هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٣٢

الشَّاهِدِينَ) [المائدة : ٨٣] وقال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) [القصص : ٥٥]. (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) [القصص : ٥٣] (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [القصص : ٥٤] واذا شهد واحد من هؤلاء لم يوزن به ملء الأرض من الكفرة ، ولا تعارض شهادته بجحود ملء الأرض من الكفار ، كيف والشاهد له من علماء أهل الكتاب أضعاف أضعاف المكذبين له منهم؟! وليس كل من قال من أشباه الحمير من عباد الصليب وامة الغضب انه من علمائهم فهو كذلك ، وإذا كان أكثر من يظن عوام المسلمين انه من علمائهم ليس كذلك فما الظن بغيرهم ، وعلماء أهل الكتاب ان لم يدخل فيهم من لم يعمل بعلمه فليس علماؤهم الا من آمن به وصدقه ، وان دخل فيهم من علم ولم يعمل كعلماء السوء لم يكن إنكارهم لنبوته قادحا في شهادة العلماء العاملين بعلمهم.

«الحادي عشر» انه لو قدر انه لا ذكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنعته ولا صفته ولا علامته في الكتب التي بايدي أهل الكتاب اليوم لم يلزم من ذلك أن لا يكون مذكورا في الكتب التي كانت بايدي اسلافهم وقت مبعثه ولا تكون اتصلت على وجهها الى هؤلاء ، بل حرفها أولئك وبدلوا وكتموا ، وتواصوا وكتبوا ما أرادوا ، وقالوا هذا من عند الله ، ثم اشتهرت تلك الكتب وتناقلها خلفهم عن سلفهم ، فصارت المغيرة المبدلة هي المشهورة والصحيحة بينهم خفية جدا ، ولا سبيل الى العلم باستحالة ذلك ، بل هو في غاية الامكان ، فهؤلاء السامرة غيروا مواضع من التوراة؟! ثم اشتهرت النسخ المغيرة عند جميعهم فلا يعرفون سواها وهجرت بينهم النسخ الصحيحة بالكلية ، وكذلك التوراة التي بايدي النصارى ، وهكذا تبدل الاديان والكتب ولو لا أن الله سبحانه تولى حفظ القرآن بنفسه وضمن للأمة ان لا تجتمع على ضلالة لا صابة ما اصاب الكتب قبله ، قال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحج : ٩].

«الثاني عشر» أنه من الممتع أن تخلو الكتب المتقدمة عن الأخبار بهذا الأمر العظيم الذي لم يطرق العالم من حين خلق إلى قيام الساعة أمر أعظم منه ولا

٦١

شأن أكبر منه ، فإنه قلب العالم. وطبق مشارق الأرض ومغاربها ، واستمر على العالم على تعاقب القرون وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ومثل هذا النبأ العظيم لا بد أن تتطابق الرسل على الأخبار به ، وإذا كان الدجال رجل كاذب يخرج في آخر الزمان وبقاؤه في الأرض أربعين قوما قد تطابقت الرسل على الأخبار به وانذر به كل نبي قومه من نوح إلى خاتم الرسل فكيف تتطابق الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها على السكوت عن الأخبار بهذا الأمر ، العظيم الذي لم يطرق العالم أمر أعظم منه ولا يطرقه أبدا ، هذا ما لا يسوغه عقل عاقل وتأباه حكمة أحكم الحاكمين ، بل الأمر بضد ذلك ، وما بعث الله سبحانه نبيا إلا أخذ عليه الميثاق بالإيمان بمحمد وتصديقه ، كما قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ، قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي ، قالُوا أَقْرَرْنا ، قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ). [آل عمران : ٨١] ، قال ابن عباس ما بعث الله من نبي إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وليتابعنه.

[نصوص الكتب المتقدمة في البشارة به وصفته ونعت أمته]

[وإيضاح دلالتها ومطابقتها للشريعة والواقع]

(فصل) فهذه الوجوه على تقدير عام العلم بوجود نعته وصفته والخبر عنه في الكتب المتقدمة ونحن نذكر بعض ما ورد فيها من البشارة به ونعته وصفته وصفة أمته ، وذلك يظهر من وجوه :

«الوجه الأول» قوله تعالى في التوراة «سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك أجعل كلامي في فيه ويقول لهم ما آمره به والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا انتقم منه ومن سبطه» فهذا النص مما لا يمكن أحدا منهم جحده وإنكاره ؛ ولكن لأهل الكتاب فيه أربعة طرق : «أحدها» حمله على المسيح وهذه طريقة النصارى. وأما اليهود فلهم فيه ثلاثة طرق «أحدها» أنه على حذف أداة الاستفهام ، والتقدير أأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم أي لا أفعل هذا ، فهو استفهام انكار حذفت منه أداة الاستفهام. «الثاني» أنه خبر ووعد ولكن

٦٢

المراد به شمويل النبي فانه من بني إسرائيل ، والبشارة إنما وقعت بنبي من إخوتهم ، وإخوة القوم هم بنو أبيهم ، وهم بنو إسرائيل : «الثالث» أنه نبي يبعثه الله في آخر الزمان يقيم به ملك اليهود ويعلو به شأنهم وهم ينتظرونه إلى الآن. وقال المسلمون البشارة صريحة في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، العربي الأمي محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه لا يحتمل غيره ؛ فانها إنما وقعت بنبي من إخوة بني إسرائيل لا من بني إسرائيل نفسهم ، والمسيح من بني إسرائيل ، فلو كان المراد بها هو المسيح لقال أقيم لهم نبيا من أنفسهم ، كما قال تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران : ١٦٤] ، وإخوة بني إسرائيل هم بنو اسماعيل ، ولا يعقل في لغة امة من الامم أن بني إسرائيل هم إخوة بني إسرائيل ، كما أن إخوة زيد لا يدخل فيهم زيد نفسه. وأيضا فانه قال «نبيا مثلك» وهذا يدل على أنه صاحب شريعة عامة مثل موسى ، وهذا يبطل حمله على شمويل من هذا الوجه أيضا ، ويبطل حمله على يوشع من ثلاثة أوجه : «أحدها» أنه من بني إسرائيل لا من إخوتهم «الثاني» أنه لم يكن مثل موسى ، وفي التوراة لا يقوم في بني إسرائيل مثل موسى «الثالث» أن يوشع نبي في زمن موسى ، وهذا الوعد إنما هو بنبي يقيمه الله بعد موسى. وبهذه الوجوه الثلاثة يبطل حمله على هارون ، مع أن هارون توفي قبل موسى ، ونبأه الله مع موسى في حياته ، ويبطل ذلك من وجه «رابع» أيضا وهو أن في هذه البشارة أنه ينزل عليه كتابا يظهر للناس من فيه وهذا لم يكن لأحد بعد موسى غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا من علامات نبوته التي أخبرت بها الأنبياء المتقدمون ، قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ، وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ، أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ١٩٢ ، ١٩٣ ، ١٩٤ ، ١٩٥ ، ١٩٦ ، ١٩٧] فالقرآن نزل على قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وظهر للأمة من فيه ، ولا يصح حمل هذه البشارة على المسيح باتفاق النصارى لأنها إنما جاءت بواحد من إخوة بني إسرائيل ، وبنو إسرائيل وإخوتهم كلهم عبيد ليس فيهم إله ، والمسيح عندهم إله معبود ، وهو أجل عندهم من أن يكون من إخوة العبيد ، والبشارة وقعت بعبد مخلوق يقيمه الله من جملة عبيده وإخوتهم ، وغايته أن يكون نبيا لا غاية له فوقها

