هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٣٢

منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له؟ فزعمت أن لا وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب وسألته هل يزيدون أم ينقصون فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك هل قاتلتموه فزعمت أنكم قاتلتموه فيكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أن لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر ، وسألتك هل قال هذا القول احد قبله؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو قال هذا القول أحد من قبله قلت رجل ائتم بقول قيل قبله ثم قال : فبم يأمركم؟ قلت : يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف ، قال ان يكن ما تقول حقا انه لنبي ، وقد كنت أعلم انه خارج ولكن لم أكن أظنه منكم ، ولو أعلم أني أخلص إليه لا حببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأه ، فاذا فيه «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، اما بعد فاني أدعوك بدعاية الاسلام ، اسلم تسلم ، اسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وان توليت فان عليك إثم الاريسيين و (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٦٤] فلما قرأه وفرغ من قراء الكتاب ارتفعت الاصوات عنده وكثر اللغط ، وأمر بنا فأخرجنا ، ثم أذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ، ثم أمرا بابوابها فغلقت ، تم أطلع فقال : يا معشر الروم :! هل لكم في الفلاج والرشد وأن تثبت مملكتكم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت ، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الايمان قال ردوهم علي ، فقال اني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم ، فقد رأيت ، فسجدوا له ورضوا عنه. فهذا ملك الروم وكان من علمائهم أيضا عرف وأقر انه نبي وانه سيملك ما تحت قدميه وأحب الدخول في الاسلام فدعا قومه إليه فولوا عنه معرضين كانهم حمر مستنفرة فرت من قسورة فمنعه من الاسلام الخوف على ملكه ورئاسته ، ومنع أشباه الحمير ما منع الامم قبلهم.

ولما عرف «النجاشي ملك الحبشة» ان عباد الصليب لا يخرجون عن عبادة الصليب الى عبادة الله وحده اسلم سرا ، وكان يكتم اسلامه بينهم هو وأهل بيته

٤١

ولا يمكنه مجاهرتهم ذكر ابن إسحاق ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل إليه عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه مكانه يدعوه إلى الاسلام ، فقال له عمرو : يا أصحمة! عليّ القول وعليك الاستماع : إنك كانك في الرقة علينا منا وكانا في الثقة بك منك لانا لم نظن بك خيرا قط إلا نلناه ، ولم نخفك على شيء قط إلا أمناه ، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد وقاض لا يجور ، وفي ذلك موقع الحز وإصابة المفصل ، والا فانت في هذا النبي الامي كاليهود في عيسى ابن مريم ، وقد فرق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم له ، وأمنك على ما خافهم عليه لخبر سالف وأجر منتظر ، فقال النجاشي : أشهد بالله أنه للنبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب ، وان بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل ، وان العيان ليس باشفى من الخبر.

قال الواقدي : وكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله الى النجاشي ملك الحبشة : أسلم انت فاني أحمد أليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن ، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة ، حملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه ، كما خلق آدم بيده واني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وان تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فاني رسول الله أليك ، واني أدعوك وجنودك الى الله عزوجل ، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى».

فكتب إليه النجاشي : بسم الله الرحمن الرحيم ، الى محمد رسول الله ، من النجاشي أصحمة ، سلام عليك يا نبي الله من الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فلقد بلغني كتابك فيما ذكرت من أمر عيسى ، فو ربّ السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقا ، إنه كما ذكرت ، وقد عرفنا ما بعثنا به إلينا ، وقد قرّبنا ابن عمك واصحابه ، فاشهد انك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك واسلمت على يديه لله رب العالمين. «والتفروق» علامة تكون بين النواة والتمرة.

«فصل» وكذلك «ملك دين النصرانية بمصر» عرف أنه نبي صادق ، ولكن

٤٢

منعه من اتباعه ملكه وان عباد الصليب لا يتركون عبادة الصليب ، ونحن نسوق حديثه وقصته ، قال الواقدي كتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله الى المقوقس عظيم القبط ، سلام على من اتبع الهدى ، اما بعد فاني ادعوك بداعية الاسلام ، اسلم تسلم ، اسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فان توليت فان عليك اثم القبط (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٦٤] وختم الكتاب ، فخرج به حاطب حتى قدم عليه الاسكندرية ، فانتهى إلى حاجبه فلم يلبثه ان أوصل إليه كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال حاطب للمقوقس لما لقيه إنه قد كان قبلك رجل يزعم انه الرب الأعلى (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) [آل عمران : ٦٤] فانتقم به ثم انتقم منه ، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك غيرك ، قال : هات ، قال إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه وهو الاسلام الكافي به الله فقد ما سواه ، ان هذا النبي دعا الناس فكان اشدهم عليه قريش واعداهم له يهود واقربهم منه النصارى ، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى الا كبشارة عيسى بمحمد ، وما دعاؤنا اياك الى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة الى الإنجيل ، وكل نبي ادرك قوما فهم من امته ، فالحق عليهم ان يطيعوه ، فانت ممن ادرك هذا النبي ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به ، فقال المقوقس : إني قد نظرت في أمر هذا النبي فرأيته لا يأمر بمزهود به ولا ينهى عن مرغوب عنه ، اجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب ، ووجدت معه آلة النبوة من اخراج والاخبار بالنجوى ، ووصف لحاطب اشياء من صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : القبط لا يطاوعونني في اتباعه ، ولا أحب ان تعلم بمحاورتي اياك ، وانا اضن بملكي ان أفارقه ، وسيظهر على بلادي وينزل بساحتي هذه اصحابه من بعده ، فارجع الى صاحبك ، وأخذ كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه الى جارية له ، ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية ، فكتب : «بسم الله الرحمن الرحيم ، لمحمد بن عبد الله ، من المقوقس عظيم القبط ، سلام عليك ، أما بعد فقد قرأ كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ، وما تدعوا إليه وقد علمت ان نبيا بقي ، وكنت اظن انه يخرج بالشام ، وقد

٤٣

اكرمت رسولك وبعثت أليك بجاريتين لهما مكان في ال؟ بط عظيم ، وبكسوة وأهديت أليك بغلة لتركبها ، والسلام عليك ، ولم يزد : «والجاريتان» مارية ، وسيرين : «والبغلة» دلدل ، وبقيت الى زمن معاوية ، قال حاطب فذكرت قوله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «ضن الخبيث بملكه ، ولا بقاء لملكه».

