المصابيح

الإمام أبو العباس الحسني

المصابيح

المؤلف:

الإمام أبو العباس الحسني


المحقق: عبدالله بن عبدالله بن أحمد الحوثي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٢

فاقتتلوا قتالا شديدا أشد قتال أصحاب محمد بن سليمان وأصحابه وصبر المبيضة فلم ينهزم منهم أحد ، حتى إذا أتي على أكثرهم جعل أصحاب محمد بن سليمان يصيحون بالحسين الأمان الأمان يبذلونه له ، فيحمل عليهم ويقول : الأمان أريد ، حتى قتل وقتل معه رجلان من أهل بيته ، ورمي الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بنشابة فأصابت عينه ، فجعل يقاتل أشد قتال والنشابة مرتزة (١) في عينه ، فصاح به محمد : يا ابن خال اتقي الله في نفسك فلك الأمان (٢).

فقال : أتؤمنني على أن تمنعني ما تمنع (٣) منه نفسك (٤)؟ فأعطاه على ذلك العهود والمواثيق ، فألقى سيفه وأقبل نحوه ، فأمر بالنشابة فنزعت من عينه ، وأمر بقطنة فغمست في دهن بنفسج وماء ورد ووضعت في عينه ، وعصبت.

واستسقى (٥) ، فأمر محمد أن يسقي سويق لوز بثلج ، ثم أرسل إلى موسى بن عيسى يخبره بأمره ، فقال موسى «بن عيسى» (٦) : ما نقطع أمرا من دون العباس بن محمد ، وكان العباس بن محمد متقدما لموسى بينه وبين محمد ، فبعث إليه يستشيره في أمره ، فقال العباس : لا ولا كرامة أنت أمير الجيش وليس لمحمد إمرة يعطي فيها أحدا أمانا (٧).

ووجه بالرسالة إلى موسى مع ابنه عبد الله ، فقال موسى : القول ما قال العباس يقتل ولا ينفذ له أمان.

فجاء عبد الله يركض مسرورا بذلك ، فلما صار حيث يرونه استعجل ، فجعل يريهم بيده

__________________

(١) مرتزة. رزّ وارتزّ السهم في الحائط ثبت ، والإرزيز : الطعن الثابت ، المنجد ، المعجم الوسيط مادة : (رزز).

(٢) الخبر أورده أبو الفرج الأصفهاني في المقاتل ص (٣٧٩).

(٣) في (ب ، ج ، د) : مما تمنع.

(٤) في مقاتل الطالبيين : «فقال : والله ما لكم أمان ، ولكني أقبل منكم» ص (٣٧٩).

(٥) في (أ، د) : فاستسقى.

(٦) ساقط في (د ، أ).

(٧) انظر مقاتل الطالبيين ص (٣٧٩) وما قبلها وما بعدها.

٤٨١

أن قد أمر بقتله ، وبعث العباس إلى محمد : «أن» (١) ابعث به إلينا ، فخذله وبعث به ، فأمر بضرب عنقه (٢) ، فلما فرغ منهم انصرف الجيش إلى مكة.

قال : وكان موسى بن جعفر عليه‌السلام شهد الحج ذلك العام ، فأرسل إليه موسى بن عيسى ليحضر الأمر ، فجاء متقلدا سيفه على بغل أو بغلة ، فوقف مع موسى بن عيسى حتى انقضى أمر القوم.

قال النوفلي : قال أبي : وكان سليمان بن عبد الله بن الحسن مضعوفا ، فلما انهزم من انهزم بعد أن قتل أكثر القوم انهزم ، وصعد جبلا قريبا من موضع الوقعة ، فلما جاء ابن أخيه الحسن بن محمد بن عبد الله (٣) إلى محمد بن سليمان في الأمان قال له : هذا ابن خالك سليمان بن عبد الله ، وقد عرفت ضعفه وقد سلك هذا الجبل ، وأخاف أن يلقاه من يقتله ، فإن رأيت أن ترسل إليه من يؤمنه ويأتيك به.

فصاح محمد بخيله ويحكم الرجل في الجبل اذهبوا «إليه» (٤) فأعطوه الأمان ، وأتوني به ، فصعدوا فقتلوه وجاءوا برأسه (٥).

وروى النوفلي ـ قال : حدثني شيخ من الشيعة ـ قال : كنت بمنى جالسا مع موسى بن جعفر بن محمد ، فإذا رجلان قد أقبلا أحدهما على برذون أدهم والثاني (٦) على برذون أشهب ، وفي يد كل واحد منهما رمح على أحد الرمحين رأس الحسين بن علي ، والأخر رأس الحسن بن محمد.

__________________

(١) ساقط في (ب).

(٢) في مقاتل الطالبيين : وضرب العباس بن محمد عنقه بيده صبرا. وانظر نفس المصدر ص (٣٧٩) وإتحاف الورى ص (٢٢٠).

(٣) أي الحسن بن محمد بن عبد الله (أبو الزفت).

(٤) ساقط في (ب).

(٥) في (ب) : وأتوا برأسه. انظر مقاتل الطالبيين ص (٣٦٥).

(٦) في (أ) : الآخر.

٤٨٢

وروي : أن حماد التركي (١) كان فيمن حضر وقعة الحسين صاحب فخ ؛ فقال (٢) للقوم وهم في القتال : أروني حسينا فأومئوا له إليه ، فرماه بسهم فقتله ، فوهب له محمد بن سليمان مائة ألف درهم ، ومائة ثوب (٣).

وروى بعضهم قال : كنا بالعقيق (٤) فمرت بنا جماعة زهاء أربعين فيهم الحسين بن علي متوجها نحو مكة (٥) ، وإذا أصحابه قد خذلوه ، وهو على بغلة له على رأسه برطلة (٦) من الشمس وأخته بين يديه في قبة وحواليه الجماعة ، وعليهم السلاح.

فلما كان من الغد خرج جواري أهل المدينة في العقيق ، فإذا هذه قد جاءت بدرع ، وهذه ببيضة ، وهذه بساعد ، وإذا أصحابه قد خذلوه ، فلما صاروا إلى العقيق جعلوا ينزعون سلاحهم ويدفنونه في الرمل ، وتفرقوا عنه كيلا يعرفوا ، وكان شعارهم ذلك اليوم : يا وفاء ، جعلوا ذلك علامة بينهم وبين المبيضة الذين عقدوا بينهم ما عقدوا من أهل الكوفة ليعرف كل رجل منهم صاحبه فينصره ، فما أتوهم ولا وافوهم ولا وفوا لهم به.

