هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٣٢

[الأنعام : ٩١] ، ولا سيما على قراءة من قرأ بتاء الخطاب؟ وهل ذلك صالح لغير اليهود؟ فانهم كانوا يخفون من الكتاب ما لا يوافق أهواءهم وأغراضهم ، ويبدون منه ما سواه ، فاحتج عليهم بما يقرون به من كتاب موسى ، ثم وبخهم بأنهم خانوا الله ورسوله فيه ، فأخفوا بعضه وأظهروا بعضه ، وهذا استطراد من ذكر جحدهم النبوة بالكلية ، وذلك إخفاء لها وكتمان إلى جحد ما أقروا به كتابهم بإخفائه وكتمانه ، فتلك سجية لهم معروفة لا تنكر ، إذ من أخفى بعض كتابه الذي يقر بأنه من عند الله ، كيف لا يجحد أصل النبوة؟! ثم احتج عليهم ، بأنهم قد علموا بالوحي ما لم يكونوا يعلمونه هم ولا آباؤهم ، ولو لا الوحي الذي أنزله على أنبيائه ورسله لم يصلوا إليه ، ثم أمر رسوله أن يجيب عن هذا السؤال ، وهو قوله : (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) [الأنعام : ٩١] ، فقال (قُلِ اللهُ) : أي الله الذي أنزله ، أي إن كفروا به وجحدوه فصدق به أنت وأقربه : (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)؟ [الأنعام : ٩١] ، جواب هذا السؤال أن يقال : أن الله سبحانه احتج عليهم بما يقر به أهل الكتابين وهم أولو العلم دون الأمم التي لا كتاب لها ، أي إن جحدتم أصل النبوة وأن يكون الله أنزل على بشر شيئا فهذا كتاب موسى تقر به أهل الكتاب وهم أعلى منكم فاسألوهم عنه ، ونظائر هذا في القرآن كثيرة يستشهد سبحانه بأهل الكتاب على منكري النبوات والتوحيد ، والمعنى إنكم إن أنكرتم أن يكون الله أنزل على بشر شيئا فمن أنزل كتاب موسى؟ فإن لم تعلموا ذلك فاسألوا أهل الكتاب ؛ وأما قوله تعالى : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [الأنعام : ٩١] ، فمن قرأها بالياء فهو إخبار عن اليهود بلفظ الغيبة ، ومن قرأها بلفظ التاء للخطاب فهو خطاب لهذا الجنس الذي فعلوا ذلك أي تجعلونه يا من أنزل عليه كذلك ، وهذا من أعلام نبوته أن يخبر أهل الكتاب بما اعتمدوه في كتابهم ، وأنهم جعلوه قراطيس وابدوا بعضه واخفوا كثيرا منه ، وهذا لا يعلم من غير جهتهم إلا بوحي من الله ، ولا يلزم أن يكون قوله : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) [الأنعام : ٩١] ، خطابا لمن حكى عنهم أنهم قالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] ، بل هذا استطراد من الشيء إلى نظيره وشبهه ولازمه ، وله نظائر في القرآن كثيرة كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ،