(فصل) وكذلك «ابنا الجلندي ملكا عمان وما حولها» من ملوك النصارى اسلما طوعا واختيارا ، ونحن نذكر قصتهما وكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهما ، وهذا لفظه «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله الى حيفر وعبيد ابني الجلندي ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فاني أدعوكما بداعية الاسلام ، اسلما تسلما فاني رسول الله الى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ، وانكما ان اقررتما بالاسلام وليتكما مكانكما ، وان أبيتما ان تقوا بالاسلام فان ملككما زائل عنكما ، وخيلي تحل بساحتكما ، وتظهر نبوتي على ملككما ، وختم الكتاب وبعث به مع عمرو بن العاص ، قال عمرو : فخرجت حتى انتهيت الى عمان ، فلما قدمتها انتهيت الى عبيد وكان احلم الرجلين واسهلهما خلقا ، فقلت : اني رسول رسول الله إليك والى أخيك ، فقال أخي المقدم على بالسن والملك ، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك ، ثم قال لي : وما تدعو إليه ، قلت ادعوك الى الله وحده لا شريك له وتخلع ما عبد من دونه ، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله ، قال يا عمرو انك سيد قومك فكيف صنع أبوك فان لنا فيه قدوة؟ قلت مات ولم يؤمن بمحمد ووددت انه كان أسلم وصدق به ، وكنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للاسلام ، قال فمتى تبعته قلت قريبا ، فسألني أين كان اسلامي فقلت عند النجاشي واخبرته أن النجاشي قد أسلم ، قال فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت اقروه ، قال والاساقفة والرهبان؟ قلت نعم ، قال انظر يا عمرو ما تقول انه ليس خصلة في رجل افضح له من كذب ، قلت ما كذبت وما نستحله في ديننا ، ثم قال ما أرى هرقل علم باسلام النجاشي ، قلت بلى ، قال باي شيء علمت ذلك؟ قلت كان النجاشي يخرج له خراجا فلما اسلم وصدق بمحمد قال لا والله لو سألني درهما واحدا ما اعطيته ، فبلغ هرقل قوله فقال له نياق اخوه : أتدع عبدك لا يخرج لك خراجا ويدين دينا محدثا ، قال هرقل : رجل رغب في دين واختاره لنفسه ما أصنع به ، والله لو لا الضن بملكي

٤٤

لصنعت كما صنع ، قال انظر ما تقول يا عمرو؟ قلت والله لقد صدقتك ، قال عبد فاخبرني ما الذي يأمر به وينهى عنه؟ قلت يأمر بطاعة الله عزوجل وينهى عن معصيته ، ويأمر بالبر وصلة الرحم وينهى عن الظلم والعدوان ، وعن الزنا وشرب الخمر ، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب ، فقال ما أحسن هذا الذي يدعو إليه لو كان اخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ، ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير دينا ، قلت انه ان أسلم ملكه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قومه فاخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم ، قال ان هذا لخلق حسن ، وما الصدقة؟ فاخبرته بما فرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصدقات في الأموال حتى انتهيت الى الابل فقال يا عمرو ويؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه؟ فقلت نعم ، قال والله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عدده يطيعون بهذا ، قال فمكثت ببابه اياما وهو يصل الى أخيه فيخبره كل خبري ، ثم انه دعاني يوما فدخلت عليه فاخذ اعوانه بضبعي فقال دعوه فارسلت ، فذهبت لا جلس فابوا أن يدعوني أجلس ، فنظرت إليه فقال تكلم بحاجتك ، فدفعت إليه الكتاب مختوما ففض خاتمه فقرأه حتى انتهى الى آخره ، ثم دفعه الى أخيه فقرأه مثل قراءته الا اني رأيت أخاه ارق منه ، ثم قال : ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ فقلت اتبعوه اما راغب في الاسلام واما مقهور بالسيف ، قال ومن معه؟ قلت الناس قد رغبوا في الاسلام واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله اياهم انهم كانوا في ضلال ، فما أعلم أحدا بقي غيرك في هذه الحرجة ، وان أنت لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل ويبيد خضرائك ، فاسلم تسلم ويستعملك على قومك ولا تدخل عليك الخيل والرجال ، قال دعني يومي هذا وارجع إليّ غدا ، فرجعت الى أخيه فقال يا عمرو اني لأرجو أن يسلم ان لم يضن بملكه ، حتى اذا كان الغد أتيت إليه فابى أن يأذن لي فانصرفت الى أخيه فأخبرته اني لم أصل إليه فاوصلني إليه ، فقال اني فكرت فيما دعوتني إليه فاذا أنا أضعف العرب ان ملكت رجلا ما في يدي وهو لا يبلغ خيله هاهنا ، وان بلغت خيله ألفت قتالا ليس كقتال من لاقى ، قلت وأنا خارج غدا ، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه فقال ما نحن فيما قد ظهر عليه ، وكل من أرسل إليه قد أجابه ، فاصبح فارسل إليّ فاجاب الى الاسلام هو وأخوه جميعا

٤٥

وصدقا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم ، وكانا لي عونا على من خالفني.