٦٣

وهذا ليس هو المسيح عند النصارى. وأما قول المحرفين لكلام الله : إن ذلك على حذف ألف الاستفهام وهو استفهام انكار والمعنى لا أقيم لبني إسرائيل نبيا. فتلك عادة لهم معروفة في تحريف كلام الله عن مواضعه والكذب على الله ، وقولهم لما يبدلونه ويحرفونه هذا من عند الله ، وحمل هذا الكلام على الاستفهام والانكار غاية ما يكون من التحريف والتبديل ، وهذا التحريف والتبديل من معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، التي أخبر بها عن الله من تحريفهم وتبديلهم ، فاظهر الله صدقه في ذلك لكل ذي لب وعقل ، فازداد إيمانا إلى إيمانه ، وازداد الكافرون رجسا إلى رجسهم.

(فصل) الوجه الثاني قال في التوراة في السفر الخامس : «اقبل الله من سيناء ، وتجلى من ساعير ، وظهر من جبال فاران ، ومعه ربوات الأظهار عن يمينه» وهذه متضمنة للنبوات الثلاثة : نبوة موسى ، ونبوة عيسى ، ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمجيؤه من «سينا» وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى ونبّأه عليه إخبار عن نبوته ، وتجليه من ساعير هو مظهر المسيح من بيت المقدس ، «وساعير» قرية معروفة هناك إلى اليوم ، وهذه بشارة بنبوة المسيح. «وفاران» هي مكة ، وشبه سبحانه نبوة موسى بمجيء الصبح ، ونبوة المسيح بعدها بإشراقه وضيائه ، ونبوة خاتم الأنبياء بعدهما باستعلات الشمس وظهور ضوءها في الآفاق ، ووقع الأمر كما أخبر به سواء ، فإن الله سبحانه صدع بنبوة موسى ليل الكفر فأضاء فجره بنبوته ، وزاد الضياء والاشراق بنبوة المسيح ، وكمل الضياء واستعلن وطبق الأرض بنبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهم ، وذكر هذه النبوات الثلاثة التي اشتملت عليها هذه البشارة نظير ذكرها في أول سورة (التِّينِ وَالزَّيْتُونِ ، وَطُورِ سِينِينَ ، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين : ١ ـ ٢ ـ ٣] ، فذكر أمكنة هؤلاء الأنبياء وأرضهم التي خرجوا منها (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) [التين : ١] ، والمراد بهما منبتهما وأرضهما وهي الأرض المقدسة التي هي مظهر المسيح (وَطُورِ سِينِينَ) [التين : ٢] ، الخيل الذي كلم الله عليه موسى فهو مظهر نبوته (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين : ٣] ، مكة حرم الله وامنه التي هي مظهر نبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهم ، فهذه الثلاثة نظير تلك الثلاثة سواء قالت اليهود :

٦٤

«فاران» هي أرض الشام وليست أرض الحجاز وليس هذا ببدع من بهتهم وتحريفهم وعندهم في التوراة : ان اسماعيل لما فارق أباه سكن في برية فاران. هكذا نطقت التوراة ، ولفظها «وأقام اسماعيل في برية فاران ، وانكحته أمه امرأة من [جرهم] ولا يشك علماء أهل الكتاب أن فاران مسكن لآل اسماعيل ، فقد تضمنت التوراة نبوة تنزل بأرض فاران ، وتضمنت نبوة تنزل على عظيم من ولد اسماعيل ، وتضمنت انتشار أمته واتباعه حتى يملئوا السهل والجبل كما سنذكره ان شاء الله تعالى ، ولم يبق بعد هذا شبهة أصلا أن هذه هي نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، التي نزلت بفاران على أشرف ولد اسماعيل حتى ملأت الأرض ضياء ونورا وملأ اتباعه السهل والجبل ، ولا يكثر على الشعب الذي نطقت التوراة بانهم عادمو الرأي والفطانة ينقسموا إلى جاهل بذلك وجاحد مكابر معاند ، ولفظ التوراة فيهم «أنهم لشعب عادم الرأي ، وليس فيهم فطانة» ويقال لهؤلاء المكابرين : أي نبوة خرجت من الشام فاستعلت استعلاء ضياء الشمس ، وظهرت فوق ظهور النبوتين قبلها؟! وهل هذا إلا بمنزلة مكابرة من يرى الشمس قد طلعت من المشرق فيغالط ويكابر ويقول بل طلعت من المغرب؟!

(الوجه الثالث) قال في التوراة في السفر الأول : «ان الملك ظهر لهاجر أم اسماعيل ، فقال يا هاجر من أين أقبلت وإلى أين تريدين؟ فلما شرحت له الحال قال ارجعي فأني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون كثرة ، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا اسميه اسماعيل لأن الله قد سمع تذللك وخضوعك وولدك يكون وحش (١) للناس وتكون يده على الكل ويد الكل مبسوطة إليه بالخضوع» وهذه بشارة تضمنت أن يد ابنها على يد كل الخلائق ، وان كلمته العليا ، وأن أيدي الخلق تحت يده ، فمن هذا الذي ينطبق عليه هذا الوصف سوى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه؟! وكذلك في السفر الأول من التوراة : «أن الله قال لابراهيم إني جاعل ابنك اسماعيل لأمة عظيمة إذ هو من زرعك» وهذه بشارة بمن جعل من ولده لأمة عظيمة ، وليس هو سوى محمد بن عبد الله الذي

__________________

(١) فسر بالخشونة.

