المصابيح

الإمام أبو العباس الحسني

المصابيح

المؤلف:

الإمام أبو العباس الحسني


المحقق: عبدالله بن عبدالله بن أحمد الحوثي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٢

أين علمن بي هؤلاء ، فاشتد (١) بي الأمر فأخذني المخاض فولدت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما خرج من بطني درت فنظرت إليه ، فإذا أنا به ساجد قد رفع اصبعيه إلى السماء كالمتضرع المبتهل (٢).

[ثالثا : اضطراب الأصنام ونداء الذئب]

قال : وكان عبد المطلب ليلة إذ في جوف الكعبة يرم منها شيئا ، إذ سمع تكبيرا عاليا : الله أكبر الله أكبر رب محمد المصطفى وإبراهيم المجتبى ، ألا إن ابن آمنة الغراء قد ولد وقد انكشفت (٣) عنا سحائب الغمة إلى الرحمة ، ثم اضطربت الأصنام وخرت على وجوهها (٤).

فقال عبد المطلب : فدهشت ، ثم خرجت من الكعبة في ليلة مقمرة فإذا أنا بذئب قد وقف بأعلى مكة وهو ينادي بصوت له رفيع عربي فصيح :

يا آل غالب (٥) ألا فاسمعوا قد جاءكم النور الثاقب الذي به تستبهج الدنيا ، فاتبعوه قبل أن تدنوا وتخذلوا ، ثم مضى الذئب ، وإذا بصوت رفيع من الجبل جبل أبي قبيس (٦) : يا آل غالب ألا فاسمعوا لهذا المولود فإنه خيرة المعبود ، فطوبى لمن آزره وتبعه ونصره (٧).

__________________

(١) في (أ، د) : واشتد.

(٢) انظر : السيرة الحلبية (١ / ٤٦ ـ ٧٨) ، طبقات ابن سعد (١ / ٧٨ ـ ٨٣) ، تهذيب ابن عساكر (١ / ٢٨٢ وما بعدها) ، السيرة النبوية (١ / ١٦٦ ـ ١٦٨) ، دلائل النبوة للبيهقي (١ / ١٠٢) وما بعدها ، الخصائص الكبرى للسيوطي (١ / ٤٥ ـ ٥٣) ، الأمالي الاثنينية (خ) ، سيرة ابن هشام (١ / ١٦٦ ـ ١٦٨).

(٣) في (ب) : وقد انكشف.

(٤) في (د) : وجهها.

(٥) هم آل غالب بن فهر ، بطن من قريش من العدنانية ، وهم : بنو غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. انظر معجم قبائل العرب (٣ / ٨٧٥ ـ ٨٧٦) ، تأريخ بن خلدون (٢ / ٣٢٤) ، صبح الأعشى للقلقشندي (١ / ٣٥٢).

(٦) جبل أبي قبيس : وقيل : أبو قابوس ، وأبو قبيس ، اسمان لجبل مكة ، ويقال : شيخ الجبال أبو قبيس ، وقيل ثبير ، انظر : معجم ما استعجم (٣ / ١٠٤٠) ، الروض المعطار (٤٥٢).

(٧) انظر : مناقب آل أبي طالب (١ / ٢٩) ، السيرة الحلبية (١ / ٦٧ وما بعدها) ، طبقات ابن سعد (١ / ٨٠ ـ ٨٣) ، البداية والنهاية (٢ / ٢٥٩ ـ ٢٧٣) ، الأمالي الاثنينية (خ) ، دلائل النبوة للبيهقي ، والخصائص للسيوطي ، ودلائل أبي نعيم.

١٠١

فأسرع عبد المطلب نحو (١) منزل آمنة فإذا هو بطيور ساقطة على حيطان الدار وسحابة بيضاء قد أظلت الدار بأجمعها ، فلما دنا من الباب لم يطق الدخول من لمعان النور ، فقرع الباب قرعا خفيفا.

فقالت آمنة بخفي من صوتها : من هذا؟

قال : أنا عبد المطلب ، افتحي (٢) واعجلي قبل أن تتفقأ مرارتي وتتصدع كبدي.

فوثبت آمنة وفتحت ودخل عبد المطلب فنظر إلى وجهها ففقد النور الذي بين عينيها فضرب بيده إلى ثوبه ليشقه ، وقال : ويحك يا آمنة أنائم أنا أم يقظان؟

قالت : بل يقظان ، فما قصتك؟

قال : ويحك يا آمنة أنا منذ الليلة في خوف ورعب فخبريني ما حال النور؟

قالت : قد وضعت غلاما.

قال : وأين وضعتيه ، ولست أرى عليك أثر النفاس؟

قالت : إن هذه الطيور التي ترى قد أطلت الدار لتنازعنيه منذ وضعته.

قال عبد المطلب : ويحك فهلمّيه حتى أنظر إليه.

قالت : إنه حيل بينك وبينه.

فاشتد على عبد المطلب وقال : لئن لم تحرجيه لأقتلن نفسي ، أتمنعيني من ولدي وولد ولدي.

قالت : هو في ذلك المخدع فشأنك به.

فوثب عبد المطلب ليدخل فصاح به صائح بصوت هائل : ارجع لا سبيل لك ، ولا لأحد من الآدميين إلى هذا المولود حتى تنقضي عنه زيارة الملائكة (٣).

__________________

(١) في (ب) : إلى.

(٢) نهاية صفحة [١٣ ـ أ].

(٣) انظر الأمالي الاثنينية (خ).

١٠٢

[٨] «أخبرنا ابن جعفر الأنماطي (١) ، قال : حدثنا فرج بن فضالة ، عن لقمان بن عامر ، عن أبي أمامة» (٢) قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم ما كان أول بدء أمرك؟

قال : «دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام» (٣).

[رابعا : حديث الرضا ع]

[٩] أخبرنا (٤) عبد الرزاق بن محمد عن أبيه ، عن ابن إسحاق يرفعه بإسناده ، عن عبد الله بن جعفر ، قال : لما ولد رسول (٥) الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم قدمت حليمة بنت [أبي ذويب ـ عبد الله بن] الحارث (٦) في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن الرضا ع بمكة.

قالت حليمة : فخرجت في أولئك النسوة على أتان (٧) لي قمراء ، ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى أحد بني سعد بن بكر ، قد أرزمت أتاننا بالركب ، ومعي شارف (٨) والله ما تبض

__________________

(١) ورد الاسم في (د) : أحمد بن جعفر الأنماطي وهو تصحيف.

(٢) في (ب ، ج) : حدثنا أبو العباس الحسني قال : سئل ... إلخ.

(٣) أخرجه الحلبي في السيرة الحلبية (١ / ١٧٥) ، وابن سعد في طبقات (١ / ١٠٢) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٦٠٠) ، وأحمد في مسنده (٥ / ٢٦٢) ، الهيثمي في مجمع الزوائد (٨ / ٢٢٢).