(فصل) وكتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى هوادة بن علي الحنفي «صاحب اليمامة» بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله الى هوذة بن علي سلام على من اتبع الهدى ، واعلم أن ديني سيظهر الى منتهى الخف والحافر ، فاسلم تسلم أجعل لك ما تحت يدك ، وكان عنده اركون دمشق عظيم من عظماء النصارى فسأله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وقال قد جاءني كتابه يدعوني الى الاسلام فقال له الاركون لم لا تجيبه؟ فقال : ضننت بديني وأنا ملك قومي ان أتبعته لم أملك ، قال بلى والله لئن اتبعته ليملكنك وان الخيرة لك في اتباعه ، وانه للنبي العربي بشر به عيسى ابن مريم ، والله انه لمكتوب عندنا في الإنجيل.

(فصل) وذكر الواقدي ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث شجاع بن وهب الى «الحارث بن أبي شمر» وهو بغوطة دمشق ، فكتب إليه مرجعه من الحديبية «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله الى الحرث بن ابي شمر ، سلام على من اتبع الهدى وآمن به وصدق ، واني أدعوك الى ان تؤمن بالله وحده لا شريك له ، يبقى لك ملكك» وختم الكتاب ، فخرج به شجاع بن وهب ، قال فانتهيت الى حاجبه فاجده يومئذ وهو مشغول بتهيئة الانزال والالطاف لقيصر وهو جاء من حمص الى ايليا حيث كشف الله عنه جنود فارس شكرا لله عزوجل ، قال فاقمت على بابه يومين أو ثلاثة ، فقلت لحاجبه : إني رسول رسول الله إليه ، فقال حاجبه لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا ، وجعل حاجبه وكان روميا اسمه مرى يسألني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يدعو إليه فكنت أحدثه فيرق حتى يغلبه البكاء ، ويقول إني قرأت في الإنجيل وأجد صفة هذا النبي بعينه ، فكنت أراه يخرج بالشام فاراه قد خرج بارض العرب ، فانا أومن به وأصدقه وأنا أخاف من الحارث بن أبي شمر أن يقتلني ، قال شجاع فكان هذا الحاجب يكرمني ويحسن ضيافتي ، ويخبرني عن الحارث باليأس منه ، ويقول هو يخاف قيصر ، قال فخرج الحارث يوما وجلس فوضع التاج على رأسه فاذن لي عليه ، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأه ، وقال : من ينتزع مني ملكي؟! أنا سائر إليه ولو

٤٦

كان باليمن جئته ، عليّ بالناس ، فلم يزل جالسا يعرض حتى الليل ، وأمر بالخيل أن تنعل ، ثم قال اخبر صاحبك ما ترى ، وكتب الى قيصر يخبره خبري فصادف قيصر بايليا وعنده دحية الكلبي قد بعثه إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب إليه ان لا تسر إليه وأله عنه ووافني بايليا ، قال ورجع الكتاب وأنا مقيم فدعاني وقال متى تريد أن تخرج الى صاحبك؟ قلت غدا ، فأمر لي بمائة مثقال ذهبا ، ووصلني مرى بنفقة وكسوة ، وقال اقرأ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مني السلام واخبره اني متبع دينه ، قال شجاع فقدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاخبرته فقال «باد ملكه» واقرأته من مرى السلام وأخبرته بما قال فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صدق».

(فصل) ونحن انما ذكرنا بعض ملوك الطوائف الذين آمنوا به وأكابر علمائهم وعظمائهم ولا يمكننا حصر من عداهم وهم جمهور أهل الأرض ، ولم يتخلف عن متابعته الا الاقلون ، وهم : إما مسالم له قد رضي بالذلة والجزية والهوان ، وإما خائف منه فأهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلمون له ، ومسالمون له ، وخائفون منه.

ولو لم يسلم من اليهود في زمنه الا سيدهم على الاطلاق وابن سيدهم وعالمهم وابن عالمهم باعترافهم له بذلك وشهادتهم «عبد الله بن سلام» لكان في مقابلة كل يهودي على وجه الأرض فكيف وقد تابعه على الاسلام من الأحبار والرهبان من لا يحصى عددهم الا الله ، ونحن نذكر قصة عبد الله بن سلام ، فروى البخاري في صحيحه من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك ، قال أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى المدينة ، فقالوا جاء نبي الله ، فاستشرفوا ينظرون ، إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم منه ، فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها فجاء وهي معه ، فسمع من نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم رجع الى أهله ، فلما خلا نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء عبد الله بن سلام ، فقال أشهد انك نبي الله حقا وانك جئت بالحق ، ولقد علمت اليهود اني سيدهم وابن سيدهم واعلمهم وابن اعلمهم ، فاعدهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا اني قد اسلمت ، فانهم ان يعلموا اني قد اسلمت قالوا في ما ليس في ، فارسل نبي الله

٤٧

صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم فدخلوا عليه ، فقال لهم نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معشر اليهود ويلكم! اتقوا الله ، فو الله الذي لا إله الا هو انكم لتعلمون اني رسول الله حقا ، واني جئتكم بحق ، اسلموا» قالوا ما نعلمه فاعادها عليهم ثلاثا وهم يجيبونه كذلك ، قال : «أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟» قالوا ذاك سيدنا وابن سيدنا واعلمنا وابن اعلمنا ، قال «أفرأيتم ان أسلم»؟ قالوا حاش لله ما كان ليسلم ، فقال «يا ابن سلام اخرج عليهم» فخرج إليهم فقال : يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله! فو الله الذي لا إله الا هو انكم لتعلمون انه رسول الله حقا ، وانه جاء بالحق ، فقالوا كذبت ، فاخرجهم النبي وفي صحيح البخاري أيضا من حديث حميد عن أنس ، قال سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في أرض له ، فاتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن الا نبي ، ما أول اشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد الى أبيه أو الى أمه؟ قال «اخبرني بهن جبريل آنفا» قال : جبريل؟ قال : نعم» قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، قال «ثم» قرأ هذه الآية (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ٩٧]. أما أول اشراط الساعة فنار تخرج على الناس من المشرق في المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، واذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد الى ابيه. واذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد الى أمه» فقال اشهد ان لا إله الا الله وأشهد انك رسول الله إن اليهود قوم بهت ، وانهم ان يعلموا باسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني ، فجاءت اليهود إليه ، فقال : «أي رجل فيكم عبد الله بن سلام»؟ قالوا خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، قال : «أرأيتم ان أسلم عبد الله بن سلام» قالوا اعاذه الله من ذلك ، فخرج عبد الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمدا رسول الله ، قالوا : شرنا وابن شرنا. وانتقصوه ، قال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.

