصر السفلى وهما على ضفة نهر عيسى ، وربما قيل : نهر صرصر فنسب النهر إليهما ، وبين صرصر السفلى وبغداد نحو فرسخين ، وصرصر أيضا في طريق الحجاج من بغداد كانت تسمى قديما الدير ، أو صرصر الدير ، وقد يطلق عليها نهر الملك ، معجم البلدان (٣ / ٤٠١). ونهر عيسى : هو نهر عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس ، وهي كورة وقرى كثيرة ، وعمل واسع في غربي بغداد يعرف بهذا الاسم ، ومأخذه من الفرات عند قنطرة ريما ، ثم يمر فيسقي طسوج فيروز سابور حتى ينتهي إلى المحول ثم تتفرع منه أنهار تتخرق مدينة السلام ثم يمر بالياسرية ثم قنطرة الرومية ... إلخ ، معجم البلدان (٥ / ٣٢١ ـ ٣٢٢).

(٣) انظر : معجم البلدان (٥ / ٧٤ ـ ٧٥).

(٤) انظر : مقاتل الطالبيين ص (٤٤١) وما بعدها.

(٥) محلة كانت ببغداد ، وقد خربت. أمّا العباسية : فقال الحموي : العباسية محلة كانت ببغداد وأظنها خربت الآن ، وكانت بين يدي قصر المنصور قرب المحلة المعروفة اليوم بيات البصرة ، انظر : معجم البلدان (٤ / ٧٥ ـ ٧٦).

(٦) سد الفرات : انظر معجم البلدان (٤ / ٢٤١ ـ ٢٤٢).

(٧) أنباط : هم المشتغلون بالزراعة ، والأنباط أيضا شعب سامي كانت له دولة في شمال جزيرة العرب ، المعجم الوسيط مادة : (نبط).

(٨) في (أ، د) : فكسروا ، وهو تصحيف ، والمعنى هنا : أي أغلقوا نهر الفرات.

(٩) المغيض الذي يغيض فيه الماء.

٥٤٠