(٤) السند في (ب ، ج) هكذا : «قال أبو العباس أحمد بن ابراهيم عن عبد الله بن جعفر ، أو عن من حدثه عنه قال : لما ... إلخ» ، والسند كاملا هو : «أخبرنا عبد الرزاق بن محمد عن أبيه عن ابن إسحاق قال : حدثني جهم بن أبي جهم مولى لامرأة من بني تميم كانت عند الحارث بن حاطب ، فكان يقال : مولى الحارث بن حاطب ، قال : حدثني من سمع عبد الله ...» ، وأورد الخبر. انظر : سيرة ابن إسحاق الفقرة (٣٢) ص (٢٦).

(٥) نهاية صفحة [١٤ ـ أ].

(٦) هي : حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر السعدي البكري الهوازني ، من أمهات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرضا ع. كانت زوجة الحارث بن عبد العزى السعدي من بادية الحديبية ، قدمت مع زوجها بعد النبوة فأسلما ، لها رواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، روى عنها عبد الله بن جعفر ، توفيت بعد (٨ ه‍ / ٦٣٠ م). انظر : الأعلام (٢ / ٢٧١) ، ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ص (٢٥٩) ، الإصابة (٤ / ٢٧٤) ، تاريخ أبي الفداء (١ / ١١٢) ، الأمالي الاثنينية (خ).

(٧) أتان : أنثى الحمار.

(٨) الرزوم : الدابة التي لا تتحرك من الهزل والإعياء ، وقولها : معي شارف ، أي ناقة مسنة.

١٠٣

بقطرة من لبن ، «ونحن» (١) في سنة شهباء ، قد جاع الناس فيها حتى خلص النهم (٢) الجهد ، ومعي ابن لي والله ما ينام ليلنا ، ولا أجد في ثدييّ شيئا أعلّله به ، إلّا أنا نرجوا الغيث ، وكانت لنا غنم فنحن نرجوها ، فلما قدمنا مكة ما بقي منا أحد إلّا عرض عليها رسول الله فكرهناه وقلنا : إنه يتيم ، وإنما يكرم الظئر (٣) ، ويحسن الوالد ، فقلنا : ما عسى أن تصنع لنا أمه أو عمه أو جده فكلّ صواحبي أخذت رضيعا ، ولم أجد شيئا.

فقلت لصاحبي : إني والله آخذ هذا اليتيم من بني عبد المطلب فعسى الله أن ينفعنا به ، ولا أرجع من بين صواحبي لا آخذ شيئا.

قال : أصبت ، فأخذته (٤).

قال ابن إسحاق في حديث غيره : فجاءني عبد المطلب بن هاشم يخطر في حلته ، فقال :

معاشر المراضع هل بقي منكن أحد «من الركب لم تأخذ رضيعا» (٥)؟

فقلت : أنا.

«فقال : تأخذي ولدي هذا» (٦)!

فقلت : نعم ، فأخذته ، فو الله ما هو إلّا أن حملته على تلك الأتان الرزوم ، فلقد كنت لا أقدر على لزمها من النهوض حتى أن النّسوة ليقلن : أمسكي علينا ، هذه أتانك التي خرجت عليها؟

__________________

(١) ساقط في (أ، د).

(٢) النهم : لفظ مذكر : النهمة ، وهي : الحاجة والشهوة في الشيء ، والمعنى : أن الحاجة والشهوة للأكل قد خلصت ـ أي : أتمها الجهد والإعياء من شدة الجوع.

(٣) ظاءرت المرأة مظاءرة : أخذت ولدا ترضعه.

(٤) الخبر أورده كاملا ابن هشام في السيرة النبوية (١ / ١٧١ ـ ١٧٢) ، وابن إسحاق في المبتدأ والمبعث والمغازي ص (٢٦ ـ ٢٨). دلائل النبوة والبيهقي في (١ / ١٣٣ وما بعدها) ، ودلائل أبي نعيم (١١١ ـ ١١٣) ، والوفاء لابن الجوزي (١ / ١٠٨) ، والبداية والنهاية (٢ / ٢٧٣).

(٥) ساقط في (ب).

(٦) ساقط في (ب).

١٠٤

فقلت : نعم.

فقلن : إنها (١) كانت أرزمت حين أقبلنا فما شأنها؟

فقلت : حملت عليها غلاما مباركا (٢).

فخرجنا ، فما زال يزيدنا الله في كل يوم خيرا حتى قدمنا والبلاد سنهة (٣) ، فلقد كان رعاؤنا يسرحون ثم يروحون فتروح أغنام بني سعد جياعا ، وتروح غنمي شباعا حفلا (٤) ، فنحتلب ونشرب ، فيقولون : ما شأن غنم الحارث بن عبد العزى وغنم حليمة تروح شباعا بطانا حقلا ، وتروح غنمكم بشر جياعا؟! ويلكم اسرحوا حيث تسرح رعاتهم فيسرحون معهم فما ترجع إلّا جياعا كما كانت.

قالت : وكان «رسول الله» (٥) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشب شبابا ما يشبهه أحد من الغلمان ، يشب في اليوم شباب الغلام في الشهر وفي الشهر شبابه في السنة.

فلما استكمل سنتين أقدمناه مكة أنا وأبوه وكنا والله لا نفارقه أبدا ونحن نستطيع ، فلما أتينا أمه قلت لها : إني ظئر (٦) ، والله ما رأينا صبيا قط أعظم بركة منه ، وإنّا نتخوّف عليه وباء مكة وأسقامها فدعينا نرجع به حتى ترين من رأيك.

__________________

(١) نهاية صفحة [١٥ ـ أ].

(٢) في (ب ، ج) : والله إني لقد حملت عليها غلاما مباركا.

(٣) المعنى بلاد مجدبة أصابها الجدب الشديد.

(٤) في (ب ، ج) : شباعا بطانا حفلا ، والحفل : هو أن لا تحلب الشاة أياما ليجتمع اللبن في ضرعها للبيع ، وسميت الناقة والشاة والبقرة بالمحفلة ؛ لأن اللبن حفل في ضرعها ، أي جمع ، والمعنى أنهن شباعا مملوات باللبن ، كأنهن حفل. لسان العرب ، مادة (حفل).

(٥) ساقط في (ب).

(٦) أي مرضعة.

١٠٥

[خامسا : خبر شق الصدر] (١)

فلم نزل بها حتى أذنت ، فرجعنا به فأقمنا أشهرا ثلاثة أو أربعة ، فبينما هو يلعب خلف

__________________

(١) الذي ذهب إليه عامة أهل السير والتراجم في خبر شق الصدر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقي في بني سعد حتى السنة الرابعة وقيل : الخامسة ، أمّا ابن هشام في سيرته (١ / ١٦٤ ـ ١٦٥) فذهب إلى أنه حدث في السنة الثالثة ، ونظرا لخشية حليمة عليه بعد حادثة شق الصدر فقد أرجعته إلى أمه آمنة ، فمكث معها إلى أن بلغ ست سنين ، كما أورده مصنفو كتب الحديث كمسلم ، وأحمد ، والحاكم ، ... إلخ ، ومصنفو كتب التفسير في تفسير قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ، وقالوا بأن الحادثة هي الأولى إذ جرت له حادثة شق صدر أخرى بعد مبعثه وقد تجاوز عمره آنذاك الخمسين سنة ، فعن مالك بن صعصعة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حدثهم عن ليلة أسري به فقال : ((بينما أنا في الحطيم ، أو قال : في الحجر مضطجع بين النائم واليقظان أتاني آت فشق ما بين هذه إلى هذه ـ يعني من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه ـ قال : فاستخرج قلبي ثم أتيت بطشت من ذهب مملوء إيمانا ، فغسل قلبي ثم أحشائي ، ثم أعيد ... إلخ ما ذكروه» ، وهذا الحديث أخرجه مسلم : كتاب الإيمان ، وأحمد (٣ / ١٢١) ، والحاكم (٢ / ٦١٦).