٢٢١

ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) [المؤمنون : ١٢] ، إلى آخر الآية ، فاستطرد من الشخص المخلوق من الطين وهو آدم إلى النوع المخلوق من النطفة وهم أولاده ، واوقع الضمير على الجميع بلفظ واحد ، ومثله قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها ، فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما ، فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الأعراف : ١٨٩ ـ ١٩٠] ، إلى آخر الآيات ، ويشبه هذا قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ ، وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) [الزخرف : ٩ ـ ١٠ ـ ١١ ـ ١٢ ـ ١٣] ، إلى آخر الآيات ، وعلى التقديرين فهؤلاء لم يتم لهم إنكار نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومكابرتهم إلا بهذا الجحد والتكذيب العام ، ورأوا أنهم إن اقروا ببعض النبوات وجحدوا نبوته ظهر تناقضهم وتفريقهم بين المتماثلين ، وأنهم لا يمكنهم الإيمان بنبي وجحد نبوة من نبوته أظهر وآياتها أكثر واعظم ممن أقروا به. واخبر سبحانه أن من جحد أن يكون قد أرسل رسله وأنزل كتبه لم يقدره حق قدرة ، وأنه نسبه إلى ما لا يليق به بل يتعالى ويتنزه عنه ، فإن في ذلك إنكار دينه وإلهيته وملكه وحكمته ورحمته ، والظن السيئ به أنه خلق خلقه عبثا باطلا ، وأنه خلاهم سدا مهملا وهذا ينافي كماله المقدس وهو متعال عن كل ما ينافي كماله ، فمن أنكر كلامه وتكليمه وإرساله الرسل إلى خلقه فما قدره حق قدره ، ولا عرفه حق معرفته ، ولا عظمه حق عظمته ، كما أن من عبد معه إلها غيره لم يقدره حق قدره معطل جاحد لصفات كماله. ونعوت جلاله وإرسال رسله وإنزال كتبه ، ولا عظمه حق عظمته.

٢٢٢

[إنكار النبوات معناه جحد الخالق والجهل بالحقائق]

[وما وقع للفلاسفة والمجوس والنصارى واليهود من ذلك]

ولذلك كان جحد نبوة خاتم أنبيائه ورسله وإنزال كتبه وتكذيبه إنكارا للرب تعالى في الحقيقة وجحودا له ، فلا يمكن الإقرار بربوبيته وإلهيته وملكه بل ولا بوجوده مع تكذيب محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أشرنا إلى ذلك في المناظرة التي تقدمت ، فلا يجامع الكفر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإقرار بالرب تعالى وصفاته أصلا ، كما لا يجامع الكفر بالمعاد واليوم الآخر الإقرار بوجود الصانع أصلا. وقد ذكر سبحانه ذلك في موضعين من كتابه في سورة الرعد في قوله : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) [الرعد : ٥] ، والثاني في سورة الكهف في قوله تعالى : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ ، وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ، قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ، لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) [الكهف : ٣٥ ـ ٣٦ ـ ٣٧ ـ ٣٨] ، فالرسول صلوات الله وسلامه عليه إنما جاء بتعريف الرب تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله والتعريف بحقوقه على عباده ، فمن أنكر رسالاته فقد أنكر الرب الذي دعا إليه وحقوقه التي أمر بها ، بل نقول لا يمكن الاعتراف بالحقائق على ما هي عليه مع تكذيب رسوله ، وهذا ظاهر جدا لمن تأمل مقالات أهل الأرض وأديانهم.

فإن «الفلاسفة» لم يمكنهم الاعتراف بالملائكة والجن والمبدأ والمعاد وتفاصيل صفات الرب تعالى وأفعاله مع إنكار النبوات ؛ بل والحقائق المشاهدة التي لا يمكن إنكارها لم يثبتوها على ما هي عليه ولا أثبتوا حقيقة واحدة على ما هي عليه البتة ، وهذا ثمرة إنكارهم النبوات فسلبهم الله إدراك الحقائق التي زعموا أن عقولهم كافية في إدراكها ، فلم يدركوا منها شيئا على ما هو عليه ، حتى ولا الماء ولا الهواء ولا الشمس ولا غيرها. فمن تأمل مذاهبهم فيها علم أنهم لم يدركوها وان عرفوا من ذلك بعض ما خفي على غيرهم. وأما «المجوس» فأضل وأضل. وأما «عباد الأصنام». فلا عرفوا الخالق ولا

٢٢٣

عرفوا حقيقة المخلوقات ، ولا ميزوا بين الشياطين والملائكة وبين الأرواح الطيبة والخبيثة ، وبين أحسن الحسن وأقبح القبيح ، ولا عرفوا كمال النفس وما تسعد به ونقصها وما تشقى به.