[إخبار أمير المؤمنين (ع) بقتل الفخي]

وروي عن سفيان بن عيينة أنه حدث يوما بحديث علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه قال : يأتيكم صاحب الرعيلة (٧) ، قد شد حقبها بوضينها ، لم يقض تفثا من حج ولا عمرة ،

__________________

(١) في (أ) : أبو حماد التركي ، وهو تصحيف ، وانظر مقاتل الطالبيين ففيها : قال حماد التركي ص (٣٧٩) ، انظر : الوزراء والكتاب ص (١٣٤).

(٢) نهاية الصفحة [٢٨١ ـ أ].

(٣) انظر مقاتل الطالبيين ص (٣٧٩).

(٤) موضع يقع على نحو ميلين من المدينة ، وقيل : على عشرة أميال منها ، وعقيق المدينة من نخل وقبائل من العرب ، انظر : معجم البلدان (٤ / ١٣٨ ـ ١٤١) مناسك الحربي (٤٢٠) ، معجم ما استعجم (٣ / ٩٥٠ ، ٩٥٢) ، الروض المعطار (٤١٦ ـ ٤١٨).

(٥) في (أ) : إلى مكة.

(٦) هي القلنسوة.

(٧) الرعيل والرعلة : القطعة المتقدمة من الخيل.

٤٨٣

يقتلونه فتكون شر حجة حجها الأولون والآخرون (١).

فقال سفيان : هذا الحسين بن علي بن أبي طالب.

فقال له بعض من حضر : يا أبا محمد على رسلك ، حسين بن علي خرج من مكة محلا غير محرم متوجها إلى العراق ، وإنما قال : لم يقض تفثا من حج ولا عمرة معه.

قال : فمن تراه؟

قال : الحسين بن علي صاحب فخ.

قال : فأمسك سفيان ساعة ، ثم قال : اضربوا عليه.

ويقال : (٢) إنه سمع على مياه غطفان (٣) كلها ليلة قتل الحسين بن علي هاتف يهتف ويقول (٤) :

ألا يا لقومي للسواد المصبح

ومقتل أولاد النبي ببلدح

ليبكي حسينا كل كهل وأمرد

من الجن إذ لم تبكه الأنس نوح

وإني لجني وإن معرسي لب

البرقة السوداء من دون زحزح

فسمعها الناس لا يدرون ما الخبر حتى أتاهم قتل الحسين.

قال النوفلي : حدثني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور عن الطلحي ، قال : سمعت ابن السوداء يقول : تأخر قوم بايعوا الحسين بن علي صاحب فخ ، فلما فقدهم في وقت (٥)

__________________

(١) هذا الخبر يؤيده حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقتل هاهنا رجل من أهل بيتي في عصابة من المؤمنين .... إلخ» أخرجه صاحب المقاتل مرفوعا ص (٣٦٦ ـ ٣٦٧).

(٢) في (ب ، ج ، د) : فيقال.

(٣) أي غطفان بني سعد ، ومن مياهم : المرّان ، عثلب ، يمن ، السّد ، ظي ، ودحل. والمياه المذكورة مياه لغطفان ثم بني حجاش بن سعد بني ذبيان بالقرب من معدن بني سليم ، انظر : معجم القبائل (٣ / ٨٨٨).

(٤) انظر الأبيات في مقاتل الطالبيين ص (٣٨٥) ، الحدائق الوردية (مصورة) (١ / ١٨١) ، معجم البلدان لياقوت (١ / ٤٨١). وتيسير المطالب (١١٧).

(٥) في (ب) : في يوم المعركة.

٤٨٤

المعركة أنشأ يقول :

وإني لأنوي الخير سرا وجهرة

وأعرف معروفا وأنكر منكرا

ويعجبني المرء الكريم نجاره (١)

ومن حين أدعوه إلى الخير شمرا

يعين على الأمر الجميل وإن يرى

فواحش لا يصبر عليها وغيرا

[من خرج معه من أهل بيته] (٢)

قال المدائني : وخرج مع حسين من أهل بيته يحيى وسليمان وإدريس بنو عبد الله بن الحسن ، وعلي بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن وإبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم طباطبا وحسن بن محمد بن عبد الله وعبد الله وعمر ابنا الحسن بن علي ، وهما ابنا الأفطس ، ولقيهم في الطريق عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن فصار معهم (٣) ، فلما التقوا كان الذين التقوا في المعركة الحسين ، وكان (٤) الرئيس وسليمان بن عبد الله والحسن بن محمد بن عبد الله ، وهو أبو الزفت (٥) قتل صبرا ، وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم وتفرق الآخرون ، وأخذ بعضهم واستؤمن لهم ، ومنهم من حبس فأفلت ، وممن (٦) حبس وأفلت (٧) من الحبس عبد الله بن الأفطس وموسى بن عبد الله أفلت من الحبس فدخل على موسى بن عيسى وجلس في أخريات الناس وعن يمينه موسى بن جعفر وعن يساره الحسن بن زيد ، فقال موسى بن عيسى : كيف ترى صنع الله بكم؟

__________________

(١) النجار : هو الأصل والحسب.

(٢) انظر مقاتل الطالبيين ص (٣٧٢) وما بعدها.

(٣) نهاية الصفحة [٢٨٣ ـ أ].

(٤) في (ب ، ج ، د) : وهو.

(٥) سمي أبو الزفت لشدة سواده.

(٦) في (ب ، ج ، د) : فممن.

(٧) في (أ) : فأفلت.

٤٨٥

فقال موسى بن عبد الله بيت شعر وهو :

فإنّ الأولى تثني عليهم تعيبني

أولاك بني عمي وعمهم أبي

«إنك» (١) إن تمدح أباهم بمدحة

تصدق وإن تمدح أباك تكذب

فأمر به موسى فضرب بين العقابين (٢) خمسمائة سوط ، فما تأوه من ذلك ، ثم أمر به فقيد وأتي فطرق كعابه بالمطرقة فما نطق بحرف.