وبعد كل ما سبق فإن خبر شق الصدر في رأينا رواية أصلها جاهلي مأخوذة عن أسطورة أوردها أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني فحواها أن أمية بن أبي الصلت كان نائما فجاء طائران إلى بيته فوقع أحدهما على باب البيت ودخل الطائر الآخر فشق قلب أمية ، ثم رده ، فقال له الطائر الآخر : أوعي ، قال : نعم ، قال زكي ، قال : أبى كما أوردها بطريقة أخرى بنفس الحادثة إلّا أنه ذكر بأنه كان نائما في بيت أخته ، وبما أن ابن هشام وغيره يذكرون أن سبب إرجاع رسول الله إلى أمه هو أن نفرا من نصارى الحبشة رأوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مرضعته وقلبوه ، وقالوا لها : لنأخذن هذا الغلام إلى ملكنا ، وهذا يناقض الرواية التي تقول بأن سبب إرجاعه هو شق صدره ، ذلك التناقض يجعل من الرواية محل شك وريبة ، إذ كيف تكون تلك الحادثة هي سبب إرجاعه كما يزعم وهم يقولون : إنها حدثت له وهو ابن ثلاث سنوات أو أقل مع أن إرجاعه إلى أمه بعد أن صار عمره الخمس سنوات ، وهل من المعقول أن يكون مصدر الشر تلك القطعة اللحمية التي تسمى القلب ، فإذا أجريت له عملية جراحية ونظفت تلك العلقة بماء حتى ولو بماء زمزم وفي طست من ذهب ، إذ أنه لا يوجد طست من نوع آخر ، أما عند الله من المعادن والطسوت إلا الذهب ، وهذا يناقض أن الجنة «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت» ... إلخ ، وإن كان كذلك فإنه يمكن لأي إنسان أن يعمل لنفسه عملية جراحية يتم من خلالها إخراج قلبه وتنظيفه من الشر ، وهل كانت تلك العلقة الشيطانية تذهب مع كل حادثة شق صدر وتعود مرة أخرى لكي تحدث له مرة أخرى ، وإن كان كذلك فهذا ينافي ويناقض عصمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الخطأ وينافي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا خيار من خيار من خيار» ، ولما ذا لم تتكرر هذه الحادثة بعد الرابعة أو الخامسة؟ ألم يكن بالإمكان أن يخلقه الله بغير هذه العلقة السوداء ، وما تعني هذه الرواية هو أنه أي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مجبرا على عمل الخير وليس مخيرا ؛ لأن حظ الشيطان قد أبعد منه بتلك الحوادث ، ولما ذا لم ير المخيط في صدره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنس؟ أيعقل أن خير الأنبياء وأفضلهم هو من اختصه الله بتلك الحادثة وحده دون أنبيائه ، وأخيرا أفلا ينافي ذلك كله الآيات القرآنية التالية الدالة على أن الشيطان ليس له سبيل على عباد الله المخلصين : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ، وقال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ، وقال : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). انظر : سيرة ابن هشام (١/ ١٧٦) ، طبقات ابن سعد (١/ ١١٢) ، دلائل النبوة للبيهقي (٢/ ٥ وما بعدها) ، السيرة الحلبية (١/ ٨٤ ـ ١٠٥) ، دلائل النبوة لأبي نعيم ص (١١١) ، البداية والنهاية (٢/ ٢٧٥) ، المبتدأ والمبعث والمغازي لمحمد بن إسحاق بن يسار (٢٥ ـ ٢٨) ، الخصائص الكبرى للسيوطي (١/ ٥٤) ، ومسلم في صحيحه : كتاب الإيمان ـ باب الإسراء (ح / ٢٦١) ، وأحمد في مسنده (٣ / ١٢١ ، ١٤٩ ، ٢٨٨) ، الحاكم (٢ / ٦٠٠ ، ٦١٦) ، صحيح ابن حبان بتحقيق د. عبد المعطي قلعجي (١ / ١٤٠) ، أما في السيرة الشامية للصالحي (٢ / ٨٢ ـ ٨٦).

١٠٦

البيوت هو وأخوه في بهم لهم إذ أتى أخوه يشد (١).

قال ابن إسحاق : أخوه ضمرة (٢).

قالت : وأنا وأبوه في البيت فقال : إن أخي القرشيّ أتاه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه وشقا بطنه ، فخرجت أنا وأبوه نشد ، فوجدناه قائما قد انتقع لونه (٣) ، فلما رأيناه جهش إلينا وبكى.

قالت : فالتزمته أنا وأبوه وضميناه إلينا (٤) وقلنا له : ما بالك (٥) بأبي أنت (٦)؟

قال : أتاني رجلان فأضجعاني وشقا بطني وصنعا بي شيئا ثم رداه كما هو.

فقال أبوه : والله ما أرى ابني إلّا قد أصيب (٧) ، ألحقيه بنا بأهله فنؤدّيه إليهم قبل أن يظهر ما نتخوف. فاحتملناه فقدمنا به إلى أمه ، فلما رأتنا أنكرت شأننا ، وقالت : ما أرجعكما به (٨) قبل أن أسألكما وقد كنتما حريصين على حبسه؟

قلنا : لا شيء إلّا أن الله قد قضى الرضاعة ، وسرّنا ما نرى ، فقلنا نؤديه كما تحبون أحب إلينا.

قالت : إن لكما شأنا فأخبراني ما هو.

__________________

(١) البهم الصغار من الغنم ، واحدتها بهمة. ولعل الصحيح : (بهم لنا) ، وهو ما أثبته ابن إسحاق والبيهقي وغيرهما من المؤرخين ، وقولها : يشد : أي يسرع.

(٢) هو ضمرة بن الحارث بن عبد العزي بن رفاعة بن فلان بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن ، وأخو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرضاع.

(٣) أي تغير لون وجهه.

(٤) في (ب) : وضممناه إلينا.

(٥) نهاية صفحة [١٦ ـ أ].

(٦) في (ب) : ما بالك يا بني بأبي أنت.

(٧) في (أ، د) : ما أرى إلّا قد أصيب.

(٨) في (أ، د) ، ما أرجعتما به.