٦٥

هو من صميم ولده ، فإنه جعل لأمة عظيمة ، ومن تدبر هذه البشارة جزم بأن المراد بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن اسماعيل لم تكن يده فوق يد إسحاق قط ، وكانت يد إسحاق مبسوطة إليه بالخضوع ، وكيف يكون ذلك وقد كانت النبوة والملك في اسرائيل والعيص ، وهما ابنا إسحاق ، فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانتقلت النبوة إلى ولد اسماعيل ودانت له الأمم وخضعت له الملوك وجعل خلافة الملك إلى أهل بيته إلى آخر الدهر وصارت أيديهم فوق أيدي الجميع مبسوطة إليهم بالخضوع وكذلك في التوراة في السفر الأول : «أن الله تعالى قال لإبراهيم أن في هذا العالم يولد لك ولد اسمه إسحاق ، فقال ابراهيم ليت اسماعيل هذا يحيى بين يديك يمجدك ، فقال الله تعالى قد استجبت لك في إسماعيل وأني أباركه وأيمنه وأعظمه جدا جدا بما قد استجبت فيه ، وأني اصيره إلى أمة كثيرة ، وأعطيه شعبا جليلا» والمراد بهذا كله الخارج من نسله ، فإنه هو الذي عظمه الله جدا جدا وصيره إلى أمة كثيرة واعطاه شعبا جليلا ، ولم يأت من صلب اسماعيل من بورك وعظم وانطبقت عليه هذه العلامات غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمته ملئوا الآفاق واربوا في الكثرة على نسل إسحاق.

(الوجه الرابع) قال في التوراة في السفر الخامس : «قال موسى لنبي اسرائيل لا تطيعوا العرافين ولا المنجمين ، فسيقيم لكم الرب نبيا من اخوتكم مثلي ، فأطيعوا ذلك النبي» ولا يجوز ان يكون هذا النبي الموعود به من أنفس بني اسرائيل لما تقدم أن إخوة القوم ليسوا أنفسهم ، كما يقول بكر وتغلب ابنا وائل ثم يقول تغلب اخوة بكر وبنو بكر إخوة بني تغلب ، فلو قلت اخوة بني بكر بنو بكر كان محالا ، ولو قلت لرجل أتيني برجل من اخوة بني بكر بن وائل لكان الواجب ان يأتيك برجل من بني تغلب بن وائل لا بواحد من بني بكر.

(الوجه الخامس) ما في الإنجيل : «ان المسيح قال للحواريين اني ذاهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق ، لا يتكلم من قبل نفسه ، إنما هو كما يقال له ، وهو يشهد عليّ وأنتم تشهدون لأنكم معي من قبل الناس ، وكل شيء أعدّه الله لكم يخبركم به» وفي انجيل يوحنا : «الفارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب ، وإذا

٦٦

جاء وبخ العالم على الخطيئة ، ولا يقول من تلقاء نفسه ولكنه مما يسمع به ، ويكلمكم ويسوسكم بالحق ، ويخبركم بالحوادث والغيوب» وفي موضع آخر «أن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي باسمي ، هو يعلمكم كل شيء» وفي موضع آخر «اني سائل له ان يبعث إليكم فارقليطا آخر يكون معكم إلى الأبد ، وهو يعلمكم كل شيء» وفي موضع آخر «ابن البشر ذاهب والفارقليط من بعده يحبي لكم بالأسرار ويفسر لكم كل شيء ، وهو يشهد لي كما شهدت له ، فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل» قال أبو محمد بن قتيبة وهذه الأشياء على اختلافها متقاربة ، وانما اختلفت لأن من نقلها عن المسيح صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الإنجيل من الحواريين عدّة «والفارقليط» بلغتهم لفظ من ألفاظ الحمد ، أما أحمد أو محمد أو محمود أو حامد أو نحو ذلك ؛ وهو في الإنجيل الحبشي «بن نعطيس» وفي موضع آخر «ان كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد ويتكلم بروح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه لأنهم لم يعرفوه ولست أدعكم أيتاما أني سآتيكم عن قريب» وفي موضع آخر «ومن يحبني يحفظ كلمتي وأبي يحبه وإليه يأتي وعنده يتحد المنزل ، كلمتكم بهذا لأني لست عندكم مقيما ، والفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء ، وهو يذكركم كلما قلت لكم ، استودعتكم سلامي ، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع فاني منطلق وعائد إليكم ، لو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمعنى الأب ، فان ثبت كلامي فيكم كان لكم كلما تريدون» وفي موضع آخر «إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله روح الحق الذي من أبي يشهد لي ، قلت لكم حتى إذا كان تؤمنوا ولا تشكوا فيه» وفي موضع آخر «أن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله ، لكن إذا جاء روح الحق ذاك يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ، ويخبركم بكلما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب». وقال يوحنا قال المسيح «ان أركون العالم سيأتي وليس لي شيء» وقال متى قال المسيح : «ألم تروا ان الحجر الذي أخره البناءون صار أسا للزاوية من عند الله ، كان هذا وهو عجيب في أعيننا ، ومن أجل ذلك أقول لكم ان ملكوت الله سيأخذ منكم ويدفع إلى أمة أخرى تأكل ثمرتها ، ومن سقط على هذا الحجر ينشدخ ، وكل من سقط هو عليه يمحقه».

٦٧

وقد اختلف في «الفارقليط» في لغتهم فذكروا فيه أقوالا ترجع إلى ثلاثة :

«أحدها» انه الحامد والحماد أو الحمد كما تقدم ، ورجحت طائفة هذا القول ، وقال الذي يقوم عليه البرهان في لغتهم انه الحمد ، والدليل عليه قول يوشع «من عمل حسنة يكون له فارقليط جيد» اي حمد جيد.