وأما «النصارى» فقد عرفت ما الذي أدركوه من معبودهم وما وصفوه به وما الذي قالوه في نبيهم ، وكيف لم يدركوا حقيقته البتة ، ووصفوا الله بما هو من اعظم العيوب والنقائص ، ووصفوا عبده ورسوله بما ليس له بوجه من الوجوه ، وما عرفوا الله ولا رسوله ، والمعاد الذي اقروا به لم يدركوا حقيقته ولم يؤمنوا بما جاءت به الرسل من حقيقته ، إذ لا أكل عندهم في الجنة ولا شرب ولا زوجة هناك ولا حور عين يلذ بهن الرجال كذاتهم في الدنيا ، ولا عرفوا حقيقة أنفسهم وما تسعد به وتشقى ، ومن لم يعرف ذلك فهو أجدر أن لا يعرف حقيقة شيء كما ينبغي البتة ، فلا لأنفسهم عرفوا ولا لفاطرها وبارئها ، ولا لمن جعله الله سببا في فلاحها وسعادتها ، ولا للموجودات وأنها جميعها فقيرة مربوبة مصنوعة ناطقها وصامتها آدميها وجنيها وملكها ، فكل من في السموات عبده وملكه ، وهو مخلوق مصنوع مربوب فقير من كل وجه ، ومن لم يعرف هذا لم يعرف شيئا.

[غباوة اليهود ونقضهم للعهود وتحريفهم وحسدهم .. هو الغاية]

[اليهود قتلة الأنبياء ، وأكلة الربا والمنفردون بغاية الخبث والبهت ...]

وأما «اليهود» فقد حكى الله لك عن جهل أسلافهم وغباوتهم وضلالهم ما يدل على ما وراءه من ظلمات الجهل التي بعضها فوق بعض ، ويكفي في ذلك عبادتهم العجل الذي صنعته أيديهم من ذهب ، ومن عبادتهم أن جعلوه على صورة أبلد الحيوان وأقله فطانة الذي يضرب المثل به في قلة الفهم ، فانظر إلى هذه الجهالة والغباوة المتجاورة للحد كيف عبدوا مع الله إلها آخر وقد شاهدوا من أدلة التوحيد وعظمة الرب وجلاله ما لم يشاهده سواهم؟! وإذا قد عزموا على اتخاذ إله دون الله فاتخذوه ونبيهم حي بين اظهرهم لم ينتظروا موته! وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الملائكة المقربين ولا من الأحياء الناطقين بل اتخذوه من الجمادات! وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر العلوية كالشمس والقمر والنجوم بل من الجواهر الأرضية! وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر التي