١٠٧

فلم تدعنا حتى أخبرناها ، فقالت : كلا والله لا يصنع الله ذلك به ، إن لابني شأنا (١) ، أفلا أخبركما خبره؟ إني حملت به فو الله ما حملت حملا قط كان أخف منه عليّ ولا أيسر ، ثم رأيت حين حملته أنه خرج مني نور أضاء منه أعناق الإبل ببصرى ، أو قالت : قصور بصرى ، ثم وضعته حين وضعت فو الله ما وقع كما يقع (٢) الصبيان ، لقد وقع معتمدا بيده على الأرض رافعا رأسه إلى السماء فدعاه عنكما ، فقبضته وانصرفنا (٣).

[سادسا : تبشير أهل الزبور بنبوته (ص)] (٤)

[١٠] أخبرنا إسحاق بن يعقوب [بن إبراهيم قال : حدثنا أحمد بن محمد بن سالم المكي ، عن عبد الله بن محمد القرشي ، قال : حدثنا الحسن بن شادان الواسطي ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد النهري ، عن عبد العزيز بن عمران ، عن عبد الله بن جعفر المخزومي ، عن عون مولى مسور بن مخرمة] (٥) عن مسور عن ابن عباس عن أبيه ، قال عبد المطلب : قدمت الشام فنزلت على رجل من اليهود ، فبصرني رجل من «أهل الديور» (٦) فجاءني ، فقال : أتأذن لي أن أنظر إلى مكان منك؟

فقلت : إن لم يكن عورة (٧) فانظر.

__________________

(١) في (أ، ب ، د) : لا يصنع الله به ذلك ، لأن لابني شأنا.

(٢) في (أ، د) : كما وقع.

(٣) انظر الخبر في سيرة ابن هشام (١ / ١٧٣ ـ ١٧٦) ، والحلبية (١ / ٩٣ ـ ١٠٠) ، ودلائل النبوة للبيهقي (١ / ١٣٥).

(٤) هذا الخبر من البشارات السابقة الدالة على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تناوله العديد ممن صنف في السيرة النبوية ، انظر : دلائل النبوة للبيهقي (٢ / ٢٤ وما بعدها) ، سيرة ابن هشام (١ / ٢٠٣) ، دلائل النبوة لأبي نعيم ص (١٢٥) الخصائص الكبرى للسيوطي (١ / ٨٣ وما بعدها) ، البداية والنهاية (٢ / ٢٤٩ وما بعدها) ، الأمالي الاثنينية (خ).

(٥) ورد في الأصل : يرفع ، وقد أثبتنا السند للتوثيق والفائدة ، والسند هذا وخبره ذكرهما صاحب أمالي أبي طالب ص (٣٥٧).

(٦) ورد في الأصل : أهل الزبور ، وأما أثبتناه من البداية والنهاية لأبي نعيم ، وأهل الديور : هم أهل الكتاب.

(٧) في (أ، ج ، د) : إن لم تكن عورة.

١٠٨

فنظر في إحدى منخريّ ثم في الأخرى فقال : أرى في إحداهما نبوة وفي الأخرى ملكا ، وإنّا نجد ذلك في زهرة ، فما هذا؟

قلت : لا أدري.

قال : ألك شاعة (١)؟

قلت : ما الشاعة (٢)؟

قال : زوجة.

قلت : لا.

قال : فإذا قدمت بلدك فتزوج إلى زهرة (٣).

قال (٤) : فعمد عبد المطلب فتزوج بهالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة (٥) ، فولدت له حمزة ، وصفية ، ثم زوج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة.

قالت قريش : فولج عبد الله على آمنة فولدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم قيضت له حليمة بنت أبي ذؤيب وذلك على عامة الناس.

[سابعا : حديث حليمة وما رأت في اليقظة والمنام]

فكانت حليمة تحدث بأن الناس كانوا زمن «مولد» (٦) رسول الله في شدة شديدة ،

__________________

(١) في (أ، ج ، د) : لك شاعة ، والشاعة : بالشين المعجمة ، والعين المهملة ، وردت في بعض النسخ بالمعجمة ، والشاعة هي الزوجة ، وسميت بذلك لأنها تشايع أي تتابع وتناصر زوجها. وفي أمالي أبي طالب (شافه ، الشافه).

(٢) نهاية صفحة [١٧ ـ أ].

(٣) الرواية في البداية والنهاية (٢ / ٢٥١) بلفظه : وروى الإمام أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة من طريق يعقوب بن محمد الزهري عن عبد العزيز بن عمران عن عبد الله بن جعفر عن ابن عوان عن المسور بن مخرمة عن ابن عباس قال : إن عبد المطلب قدم اليمن في رحلة الشتاء فنزل على حبر من اليهود قال : فقال لي رجل من أهل الديور ... إلخ.

(٤) أي : يعقوب بن محمد النهري بسنده السابق.

(٥) هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة ، وقيل : هالة بنت وهيب ، وفي سيرة ابن هشام ونسب قريش : أهيب. أمها : العبلة بنت عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي. انظر : نسب قريش (١٧ ـ ١٨) ، جمهرة أنساب العرب ص (١٥) ، أمالي أبي طالب (٣٥٨).

(٦) ساقط في (أ، ج ، د).

١٠٩

وكنت أطوف البراري (١) والجبال أطلب النبات وحشيش الأرض فكنت أقتنع وأصبر ، فبينا أنا كذلك وقد خرجت إلى بطحان مكة جعلت لا أمر على شيء من الحشيش والنبات إلّا استطال لي فأقمت أياما ، فبينا أنا ذات ليلة راقدة إذ أتاني آت في المنام فحملني فقذف بي في نهر من ماء أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، وأذكى من الزعفران.

فقال : أكثري من شربه ليكثر لبنك ، فشربت.

فقال : ازدادي.

فازددت فرويت.

فانتبهت من المنام وأنا أحفل نساء بني سعد (٢) لا أطيق ، «أن» (٣) أقل ثديي كأنه الجرّ العظيم ، ومن حولي من رجال بني سعد ونسائهم بطونهم لاصقة بالظهور وألوانهم متغيّرة.

ثم صعدنا يوما إلى بطحاء مكة نطلب النبات كعادتنا ، فسمعنا مناديا ينادي : إن الله تبارك وتعالى ليخرج مولودا من قريش هذه السنة هو شمس النهار وقمر الليل ، طوبى لثدي أرضعته ألا فبادرن إليه يا نساء بني سعد.

قالت : وعزم الناس على الخروج (٤) إلى مكة فخرجت على أتان لي تمشى على المجهود منا ، فكنت لا أمر بشيء إلّا استطال لي ، ونوديت : هنيئا لك يا حليمة.

فبينا أنا كذلك إذ برز إليّ من الشعب «من بين الجبلين» (٥) من الشعب رجل كالنخلة

__________________

(١) في (ب) : أطوف البراري والقفار.