فقالوا : لم لا تتكلم؟

فقال :

وإني من القوم الذين يزيدهم

قسوا وبأسا شدة الحدثان (٣)

ثم استأمن عبد الله بن الأفطس فأومن واستأمن علي بن إبراهيم فأومن ، ولحق يحيى بن عبد الله بالديلم بعد استخفائه بالكوفة ، ثم ببغداد ، وبعد أن جال البلاد ولحق إدريس بن عبد الله بأقصى المغرب ، وأنشد بعضهم يرثي من قتل بفخ :

يا عين بكي بدمع منك منهتن (٤)

فقد رأيت الذي لاقى بنو حسن (٥)

صرعى بفخ تجر الريح فوقهم

أذيالها وغوادي دلج المزن

حتى عفت أعظم لو كان شاهدها

محمد ذبّ عنها ثم لم تهن

ما ذا يقولون والماضون قبلهم

على العداوة والشحناء والإحن

ما ذا نقول إذا قال الرسول لنا

ما ذا صنعتم بهم في سالف الزمن

لا الناس من مضر حاموا ولا غضبوا

ولا ربيعة والأحياء من يمن

يا ويحهم كيف لم يرعوا لهم حرما

وقد رعى الفيل حق البيت والركن

__________________

(١) في (ب ، ج ، د) : فإنك.

(٢) العقابين : عظمان مؤخر القدمين.

(٣) في (أ) : شماسا وبأسا شدة الحدثان.

(٤) في (ب) : منحدر. وقال في معجم البلدان : منهمر.

(٥) نهاية الصفحة [٢٨٤ ـ أ].

٤٨٦

[(١٦) عيسى بن زيد بن علي بن الحسين (ع)] (١)

(١٠٩ ـ ١٦٨ ه‍ وقيل ١٩٦ ه‍ / ... ـ ٧٨٤ م)

[خبره وبيعته]

وذكر (٢) أن عيسى بن زيد حضر مع محمد بن عبد الله النفس الزكية ، وكان خليفته على جيشه وأكرم رجاله عليه من أهل بيته ، فلما قتل محمد بن عبد الله بالمدينة وجاء عيسى بن زيد مجروحا مع أخيه الحسين بن زيد في جماعة وخرجا إلى إبراهيم بن عبد الله ، وذكر أنه أوصى إليه محمد بن عبد الله بذلك إن قتل هو ، وإن قتل إبراهيم أيضا ، فقدما علي إبراهيم وكانا معه في أيامه وحروبه ، وكان عيسى بن زيد أعلمهم بعد محمد وإبراهيم وكان مع الحسين بن علي الفخي (٣) ، فنجا من الحرب وتوارى في سواد الكوفة ، وقتل إبراهيم بن عبد الله في سنة خمس

__________________

(١) انظر : مقاتل الطالبيين (٣٤٢ ـ ٣٦١) ، المجدي (١٨٦ ـ ١٨٧) ، أخبار فخ (٢٩ ، ٣١ ، ٣٢ ، ٤٢ ، ٤٧) ، الفلك الدّوار ص (٣٢ ، ١١٨) ، الأعلام (٥ / ١٠٢ ـ ١٠٣) ، الكامل (٥ / ٣٦٢) ، والطبري حوادث سنة (١٦٦ ه‍) ، عمدة الطالب لابن عنبة ص (٣١٦ ـ ٣٢١) سر السلسلة العلوية لأبي نصر البخاري ، الفلك الدوار (٣١ ، ١١٨) ، مطمح الآمال (خ) ، وطبقات الزيدية (٢ / خ) ، الجامع الوجيز (خ).

(٢) لعله المدائني ؛ لأن آخر رواية في الترجمة السابقة رواها هو.

(٣) قول المصنف أنه كان مع الحسين بن علي الفخي لا يصح ؛ لأن وفاة عيسى على ما ذكر صاحب الكتاب سنة مائة وستة وستين هجرية ، وعلى ما ذكره غيره سنة مائة وتسعة وستين هجرية ، وهذه السنة وإن كانت هي التي خرج فيها الحسين الفخي عليه‌السلام فإن خروجه في آخرها ، وقد ذكروا أن عيسى بن زيد عليه‌السلام مات قبل الحسن بن صالح بن حي بشهرين ومدة وموت الحسن بن صالح في هذه السنة ، وأيضا فالذين خرجوا مع الحسين الفخي من أهله عليهم‌السلام جماعة معروفون محصورة أسماؤهم في هذا الكتاب وفي كتاب أخبار فخ ، والصحيح أن عيسى بن زيد كان ميمنة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن ، وكان أيضا مع محمد بن عبد الله بن الحسن على ميمنته ، انظر مقاتل الطالبيين ص (٢٦٠ ، ٣٤٤ ، ٣٨٢).

٤٨٧

وأربعين ومائة ، وبايع الناس الحسن بن إبراهيم بن عبد الله سرا (١) ، وتوارى هو ولم يتم أمره وبيعته ، فلما دخلت سنة ست وخمسين ومائه وقعت بيعة عيسى بن زيد عليه‌السلام بايعه الناس بالإمامة ، وهو متوار بالعراق ، بايعه أهل الكوفة والسواد والبصرة والأهواز وواسط وورد عليه بيعة أهل الحجاز ومكة والمدينة وتهامة.

واشتد الطلب من أبي الدوانيق ، وأخذ الناس على الظنة والتهمة وحبسهم ودس إليه الرجال سرا ، وبذل الأموال الكثيرة لهم ، وأنفذ إليه إذا أظهرت نفسك أعطيتك من الدنيا في كلام نحو هذا (٢).

فأجابه عيسى بن زيد فإذا أنا لئيم الأصل ودنيء الهمة (٣) أبيع آخرتي بالدنيا الفانية ، وأكون للظالمين ظهيرا ، والعجب منك ومن فعلك تطمع فيّ وأنت تعرفني.

وكان عليه‌السلام يقول : ما أحب أن أبيت ليلة وأنا آمن منهم وهم آمنون (٤) مني.

وكان عليه‌السلام يروي الناس الأحاديث ويفتيهم وابنه الحسين بن عيسى بن زيد أحد العلماء يروي عن أبيه ، وأحمد بن عيسى كان صغيرا لم يرو عن أبيه شيئا ، وهو من أحد الفاضلين.