«والقول الثاني» وعليه اكثر النصارى انه المخلص والمسيح نفسه يسمونه المخلص ، قالوا وهذه كلمة سريانية ومعناها المخلص ، قالوا وهو بالسريانية فاروق فجعل (فارق) قالوا و (ليط) كلمة تزاد ، ومعناها كمعنى قول العرب : رجل هو ، وحجر هو ، وفرس هو. قالوا فكذلك معنى (ليط) في السريانية. وقالت طائفة أخرى من النصارى : معناه بالسريانية المعزى ، قالوا وكذلك هو في اللسان اليوناني. ويعترض على هذين القولين بأن المسيح لم يكن لغته سريانية ولا يونانية بل عبرانية ، واجيب عن هذا بانه يتكلم بالعبرانية ، والإنجيل انما نزل باللغة العبرانية وترجم عنه بلغة السريانية والرومية واليونانية وغيرها ، واكثر النصارى على انه المخلص ، والمسيح نفسه يسمونه المخلص ، وفي الإنجيل الذي بايديهم انه قال : «إنما اتيت لأخلص العالم» والنصارى يقولون في صلاتهم : لقد ولدت لنا مخلصا ولما لم يمكن النصارى انكار هذه النصوص حرفوها انواعا من التحريف ، فمنهم من قال : هو روح نزلت على الحواريين ، ومنهم من قال : هو ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ففعلوا بها الآيات والعجائب ، ومنهم من يزعم أنه المسيح نفسه لكونه جاء بعد الصلب بأربعين يوما وكونه قام من قبره ، ومنهم من قال لا يعرف ما المراد بهذا الفارقليط ولا يتحقق لنا معناه ومن تأمل الفاظ الإنجيل وسياقها علم أن تفسيره بالروح باطل ، وابطل منه تفسيره بالألسن النارية ، وابطل منهما تفسيره بالمسيح ، فان روح القدس ما زالت تنزل على الأنبياء والصالحين قبل المسيح وبعده وليست موصوفة بهذه الصفات وقد قال تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة : ٢٢] ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لحسان بن ثابت لما كان يهجو المشركين «اللهم ايده بروح القدس» وقال : «ان روح القدس معك ما زالت تنافح عن نبيه» واذا كان كذلك ولم يسم

٦٨

أحد هذه الروح فارقليطا علم أن الفارقليط أمر غير هذا. و «أيضا». فمثل هذه الروح لا زالت يؤيد بها الأنبياء والصالحون وما بشر به المسيح ووعد به أمر عظيم يأتي بعده اعظم من هذا و «أيضا» فانه وصف الفارقليط بصفات لا تناسب هذا الروح وانما تناسب رجلا يأتي بعده نظيرا له ، فانه قال : «ان كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وانا اطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد» فقوله «فارقليطا آخر» دل على انه ثان لأول كان قبله ، وانه لم يكن معهم في حياة المسيح وانما يكون بعد ذهابه وتوليه عنهم و «أيضا» فانه قال «يثبت معكم إلى الأبد» وهذا إنما يكون لما يدوم ويبقى معهم إلى آخر الدهر ومعلوم أنه لم يرد بقاء ذاته فعلم انه بقاء شرعه وأمره ، والفارقليط الأول لم يثبت معهم شرعه ودينه إلى الأبد ، وهذا يبين أن الثاني صاحب شرع لا ينسخ بل يبقى إلى الأبد بخلاف الأول ، وهذا انما ينطبق على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «وأيضا» فانه اخبر ان هذا الفارقليط الذي اخبر به يشهد له ويعلمهم كل شيء وانه يذكر لهم كل ما قال المسيح وانه يوبخ العالم على خطيئته فقال «والفارقليط الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كلما قلت لكم ، وقال اذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله هو يشهد أني قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به ، ولا تشكوا فيه ، وقال إن خيرا لكم ان انطلق إلى أبي ، ان لم أذهب لم يأتكم الفارقليط ، فان انطلقت ارسلته إليكم ، فهو يوبخ العالم على الخطيئة ، فان لي كلاما كثيرا اريد ان أقول لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن اذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عند نفسه بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب فهذه الصفات والنعوت التي تلقوها عن المسيح لا تنطبق على أمر معنوي في قلب بعض الناس لا يراه احد ولا يسمع كلامه ، وانما تنطبق على من يراه الناس ويسمعون كلامه ، فيشهد للمسيح ، ويعلمهم كل شيء ، ويذكرهم كلما قال لهم المسيح ، ويوبخ العالم على الخطيئة ، ويرشد الناس إلى جميع الحق ، ولا ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ، ويخبرهم بكل ما يأتي ، ويعرفهم جميع ما لرب العالمين وهذا لا يكون ملكا لا يراه أحد ولا يكون هدى وعلما في قلب بعض الناس ، ولا يكون إلا إنسانا عظيم القدر يخاطب بما أخبر به المسيح ، وهذا لا يكون إلا بشرا رسولا ،

٦٩

بل يكون أعظم من المسيح ، فان المسيح أخبر أنه يقدر على ما لا يقدر عليه المسيح ، ويعلم ما لا يعلمه المسيح ، ويخبر بكل ما يأتي وبما يستحقه الرب حيث قال : «ان لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ولكنكم لا تستطيعون حمله ، ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ، ويعرفكم جميع ما للأب ، فلا يستريب عاقل أن هذه الصفات لا تنطبق إلا على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك لأن الإخبار عن الله بما هو متصف به من الصفات وعن ملائكته وعن ملكوته وعما اعده في الجنة لاوليائه وفي النار لأعدائه أمر لا تحتمل عقول أكثر الناس معرفته على التفصيل ، قال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله. وقال ابن مسعود : ما من رجل يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ، وسأل رجل ابن عباس عن قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) [الطلاق : ١٢] ، قال : ما يؤمنك أن لو أخبرتك بها لكفرت. يعني لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت بها وكفرك بها تكذيب بها ، فقال لهم المسيح ، «ان لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله» وهو الصادق المصدوق في هذا ، ولهذا ليس في الإنجيل من صفات الله تعالى وصفات ملكوته وصفات اليوم الآخر إلا أمور مجملة ، وكذلك التوراة ليس فيها من ذكر اليوم الآخر إلا أمور مجملة ، مع أن موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان قد سهل الأمر للمسيح ، ومع هذا فقد قال لهم المسيح : «ان لي كلاما كثيرا أريد أن اقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله» ثم قال : «ولكن إذا جاء روح الحق فذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق ، وانه يخبركم بكل ما يأتي ، وبجميع ما للرب» فدل هذا على ان «الفارقليط» هو الذي يفعل هذا دون المسيح ، وكذلك كان ، فإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ارشد الناس إلى جميع الحق حتى أكمل الله به الدين واتم به النعمة ، ولهذا كان خاتم الأنبياء فانه لم يبق نبي يأتي بعده غيره ، واخبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بكل ما يأتي من اشراط الساعة والقيامة والحساب والصراط ووزن الأعمال ، والجنة وانواع نعيمها ، والنار وانواع عذابها ، ولهذا كان في القرآن تفصيل أمر الآخرة وذكر الجنة والنار وما يأتي أمور كثيرة لا توجد لا في التوراة ولا في الإنجيل ، وذلك