وقال ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر ، عن يحيى بن عبد الله ، عن رجل من آل عبد الله بن سلام ، قال كان من حديث عبد الله بن سلام حين أسلم وكان حبرا عالما قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفت صفته واسمه وهيأته والذي كنا نتوكف له ، فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ،

٤٨

فلما قدم نزل معنا في بني عمرو بن عوف ، فأقبل رجل حتى اخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها ، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة ، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كبرت ، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت قال : قلت لها أي عمة هو الله اخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به ، فقالت يا ابن أخي أهو النبي الذي كنا نبشر به انه يبعث مع نفس الساعة؟ قال قلت لها نعم ، قالت فذاك إذا ، قال ثم خرجت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسلمت ، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فاسلموا ، وكتمت إسلامي من اليهود ، ثم جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت ان اليهود قوم بهت واني أحب ان تدخلني في بعض بيوتك تغيبني عنهم ثم تسألهم عني كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا باسلامي! فانهم ان علموا بذلك بهتوني وعابوني ، قال فأدخلني بعض بيوته ، فدخلوا عليه فكلموه وسألوه ، فقال لهم «أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟» قالوا سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا ، قال فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم ، فقلت لهم يا معشر اليهود! اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به ، فو الله انكم لتعلمون انه رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة اسمه صفته ، فاني أشهد أنه رسول الله ، وأو من به واصدقه واعرفه ، قالوا كذبت ، ثم وقعوا في ، فقلت يا رسول الله ألم أخبرك انهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور؟! قال فاظهرت اسلامي وأسلم أهل بيتي ، واسلمت عمتي ابنة الحارث فحسن اسلامها وفي مسند الامام أحمد وغيره عنه قال لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وانجفل الناس قبله ، فقالوا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فجئت في الناس لأنظر الى وجهه ، فلما رأيت وجهه عرفت ان وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول شيء سمعته منه ان قال : «يا أيها الناس اطعموا الطعام ، وافشوا السلام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام». فعلماء القوم واحبارهم كلهم كانوا كما قال الله عزوجل (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] فمنهم من آثر الله ورسوله والدار الآخرة ، ومنهم من آثر الدنيا واطاع داعي الحسد والكبر.

وفي مغازي موسى بن عقبة عن الزهري ، قال كان بالمدينة مقدم رسول الله

٤٩

صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوثان تعبدها رجال من أهل المدينة لا يتركونها فاقبل عليهم قومهم وعلى تلك الاوثان فهدموها ، وعمد أبو ياسر بن اخطب اخو حيي بن اخطب وهو ابو صفية زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجلس الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ، فسمع منه وحادثه ، ثم رجع الى قومه وذلك قبل ان تصرف القبلة نحو المسجد الحرام فقال ابو ياسر : يا قوم اطيعوني فان الله عزوجل قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون ، فاتبعوه ولا تخالفوه ، فانطلق اخوه حيي حين سمع ذلك ـ وهو سيد اليهود يومئذ وهما من بني النضير ـ فاتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجلس إليه ـ وسمع منه ، فرجع الى قومه وكان فيهم مطاعا فقال أتيت من عند رجل والله لا ازال له عدوا ابدا ، فقال له اخوه ابو ياسر : يا ابن امي اطعني في هذا الامر ثم اعصني فيما شئت بعده لا تهلك ، قال لا والله لا اطيعك واستحوذ عليه الشيطان فاتبعه قومه على رأيه!

وذكر ابن اسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عمن حدثه عن صفية بنت حيي انها قالت : لم يكن من ولد ابي وعمي احد أحب إليهما مني لم ألقهما في ولد قط الا اخذاني دونه ، فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبا نزل في بني عمرو بن عوف ، فغدا إليه ابي وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين ، فو الله ما جاء الا مع مغيب الشمس ، فجاءا فاترين كسلين ساقطين يمشيان الهوينا ، فهششت إليهما كما كنت أصنع فو الله ما نظر الى واحد منهما ، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي أهو هو؟ قال نعم والله ، قال تعرفه بنعته وصفته؟ قال نعم والله ، قال فما ذا في نفسك منه؟ قال عداوته والله ما بقيت قال ابن اسحاق وحدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس ، قال لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسد بن شعبة وأسيد بن عبيد ومن أسلم من اليهود فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الاسلام قال من كفر من اليهود : ما آمن بمحمد ولا اتبعه الا شرارنا ، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا الى غيره ، فانزل الله عزوجل في ذلك (لَيْسُوا سَواءً ، مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ، يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران : ١١٣].