وكان لعيسى بن زيد دعاة في جميع الآفاق في كور العراقين (٥) والحجاز وتهامة والجبال ، ووجه إلى مصر والشام دعاته ، وطار صوته في الآفاق ، وهمّ بالخروج غير مرة ، فلم يتيسر له ذلك ، إلى أن مات أبو الدوانيق في سنة مائة وتسع وخمسين ، فهمّ عيسى بن زيد بالخروج ، واشتد الطلب له بالكوفة والبصرة من ابن أبي الدوانيق ، وبذل الأموال الكثيرة ، ودس (٦) إليه الرجال وحبس خلقا كثيرا منهم.

وهمّ عيسى بن زيد بالخروج إلى أرض خراسان فوافى الري فلم يتهيأ له وانصرف إلى

__________________

(١) نهاية الصفحة [٢٨٥ ـ أ].

(٢) انظر : مقاتل الطالبيين ص (٣٤٨ ، ٣٥٥).

(٣) في (أ) : روي النعمة.

(٤) في (أ، د) : يأمنون.

(٥) في (ب ، د) : في الكوفة والعراقين.

(٦) نهاية الصفحة [٢٨٦ ـ أ].

٤٨٨

الأهواز ، وكان أكثر مقامه بها ، وانصرفت دعاته ببيعة الناس من كل بلد ، وكان له جميع الآلة من الأسلحة والدواب ، وأخذ من أصحابه الميعاد ليوم كذا وكذا فدس إليه ابن أبي الدوانيق رجلا من أصحابه ، وبذل له سني الأموال مقدار مائتي ألف درهم ، وضمن له نفيس الضياع ، وعجل المال ، فأنفذ إليه (١) شربة سم فجعله في طعامه وهو بسواد الكوفة مما يلي البصرة ، فسقاه ، فمات من ذلك صلوات الله عليه في اليوم الثالث ودفن سرا لا يعلم قبره (٢) ، وذلك في سنة ست وستين ومائة في شهر شعبان (٣).

وكان عزمه عليه‌السلام على الخروج في غرة شهر رمضان (٤) ، وهو يومئذ ابن خمس وأربعين سنة ، وكان قد بويع وهو ابن ثلاثين سنة ، وقد خالطه الشيب ، وكان لا يختضب ، وكان مربوعا من الرجال عريض ما بين المنكبين صبيح الوجه ، أعلم رجل كان في زمانه ، وأزهدهم ، وأورعهم ، وأفقههم وأسخاهم ، وأشجعهم ، وكان من أئمة الهدى صلوات الله عليه.

ومات ابن أبي الدوانيق لعنه الله في سنة سبع وستين ومائه بعده بأقل من سنة (٥).

وكان الأمر من بعده إلى من هو شر منه موسى أطبق ، وقتل موسى هذا جماعة من بني الحسن والحسين من العلماء والأخيار زيادة على عشرين رجلا ، فقتلهم جميعا في أيام ولايته (٦) لعنه الله (٧).

__________________

(١) في (أ، د) : وأنفذ.

(٢) في (أ، ب ، د) : لا يعرف قبره.

(٣) انظر : المقاتل ص (٣٤٢ ـ ٣٦١) ، وانظر الفهرس ص (٦١٦).

(٤) في (أ، د) : في غرة رمضان.

(٥) توفي المهدي سنة (١٦٩ ه‍) ، نقله الطبري (٦ / ٣٩٤) ، وابن الأثير (٥ / ٧١) ، وأغلب من صنفوا في كتب السير والتراجم.

(٦) نهاية الصفحة [٢٨٧ ـ أ].

(٧) انظر : مقاتل الطالبيين ص (٣٦٤ ـ ٣٨٥).

٤٨٩

[(١٧) يحيى بن عبد الله بن الحسن (أبو الحسن)] (١)

(... نحو ١٨٠ ه‍ / ... نحو ٧٩٦ م)

وأمه [قريبة] بنت محمد بن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة ، تزوجها عبد الله بن الحسن (٢) بعد هند بنت أبي عبيدة عمتها ، فهند أم محمد وإبراهيم وموسى وزينب وفاطمة بني عبد الله بن الحسن وأم يحيى بنت أخيها.

وذكر أبو إسحاق إبراهيم بن محمد المثلى ، بإسناده عن محمد بن القاسم بن إبراهيم عن

__________________

(١) انظر : الطبري (٦ / ١٠ / ٤٤٩) ، تاريخ بغداد (١٤ / ١٣) ، مروج الذهب (٣ / ٣٥٣) الاستقصاء (١ / ٦٧) ، الوزراء والكتاب (١٨٩ / ١٩٠) ، ابن الأثير (٦ / ٧٤ ، ٨٨ ، ٩٠ ، ١١٤) ، ابن أبي الحديد (٤ / ٣٥٢ ـ ٤٥٣) الفخري (١٧٤ ـ ١٧٦) ، شرح شافية أبي فراس (١٨٨) ، مقاتل الطالبيين (٣٨٨ ـ ٤٠٦) ، سر السلسلة العلوية (٢١) ، التحف شرح الزلف (١١٢ ـ ١٣٠) ، الإفادة ص (٩٧ ـ ١٠٧) الحدائق الوردية (١ / ١ / ١٨١ ـ ١٩٥) ، رأب الصدع (٣ / ١٨٢٠ ـ ١٨٢٢) ، الشافي (١ / ١ / ٢٢٧) ، الأعلام للزركلي (٨ / ١٥٤) ، أخبار فخ انظر فهرس الكتاب ص (٢٧٣) ، الجامع الوجيز (خ) ، وذكر الإمام المهدي أحمد يحيى المرتضى في مقدمة البحر الزخار أنه توفي سنة (١٧٥ ه‍) ، النجوم الزاهرة (٢ / ٦٢) وانظر فهرسته ، البداية والنهاية (١٠ / ٥٤) ، وابن خلدون (٣ / ٢١٥ ، ٢١٨) ، سفينة البحار (١ / ٣٦٩ ، ٣٧٠) ، فهرس المخطوطات المصورة (١ / ٥٣٤) الرقم (٨١٤) وذكر في سفينة البحار للقمي أنه قتل في حبه شهيدا سنة (١٧٥ ه‍) ، الفلك الدوار ص (٢٨ ، ٣١) ، أخبار أئمة الزيدية (٦٨) عمدة الطالب لابن عنبة (١٧٦ ـ ١٧٩) الزيدية لصبحي (ط) ٢ (٩٤) ، طبقات الزيدية (خ). اللآلي المضيئة (خ) ، مطمح الآمال (تحت الطبع).