٧٠

تصديق قول المسيح انه يخبر بكل ما يأتي ، وذلك يتضمن صدق المسيح وصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا معنى قوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) ويقولون (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ٣٥] اي مجيئه تصديق للرسل قبله ، فانهم اخبروا بمجيئه فجاء كما اخبروا به ، فتضمن مجيئه تصديقهم ، ثم شهد هو بصدقهم فصدقهم بقوله ومجيئه ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعثه الله بين يدي الساعة كما قال : «بعثت أنا والساعة كهاتين واشار باصبعيه السبابة والوسطى» وكان إذا ذكر الساعة علا صوته واحمرّ وجهه واشتد غضبه ، وقال : «أنا النذير العريان» فاخبر من الأمور التي تأتي في المستقبل بما لم يأت به نبي من الأنبياء كما نعته به المسيح حيث قال «انه يخبركم بكل ما يأتي» ولا يوجد مثل هذا أصلا عن أحد من الأنبياء قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضلا عن أن يوجد عن شيء نزل على قلب بعض الحواريين. «وأيضا» فانه قال «ويعرفكم جميع ما للرب» فبين انه يعرف الناس جميع ما لله ، وذلك يتناول ما لله من الأسماء والصفات وما له من الحقوق وما يجب من الإيمان به وملائكته وكتبه ورسله بحيث يكون يأتي به جامعا لما يستحقه الرب ، وهذا لم يأت به غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانه تضمن ما جاء به من الكتاب والحكمة هذا كله. «وأيضا» فان المسيح قال «اذا جاء الفارقليط الذي ارسله أبي فهو يشهد لي ، قلت لكم هذا حتى اذا كان تؤمنوا به ، فاخبر انه شهد له ، وهذه صفة نبي بشر به المسيح ويشهد للمسيح ، كما قال تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦] ، واخبر انه يوبخ العالم على الخطيئة وهذا يستحيل حمله على معنى يقوم بقلب الحواريين فانهم آمنوا به وشهدوا له قبل ذهابه فكيف يقول إذا جاء فإنه يشهد لي ويوصيهم بالإيمان به أفترى الحواريين لم يكونوا مؤمنين بالمسيح فهذا من أعظم جهل النصارى وضلالهم؟! «وأيضا» فإنه لم يوجد أحد وبخ جميع العالم على الخطيئة إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانه انذر جميع العالم من اصناف الناس ووبخهم على الخطيئة من الكفر والفسوق والعصيان ولم يقتصر على مجرد الأمر والنهي بل وبخهم وفزعهم وتهددهم. «وأيضا» فإنه أخبر أنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع. وهذا إخبار بأن كلما يتكلم به فهو وحي يسمعه ليس هو شيئا تعلمه من الناس أو

٧١

عرفه باستنباط ، وهذه خاصة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما المسيح فكان عنده علم بما جاء به موسى قبله يشاركه به أهل الكتاب تلقاه عمن قبله ، ثم جاءه وحي خاص من الله فوق ما كان عنده قال تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [آل عمران : ٤٨] ، فاخبر سبحانه أنه يعلمه التوراة التي تعلمها بنو اسرائيل ، وزاده تعليم الإنجيل الذي اختص به ، والكتاب الذي هو الكتابة ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يكن يعلم قبل الوحي شيئا البتة ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢] وقال تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) فلم يكن صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينطق من تلقاء نفسه بل إنما كان ينطق بالوحي كما قال تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ـ ٤] ، أي ما نطقه إلا وحي يوحى ، وهذا مطابق لقول المسيح أنه لا يتكلم من تلقاء نفسه بل إنما يتكلم بما يوحى إليه ، والله تعالى أمره ان يبلغ ما أنزل إليه ، وضمن له العصمة في تبليغ رسالاته ، فلهذا أرشد الناس إلى جميع الحق وألقى للناس ما لم يمكن غيره من الأنبياء ألقاه خوا أن يقتله قومه ، وقد أخبر المسيح بأنه لم يذكر لهم جميع ما عنده ، وأنهم لا يطيقون حمله وهم معترفون بانه كان يخاف منهم إذا أخبرهم بحقائق الأمور ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيده الله سبحانه تأييدا لم يؤيده لغيره : فعصمه من الناس حتى لم يخف من شيء يقوله ، واعطاه من البيان والعلم ما لم يؤته غيره ، وأيد أمته تأييدا أطاقت به حمل ما القاه إليهم ، فلا يكونوا كأهل التوراة الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ، ولا كأهل الإنجيل الذين قال لهم المسيح : «إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكن لا تستطيعون حمله : «ولا ريب أن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أكمل عقولا وأعظم إيمانا واتم تصديقا وجهادا ؛ ولهذا كانت علومهم واعمالهم القلبية وإيمانهم أعظم ، وكانت العبادات البدنية لغيرهم أعظم «وأيضا» فأنه أخبر عن الفارقليط أنه شهد له ، وأنه يعلمهم كل شيء ، وأنه يذكرهم كلما قال المسيح ، ومعلوم ان هذا لا يكون إلا إذا شهد له شهادة يسمعها الناس لا يكون هذا في قلب طائفة قليلة ، ولم يشهد أحد للمسيح شهادة سمعها عامة الناس إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنه أظهر أمر المسيح وشهد له بالحق حتى سمع شهادته له عامة أهل الأرض ، وعلموا أنه صدق

٧٢

المسيح ونزهه عما افترته عليه اليهود وما غلت فيه النصارى ، فهو الذي شهد له بالحق ، ولهذا لما سمع النجاشي من الصحابة ما شهد به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، للمسيح قال لهم بما زاد عيسى على ما قلتم هذا العود ، وجعل الله أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] شهدوا عليهم بما علموا من الحق ، إذ كانوا وسطا عدولا لا يشهدون بباطل ، فإن الشاهد لا يكون إلا عدلا ، بخلاف من جار في شهادته فزاد على الحق أو نقص منه كشهادة اليهود للنصارى في المسيح. «وأيضا» فان معنى الفارقليط ان كان هو الحامد أو الحماد أو المحمود أو الحمد فهذا الوصف ظاهر في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه وأمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل حال ، وهو صاحب لواء الحمد ، والحمد مفتاح خطبته ومفتاح صلاته ، ولما كان حمادا سمى بمثل وصفه فهو محمد وزن مكرم ومعظم ومقدس ، وهو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره ويستحق ذلك ، فلما كان حمادا لله كان محمدا وفي شعر حسان :