٥٠

[المذكور في كتبهم غالبا نعته وهو أبلغ من الاسم]

(فصل) قال السائل «مشهور عندكم في الكتاب والسنة ان نبيكم كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل لكنهم محوه عنهما لسبب الرئاسة والمأكلة ، والعقل يستشكل ذلك ، أفكلهم اتفقوا على محو اسمه من الكتب المنزلة من ربهم شرقا وغربا وجنوبا وشمالا؟! هذا أمر يستشكله العقل اعظم من نفيهم بألسنتهم لانه يمكن الرجوع عما قالوا بألسنتهم والرجوع عما محوا «ابعد» والجواب ان هذا السؤال مبني على فهم فاسد ، وهو ان المسلمين يعتقدون ان اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصريح وهو محمد بالعربية مذكور في التوراة والإنجيل وهما الكتابان المتضمنان لشريعتين وان المسلمين يعتقدون ان اليهود والنصارى في جميع اقطار الارض محوا ذلك الاسم واسقطوه جملة من الكتابين وتواصوا بذلك بعدا وقربا وشرقا وغربا ، وهذا لم يقله عالم من علماء المسلمين ، ولا أخبر الله سبحانه به في كتابه عنهم ، ولا رسوله ولا بكتهم به يوما من الدهر ، ولا قاله أحد من الصحابة ولا الائمة بعدهم ، ولا علماء التفسير ، ولا المعتنون بأخبار الامم وتواريخهم ، وان قدر أنه قاله بعض عوام المسلمين يقصد به نصر الرسول فقد قيل : يضر الصديق الجاهل أكثر مما يضر العدو العاقل. وانما أتي هؤلاء من قلة فهم القرآن ، وظنوا أن قوله تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) [الأعراف : ١٥٧]. دل على الاسم الخاص بالعربية في التوراة والإنجيل المخصوصين وان ذلك لم يوجد البتة ، فهذه ثلاث مقامات :

أما المقام الأول : فالرب سبحانه انما أخبر عن كون رسوله مكتوبا عندهم أي الاخبار عنه وصفته ومخرجه ونعته ، ولم يخبر بأن صريح اسمه العربي مذكور عندهم في التوراة والإنجيل ، وهذا واقع في الكتابين كما سنذكر ألفاظهما ان شاء الله ، وهذا أبلغ من ذكره بمجرد اسمه ، فان الاشتراك قد يقع في الاسم فلا يحصل التعريف والتمييز ، ولا يشاء أحد يسمى بهذا الاسم أن يدعي انه هو الا فعل ، اذ الحوالة انما وقعت على مجرد الاسم ، وهذا لا يحصل به بيان ولا تعريف ولا هدى ، بخلاف ذكره بنعته وصفته وعلاماته ودعوته وصفة أمته ووقت

٥١

مخرجه ونحو ذلك فان هذا يعينه ويميزه ويحصر نوعه في شخصه ، وهذا القدر مذكور في التوراة والإنجيل وغيرهما من النبوات التي بأيدي أهل الكتاب كما سنذكرها ، ويدل عليه وجوه :

«الوجه الأول» أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان احرص الناس على تصديقه واتباعه واقامة الحجة على من خالفه وجحد نبوته ، ولا سيما أهل العلم والكتاب ، فان الاستدلال عليهم بما يعلمون بطلانه قطعا لا يفعله عاقل ، وهو بمنزلة من يقول لرجل علامة صدقي انك فلان ابن فلان وصنعتك كيت وكيت وتعرف بكيت وكيت ولم يكن الامر كذلك بل بضده ، فهذا لا يصدر ممن له مسكة عقل ، ولا يصدقه أحد على ذلك ، ولا يتبعه أحد على ذلك ، بل ينفر العقلاء كلهم عن تصديقه واتباعه ، والعادة تحيل سكوتهم عن الطعن عليه والرد والتهجين لقوله ، ومن المعلوم بالضرورة أن محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه نادى معلنا في هاتين الامتين اللتين هما أعلم الامم في الأرض قبل مبعثه بأن ذكره ونعته وصفته بعينه عندهم في كتبهم ، وهو يتلو ذلك عليهم ليلا ونهارا وسرا وجهارا في كل مجمع وفي كل ناد يدعوهم بذلك الى تصديقه والايمان به فمنهم من يصدق ويؤمن به ، ويخبر بما في كتبهم من نعته وصفته وذكره كما سيمر بك ان شاء الله ، وغاية المكذب الجاحد أن يقول هذا النعت والوصف حق ولكن لست أنت المراد به بل نبي آخر ، وهذا غاية ما يمكنه من المكابرة ، ولم تجد عليه هذه المكابرة الا كشفه عورته وابدائه الفضيحة بالكذب والبهتان ، فالصفات والنعوت والعلامات المذكورة عندهم منطبقة عليه حذو القذة بالقذة بحيث لا يشك من عرفها وراه أنه هو كما عرفه قيصر وسلمان بتلك العلامات المذكورات التي كانت عنده من بعض علمائه وكذلك هرقل عرف نبوته بما وصف له من لعلامات التي سأل عنها أبا سفيان فطابقت ما عنده ، فقال : ان يكن ما تقول حقا كانه نبي وسيملك ما تحت قدمي هاتين ، وكذلك من قدمنا ذكرهم من الاحبار والرهبان الذين عرفوه بنعته وصفته كما يعرفون أبناءهم قال تعالى (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٤٦]. وقال في موضع آخر : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ ، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ٢]

٥٢

ومعلوم أن هذه المعرفة انما هي بالنعت والصفة المكتوبة عندهم التي هي منطبقة عليه ، كما قال بعض المؤمنين منهم : والله لأحدنا اعرف به من ابنه ، ان احدنا ليخرج من عند امرأته وما يدري ما يحدث بعده. ولهذا أثنى الله سبحانه على من عرف الحق منهم ولم يستكبر عن اتباعه فقال (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ، ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [المائدة : ٨٢] (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة : ٨٣] (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ ، وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) [المائدة : ٨٤] (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة : ٨٥] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) [المائدة : ٨٦]. قال ابن عباس لما حضر اصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين يدي النجاشي وقرءوا القرآن سمع ذلك القسيسون والرهبان فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق ، فقال الله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [المائدة : ٨٢] الآيات. وقال سعيد بن جبير بعث النجاشي من خيار أصحابه ثمانين رجلا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ عليهم القرآن فبكوا ورقوا ، وقالوا نعرف والله ، فاسلموا وذهبوا الى النجاشي فاخبروه فاسلم ، فأنزل الله فيهم (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) [المائدة : ٨٣] الآيات ، وقال السدي كانوا اثني عشر رجلا سبعة من القسيسين وخمسة من الرهبان فلما قرأ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن بكوا وقالوا (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران : ٥٣] قال ابن عباس هم محمد وأمته ، وهم القوم الصالحون الذين طمعوا ان يدخلهم الله فيهم ، والمقصود ان هؤلاء الذين عرفوا انه رسول الله بالنعت الذي عندهم فلم يملكوا أعينهم من البكاء وقلوبهم من المبادرة الى الايمان ، ونظير هذا قوله سبحانه (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) [الاسراء : ١٠٧] (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) [الاسراء : ١٠٨] (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ

٥٣

خُشُوعاً) [الاسراء : ١٠٩] قال امام التفسير مجاهد : هم قوم من أهل الكتاب لما سمعوا القرآن خروا سجدا وقالوا (سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) [الاسراء : ١٠٨] كان الله عزوجل وعد على ألسنة انبيائه ورسله ان يبعث في آخر الزمان نبيا عظيم الشأن يظهر دينه على الدين كله ، وتنتشر دعوته في اقطار الارض ، وعلى رأس أمته تقوم الساعة ، واهل الكتابين مجمعون على ان الله وعدهم بهذا النبي ، فالسعداء منهم عرفوا الحق فآمنوا به واتبعوه ، والاشقياء قالوا نحن ننتظره ولم يبعث بعد رسولا ، فالسعداء لما سمعوا القرآن من الرسول عرفوا انه النبي الموعود به فخروا سجدا لله ايمانا به وبرسوله وتصديقا بوعده الذي انجزه فرأوه عيانا فقالوا (سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) [الاسراء : ١٠٨].

وذكر يونس بن بكير عن سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده قال يونس وكان نصرانيا فاسلم ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب الى أهل نجران : «بسم إله ابراهيم واسحاق ويعقوب ، من محمد النبي رسول الله الى اسقف نجران واهل نجران (سلم انتم) اني أحمد إليكم إله ابراهيم وإسحاق ويعقوب ، اما بعد فاني ادعوكم الى عبادة الله من عبادة العباد ، وادعوكم الى ولاية الله من ولاية العباد ، فان ابيتم فالجزية ، فان ابيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام» فلما اتي الاسقف الكتاب فقرأه فظع به وذعره ذعرا شديدا فبعث الى رجل من أهل عمان يقال له شرحبيل ابن وداعة وكان من همدان ولم يكن احد يدعى الى معضلة قبله فدفع الاسقف كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى شرحبيل فقرأه فقال الأسقف ما رأيك يا أبا مريم؟ فقال شرحبيل قد علمت ما وعد الله ابراهيم في ذرية اسماعيل من النبوة فما نأمن من أن يكون هذا هو ذاك الرجل ، ليس لي في النبوة رأي ، لو كان من أمر الدنيا اشرت عليك فيه برأي وجهدت لك. فقال الاسقف تنح فاجلس ، فتنحي فجلس ناحية ، فبعث الاسقف الى رجل من اهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي اصبح من حمير فاقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه ، فقال له مثل قول شرحبيل ، فأمره الاسقف فتنحى ، ثم بعث الى رجل من اهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب فاقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه ، فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله ، فامره الاسقف فتنحى ناحية ، فلما

٥٤

اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا امر الاسقف بالناقوس فضرب به ورفعت المسوح بالصوامع ، وكذلك كانوا يفعلون اذا فزعوا بالنهار ، واذا كان فزعهم ليلا ضرب بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع ، فاجتمع اهل الوادي اعلاه واسفله وطوله مسيرة يوم للراكب السريع وفيه ثلاثة وسبعون قرية وعشرون ومائة الف مقاتل ، فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسألهم عن الرأي فيه ، فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على ان يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض فيأتونه بخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانطلق الوفد حتى اذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة وخواتيم الذهب ، ثم انطلقوا حتى اتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسلموا عليه فلم يرد عليهم‌السلام ، وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب ، فانطلقوا يبتغون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكانا معرفة لهم كانا يبعثان العير الى نجران في الجاهلية فيشترى لهما من برها وثمرها فوجدوهما في ناس من المهاجرين والانصار في مجلس ، فقالوا : يا عثمان ويا عبد الرحمن ان نبيكم كتب إلينا بكتاب فاقبلنا مجيبين له فاتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا ، فتصدينا لكلامه نهارا طويلا فاعيانا ان يكلمنا ، فما الرأي منكما أنعود ، أم نرجع إليه؟ فقالا لعلي بن ابي طالب وهو في القوم ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ فقال : علي لعثمان وعبد الرحمن أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودون إليه ، ففعل وفد نجران ذلك وضعوا حللهم وخواتيمهم ، ثم عادوا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلموا عليه فرد عليهم سلامهم ، ثم قال : «والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وان ابليس لمعهم» ثم سألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له : ما تقول في عيسى فانا نحب أن نعلم ما تقول فيه ، فانزل الله عزوجل (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [آل عمران : ٦٠] (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران : ٦١] (فأبوا أن يقروا بذلك ، فلما أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر اقبل