(٢) أمه أسمها قريبة بنت عبد الله المعروف بذبيح بن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزي بن قصي ، وهي بنت أخي هند بنت أبي عبيدة أم محمد وإبراهيم وموسى وزينب وفاطمة أولاد عبد الله بن الحسن ، مقاتل الطالبيين ص (٣٨٨) ، الحدائق الوردية (١ / ١ / ١٨١). وعبد الله بن الحسن : هو عبد الله بن الحسن بن الحسن (المحض) والد النفس الزكية ، وإبراهيم بن يحيى وإدريس ، توفي في حبس المنصور ، انظر مقاتل الطالبيين ص (١٦٦ ـ ١٧١).

٤٩٠

مشايخ أهله من آل الحسن والحسين خبر يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام.

قالوا : خرج يحيى بن عبد الله في سنة سبعين ومائة في ولاية موسى أطبق ، وبايعه أهل الحرمين وجميع أهل الحجاز وتهامة وأرض اليمن وأرض مصر والعراقين (١) وبث دعاته في جميع الآفاق.

[من أجابه من العلماء]

وصحت إمامته ووردت الكتب بإجابته من أهل المشرق والمغرب من الفقهاء والعلماء والوجوه والقواد والعامة.

[٣٤] قال أبو العباس الحسني : فمن العلماء عبد ربه بن علقمة ، ومحمد بن إدريس الشافعي ، ومحمد بن عامر ومخول بن إبراهيم ، والحسن بن الحسن العرني ، وإبراهيم بن إسحاق ، وسليمان بن جرير ، وعبد العزيز بن يحيى الكناني ، وبشر بن المعتمر ، وفليت بن إسماعيل ، ومحمد بن أبي نعيم ، ويونس بن إبراهيم ، ويونس البجلي ، وسعيد بن خثيم وغيرهم من الفقهاء (٢).

قال غيره : والحسن بن صالح بن جبير.

__________________

(١) في (ج) : العراق.

(٢) إضافة إلى منصور البخاري ، محمد بن أبي إبراهيم ، سهل بن عامر البلخي ، عامر بن كثير السراج ، يحيى بن مساور ، إبراهيم اسحاق حبيب بن أرطاة ، حسن بن الحسين العزي ، والخبر في تيسير المطالب ص (١٢٧) ، ولفظه : «وبه قال ذكر أبو العباس الحسني أن العلماء الذين بايعوا يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن عليه‌السلام هم عبد ربه بن علقمة ، ومحمد بن إدريس الشافعي ، ومحمد بن عامر ، ومخول بن إبراهيم ، والحسن بن الحسن العربي ، وإبراهيم بن اسحاق ، وسلمان بن جرير وعبد العزيز بن يحيى الكناني ، وبسر بن المعتم ، وفليت بن إسماعيل ، ومحمد بن أبي نعيم ، ويونس بن إبراهيم ، يونس البجلي ، وسعيد بن خيثم.

٤٩١

[طوافه الأقطار وموقف هارون منه]

وصار يحيى بن عبد الله بنفسه (١) إلى اليمن وأقام بها مدة (٢) ، ثم صار إلى مصر وأرض المغرب (٣) ، ونواحيها ، فاشتد له الطلب من موسى أطبق ، ومات موسى سنة إحدى وسبعين ومائة ، واستخلف هارون بن محمد أخوه ، وهو شر منه فأنفذ في طلب يحيى بن عبد الله ودس إليه الرجال وبذل لهم الأموال ، وانصرف يحيى بن عبد الله إلى العراق ، ودخل بغداد ، وعلم به هارون فأخذ عليه الطرق والمراصد وفتش المنازل والقصور والأسواق والسكك «المحلات» (٤) بجميع بغداد فنجا منه.

وخرج إلى الري فأقام بها شهرا وزيادة ثم صار إلى خراسان ، ثم صار إلى ناحية جوزجان وبلخ فاشتد به الطلب من هارون ، وكان صاحب خراسان حينئذ هرثمة بن أعين قريبا من ثلاث سنين.

وصار يحيى إلى وراء النهر (٥) ، ووردت كتب هارون إلى صاحب خراسان يطلبه.

فصار إلى خاقان (٦) ملك الترك ومعه من شيعته وأوليائه ودعاته من أهل المدينة والبصرة والكوفة وأهل خراسان مقدار مائة وسبعين رجلا ، فأكرمه خاقان ملك الترك وأنزله أفضل منازله ، وقال له : مماليكي كلها لك وأنا بين يديك ، وأوسع عليه وعلى أصحابه من الخيرات

__________________

(١) نهاية الصفحة [٢٨٨ ـ أ].

(٢) يذكر أحمد بن سهل الرازي في كتابه (أخبار فخ) أنه دخل اليمن مرتين ، مرة بعد هروبه من بغداد متخفيا ، وأنه أقام في المرة الثانية ثمانية أشهر ، وأن الإمام الشافعي لقيه ودرس عليه ، أخبار فخ ص (١٩٠ ، ١٩٤).

(٣) المغرب : يطلق آنذاك على شمال إفريقيا الشامل ليبيا وتونس والجزائر ومراكش.

(٤) ورد في الأصل : المحال ، وقصد المؤلف به : جمع محل.

(٥) ما وراء النهر من بلاد فارس والجيل والديلم.

(٦) ملك الترك ، وهو : خاقان ملك الخزر ، والخزر : لقب من ملوك الصين وتركستان قديما ، وكان يطلق على ملوك آخرين أيضا ، والخزر : قوم كانوا يقيمون على شواطئ بحر الخزر وشمال جبال قفقاز ، انظر : الإعجاز والإيجاز للثعالبي ص (٣٦) ، والروض المعطار ص (٢١٩).

٤٩٢

والمعونة بكل ما يحتاجون إليه ، حتى اتصل الخبر بهارون بمكانه عند خاقان ، فأنفذ إلى خاقان ملك الترك رسولا يقال له النوفلي (١) ، وسأل خاقان أن يسلم إليه يحيى بن عبد الله فأبى ملك (٢) الترك ذلك ، وقال له (٣) : لا أفعل ولا أرى في ديني الغدر والمكر (٤) وهو رجل من ولد نبيكم شيخ عالم زاهد قد أتاني والتجأ إلي وهرب منكم وهو عندي عزيز مكرم.

فأقام يحيى بن عبد الله عنده سنتين وستة أشهر ، ثم خرج وقال له ملك الترك : لا تخرج فلك عندي ما تريد.