اغرّ عليه للنبوة خاتم

من الله ميمون يلوح ويشهد

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه

إذا قال في الخمس المؤذن اشهد

وشق له من اسمه ليجله

فذو العرش محمود وهذا محمد

وأما «أحمد» فهو أفعل التفضيل ، أي هو أحمد من غيره أي أحق بان يكون محمودا اكثر من غيره ، يقال : هذا أحمد من هذا أي هذا أحق بان يحمده من هذا ، فيكون تفضيل على غيره في كونه محمودا فلفظ «محمد» يقتضي زيادة في الكمية ، ولفظ احمد يقتضي زيادة في الكيفية ومن الناس من يقول : معناه أنه أكثر حمدا لله من غيره ، وعلى هذا فيكون بمعنى الحامد والحماد ، وعلى الأول بمعنى المحمود. وإن كان الفارقليط بمعنى الحمد فهو تسمية بالمصدر مبالغة في كثرة الحمد ، كما يقال : رجل عدل ورضى ونظائر ذلك ، وبهذا يظهر سر ما اخبره به القرآن عن المسيح من قوله : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦] ، فان هذا هو معنى الفارقليط كما تقدم ، وفي التوراة ما ترجمته بالعربية : «وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاك ها أنا قد باركت فيه وأثمره واكبره. بمأذمأذ» هكذا هذه اللفظة «مأذ» على وزن عمر ، وقد اختلف فيها

٧٣

علماء اهل الكتاب فطائفة يقولون معناها جدا جدا أي كثيرا كثيرا ، فان كان هذا معناها فهو بشارة بمن عظم من بنيه كثيرا كثيرا ، ومعلوم أنه لم يعظم من بنيه اكثر مما عظم من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالت طائفة أخرى : بل هي صريح اسم محمد ، قالوا ويدل عليه ان الفاظ العبرانية قريبة من الفاظ العربية فهي أقرب اللغات إلى العربية ، فإنهم يقولون لإسماعيل شماعيل وسمعتك شمعتيني ، وإياه أوثو ، وقدسك قد شيخا ، وانت أنا ، وإسرائيل سيرائيل ، فتأمل قوله في التوراة «قدس لي خل لخورخل ريخم بني سرائيل باذام ويبيمالي» معناه قدس لي كل بكر كل أول مولود رحم في بني إسرائيل من إنسان إلى بهيمة لي. وتأمل قوله «نابي أقيم لاهيم تقارب اخيهم كانوا أخا إيلاؤه شماعون» فإن معناه نبيا أقيم لهم من وسط اخوتهم مثلك به يؤمنون ، وكذلك قوله : «انتم عابرتم بعيولي اجيخيم بنوا عيصاه» معناه انتم عابرون في تخم اخوتكم بني العيص ، ونظائر ذلك اكثر من أن تذكر ، فإذا اخذت لفظة «مؤذ مؤذ» وجدتها أقرب شيء إلى لفظة محمد ، وإذا أردت تحقيق ذلك فطابق بين الفاظ العبرانية والعربية ، وكذلك يقولون «اصبوع أو لو هم هوم» أي اصبع الله كتب له بها التوراة ، ويدل على ذلك اداة الباء في قوله «بمأذمأذ» ولا يقال اعظمه بجدا جدا ، بخلاف اعظمه بمحمد. وكذلك هو فإنه عظم به وازداد به شرفا إلى شرفه ، بل تعظيمه بمحمد ابنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوق تعظيم كل والد بولده العظيم القدر ، فالله سبحانه كبره بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى التقديرين فالنص من اظهر البشارات به ، أما على هذا التفسير فظاهر جدا ، وأما على التفسير الأول فإنما كبر إسماعيل وعظم على إسحاق جدا جدا بابنه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإذا طابقت بين معنى «الفارقليط» ومعنى «موذ موذ» ومعنى «محمد ، وأحمد» ونظرت إلى خصال الحمد التي فيه وتسمية امته بالحمادين وافتتاح كتابه بالحمد وافتتاح الصلاة بالحمد وختم الركعة بالحمد وكثرة خصال الحمد التي فيه وفي امته وفي دينه وفي كتابه وعرفت ما خلص به العالم من انواع الشرك والكفر والخطايا والبدع والقول على الله بلا علم وما اعز الله به الحق واهله وقمع به الباطل وحزبه تيقنت انه الفارقليط بالاعتبارات كلها ، فمن هذا الذي هو روح الحق الذي لا يتكلم إلّا بما يوحى إليه؟! ومن هو العاقب للمسيح والشاهد لما جاء به والمصدق له بمجيئه؟! ومن الذي اخبرنا بالحوادث في

٧٤

الأزمنة المستقبلة كخروج الدجال وظهور الدابة وطلوع الشمس من مغربها وخروج يأجوج ومأجوج ونزول المسيح ابن مريم وظهور النار التي تحشر الناس واضعاف اضعاف ذلك من الغيوب التي قبل يوم القيامة والغيوب الواقعة من الصراط والميزان والحساب واخذ الكتب بالإيمان والشمائل وتفاصيل ما في الجنة والنار ما لم يذكر في التوراة والإنجيل غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟! ومن الذي وبخ العالم على الخطايا سواه؟! ومن الذي عرف الأمة ما ينبغي لله حق التعريف غيره؟! ومن الذي تكلم في هذا الباب بما لم يطق اكثر العالم ان يقبلوه غيره حتى عجزت عنه عقول كثير ممن صدقه وآمن به فساموه انواع التحريف والتأويل لعجز عقولهم عن حمله كما قال اخوه المسيح صلوات الله عليهما وسلامه؟! ومن الذي ارسل إلى جميع الخلق بالحق قولا وعملا واعتقادا في معرفة الله واسمائه وصفاته واحكامه وافعاله وقضائه وقدره وغيره؟! ومن هو أركون العالم الذي اتى بعد المسيح غيره؟! «واركون العالم» هو عظيم العالم وكبير العالم وتأمل قول المسيح في هذه البشارة التي لا ينكرونها «أن أركون العالم سيأتي وليس لي من الأمر شيء» كيف هي شاهدة بنبوة المسيح ونبوة محمد معا فانه لما جاء صار الأمر له دون المسيح. فوجب على العالم كلهم طاعته والانقياد لأمره ، وصار الأمر له حقيقة. ولم يبق بأيدي النصارى إلا دين باطله اضعاف اضعاف حقه ، وحقه منسوخ بما بعث الله به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فطابق قول المسيح قول اخيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا فيحكم بكتاب ربكم» وقوله في اللفظ الآخر «يأتيكم بكتاب ربكم» فطابق قول الرسولين الكريمين وبشر الأول بالثاني وصدق الثاني بالأول. وتأمل قوله في البشارة الأخرى «ألم تر إلى الحجر الذي أخوه البناءون صار أسا للزاوية» كيف تجده مطابقا لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارا فاكملها وأتمها إلا موضع لبنة منها ، فجعل الناس يطوفون بها ويعجبون منها ، ويقولون هلّا وضعت تلك اللبنة؟! فكنت أنا تلك اللبنة» وتأمل قول المسيح في هذه البشارة : «ان ذلك عجيب في أعيننا» وتأمل قوله فيها «ان ملكوت الله سيأخذ منكم ويدفع إلى أمة أخرى» كيف تجده مطابقا لقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] ، وقوله : (وَعَدَ اللهُ