(٢) أي : بنو سعد بن بكر : بطن من هوازن من قيس بن غيلان ، من العدنانية ، وهم : بنو سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن غيلان ، وهم حضنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أوديتهم : قرن الجبال ، وهو واد يجيء من السراة ، وشهر ناس منهم يوم جبلة ، وبعث بنو سعد سنة (٩ ه‍) ، ضمام بن ثعلبة وافدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليجيب عما أرسل به المصطفى لهم ، ويتبصر بما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعثت إليهم سرية على رأسها علي بن أبي طالب. انظر : معجم القبائل (٢ / ٥١٣ ـ ٥١٤).

(٣) ساقط في (أ، د).

(٤) نهاية صفحة [١٨ ـ أ].

(٥) ساقط في (ب).

١١٠

الباسقة ، وبيده حربة تلوح لمعانا ، فرفع يده اليمنى فضرب بطن الحمارة ، وقال : يا حليمة مرّي فقد أمرني الرحمن أن أدفع عنك اليوم ، فجعلت أسير حتى نزلنا على فرسخين من مكة ، فلما أصبحت دخلت فإذا بعبد المطلب وجمته (١) تضرب منكبيه ، فقال لي : من أنت؟

فقلت : امرأة من بني سعد.

قال : ما اسمك؟

قلت : حليمة.

فضحك ، وقال : بخ بخ حلم وسعد ، وقال : هل لك أن ترضعي غلاما صغيرا يتيما تسعدين به؟

وكأن الله (٢) قذف في قلبي أن قولي نعم.

فأخذته حتى ركبت أتاني ، وحملت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم بين يديّ ، وكنت أنظر إلى الأتان فسجدت ثلاث سجدات نحو الكعبة ، ورفعت رأسها إلى السماء ، ومرت تشق دواب القوم ، فلم أكن أنزل منزلا إلّا أنبت الله فيه عشبا ، وأثمر الله لنا ولمواشينا وأغنامنا.

فما زلنا نغرف البركات عندنا وفي بيتنا حتى كنا نفيض على قومنا ويعيشون في أكنافنا ، فلما ترعرع كان يخرج وينظر إلى الصبيان يلعبون فيجتنبهم (٣).

فقال لي يوما : ما لي لا أرى إخوتي بالنهار؟

قلت : فدتك نفسي يرعون أغنامنا (٤).

فقال : ابعثي بي غدا معهم.

فلما أصبح دهنته وكحلته وقمّصته ، وعمدت إلى جزعة يمانية علقتها في عنقه من العين ، وخرج مع إخوته.

__________________

(١) والجمة : مجتمع شعر الرأس.

(٢) في (ب) : فكأن الله.

(٣) في (أ، ج) : فيحتنيهم.

(٤) في (ب ، ج) : يرعون أغناما لنا.

١١١

[رواية أخرى في شق صدره (ص)] (١)

فلما كان يوما آخر إذ أنا بابني ضمرة يعدو باكيا ينادي : أدركا .. أدركا (٢) محمدا.

قالت : قلت : وما قصته؟

قال : ما أراكما تلحقانه إلّا ميتا.

فأقبلت أنا وأبوه نسعى ، فإذا به على ذروة الجبل شاخصا بعينيه نحو السماء.

فقلت : فدتك نفسي ما لذي دهاك؟

فقال : يا أماه خير ، بينا أنا قائم مع إخوتي إذ أتاني رهط ثلاثة في يد أحدهم إبريق من فضة ، وفي يد الثاني طشت من زمردة خضراء ، فانطلقوا بي إلى ذروة الجبل فشقوا من صدري إلى عانتي فلم أجد ألما ولا حسا ، وأخرجوا أحشائي وقلبي وغسلوها ثم أعادوها (٣) مكانها ثم جاء أحدهم فأمرّ يده من مفرقي إلى منتهى عانتي فالتأم ، وانكبوا عليّ يقبلوني ويقبلون رأسي وما بين عيني.

«قالت حليمة» (٤) : فاحتملته إلى كاهن ، فنظر إلى كفه وقال بأعلى صوته : يا للعرب يا للعرب أبشروا بشر قد اقترب ، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه ، فإنه إن أدرك ليسفّهنّ أحلامكم وليكذّبن أديانكم (٥). فانتزعته من يده وأتيت به إلى منزلي. فقال الناس : ردّيه إلى عبد المطلب.

فعزمت عليه ، فسمعت مناديا ينادي : هنيئا لك يا بطحاء مكة وردك نور الأرض (٦) وبهاؤها وزينتها ، فركبت وحملت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين يديّ حتى أتيت باب مكة ، فوضعته

__________________

(١) هذه الرواية أوردها السيوطي في الخصائص (١ / ٥٥ ـ ٥٦) مع بعض الاختلافات البسيطة ، وأخرج البيهقي وابن عساكر من طريق محمد بن زكريا الغلابي عن يعقوب بن جعفر بن سليمان عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده ، كما أوردها البيهقي في دلائل النبوة (١ / ١٣٩ ـ ١٤٠).

(٢) نهاية صفحة [١٩ ـ أ].

(٣) في (ج) : وغسلوها فأعادوها».

(٤) ساقط في (ب ، ج).

(٥) انظر : الأمالي الاثنينية (خ). إضافة إلى دلائل النبوة للبيهقي ، والخصائص الكبرى للسيوطي ، ودلائل النبوة لأبي نعيم.

(٦) في (أ، ب ، ج) : يا بطحاء مكة ورود نور الأرض.

١١٢

لأقضي حاجة ، فسمعت هدّة شديدة ، فالتفت فلم أره فقلت : معاشر الناس أين صبيي ، فو اللّات والعزى لئن لم أره لأرمينّ بنفسي من شاهق هذا الجبل.

فقالوا : ما رأينا شيئا.

فقال لي شيخ : لا تبكي أنا أدلّك على من يعلم علمه ، ادخلي على هبل فاطلبي إليه.

قلت : ثكلتك أمك (١) كأنك لم تر ما نزل باللّات والعزى ليلة ميلاده.

قالت : فدخل على هبل وأنا أنظر إليه ، فطاف بهبل أسبوعا ثم رفعت (٢) حاجتي ، فما كان إلّا أن انكب هبل على وجهه وتساقطت الأصنام ، وسمع صوتات (٣) : هلكت الأصنام ومن يعبدها.

فوجهت حليمة إلى أختها جميلة في وجهة ، وصارت نحو مكة ، فإذا بعبد المطلب فلما رآها قال : أهلا وسهلا يا حليمة.

فقصت عليه افتقادها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال عبد المطلب : لا عليك يا حليمة فما محمد بالذي يعرف.

وركب في نفر لطلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمع نداء في جو السماء : إن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه.

قال عبد المطلب : ومن لنا به أيها الهاتف؟

قال : هو بوادي تهامة عند شجرة كذا.

فأقبل عبد المطلب وتلقاه ورقة بن نوفل (٤) ، فساروا ، وأقبل أبو مسعود الثقفي وعمرو بن

__________________

(١) نهاية صفحة [٢٠ ـ أ].

(٢) في (أ، ب ، ج) : ثم رفع.

(٣) أي صيحات.