٥٥

مشتملا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره الى الملاعنة وله يومئذ عدة نسوة ، فقال شرحبيل لصاحبيه يا عبد الله بن شرحبيل ويا جبار بن فيض لقد علمتما ان الوادي اذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا الا عن رأيي ، واني والله أرى أمرا مقبلا ، والله لئن كان هذا الرجل ملكا مبعوثا فكنا أول العرب طعن في عينه ورد عليه أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور قومه حتى يصيبنا بجائحة ، وإنا لأدنى العرب منهم جوارا ، ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلا عناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر الا هلك ، فقال له صاحباه فما الرأي يا أبا مريم؟ فقد وضعتك الامور على ذراع فهات رأيك فقال رأيي أن أحكّمه ، فاني ارى الرجل لا يحكم شططا ابدا ، فقالا له أنت وذاك ، فلقى شرحبيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال اني قد رأيت خيرا من ملاعنتك ، فقال «وما هو» قال شرحبيل حكمتك اليوم الى الليل وليلتك الى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعل وراءك احدا يثرب عليك» فقال له شرحبيل سل صاحبي فسألهما فقالا ما نرد الموارد ولا نصدر المصادر الا عن رأي شرحبيل ، فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يلاعنهم ، حتى اذا كان الغد اتوه فكتب لهم كتاب صلح وموادعة ، فقبضوا كتابهم وانصرفوا الى نجران ، فتلقاهم الأسقف ووجوه نجران على مسيرة ليلة من نجران ، ومع الأسقف اخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له ابو علقمة ، فدفع الوفد كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى الاسقف ، فبينا هو يقرؤه وابو علقمة معه وهما يسيران اذ كبت بابي علقمة ناقته فتعس غير انه لا يكنى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له الأسقف عند ذلك قد والله تعست نبيا مرسلا فقال له ابو علقمة لا جرم والله لا أحل عنها عقدا حتى آتيه ، فضرب وجه ناقته نحو المدينة وثنى الاسقف ناقته عليه ، فقال له افهم عني ، انما قلت هذا مخافة ان يبلغ عني العرب انا أخذنا حمقة او نجعنا لهذا الرجل بما لم تنجع به العرب ونحن اعزهم واجمعهم دارا ، فقال له ابو علقمة والله لا اقيلك ما خرج من رأسك ابدا ، ثم ضرب ناقته يقول :

أليك تعدوا قلقا وضينها

معترضا في بطنها جنينها

مخالفا دين النصارى دينها

٥٦

حتى اتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يزل معه حتى استشهد بعد ذلك.

[اثنا عشر وجها تدل على أنه مذكور في الكتب المنزلة]

واذا عرف هذا فالعلم بانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذكور في الكتب المتقدمة يعرف من وجوه متعددة «احدها» اخبار من قد ثبتت نبوته قطعا بانه مذكور عندهم في كتبهم ، فقد اخبر به من قام الدليل القطعي على صدقه فيجب تصديقه فيه ، اذ تكذيبه والحالة هذه ممتنع لذاته ، هذا لو لم يعلم ذلك الا من مجرد خبره فكيف اذا تطابقت الادلة على صحة ما أخبر به «الوجه الثاني» انه جعل الاخبار به من أعظم أدلة صدقه وصحة نبوته ، وهذا يستحيل أن يصدر الا من واثق كل الوثوق بذلك وانه على يقين جازم به «الثالث» ان المؤمنين به من الأحبار والرهبان الذين آثروا الحق على الباطل صدقوه في ذلك وشهدوا له بما قال. «الرابع» ان المكذبين والجاحدين لنبوته لم يمكنهم انكار البشارة والاخبار بنبوة نبي عظيم الشأن صفته كذا وكذا وصفة أمته ومخرجه وشأنه ، لكن جحدوا أن يكون هو الذي وقعت به البشارة وانه نبي آخر غيره ، وعلموا هم والمؤمنون به من قومهم انهم ركبوا متن المكابرة وامتطوا غارب البهت. «الخامس» ان كثيرا منهم صرح لخاصته وبطانته بانه هو هو بعينه ، وانه عازم على عداوته ما بقى ، كما تقدم «السادس» ان إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بانه مذكور في كتبهم هو فرد من أفراد اخباراته بما عندهم في كتبهم من شأن أنبيائهم وقومهم وما جرى لهم وقصص الأنبياء المتقدمين وأممهم وشأن المبدأ والمعاد وغير ذلك مما أخبرت به الأنبياء ، وكل ذلك مما يعلمون صدقه فيه ومطابقته لما عندهم ، وتلك الاخبارات أكثر من أن تحصى ، ولم يكذبوه يوما واحدا في شيء ، منها ، وكانوا أحرى شيء على أن يظفروا منه بكذبة واحدة أو غلطة أو سهو فينادون بها عليه ويجدون بها السبيل الى تنفير الناس عنه ، فلم يقل أحد منهم يوما من الدهر انه أخبر بكذا وكذا في كتبنا وهو كاذب فيه بل كانوا يصدقونه في ذلك وهم مصرون على عدم اتباعه ، وهذا من أعظم الادلة على صدقه فيما أخبر به لو لم يعلم الا بمجرد خبره «السابع» انه أخبر بهذا لا عدائه من المشركين الذين لا كتاب عندهم وأخبر به لا عدائه من أهل الكتاب وأخبر به لاتباعه ، فلو كان هذا باطلا لا صحة له لكان ذلك تسليطا للمشركين أن يسألوا

٥٧

أهل الكتاب فينكرون ذلك وتسليطا لأهل الكتاب على الإنكار وتسليطا لاتباعه على الرجوع عنه والتكذيب له بعد تصديقه ، وذلك ينقض الغرض المقصود باخباره من كل وجه ، وهو بمنزلة رجل يخبر بما يشهد بكذبه ويجعل إخباره دليلا على صدقه ، وهذا لا يصدر من عاقل ولا مجنون. فهذه الوجوه يعلم بها صدق ما أخبر به وان لم يعلم وجوده من غير جهة أخباره ، فكيف وقد علم وجود ما أخبر به؟! «الثامن» انه لو قدر انهم لم يعلموا بشارة الأنبياء به واختبارهم بنعته وصفته لم يلزم أن لا يكونوا ذكروه وأخبروا به وبشروا بنبوته؟ اذ ليس كل ما قاله الأنبياء المتقدمون وصل الى المتأخرين وأحاطوا به علما وهذا مما يعلم بالاضطرار ، فكم من قول قد قاله موسى وعيسى ولا علم لليهود والنصارى به ، فاذا أخبر به من قام الدليل القطعي على صدقه لم يكن جهلهم به موجبا لرده وتكذيبه «التاسع» انه يمكن ان يكون في نسخ غير هذا النسخ التي بايديهم فازيل من بعضها ونسخت هذه مما أزيل منه.