٧٥

الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ، يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [النور : ٥٥] وتأمل قوله في الفارقليط المبشر به : «يفشي لكم الأسرار ، ويفسر لكم كل شيء ، فإني اجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل» وكيف تجده مطابقا للواقع من كل وجه ولقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] ولقوله تعالى : (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف : ١١١] ، وإذا تأملت التوراة والإنجيل والكتب وتأملت القرآن وجدته كالتفصيل لمجملها والتأويل لأمثالها والشرح لرموزها ، وهذا حقيقة قول المسيح «اجيئكم بالأمثال ويجيئكم بالتأويل ، ويفسر لكم كل شيء» وإذا تأملت قوله «وكل شيء عده الله لكم به» وتفاصيل ما اخبر به من الجنة والنّار والثواب والعقاب تيقنت صدق المرسولين الكريمين ، ومطابقة الأخبار المفصلة من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، للخبر المجمل من اخيه المسيح. وتأمل قوله في الفارقليط ، «وهو يشهد لي كما شهدت له» كيف تجده منطبقا على محمد بن عبد الله ، وكيف تجده شاهدا بصدق الرسولين ، وكيف تجده صريحا في رجل يأتي بعد المسيح ، يشهد له بانه عبد الله ورسوله كما شهد له المسيح؟! فلقد أذن المسيح بنبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهما أذانا لم يؤذنه نبي قبله ، واعلن بتكبير ربه أن يكون له صاحبة أو ولد ، ثم رفع صوته بشهادة أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له إلها واحدا احدا فردا صمدا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، ثم أعلن بشهادة أن محمدا عبده ورسوله الشاهد له بنبوته المؤيد بروح الحق الذي لا يقول من تلقاء نفسه بل يتكلم بما يوحى إليه ويعلمهم كل شيء ويخبرهم ما اعد الله لهم ، ثم رفع صوته بحي على الفلاح باتباعه والإيمان به وتصديقه وأنه ليس له من الأمر معه شيء ، وختم التأذين بان ملكوت الله سيؤخذ ممن كذبه ويدفع إلى اتباعه والمؤمنين به ، فهلك من هلك عن بينة وعاش من عاش عن بينة فاستجاب اتباع المسيح حقا لهذا التأذين ، واباه الكافرون والجاحدون ، فقال تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ

٧٦

كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [آل عمران : ٥٥] ، وهذه بشارة بان المسلمين لا يزالون فوق النصارى إلى يوم القيامة فإن المسلمين هم اتباع المرسلين في الحقيقة واتباع جميع الأنبياء لا أعداؤه ، واعداؤه عباد الصليب الذين رضوا ان يكون إلها مصفوعا مصلوبا مقتولا ولم يرضوا ان يكون نبيا عبدا لله وجيها عنده مقربا لديه ، فهؤلاء اعداؤه حقا والمسلمون اتباعه حقا. والمقصود أن بشارة المسيح بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوق كل بشارة لما كان أقرب الأنبياء إليه وأولاهم به وليس بينه وبينه نبيّ.

(فصل) وتأمل قول المسيح «إن اركون العالم سيأتي» وأركون العالم هو سيد العالم وعظيمه. ومن الذي ساد العالم واطاعه العالم بعد المسيح غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟! وتأمل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد سئل ما أول امرك قال : «أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى» وطابق بين هذا وبين هذه البشارات التي ذكرها المسيح ، فمن الذي ساد العالم باطنا وظاهرا وانقادت له القلوب والأجساد وأطيع في السر والعلانية في محياه وبعد مماته في جميع الأعصار ، وأفضل الأقاليم والأمصار ، وسارت دعوته مسير الشمس ، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار ، وخرّت لمجيئه الأمم على الأذقان ، وبطلت به عبادة الأوثان ، وقامت به دعوة الرحمن ، واضمحلت به دعوة الشيطان ، وأذل الكافرين والجاحدين ، وأعز المؤمنين وجاء بالحق وصدق المرسلين ، حتى أعلن بالتوحيد على رءوس الاشهاد ، وعبد الله وحده لا شريك له في كل حاضر وباد ، وامتلأت به الأرض تحميدا وتكبيرا لله وتهليلا ، وتسبيحا ، واكتست به بعد الظلم والظلام عدلا ونورا.

(فصل) وطابق بين قول المسيح «أن أركون العالم سيأتيكم» وقول أخيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، آدم فمن دونه تحت لوائي ، وأنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا وإمامهم إذا اجتمعوا ومبشرهم إذا أيسوا لواء الحمد بيدي ، وأنا اكرم ولد آدم على ربي».

[النصارى آمنوا بمسيح لا وجود له!]

[واليهود ينتظرون المسيح الدجال!!]

(فصل) وفي قول المسيح في هذه البشارة «وليس لي من الأمر شيء» إشارة

٧٧

إلى التوحيد وأن الأمر كله لله ، فتضمنت هذه البشارة أصلي الدين : اثبات التوحيد ، واثبات النبوة وهذا الذي قاله المسيح مطابق لما جاء به أخوه محمد بن عبد الله عن ربه من قوله له (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) [آل عمران : ١٢٨] ، فمن تأمل حال الرسولين الكريمين ودعوتهما وجدهما متوافقين متطابقين حذو القذة بالقذة ، وأنه لا يمكن التصديق باحدهما مع التكذيب بالآخر البتة ، وأن المكذب بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اشد تكذيبا للمسيح الذي هو المسيح ابن مريم عبد الله ورسوله ، وإن آمن بمسيح لا حقيقة له ولا وجود وهو ابطل الباطل ، وقد قال يوحنا في كتاب اخبار الحواريين ، وهو يسمونه اقراكيس : «أحبابي إياكم أن تؤمنوا بكل روح ، لكن ميزوا الأرواح التي من عند الله من غيرها واعلموا أن كل روح تؤمن بأن يسوع المسيح قد جاء وكان جسدانيا فهي من عند الله وكل روح لا تؤمن بأن المسيح قد جاء وكان جسدانيا فليست من عند الله بل من المسيح الكذاب الذي هو الآن في العالم» فالمسلمون يؤمنون بالمسيح الصادق الذي جاء من عند الله بالهدى ودين الحق الذي هو عبد الله ورسوله وكلمته القاها إلى مريم العذراء البتول ، والنصارى إنما تؤمن بمسيح دعى إلى عبادة نفسه وأمه وأنه ثالث ثلاثة وانه الله وابن الله ، وهذا هو اخو المسيح الكذاب لو كان له وجود ، فإن المسيح الكذاب يزعم أنه الله ، والنصارى في الحقيقة اتباع هذا المسيح ، كما أن اليهود إنما ينتظرون خروجه ، وهم يزعمون أنهم ينتظرون النبي الذي بشروا به ، فعوضهم الشيطان بعد مجيئه من الإيمان به انتظارا للمسيح الدجال. وهكذا كل من أعرض عن الحق يعوض عنه بالباطل.