٢٢٤

خلقت فوق الأرض عالية عليها كالجبال ونحوها بل من جواهر لا تكون إلا تحت الأرض والصخور والأحجار عالية عليها! وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من جوهر يستغني عن الصناعة وإدخال النار وتقليبه وجوها مختلفة وضربه بالحديد وسبكه بل من جوهر يحتاج إلى نيل الأيدي له بضروب مختلفة وإدخاله النار وإحراقه واستخراج خبثه! وإذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال ملك كريم ولا نبي مرسل ولا على تمثال جوهر علوي لا تناله الأيدي بل على تمثال حيوان ارضي! وإذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال أشرف الحيوانات وأقواها وأشدها امتناعا من الضيم كالأسد والفيل ونحوهما بل صاغوه على تمثال أبلد الحيوان وأقبله للضيم والذل بحيث يحرث عليه الأرض ويسقى عليه بالسواقي والدواليب ولا له قوة يمتنع بها من كبير ولا صغير. فأي معرفة لهؤلاء بمعبودهم ونبيهم وحقائق الموجودات؟!!! وحقيق بمن سأل نبيه أن يجعل له إلها فيعبد إلها مجعولا بعد ما شهد تلك الآيات الباهرات أن لا يعرف حقيقة الإله ولا اسماءه وصفاته ونعوته ودينه ، ولا يعرف حقيقة المخلوق وحاجته وفقره. ولو عرف هؤلاء معبودهم ورسولهم لما قالوا لنبيهم : (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) ولا قالوا له : (اذهب أنت وربك فقاتلا) ولا قتلوا نفسا وطرحوا المقتول على أبواب البرآء من قتله ونبيهم حي بين اظهرهم وخبر السماء والوحي يأتيه صباحا ومساء ، فكأنهم جوزوا أن يخفى هذا على الله كما يخفى على الناس؟! ولو عرفوا معبودهم لما قالوا في بعض مخاطباتهم له : «يا ابانا انتبه من رقدتك ، كم تنام» ولو عرفوه لما سارعوا إلى محاربة انبيائه وقتلهم وحبسهم ونفيهم ولما تحيلوا على تحليل محارمه واسقاط فرائضه بأنواع الحيل. ولقد شهدت التوراة بعدم فطانتهم وأنهم من الأغبياء ، ولو عرفوه لما حجروا عليه بعقولهم الفاسدة أن يأمر بالشيء في وقت لمصلحة ثم يزيل الأمر به في وقت آخر لحصول المصلحة وتبدله بما هو خير منه وينهي عنه ثم يبيحه في وقت آخر لاختلاف الأوقات والأحوال في المصالح والمفاسد ، كما هو مشاهد في أحكامه القدرية الكونية التي لا يتم نظام العالم ولا مصلحته إلا بتبديلها واختلافها بحسب الأحوال والأوقات والأماكن ، فلو اعتمد طبيب أن لا يغير الأدوية والأغذية بحسب اختلاف الزمان والأماكن والأحوال لأهلك الحرث والنسل وعد من الجهال ،

٢٢٥

فكيف يحجر على طبيب القلوب والأديان أن تتبدل أحكامه بحسب اختلاف المصالح؟! وهل ذلك إلا قدح في حكمته ورحمته وقدرته وملكه التام وتدبيره لخلقه؟! ومن جهلهم بمعبودهم ورسوله وأمره أنهم أمروا أن يدخلوا باب المدينة التي فتحها الله عليهم سجدا ويقولوا حطة ، فيدخلوا متواضعين لله سائلين منه أن يحط عنهم خطاياهم ، فدخلوا يزحفون على أستاههم بدل السجود لله ، ويقولون : «هنطا سقمانا» أي حنطة سمراء ، فذلك سجودهم وخشوعهم ، وهذا استغفارهم واستقالتهم من ذنوبهم.

ومن «جهلهم وغباوتهم» أن الله سبحانه أراهم من آيات قدرته وعظيم سلطانه وصدق رسوله ما لا مزيد عليه ، ثم أنزل عليهم بعد ذلك كتابه وعهد إليهم فيه عهده وأمرهم أن يأخذوه بقوة فيعبدوه بما فيه كما خلصهم من عبودية فرعون والقبط فأبوا أن يقبلوا ذلك وامتنعوا منه ، فنتق الجبل العظيم فوق رءوسهم على قدرهم ، وقيل لهم إن لم تقبلوا أطبقته عليكم فقبلوه من تحت الجبل. قال ابن عباس : رفع الله الجبل فوق رءوسهم وبعث نارا من قبل وجوههم ، وأتاهم البحر من تحتهم ، ونودوا إن لم تقبلوا أرضختكم بهذا ، وأحرقتكم بهذا ، وأغرقتكم بهذا ، فقبلوه ، وقالوا سمعنا وأطعنا ولو لا الجبل ما أطعناك ولما آمنوا بعد ذلك قالوا : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) [البقرة : ٩١] ، ومن جهلهم أنهم شاهدوا الآيات ورأوا العجائب التي يؤمن على بعضها البشر ثم قالوا بعد ذلك : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] ، وكان الله سبحانه قد أمر موسى أن يختار من خيارهم سبعين رجلا لميقاته فاختارهم موسى وذهب بهم إلى الجبل ، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل ، وقال للقوم ادنوا ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الحجاب وقعوا سجدا ، فسمعوا الرب تعالى وهو يكلم موسى ويأمره وينهاه ويعهد إليه ، فلما انكشف الغمام قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] ، ومن جهلهم أن هارون لما مات ودفنه موسى قالت بنو إسرائيل لموسى أنت قتلته حسدته على خلقه ولينه ومحبة بني إسرائيل له ، قال فاختاروا سبعين رجلا فوقفوا على قبر هارون ، فقال موسى يا هارون أقتلت أم مت. قال : بل مت وما قتلني أحد ،