فقال يحيى بن عبد الله : لا يسعني المقام في ديني ، «وقد رجع إليّ دعاتي وثقاتي» (٥) ، وقد بايعني أهل المشرقين والعراقين (٦) وخراسان ، ووردت كتبهم عليّ وجزاه خيرا.

وكان يحيى بن عبد الله عليه‌السلام لم يزل يعرض عليه الإسلام والتوحيد ، ويرغبه فيما عند الله في السر والعلانية ، فأسلم سرا ، وقال له : لا أجسر أن أظهر الإسلام خوفا على نفسي من أصحابي وقوادي وأهل مملكتي ، فإنهم إما أن يقتلوني أو يزول هذا الملك عني من يدي.

فخرج يحيى بن عبد الله من عنده وصار إلى قومس ، ودخل إلى جبال طبرستان التي كان يملكها شروين بن سرحان (٧) ، ثم خرج إلى ملك الديلم.

ووقع الخبر إلى العراق بمصيره إلى هناك ، فأنفذ هارون في طلبه الفضل بن يحيى البرمكي

__________________

(١) النوفلي : هو نوفل خادم المأمون ، وهو وكيله على ملكه بالسواد والناظر في أمر أولاده ببغداد ، انظر الكامل لابن الأثير (٥ / ١٤٥).

(٢) نهاية الصفحة [٢٨٩ ـ أ].

(٣) في (ب) : فقال.

(٤) في (أ، د) : الخدع والمكر.

(٥) ساقط في (أ).

(٦) في (أ، د) : أهل المشرقين والمغربين.

(٧) شروين : في بعض النسخ بن (سرخاب) ، وفي أخبار فخ (١٩٦) : تشرتون بن فلان ، وفي بعض النسخ التي اعتمدها محقق أخبار فخ : تشريون ، شروين.

٤٩٣

وأنفذ معه ثمانين ألف رجل (١) ، وقاضيه ، وهو أبو البحتري ، فنزلوا الري ، وكاتبوا ملك الديلم وخدعوه (٢) بالأموال الخطيرة حتى انخدع.

قال أبو الحسن النوفلي : قال : إني قلت ليحيى بن عبد الله لما قدم العراق ، وقد أعطي الأمان : كيف كانت حالتك بالديلم ، ولم قبلت الأمان؟

فقال : أما صاحب الديلم فكانت زوجته غالبة على أمره ، فلم تكن أموره تورد ولا تصدر إلّا عن (٣) رأيها ، فلم تزل به حتى تقاعد عن معونتي ، وحتى انخذل عني وكره مقامي عنده حتى خفته على نفسي واختلف علي أصحابي.

[أمان الرشيد لصاحب الترجمة]

فكتب له الرشيد أمانا محكما وحلف له بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك والأيمان المغلظة أن لا يناله منه مكروه ، وكتب له نسختين نسخة عنده ونسخة عند يحيى.

فلما خرج إليه أظهر بره وإكرامه وأعطاه مالا وهو ألف ألف درهم ، ولم (٤) يزل آمنا إلى أن (٥) سعى به إلى الرشيد الزبيري وأصحابه.

قال النوفلي : وحدثني أحمد بن سليمان عن أبيه أنه حج في السنة التي قدم فيها يحيى بن عبد الله بعد الأمان ، وقد أذن له في الحج ، قال : فرأيته جالسا في الحجر وبإزائه بعض مواليه وموالي أبيه ، ونعليه بين يديه ، وأنا لا أعرفه غير أني ظننت أنه من ولد فاطمة رضوان الله

__________________

(١) في (أ) : وأنفذ معه مائتي ألف رجل.

(٢) في (ب) : فخدعوه.

(٣) نهاية الصفحة [٢٩٠ ـ أ].

(٤) في (ج) : فلم.

(٥) في (أ، ب ، د) : آمنا حتى سعى.

٤٩٤

عليها ، وهو أسمر نحيف خفيف العارضين ، فشغل قلبي الفكر فيه ، وأنا في ذلك الطواف إذ مرت بي عجوز من عجائز أهل المدينة تطوف ، فلما وقعت عينها عليه أتته ، فقالت : بأبي أنت وأمي يا بن رسول الله ، الحمد لله الذي أرانيك في هذا الموضع آمنا.

فلما عرفه الناس ازدحموا عليه فمد يده إلى نعله فانتعلهما (١) ، وخرج من المسجد إلى منزله.

قال أبو إسحاق إبراهيم بن رباح (٢) في حديثه : سمعت عبد الله بن محمد بن الزبير ، وكان أبوه خاصة الرشيد ، وذلك أنه كان صاحب رقيق بالمدينة ، وكان الرشيد يبتاع منه الجواري (٣) ، فصار عدة منهن أمهات أولاد ، وكان الفضل بن الربيع يأنس به.

قال إبراهيم : فحدثني عبد الله ، عن أبيه قال : دخلت مع الفضل يوما إلى الرشيد ، فرأيت يحيى بن عبد الله (٤) بين يديه ، والرشيد يقرعه ويعتد عليه بأشياء ، وفي كم يحيى بن عبد الله كتب ، فجعل يحيى يدخل يده فيخرج كتابا ، ثم يناوله الرشيد ، ويأخذ بطرفه ، ويقول : اقرأ هذا يا أمير المؤمنين فإذا أتى على قراءته أدخله كمه ، وأخرج كتابا آخر ففعل مثل ذلك ، قال : واعلم أن تلك الكتب حجج ليحيى ، فعرض لي أن تمثلت بقول الشاعر :

أنا أتيحت له حرباء تنضبة

لا يرسل الساق إلّا ممسكا ساقا

قال : فأقبل عليّ الرشيد مغضبا ، فقال : تؤيده وتلقنه وتؤازره؟

فقلت : لا والله يا أمير المؤمنين ما هكذا أنا ولا كنت على هذا قط ، ولكني رأيته فعل شيئا في هذه الكتب أذكرني هذا الشعر ، يناول الكتاب فلا يخليه في يدك ، ويمسك طرفه بيده ، ثم يرده إلى كمه ، ويخرج غيره ، فأذكرني هذا البيت.

__________________

(١) في (أ، د) : نعله فانتعلها.