[تخالف نسخ التوراة والإنجيل وتناقضها]

[الأناجيل تواريخ]

وقولهم «ان نسخ التوراة متفقة في شرق الأرض وغربها» كذب ظاهر ، فهذه التوراة التي بايدي النصارى تخالف التوراة التي بايدي اليهود ، والتي بايدي السامرة تخالف هذه وهذه ، وهذه نسخ الإنجيل. يخالف بعضها بعضا ويناقضه ، فدعواهم : أن نسخ التوراة والإنجيل متفقة شرقا وغربا من البهت والكذب الذي يروجونه على أشباه الانعام ، حتى ان هذه التوراة التي بايدي اليهود فيها من الزيادة والتحريف والنقصان ما لا يخفى على الراسخين في العلم ، وهم يعلمون قطعا ان ذلك ليس في التوراة التي أنزلها الله على موسى ولا في الإنجيل الذي أنزله على المسيح ، وكيف يكون في الإنجيل الذي أنزل على المسيح «قصة صلبه» وما جرى له ، وانه أصابه كذا وكذا ، وصلب يوم كذا وكذا ، وانه قام من القبر بعد ثلاث ، وغير ذلك مما هو من كلام شيوخ النصارى ، وغايته أن يكون من كلام الحواريين خلطوه بالانجيل وسموا الجميع انجيلا ، وكذلك كانت «الأناجيل عندهم أربعة» يخالف بعضها بعضا. ومن بهتهم وكذبهم قولهم : ان

٥٨

التوراة التي بايديهم وأيدي اليهود والسامرة سواء والنصارى لا يقرون ان الإنجيل منزل من عند الله على المسيح وانه كلام الله ، بل كل فرقهم مجمعون على أنها أربعة تواريخ ألفها أربعة رجال معروفون في أزمان مختلفة ولا يعرفون الإنجيل غير هذا : «انجيل» الفه متى تلميذ المسيح بعد تسع سنين من رفع المسيح وكتب بالعبرانية في بلد يهود بالشام وانجيل ألفه مرقس الهاروني تلميذ شمعون بعد ثلاث وعشرين سنة من رفع المسيح ، وكتبه باليونانية في بلاد انطاكية من بلاد الروم ، ويقولون ان شمعون المذكور هو ألفه ثم محى اسمه من اوله ونسب الى تلميذه مرقس «وانجيل» ألفه لوقا الطبيب الانطاكي تلميذ شمعون بعد تأليف مرقس. «وانجيل» ألفه يوحنا تلميذ المسيح بعد ما رفع المسيح ببضع وستين سنة ، كتبه باليونانية ، وكل واحد من هذه الأربعة يسمونه الإنجيل ، وبينها من التفاوت والزيادة والنقصان ما يعلمه الواقف عليها ، وبين توراة السامرة واليهود والنصارى من ذلك ما يعلمه من وقف عليها ، فدعوى الكاذب الباهت «ان نسخ التوراة والإنجيل متفقة شرقا وغربا بعدا وقربا» من أعظم الفرية والكذب ، وقد ذكر غير واحد من علماء الاسلام ما بينها من التفاوت والزيادة والنقصان والتناقض لمن أراد الوقوف عليه (١) ولو لا الاطالة وقصد ما هو أهم منه لذكرنا منه طرفا كبيرا.

[جمعهم بين التحريف والكتمان ... لنعت الرسول]

وقد وبخهم الله سبحانه وبكتهم على لسان رسوله بالتحريف والكتمان والاخفاء ، فقال تعالى (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران : ٧١] وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة : ١٥٩] وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَلا يُزَكِّيهِمْ ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [البقرة : ١٧٤] وقال

__________________

(١) وأقرأ ما كتبه شيخ الإسلام في «كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» في ذلك.

٥٩

تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١٥] (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة : ١٦].

وأما التحريف» فقد أخبر سبحانه عنهم في مواضع متعددة ، وكذلك لي اللسان بالكتاب ليحسبه السامع منه وما هو منه. فهذه خمسة أمور «أحدها» لبس الحق بالباطل وهو خلطه به بحيث لا يتميز الحق من الباطل! «الثاني» كتمان الحق «الثالث» اخفاؤه وهو قريب من كتمانه : «الرابع» تحريف الكلم عن مواضعه ، وهو نوعان تحريف لفظه وتحريف معناه «الخامس» لي اللسان به ليلبس على السامع اللفظ المنزل بغيره وهذه الامور انما ارتكبوها لاغراض لهم دعتهم الى ذلك. فاذا عادوا الرسول وجحدوا نبوته وكذبوه وقاتلوه فهم الى أن يجحدوا نعته وصفته ويكتموا ذلك ويزيلوه عن مواضعه ويتأولوه على غير تأويله أقرب بكثير ، وهكذا فعلوا ، ولكن لكثرة البشارات وتنوعها غابوا عن كتمانها وإخفائها فصاروا الى «تحريف التأويل» وإزالة معناها عمن لا تصلح لغيره ، وجعلها لمعدوم لم يخلقه الله ولا وجود له البتة.

(العاشر) انه استشهد على صحة نبوته بعلماء أهل الكتاب ، وقد شهد له عدولهم فلا يقدح جحد الكفرة الكاذبين المعاندين بعد ذلك ، قال تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) [الرعد : ٤٣] وقال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأحقاف : ١٠] وقال تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [آل عمران : ١٩٩] وقال تعالى (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [المائدة : ٨٢] (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ

٦٠