٢٢٦

فحسبك من جهالة أمة وجفائهم أنهم اتهموا نبيهم ونسبوه إلى قتل أخيه فقال موسى ما قتلته فلم يصدقوه حتى أسمعهم كلامه وبراءة أخيه مما رموه به. ومن جهلهم أن الله سبحانه شبههم في حملهم التوراة وعدم الفقه فيها والعمل بها بالحمار يحمل أسفارا ، وفي هذا التشبيه من النداء على جهالتهم وجوه متعددة : (منها) أن الحمار من أبلد الحيوانات التي يضرب بها المثل في البلاد و (منها) أنه لو حمل غير الأسفار من طعام أو علف أو ماء لكان له به شعور بخلاف الأسفار. و (منها) أنهم حملوها لا أنهم حملوها طوعا واختيارا بل كانوا كالمكلفين لما حملوه لم يرفعوا به رأسا. و (منها) أنهم حيث حملوها تكليفا وقهرا لم يرضوا بها ولم يحملوها رضا واختيارا وقد علموا أنهم لا بد لهم منها ، وأنهم إن حملوها اختيارا كانت لهم العاقبة في الدنيا والآخرة. و (منها) أنها مشتملة على مصالح معاشهم ومعادهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة فإعراضهم عن التزام ما فيه سعادتهم وفلاحهم إلى ضده من غاية الجهل والغباوة وعدم الفطانة. ومن جهلهم وقلة معرفتهم أنهم طلبوا عوض المن والسلوى اللذين هما أطيب الأطعمة وأنفعها وأوفقها للغذاء الصالح البقل والقثاء والثوم والعدس والبصل ، ومن رضي باستبدال هذه الأغذية عوضا عن المن والسلوى لم تكن عليه أن يستبدل الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى والغضب بالرضى والعقوبة بالرحمة. وهذه حال من لم يعرف ربه ولا كتابه ولا رسوله ولا نفسه.

وأما نقضهم ميثاقهم ، وتبديلهم أحكام التوراة ، وتحريفهم الكلم عن مواضعه ، وأكلهم الربا وقد نهوا عنه ، وأكلهم الرشا ، واعتدائهم في السبت حتى مسخوا قردة وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وتكذيبهم عيسى ابن مريم رسول الله ، ورميهم له ولأمه بالعظائم ، وحرصهم على قتله ، وتفردهم دون الأمم بالخبث والبهت ، وشدة تكالبهم على الدنيا وحرصهم عليها ، وقسوة قلوبهم ، وحسدهم ، وكثرة سخرهم ؛ فاليه النهاية. وهذا وأضعافه من الجهل وفساد العقل قليل على من كذب رسل الله وجاهر بمعاداته ومعاداة ملائكته وأنبيائه وأهل ولايته ، فأي شيء عرف من لم يعرف الله ورسله؟! وأي حقيقة أدرك من فاتته هذه الحقيقة؟! وأي علم أو عمل حصل لمن فاته العلم بالله ، والعمل بمرضاته ،

٢٢٧

ومعرفة الطريق الموصلة إليه ، ومآله بعد الوصول إليه.