(٤) هو : ورقة بن نوفل بن عبد العزي ، حكيم جاهلي من قريش ، اعتزل الأوثان قبل الإسلام ، وامتنع عن أكل ذبائحهم وتنصر ، وقرأ كتب الأديان ، وأدرك أوائل عصر النبوة ، ولم يدرك الدعوة ، وهو ابن عم خديجة بنت خويلد أم المؤمنين. انظر : دلائل النبوة للبيهقي (٢ / ١٢٠ وما بعدها) ، الأعلام للزركلي (٨ / ١١٤ ـ ١١٥) ، الروض الأنف (١ / ١٢٤ ـ ١٢٧ ، ١٥٦ ، ١٥٧) ، البخاري (١ / ٤ ، ٥) ، مسلم (١ / ١٤١ ، ١٤٢) ، الإصابة (ت ٩١٣٣) ، تاريخ الإسلام (١ / ٦٨) ، الأغاني (٣ / ١١٩ ـ ١٢٢) ، خزانة الأدب (٢ / ٣٨ ـ ٤١) ، المعارف (٢٧) ، مجمع الزوائد (٩ / ٤١٦) ، روي عن أسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن ورقة فقال : «يبعث يوم القيامة أمة وحده».

١١٣

نفيل (١) على راحلتين لهما ، فلما صاروا إلى موضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال أبو مسعود لعمرو : إني لأظن (٢) الغلام من بعض بني عمك.

فقال عمرو : من أنت يا غلام؟

قال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب افتقدتني أمي.

قال عمرو لأبي مسعود : نتقرب إلى عبد المطلب (٣) بمثل هذا.

وأناخ راحلته وحمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين يديه ، وأقبل عبد المطلب وهو يقول (٤) :

ردّ إليّ ولدي محمدا

ربي فكم أوليتني منك يدا

ونظر عمرو إليه وقال : يا غلام أتعرف جدك إن رأيته؟

قال : هو هذا المقبل في (٥) أول الناس ، ثم ناداه يا جد .. يا جد.

فقال : لبيك يا سيدي فداك جدك.

ودنا منه وحمله وقبّله وقال لعمرو : أين أصبت هذا الغلام؟ فذكر الحديث.

فجعل عبد المطلب يقول (٦) :

الحمد لله الذي أعطاني

هذا الغلام الطّيّب الأردان

قد ساد في المهد على الغلمان

أعيذه بالواحد المنان

من كل ذي غي وذي شنآن

حتى أراه شامخ البنيان

__________________

(١) ورد في أصولي عمر بن نوفل ، والصحيح ما أثبتناه ، وهو : عمرو بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي ، أحد الحكماء الباحثين عن الحقيقة ، لم يدرك عصر النبوة.

(٢) في (أ، د) : وإني أظن الغلام.

(٣) في (ب ، ج) : لأتقرب إلى عبد المطلب.

(٤) انظر البيهقي في الدلائل (٢ / ٢٠) والحاكم في المستدرك (٢ / ٦٠٣ ـ ٦٠٤) ، وابن سعد في طبقاته (١ / ١١١) ، وذكره أبو حاتم الرازي (٣ / ٢ / ١٧٣).

(٥) نهاية صفحة [٢١ ـ أ].

(٦) ورد باختلاف بسيط في سيرة ابن إسحاق ص (٢٢) في (٦) أبيات ، وطبقات ابن سعد (١ / ٨٣) ، تهذيب ابن عساكر (١ / ٢٨٤) ، والبداية والنهاية (٢ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥) ، دلائل النبوة للبيهقي (١ / ١١٢).

١١٤

[وفاة والدته (ص)]

قال (١) : وكان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ أربع سنين ، فلما بلغ ست سنين (٢) قدمت به أمه المدينة (٣) على أخواله من بني النجار (٤) ، وماتت وهي راجعة (٥) إلى مكة بالأبواء (٦) ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع جده.

[مواقف لعبد المطلب]

وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة ، وكان بنوه يجلسون حوله حتى يخرج إليهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتي وهو غلام فيجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه فيقول لهم عبد المطلب : دعوا ابني فو الله إن له لشأنا. فكان له شأن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٧).

[وفاة والده (ص)]

فأما أبوه عبد الله فمات ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بطن أمه أربعة أشهر ، وقيل : خمسة (٨) ،

__________________

(١) أي : يعقوب بن محمد النهري بسنده السابق.

(٢) اتفقت المصادر المتوفرة لدينا على أن وفاة والدته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في السادسة من عمره ، انظر : دلائل البيهقي (١ / ١٨٨) ، السيرة الحلبية (١ / ١٠٥) ، السيرة النبوية لابن هشام (١ / ١٧٧).

(٣) في (ب) : قدمت به آمنة المدينة.

(٤) بنو النجار : هم بطن من الخزرج ، من الأزد ، من القحطانية ، منهم أخوال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. انظر : معجم قبائل العرب لكحالة (٣ / ١١٧٣).

(٥) في (ب) : فماتت راجعة.

(٦) الأبواء : قرية جامعة بين مكة والمدينة ، شرفها الله تعالى وسطا من المسافة. انظر : الروض المعطار ص (٦) ، معجم ما استعجم (١ / ١٠٢).

(٧) انظر : سيرة ابن هشام (١ / ١٧٨) ، البداية والنهاية (٣ / ١٢٢ ـ ١٢٦) ، السيرة الحلبية (١ / ١٠٥ ـ ١١٢) ، ابن سعد (١ / ٩٣ ـ ٩٤) ، الخصائص للسيوطي (١ / ٨٠) وما بعدها ، دلائل النبوة للبيهقي (١ / ١٨٧ ـ ١٩٣).

(٨) الذي عليه أكثر العلماء أنه توفي ، وأمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاملة به ، أما المدة التي انقضت من حمله حال وفاة والده فقد اختلف فيها ، فقيل : كان بعد أن تم لها من حملها شهرين ، وقيل : قبل ولادته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبعة أشهر ، وقيل خلاف ذلك. انظر : السيرة الحلبية (١ / ٤٩ ـ ٥٠) ، السيرة النبوية لابن هشام (١ / ١٦٦ ـ ١٦٧) ، طبقات ابن سعد (١ / ٧٩ ـ ٨٠) ، البداية والنهاية (٢ / ٢٥٩ ـ ٢٦٣) ، دلائل النبوة للبيهقي (١ / ١٨٧ وما بعدها) ، الأمالي الاثنينية (خ).

١١٥

ولعبد الله عشرون سنة وقيل : تسعة عشر (١).

فرثاه وهب بن عبد مناف أبو أمه فقال (٢) :

ذهب الذي يرجى لكل عظيمة

ولكل نائبة يكون ممحضا

ورث المكارم عن أبيه وجده

عمرو وخال غير نكس مجهضا

[وفاة جده (ص)]

قال : وعمّر عبد المطلب (٣) مائة وعشرين سنة (٤).

ثم حضرته الوفاة ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمان سنين (٥) فجمع بنيه وبناته ، وهم عشرة بنين وست بنات : الحارث وهو أكبر ولده وبه كان يكنى ، والزبير وحجل والمقوّم وضرار وحمزة وأبو لهب والعباس وأبو طالب وعبد الله وكان أصغر ولده.