(٢) أبو إسحاق هو إبراهيم بن رباح ، يروي عن عبد الله بن محمد بن الزبير السالف الذكر ، كان والده من خاصة الرشيد ، إذ كان أحد تجار الرقيق بالمدينة ، وكان الرشيد يبتاع منه الجواري ، ولم نقف على مزيد من أخباره غير ما هنا.

(٣) نهاية الصفحة [٢٩١ ـ أ].

(٤) ورد الاسم في (ج) : يحيى بن عبد الله بن زيد ، وهو تصحيف.

٤٩٥

فلما فرغ من قراءة تلك الكتب قال له : دعني من هذا ، أينا أحسن وجها ، وأنصع لونا ، «وأتم قامة وأحسن خلقة» (١) ، أنا أو أنت (٢)؟

فقال : أنت والله يا أمير المؤمنين أحسن وجها وأنصع لونا وأتم قامة وأحسن خلقة ، وما أنا من هذه (٣) الطريق في شيء.

قال الرشيد : فدع ذا (٤) ، أينا أسخى ، أنا أو أنت (٥)؟

فقال يحيى : يا أمير المؤمنين في الأول أجبتك بما قد علمه الله وعلمه كل مستمع وناظر ، فأما في هذه فأنا (٦) رجل أهتم بمعاشي أكثر السنة التي تأتي علي ، وأتقوت ما يصير إليّ على حسب السعة والضيق (٧) وأنت يا أمير المؤمنين يجيء إليك (٨) خراج الأرض ، والله ما أدري ما أجيب به ، في هذا.

قال : لتجيبني وما بهذا عليك خفاء (٩).

قال : وقد والله صدقتك يا أمير المؤمنين ما أدري كيف ذاك (١٠).

قال : فندع هذا ، فأينا أقرب إلى رسول الله؟

قال يحيى : يا أمير المؤمنين النسب واحد والأصل واحد والطينة واحدة ، وأنا أسألك يا أمير المؤمنين لما أعفيتني من الجواب في هذا ، فحلف له بالطلاق والعتاق والصدقة أن لا يعفيه.

__________________

(١) ساقط في (ب ، ج).

(٢) انظر : مقاتل الطالبيين (٣٦٩) وما بعدها ، وابن أبي الحديد (٤ / ٣٥٢).

(٣) في (ب) : وما أنا من هذا الطريق في شيء ، وفي (ج ، د) : وما أنا في هذا الطريق في شيء.

(٤) في (أ، د) : فيدع ذي.

(٥) في مقاتل الطالبيين : فأينا أكرم وأسخى ، أنا أو أنت؟

(٦) نهاية الصفحة [٢٩٢ ـ أ].

(٧) في (أ) : والضيقة.

(٨) في (ب ، أ) : تجيء إليك ، وفي (د) : يجيء إليك.

(٩) في (ب) : وما هذا عليك خفاء.

(١٠) في (ب) : ذلك.

٤٩٦

فقال يحيى عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين بحق الله وبحق رسوله وقرابتك منه لما أعفيتني.

قال : قد حلفت بما قد علمت فهبني أحتال بكفارة في اليمين بالمال والرقيق ، كيف الحيلة في الطلاق وبيع أمهات الأولاد.

فقال يحيى عليه‌السلام إن في نظر أمير المؤمنين وتفضله علي ما يصلح هذا.

قال : لا والله لا أعفيك.

قال : أما إذ لا بد (١) يا أمير المؤمنين فأنا أنشدك الله لو بعث فينا رسول الله الساعة ، أكان له أن يتزوج فيكم؟

قال الرشيد : نعم.

قال يحيى عليه‌السلام : أفكان له أن يتزوج فينا؟

قال الرشيد : لا.

قال يحيى عليه‌السلام : فهذه حسب.

قال : فوثب الرشيد ومضى ، فقعد غير ذلك المجلس وخرج الفضل وخرجنا معه وهو ينفخ غما.

فسكت (٢) مليا ثم قال : ويحك سمعت شيئا أعجب مما كنا فيه قط ، والله لوددت أني فديت هذا المجلس بشطر ما أملك.

وذكر في غير هذه الرواية (٣) : أنه لما انقضت مناظرة الرشيد يحيى (٤) عليه‌السلام سأل الرشيد الفقهاء (٥) عن أمانه وأمرهم بالنظر فيه.

__________________

(١) في (ب) : أما إذا لا بد.

(٢) نهاية الصفحة [٢٩٣ ـ أ].

(٣) في مقاتل الطالبيين : ثم ردّه إلى محبسه في يومه ذلك ، ثم دعا به وجمع بينه وبين عبد الله بن مصعب الزبيري ليناظره فيما رفع إليه وساق بقية الرواية (ص ٣٦٩ ـ ٤٠٠).

(٤) في (أ) : لما انقضت مناظرة الرشيد ويحيى.

(٥) من الفقهاء : محمد بن الحسن ، صاحب أبي يوسف القاضي ، والحسن بن زياد اللؤلؤي ، وأبو البختري وهب بن وهب وابن الدّراوردي أبو محمد عبد العزيز بن محمد عبيد الجهني المدني ، مقاتل الطالبيين ص (٤٠١).

٤٩٧

فقال محمد بن الحسن الفقيه : بعث إليّ أبو البحتري وإلى عدة (١) من الفقهاء فيهم عبد الله بن صخر قاضي الرقة (٢) ، فأتيناه ، فقال : إن أمير المؤمنين باعث إليكم أمان يحيى بن عبد الله فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم وقولوا الحق.

قال فغدونا فبدأ بنا في الإذن ، فلما سلمنا وجلسنا ألقي الأمان إلينا فنظرنا فيه ، فقلنا جميعا : ما نري فيه شيئا يخرجه من أمانه ، فأخذه أبو البحتري ونظر فيه ثم قال : ما أراه إلّا خارجا من أمانه ، فأمرنا بالقيام فقمنا وانصرفنا ، فلما كان من الغد بعث الرشيد بالأمان مع مسرور الخادم (٣) إلى أبي البحتري ، فأتاه ، فقال : إن أمير المؤمنين يقول لك إني ظننت أنك قلت في أمان يحيى بعض ما ظننته يقرب من موافقتي ولست أريد فيه إلّا الحق ، فأعد النظر فيه فإن رأيته جائزا فاردده ، وإن لم تره جائزا فخزّقه (٤).

قال مسرور : فأبلغته الرسالة.

فقال : أنا على مثل قولي بالأمس.