[اشراق الأرض بالنبوة وظلمتها بفقدها]

[المعرض عنها يتقلب في ظلمات والمؤمن في أنوار]

فأهل الأرض كلهم في ظلمات الجهل والغي إلا من أشرق عليه نور النبوة. كما في المسند وغيره من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل ، فلذلك أقول جف القلم على علم الله» ، ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ، فمن أجابهم خرج إلى الفضاء والنور والضياء ، ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها ، وهي : ظلمة الطبع ، وظلمة الجهل ، وظلمة الهوى ، وظلمة الغفلة عن نفسه وكمالها وما تسعد به في معاشها ومعادها. فهذه جملتها ظلمات خلق فيها العبد ، فبعث الله رسله لإخراجه منها إلى العلم والمعرفة والإيمان والهدى الذي لا سعادة للنفس بدونه البتة ، فمن أخطأه هذا النور أخطأه حظه وكماله وسعادته وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض ، فمدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ، وقوله ظلمة ، وعمله ظلمة ، وقصده ظلمة ، وهو متخبط في ظلمات طبعه وهواه وجهله ، وقلبه ، مظلم ، ووجهه مظلم ، لأنه يبقى على الظلمة الأصلية ، ولا يناسبه من الأقوال والأعمال والإرادات والعقائد إلا ظلماتها ، فلو أشرق له شيء من نور النبوة لكان بمنزلة إشراق الشمس على بصائر الخفاش.

بصائر أغشاها النهار بضوئه

ولائمها قطع من الليل مظلم

يكاد نور النبوة يعمي تلك البصائر ويخطفها لشدته وضعفها. فتهرب إلى الظلمات لموافقتها لها وملاءمتها إياها. والمؤمن عمله نور ، وقوله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، وقصده نور ، فهو يتقلب في النور في جميع أحواله. قال الله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ ، كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ، نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ

٢٢٨

لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ، وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النور : ٣٥] ، ثم ذكر حال الكفار وأعمالهم وتقلبهم في الظلمات فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ، وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ، أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٣٩ ـ ٤٠].

والحمد لله أولا وآخر وباطنا وظاهرا ، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

٢٢٩

الفهرس

تقديم........................................................................... ٥

التهديد لمن حاد عن الإسلام..................................................... ١٠

الأمم قبل البعثة................................................................ ١١

من حقوق الله رد الطاعنين على الرسول........................................... ١٤

مسائل الكتاب................................................................. ١٥

ليست الرئاسة وحدها لأهل الكتاب عن قبول الإسلام.............................. ١٥

الأسباب المانعة من قبول الحق.................................................... ٢١

علماء اليهود يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم...................................... ٢٢

لا غرابة في جحد النصارى رسالة محمد وقد سبّوا الله................................ ٢٦

ألوان من سخافة النصارى في الصليب............................................. ٢٦

صلاة النصارى استهزاء بالمعبود................................................... ٢٨

أكثر النصارى مقلدون.......................................................... ٢٩

من آمن بالنبي من رؤساء النصارى................................................ ٢٩

المذكور في كتبهم غالبا نعته وهو أبلغ من الاسم..................................... ٥١

اثنا عشر وجها تدل على أنه مذكور في الكتب المنزلة................................ ٥٧

تخالف نسخ التوراة والإنجيل وتناقضها............................................. ٥٨

جمعهم بين التحريف والكتمان .. لنعت الرسول.................................... ٥٩

نصوص الكتب المتقدمة في البشارة به وصفته ونعت أمته............................ ٦٢

النصارى آمنوا بمسيح لا وجود له ، واليهود ينتظرون المسيح الدجال................... ٧٧

ما عوض به إبليس والنصارى وكل مستكبر عن حق................................. ٧٨

مناظرة المؤلف لأحد كبار اليهود................................................ ١٠٤

٢٣٠

حديث سهل مولى عثمة النصراني............................................... ١١٣

حديث وهب عن الزبور....................................................... ١١٤

خبر الحجر الذي وجد في قبر دانيال............................................. ١١٤

خبر عن هرقل أيضا........................................................... ١٢١

الطرق الأربعة الدالة على صحة البشارة به........................................ ١٢٤