ومن البنات : عاتكة وبرة ، وصفية وأمامة ، وقيل : أميّة وأروى وأم حكيم البيضاء.

فقال : يا بنيّ ويا بناتي ، قد اعتللت عللا كثيرة فما وجدت كهذه ، فإذا أنا مت ورصفتم علي الجنادل (٦) وحثوتم علي التراب فأيكم يكفل حبيبي محمدا بعدي؟

فما منهم أحد إلّا قال : أنا أكفله ، فقام إليه ابنه الحارث وقال : يا أبتاه إنا لا نأمن إذا كفله أحدنا أن لا يرضى محمد به.

__________________

(١) وقيل : (٢٥) سنة ، و (٢٦) ، و (٢٨) سنة. انظر : الكامل في التاريخ لابن الأثير (٢ / ٥) ، البداية والنهاية (٢ / ٢٦٣).

(٢) في (ب) : أبو آمنة فقال.

(٣) نهاية صفحة [٢٢ ـ أ].

(٤) اختلف في عمره ، وكم كان مبلغ سنه حين وفاته فقيل : (٩٥) ، وقيل : (١٢٠) ، وقيل : (١٤٠) ، وقيل : (٨٢) ، وقيل :

(١٤٤) ، وقد توفي في نحو سنة (٤٥ قبل الهجرة ، أي نحو ٥٧٩ م). انظر : تاريخ بن الأثير (٢ / ٤) ، الطبري (٢ / ١٧٦) ، تأريخ الخميس (١ / ٢٥٣) ، اليعقوبي (١ / ٢٠٣).

(٥) يؤكد هذا القول أن أحدهم سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله أتذكر موت جدك عبد المطلب؟ قال : «نعم ، وأنا يومئذ ابن ثمان سنين» ، وعن أم أيمن أنها كانت تحدث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يبكي خلف سرير عبد المطلب ، وهو ابن ثمان سنين ، ودفن بالحجون عند جده زيد. السيرة الحلبية (١ / ١١٢ ـ ١١٣).

(٦) الجنادل : الحجارة.

١١٦

وقد كان رسول الله دعاه عبد المطلب فأجلسه ؛ ثم عرضهم عليه وقال : أي بني إني صائر إلى ما صار إليه الذين كانوا قبلي ، فأي واحد من عمومتك تحب أن يكفلك ، فهؤلاء هم حضور النساء منهم والرجال؟ (١)

فجعل ينظر إليهم في وجوههم حتى أتى أبا طالب فجلس في حجره ، وقال : يا جد لا أحب غيره.

فقال عبد المطلب : سبحان الله ما أردت يا عبد مناف غيرك للذي كان بينك وبين أبيه.

وكان عبد الله وأبو طالب والزبير وأم حكيم وأروى وعاتكة أمهم واحدة فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران من بني مخزوم (٢) وذلك الذي عنى عبد المطلب.

ثم أنشأ يقول (٣) :

أوصيك يا عبد مناف بعدي

بواحد بعد أبيه فرد

فارقه وهو رضيع المهد

فكنت كالأم له في الوجد (٤)

تبديه من أحشائها والكبد

حتى إذا تم اقتراب الوعد

وانطمت أرجاء أولياء الرفد

يا ابن الذي غيبته في اللحد (٥)

بالكره مني ثمة لا بالعمد

فقال لي والقول ذو مردّ

ما ابن أخي ما عشت في معد

إلّا كأدنى ولدي في السرد

إني أرى ذلك باب الرشد

قد علمت علّام أهل العهد (٦)

__________________

(١) في (ب ، ج ، د) : فهؤلاء هم حضور عمومتك وعماتك النساء منهم والرجال.

(٢) هم بطن من لؤي بن غالب من قريش من العدنانية ، وهم بنو يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النظر بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، وقد فضلهم هشام بن عبد الملك الأموي من العطاء ، وهم قوم خالد بن الوليد بن المغيرة. انظر : معجم قبائل العرب (٣ / ١٠٥٨).

(٣) انظر : سيرة ابن إسحاق (١ / ٤٧) ودلائل النبوة للبيهقي (٢ / ٢٢ ـ ٢٣) ، وعند لفظ : يقول ، نهاية الصفحة [٢٣ ـ أ].

(٤) في (أ، ب ، د) : الود.

(٥) قوله : يا بن الذي غيبته في اللحد ، بدل من قوله : (بواحد بعد أبيه فرد) ، ولعل في الكلام حذف بعد قوله : (وانطمت أرجاء أولياء الرفد) ، تقديره : لما قرب مني الموت وانظم جرانية : إنني الذي هم أولياء الرفد ، أي أجمعت كان وكان وقالوا أو قلت ، فقال يعني أبا طالب ، فحذف جواب حتى للإبهام ولدلالة الكلام فليتأمل ، ولا لبس في ذلك.

(٦) في (ب) : أهل الرشد.

١١٧

إن الفتى سيد أهل نجد

يعلو نجاد البطل الأشدّ

عند اشتداد ركنه المشتد

محمدا أرجوه للأشدّ

وكل أمر في الأمور أدّ

قال : ثم بكى عبد المطلب بكاء شديدا ثم قال : إن محمدا لا يموت حتى يسود العرب والعجم (١) ، ثم جعل يقول (٢) :

وصيّت من كنيته بطالب

عبد مناف وهو ذو تجارب

بابن الحبيب أقرب الأقارب

بابن الذي قد غاب غير آئب

فقال لي كهيئة المعاتب

سبحان رب الشرق والمغارب

لا توصني بلازم وواجب

ففى فؤادي مثل لذع اللّاهب

ولست بالآيس غير الراغب

بأن يحق الله قول الراهب

إنى سمعت أعجب العجائب

من كل خبر عالم وكاتب

هذا الذي يقتاد كالنجائب

من حلّ بالأبطح والأحاصب (٦)

أيضا ومن ثاب إلى الأثاوب

من ساكني الحرم أو مجانب

قال : وقضى عبد لمطلب نحبه ، وكفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّه أبو طالب وفاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي عليه‌السلام وكانت أول هاشمية ولدت هاشميا ، ولذلك كان علي عليه‌السلام المعمم المخول (٤).

وقال الحجاج بن علاط السّلمي في قتل علي عليه‌السلام أحد بني عبد الدار (٥) :

__________________

(١) في (أ، ب ، د) : لن يموت حتى يسود العرب والعجم.

(٢) انظر كتاب المبتدأ والمبعث والمغازي (١ / ٤٨) ، دلائل النبوة للبيهقي (٢ / ٢٠ ـ ٢٣).

(٦) نهاية صفحة [٢٣ ـ أ].

(٤) المعمم المخول هو : الرجل الذي يكون أصل نسب أبيه وأعمامه نفس أصل نسب أمه وأخواله.

(٥) بنو عبد الدار بن قصي بن كلاب من العدنانية ، انظر معجم القبائل (٢ / ٧٢٣) ، والذي قتله أمير المؤمنين عليه‌السلام في غزوة أحد هو طلحة بن أبي طلحة. انظر : أعيان الشيعة (١ / ٣٩٠) وما بعدها.