[ما عوض به إبليس والنصارى وكل مستكبر عن حق]

وأصل هذه أن إبليس لما أعرض عن السجود لآدم كبرا أن يخضع له تعوض بذلك ذل القيادة لكل فاسق ومجرم من بنيه ، فلا بتلك النخوة ولا بهذه الحرفة ، والنصارى لما أنفوا أن يكون المسيح عبدا لله تعوضوا من هذه الأنفة بأن رضوا بجعله مصفعة اليهود ومصلوبهم الذي يسخرون منه ويهزءون به ، ثم عقدوا له تاجا من الشوك بدل تاج الملك ، وساقوه في حبل إلى خشبة الصلب يصفقون حوله ويرقصون. فلا بتلك الأنفة له من عبودية الله ولا بهذه النسبة له إلى أعظم

٧٨

الذل والضيق والقهر ، وكذلك أنفوا أن يكون للبترك والراهب زوجة أو ولد وجعلوا لله رب العالمين الولد ، وكذلك أنفوا أن يعبدوا الله وحده لا شريك له ويطيعوا عبده ورسوله ثم رصوا بعبادة الصليب والصور المصنوعة بالأيدي في الحيطان وطاعة كل من يحرم عليهم ما شاء ويحلل لهم ما شاء ويشرع لهم من الدين ما شاء من تلقاء نفسه. ونظير هذا التعويض أنفة الجهمية ان يكون الله سبحانه فوق سماواته على عرشه بائنا من خلقه حتى لا يكون محصورا بزعمهم في جهة معينة ثم قالوا هو في كل مكان بذاته. فحصروه في الآبار والسجون والأنجاس والأخباث ، وعوضوه بهذه الأمكنة عن عرشه المجيد. فليتأمل العاقل لعب الشيطان بعقول هذا الخلق ، وضحكه عليهم ، واستهزائه بهم!!.

(فصل) وقول المسيح : «إذا انطلقت أرسلته إليكم» معناه أني أرسله بدعاء ربي وطلبي منه أن يرسله ، كما يطلب الطالب من ولي الأمر ان يرسل رسولا أو يولي نائبا أو يعطي أحدا ، فيقول أنا أرسلت هذا ووليته وأعطيته. يعني أني كنت سببا في ذلك ، فإن الله سبحانه إذا قضى أن يكون الشيء فانه يقدر له أسبابا يكون بها ، ومن تلك الأسباب دعاء بعض عباده بان يفعل ذلك فيكون في ذلك من النعمة إجابة دعائه مضافا إلى نعمته بإيجاد ما قضى كونه ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد دعا به الخليل أبوه فقال : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ١٢٩] ، مع أن الله سبحانه قد قضى بإرساله وأعلن باسمه قبل ذلك ، كما قيل له : يا رسول الله : متى كنت نبيا؟ قال «وآدم بين الروح والجسد» وقال : «إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته» وهذا كما قضى الله سبحانه نصره يوم بدر ومن أسباب ذلك استعانته بربه ودعاؤه وابتهاله بالنصر ، وكذلك ما يقضيه من إنزال الغيث قد يجعله بسبب ابتهال عباده ودعائهم وتضرعهم إليه ، وكذلك ما يقضيه من مغفرة ورحمة وهداية ونصر قد يسبب له أدعية يحصل بها ممن ينال ذلك أو من غيره ، فلا يمتنع أن يكون المسيح سأل ربه بعد صعوده أن يرسل أخاه محمدا إلى العالم ، ويكون ذلك من أسباب الرسالة المضافة إلى دعوة أبيه إبراهيم ، لكن إبراهيم سأل ربه أن يرسله في الدنيا فلذلك ذكره الله

٧٩

سبحانه ، وأما المسيح فإنما سأله بعد رفعه وصعوده إلى السماء.

(فصل) وتأمل قول المسيح «إني لست أدعكم أيتاما لأني سآتيكم عن قريب» كيف هو مطابق لقول أخيه محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليهما «ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا ، وإماما مقسطا ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية» وأوصى أمته بأن «يقرئه السلام منه من لقيه منهم» وفي حديث آخر : «كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها»؟!

(فصل) وقد تقدم نص التوراة «تجلى الله من طور سينا ، واشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران» ، قال علماء الإسلام ـ وهذا لفظ أبي محمد بن قتيبة ـ ليس بهذا الخفاء على من تدبره ولا غموض لأن مجيء الله من طور سينا انزاله التوراة على موسى من طور سينا كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا ، وكذلك يجب أن يكون «إشراقه من ساعير» إنزاله الإنجيل على المسيح ، وكان المسيح من ساعير أرض الخليل بقرية تدعى ناصرة ، وباسمها تسمى من اتبع نصارى ، وكما وجب ان يكون اشراقه من ساعير بالمسيح فكذلك يجب ان يكون «استعلانه من جبال فاران» إنزاله القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجبال فاران هي جبال مكة ، قال : وليس بين المسلمين واهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة ، فان ادعوا أنها غير مكة فليس ينكر ذلك من تحريفهم وافكهم ، قلنا أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر واسماعيل فاران؟! وقلنا دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران ، والنبي الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح؟! أوليس استعلن وعلن بمعنى واحد ، وهما ظهر وانكشف فهل تعلمون دينا ظهر ظهور دين الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه؟! قال علماء الإسلام «وساعير» جبال بالشام منه ظهور نبوة المسيح ، وإلى جانبه قرية بيت لحم القرية التي ولد فيها المسيح تسمى اليوم «ساعير» ولها جبال تسمى ساعير ، وفي التوراة أن نسل العيص كانوا سكانا بساعير ، وامر الله موسى أن لا يؤذيهم. قال شيخ الإسلام : وعلى هذا فيكون قد ذكر الجبال الثلاثة «حراء» الذي ليس حول مكة أعلى منه ، وفيه ابتدئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بنزول الوحي عليه ، وحوله جبال كثيرة ، وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم ، والبرية

٨٠