وقوع التحريف في التوراة وفريتهم على الأنبياء..................................... ١٢٥

سبب تبديل التوراة............................................................ ١٢٨

اليهود كذبوا مسيح الهدى وينتظرون مسيح الضلال................................ ١٣٠

المناقضات في الإنجيل.......................................................... ١٣٣

تواطؤ اليهود والنصارى على تغيير بعض النسخ................................... ١٣٥

قول السائل : هلا أتى ابن سلام .. بالنسخ الصحيحة............................ ١٣٧

المسلمون فوق كل الأمم في الأعمال والمعارف النافعة............................... ١٤٢

من أعلام الصحابة والأئمة..................................................... ١٤٥

هنيئا لأمة الغضب والضلال بعلومهم وبعلمائهم................................... ١٥٢

معاصي الأمم لا تقدح في الرسل وفي رسالتها..................................... ١٥٣

ذنوب الموحدين من المسلمين في جنب عظائم اليهود والنصارى كتفلة في بحر.......... ١٥٤

من فضائح اليهود وقبائحهم المنكرة.............................................. ١٥٥

افتراق اليهود واختلاقهم كتاب علم الذباحة...................................... ١٥٧

حيل حخاميمهم الدنيئة....................................................... ١٦١

من شريعتهم نكاح امرأة الأخ أو العار........................................... ١٦٢

ما لاقاه إخوان القردة من الإذلال والصغار من مختلف الأمم والدول.................. ١٦٣

صلاتهم دعاء على الأمم وإفك على الله تعالى وتقدس............................. ١٦٤

أساس دين النصارى قائم على شتم الله والشرك به................................. ١٦٥

مقالة أشباه الحمير في مريم وابنها................................................ ١٦٥

النصارى مخالفون للمسيح في كل فروع دينهم أيضا................................ ١٦٧

الراهب والقسيس يغفر ذنوبهم ويطيب لهم نسائهم................................ ١٦٨

المسيح لم يفوض الأساقفة والبطاركة في التشريع................................... ١٦٨

أمانة المثلثة أكبر خيانة......................................................... ١٧٠

المسيح يكذب دعوى ربوبيته وإلهيته............................................. ١٧٣

٢٣١

أسئلة على إلهية المسيح تنتظر الجواب من عباد الصليب............................ ١٧٦

وباء حلولهم أصاب بعض مبتدعة الصوفية وعباد الجهمية........................... ١٨٢

لو لم يظهر محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبطلت نبوة سائر الأنبياء........................ ١٩٠

اليهود أساتذة النصارى في قصة الصلب وأخبار المسيح............................ ١٩٢

أخبار اليهود والنصارى عن عيسى ونسبه لا يوثق بها.............................. ١٩٣

النصارى شد الأمم افتراقا في دينهم.............................................. ١٩٥

إختلاف فرقهم المشهورة في شخصية المسيح...................................... ١٩٥

محمد برأ المسيح وأمه من افتراء أعدائهما وأنزله المنزلة العالية......................... ١٩٧

النصارى تلقوا أصول دينهم عن أصحاب المجامع.................................. ١٩٨

بولس أول من ابتداع اللاهوت والناسوت في شأن المسيح........................... ٢٠٣

أول من ابتدع شارة الصليب قسطنطين.......................................... ٢٠٥

لو عرض دين النصرانية على قوم لم يعرفوا لهم إلها لامتنعوا من قبوله.................. ٢١٧

يستحيل الإيمان بنبي من الأنبياء مع جحد نبوة محمد............................... ٢١٨

إنكار النبوات معناه جحد بالخالق والجهل بالحقائق................................. ٢٢٣

اليهود قتلة الأنبياء وأكلة الربا والمنفردون بغاية الخبث والبهت....................... ٢٢٤

إشراق الأرض بالنبوة وظلمتها بفقدها............................................ ٢٢٨

٢٣٢