١١٨

لله أي مذبب عن حومة

أعني ابن فاطمة المعمّ المخولا

جادت يداك لهم بعاجل طعنة

تركت طليحة للجبين مجدلا

وعللت سيفك بالدماء ولم

لترده ظمآن حتى ينهلا

[ذكر فاطمة بنت أسد]

ثم إن فاطمة بنت أسد (١) أسلمت أحسن إسلام ، وصلّى عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[١١] كما أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن أبي قتيبة القنوي بالكوفة ، قال : أخبرنا محمد بن سليمان الخواصّ [قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو صالح الخزاعي ، عن قدامة عن سعيد بن طريف عن] (٢) الأصبغ بن نباته ، عن علي عليه‌السلام قال : إنه لما ماتت أمي جئت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم وقلت : إن أمي فاطمة قد ماتت.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنا لله وإنا إليه راجعون» وأخذ عمامته ودفعها إليّ وقال : «كفنها فيها ، فإذا وضعتها على الأعواد فلا تحدثن شيئا حتى آتي».

فأقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المهاجرين وهم يمشون قدامه لا ينظرون إليه إعظاما له حتى تقدم

__________________

(١) هي فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، أول هاشمية تزوجها هاشمي ، وهي أم سائر ولد أبي طالب ، كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنزلة الأم ، ربي في حجرها ، كما كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاكرا لبرها ، وكان يدعوها أمي ، وكانت تفضله على جميع أولادها في بالبر والإحسان ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصبحون شعثا ، ويصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كحيلا دهينا ، روى الحاكم في المستدرك بسنده أنها كانت بمحل عظيم من الإيمان في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أسلمت بعد عشرة من المسلمين ، وكانت الحادي عشر ، كما كانت أول امرأة بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من النساء ، هاجرت إلى المدينة وتوفيت بها ، ولما توفيت كفنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قميصه ، وأمر من يحفر قبرها فلما بلغوا لحدها وضعها بيده واضطجع فيه ، وقال : اللهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها ، فقيل : يا رسول الله رأيناك صنعت شيئا لم تكن تصنعه بأحد قبلها ، فقال : «ألبستها قميصا لتلبس ثياب الجنة ، أو قال : هو أمان لها يوم القيامة ، أو قال : ليدرأ عنها هوام الأرض واضطجعت في قبرها ليوسعه الله عليها ، وتأمن ضغطة القبر ، إنها كانت من أحسن خلق الله صنعا إلي بعد أبي طالب» ، ولدت طالبا وهو أول هاشمي ولد من هاشميين ، خرج يوم بدر مع المشركين كارها ولم يعرف له خبر ولا عقب له ، وعقيلا ، وجعفرا وعليا وكل واحد أسن من الآخر بعشر سنين وأم هاني واسمها فاجئة. انظر : أعيان الشيعة (١ / ٣٢٥) ، سير أعلام النبلاء (٢ / ١١٨) ، الاستيعاب (٤ / ١٨٩١) ، أسد الغابة (ت ٧١٧٦) ، الإصابة ، أعلام النساء (٤ / ٣٣).

(٢) ورد في الأصل : يرفعه إلى ...؟ وقد أثبتنا السند للإفادة والتوثيق ، والسند وخبره ذكرهما صاحب أمالي أبي طالب ص (٤٢).

١١٩

رسول الله فكبّر عليها أربعين تكبيرة ، ثم نزل في قبرها فوضعها في اللحد ، ثم قرأ عليها آية الكرسى ثم قال : «اللهم اجعل من بين يديها نورا ، ومن خلفها نورا وعن يمينها نورا ، وعن شمالها نورا ، اللهم املأ قلبها نورا» ، ثم خرج من قبرها.

فقال المهاجرون : يا رسول الله قد كبّرت على أم علي ما لم تكبر على أحد!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كان خلفي أربعون صفا من الملائكة فكبرت لكل صف تكبيرة» (١).

وفي حديث ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألبسها قميصه واضطجع معها في قبرها ، وقال : «إني كنت يتيما في حجرها فأحسنت إليّ» (٢).

[خروجه (ص) مع عمه إلى الشام]

فلما بلغ رسول الله تسع سنين (٣) ، عزم «عمه» (٤) أبو طالب على الخروج إلى الشام بتجارة له ، فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعلق بزمام راحلته وقال : «يا عم على من تخلفني وقد أوصاك جدي عبد المطلب بي» (٥)؟ فرقّ أبو طالب (٦) له وقال : لا تبك فإني خارج بك.

__________________

(١) الخبر أخرجه الإمام يحيى بن الحسين الهاروني في أماليه ص (٤٢) ، ولفظه بعد السند قال : ماتت أمي فاطمة فجئت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : ماتت أمي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنا لله وإنا إليه راجعون وأخذ عمامته ودفعها إليّ ، وقال : كفنها بها ، فإذا وضعتها على الأعواد فلا تحدثن شيئا حتى آتي ، فأقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله وسلّم في المهاجرين والأنصار يمشون لا ينظرون إليه إعظاما له حتى تقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكبر عليها أربعين تكبيرة ، ثم نزل في قبرها ووضعها في اللحد ، ثم قرأ (آية الكرسي) ، ثم قال : اللهم اجعل بين يديها نورا ومن خلفها نورا وعن يمينها نورا وعن شمالها نورا ، اللهم املأ قلبها نورا ، ثم خرج من قبرها فقال له المهاجرون : يا رسول الله قد كبرت على أم علي عليه‌السلام ما لم تكبر على أحد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كان خلفي أربعون صفا من الملائكة ، فكبرت لكل صف تكبيرة».

(٢) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ٢٥٧) ، وقال : أخرجه الطبراني في (الأوسط) ، وأخرجه صاحب كنز العمال (١٣ / ٦٣٦) ، وعزاه لأبي نعيم في المعرفة والديلمي ، ولفظ الحديث : عن ابن عباس قال : لما ماتت فاطمة أم علي ألبسها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قميصه ، واضطجع معها في قبرها فقالوا : ما رأيناك يا رسول الله صنعت هذا فقال : «إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها ، إنما ألبستها قميصي لتكتسي من حلل الجنة ، واضطجعت معها ليهون عليها» ، وينظر المصادر السابقة في ترجمتها سابقا.

(٣) وقيل : ابن اثنتي عشرة سنة ، وقيل خلاف ذلك. انظر : دلائل النبوة للبيهقي (٢ / ٢٦) ، سيرة ابن هشام (١ / ١٩٥).

(٤) ساقط في (أ، د).

(٥) في سيرة ابن إسحاق : فأخذ بزمام ناقته وقال : «يا عم إلى من تكلني لا أب لي ولا أم» ، ينظر المبتدأ والمبعث والمغازي لابن إسحاق (١ / ٢ / ٥٣).

(٦) في (ب ، ج) : فرق عمه أبو طالب.

١٢٠