فقلت له : هذا الأمان معي فنظر فيه ثم قال (٥) : ما أرى فيه إلّا مثل ما قد قلته.

فقلت له : فخزّقه (٦) إذن.

فقال : يا غلام هات المدية.

فقلت لغلام (٧) كان معي يقال له محبوب : يا محبوب هات سكينا ، فأخرجها من خفه

__________________

(١) في (أ، د) : جماعة.

(٢) لعله عبد الله بن صخر ورد ذكره في الجرح والتعديل (٥ / ٨٥ ت ٣٩٥) ، وقال : روى كلاما في الزهد والحكمة عن رجل تراءى له ثم غاب حتى لا يدري كيف ذهب فذكر له أنه كان الخضر عليه‌السلام ، روى نعيم بن ميسرة عن رجل من يحصب عنه. والرقة : مدينة مشهورة على الفرات ، انظر معجم البلدان (٣ / ٥٨ ـ ٦٠).

(٣) أحد خدام هارون الرشيد بن أبي جعفر المنصور ، انظر : مقاتل الطالبيين (٣٩١ ، ٣٩٥ ، ٤٠٠ ، ٤١١ ، ٤١٦ ، ٤٦٤ ، ٤٦٥ ، ٤٧٢).

(٤) في (ب ، ج) : فحرقه.

(٥) في (ب) : فقال.

(٦) في (ب ، ج) : فحرفه.

(٧) في (أ) : فقال لخادم.

٤٩٨

فدفعها (١) إلى أبي البحتري ، فشق بها الأمان ويده تضطرب حتى جعله سيورا ، فأخذته ووضعته في كمي ، وأتيت به هارون.

فقال لي : ما وراءك؟ فأخرجته إليه.

فقال لي : يا مبارك.

قال : ثم حبس يحيى بعد ذلك بأيام.

قال محمد بن الحسن الفقيه : لما ورد الرشيد الرقة ؛ وكنت قلدت القضاء ؛ دخلت أنا إليه والحسن بن زياد اللؤلؤي وأبو البحتري وهب بن وهب ، فأخرج إلينا الأمان الذي كتبه ليحيى بن عبد الله بن الحسن فدفعه إليّ فقرأته ، وقد علمت الأمر الذي أحضرنا له ، وعلمت ما ينالني من موجدة الرشيد إن لم أطعن فيه ، فآثرت أمر الله والدار الآخرة ، فقلت : هذا أمان مؤكد لا حيلة في نقضه ، فانتزع الصك من يدي ودفعه إلى اللؤلؤي فقرأه ، فقال كلمة ضعيفة ، لا أدري سمعت أو لم تسمع : هو أمان.

فانتزع من يده ودفع إلى أبي البحتري ، فقرأه وقال (٢) : ما أوجبها لله وما أمضاه ، هذا رجل (٣) قد شق العصا وسفك دماء المسلمين وفعل ما فعل لا أمان له ، ثم ضرب بيده إلى خفه ؛ وأنا أراه ؛ فاستخرج منه سكينا فشق الكتاب نصفين ثم دفعه إلى الخادم ، ثم التفت إلى الرشيد وقال : اقتله ودمه في عنقي يا أمير المؤمنين.

قال : فنهضنا عن المجلس ، وأتاني رسول الرشيد أن لا أفتي أحدا ، ولا أحكم ، فلم أزل على ذلك إلى أن أرادت أم جعفر (٤) أن تقف وقفا ، فوجهت إليّ في ذلك فعرفتها أن قد (٥) نهيت عن الفتيا وغيرها ، فكلمت الرشيد ، فأذن لي.

__________________

(١) نهاية الصفحة [٢٩٤ ـ أ].

(٢) في (أ، د) : ثم ، وفي (ب) : فقال.

(٣) في (أ) : هذا الرجل.

(٤) هي : سلّامة أم ولد بربرية ، قيل : نفزية بلد من المغرب ، وقيل : صنهاجية ، انظر جمهرة أنساب العرب لابن حزم تحقيق عبد السلام هارون ص (٢٠).

(٥) نهاية الصفحة [٢٩٥ ـ أ].

٤٩٩

قال محمد بن الحسن : فكنا وكل من كان في دار الرشيد يتعجب من أبي البحتري وهو حاكم وفتياه بما أفتى به ، وتقلده دم رجل من المسلمين ، ثم من حمله في خفه سكينا.

قال : ولم يقتل الرشيد يحيى في ذلك الوقت ، وإنما مات في الحبس بعد مدة.

قال محمد بن سماعة : وقرب الرشد محمد بن الحسن بعد ذلك وتقدم عنده وأحضره ليوليه قضاء القضاة ، قال : وأشخصه معه إلى الري واعتل ، وتوفي هو والكسائي ، فماتا في يوم واحد.

فكان الرشيد يقول : دفنت الفقه والنحو بالري (١).

وذكر أن محمد بن الحسن لما أفتى بصحة الأمان ، ثم أفتى أبو البحتري بنقضه وأطلق له دمه ، قال له يحيى : يا أمير المؤمنين يفتيك محمد بن الحسن ؛ وموضعه من الفقه موضعه بصحة أماني فيفتيك (٢) هذا بنقضه ، وما لهذا والفتيا إنما كان أبو هذا طبالا بالمدينة.

[استشهاده (ع)]

قال النوفلي : حدثني زيد بن موسى ، قال : سمعت مسرور الكبير يقول : إن لآل أبي طالب أنفسا عجيبة ، أرسلني الرشيد إلى عبد الملك بن صالح ، حين أمره بحبسه فجئته فقلت له : أجب ، فقال : يا أبا هاشم ، وما ذا ؛ وأظهر خوفا وجزعا شديدا؟

فقلت له : لا علم لي.

قال : فدعني أدخل أجدد (٣) طهوري.

__________________

(١) الخبر أورده السيوطي في بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة وقال : مات بالري هو ـ أي الكسائي ـ ومحمد بن الحسن في يوم واحد ، وكانا قد خرجا مع الرشيد فقال : دفنت الفقه والنحو في يوم واحد ، وذلك سنة اثنتين أو ثلاث ، وقيل : تسع وثمانين ومائة ، وقيل : اثنين وتسعين ، بغية الوعاة (٢ / ١٦٤).

(٢) في (ب ، ج ، د) : ويفتيك.

(٣) في (ب ، ج ، د) : آخذ.

٥٠٠