هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٣٢

وقاتلهم ، وبرأهم من المسيح وبرأه منهم ، وأخبر أنهم وقود النار وحصب جهنم ، فهذا احد الاسباب التي اختاروا لاجلها الكفر على الايمان وهو من أعظم الاسباب ، فقولكم : «ان المسلمين يقولون انهم لم يمنعهم من الدخول في الاسلام الا الرئاسة والمأكلة لا غير» كذب على المسلمين ، بل الرئاسة والمأكلة من جملة الأسباب المانعة لهم من الدخول في الدين ، وقد ناظرنا نحن وغيرنا جماعة منهم فلما تبين لبعضهم فساد ما هم عليه قالوا : لو دخلنا في الاسلام لكنا من أقل المسلمين لا يأبه لنا ، ونحن متحكمون في أهل ملتنا في أموالهم ومناصبهم ولنا بينهم أعظم الجاه وهل منع فرعون وقومه من اتباع موسى الا ذلك؟!

[الاسباب المانعة من قبول الحق]

[اعتراف أبي جهل بنبوة محمد]

والاسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جدا فمنها (الجهل به) ، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس ، فان من جهل شيئا عاداه وعادى أهله فان انضاف إلى هذا السبب بغض من أمره بالحق ومعاداته له وحسده كان المانع من القبول أقوى ، فان انضاف إلى ذلك ألفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه ومن يحبه ويعظمه قوى المانع ، فان انضاف إلى ذلك توهمه ان الحق الذي دعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته واغراضه قوى المانع من القبول جدفا ، فان انضاف إلى ذلك خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ازداد المانع من قبول الحق قوة ، فان هرقل عرف الحق وهم بالدخول في الإسلام فلم يطاوعه قومه وخافهم على نفسه فاختار الكفر على الإسلام بعد ما تبين له الهدى ، كما سيأتي ذكر قصته إن شاء الله تعالى.

ومن أعظم هذه الأسباب (الحسد) فانه داء كامن في النفس ، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه وأوتي ما لم يؤت نظيره فلا يدعه الحسد ان ينقاد له ويكون من اتباعه. وهل منع ابليس من السجود لآدم إلا الحسد؟! فانه لما رآه قد فضل عليه ورفع فوقه غص بريه واختار الكفر على الايمان بعد إن كان بين

٢١

الملائكة ، وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الايمان بعيسى ابن مريم وقد علموا علما لا شك فيه أنه رسول الله جاء بالبينات والهدى فحملهم الحسد على ان اختاروا الكفر على الايمان وأطبقوا عليه ، وهم أمة فيهم الاحبار والعلماء والزهاد والقضاة والملوك والامراء هذا وقد جاء المسيح بحكم التوراة ولم يأت بشريعة يخالفها ولم يقاتلهم ، وانما أتي بتحليل بعض ما حرم عليهم تخفيفا ورحمة واحسانا ، وجاء مكملا لشريعة التوراة ، ومع هذا فاختاروا كلهم الكفر على الايمان ، فكيف يكون حالهم مع نبي جاء بشريعة مستقلة ناسخة لجميع الشرائع ، مبكتا لهم بقبائحهم ، ومناديا على فضائحهم ، ومخرجا لهم من ديارهم ، وقد قاتلوه وحاربوه وهو في ذلك كله ينصر عليهم ويظفر بهم ويعلو هو واصحابه وهم معه دائما في سفال ، فكيف لا يملك الحسد والبغي قلوبهم؟! وأين يقع حالهم معه من حالهم مع المسيح وقد ابقوا على الكفر به من بعد ما تبين لهم الهدى وهذا السبب وحده كاف في رد الحق ، فكيف اذا انضاف إليه زوال الرئاسات والمأكل كما تقدم.

وقد قال المسور بن مخرمة ـ وهو ابن أخت أبي جهل ـ لأبي جهل يا خالي هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال! يا ابن أختي! والله لقد كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينا وهو شاب يدعى الامين ، فما جربنا عليه كذبا قط. قال : يا خال! فما لكم لا تتبعونه؟! قال : يا ابن اختي تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف ، فاطعموا واطعمنا ، وسقوا وسقينا ، واجاروا وأجرنا ، حتى اذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي فمتى ندرك مثل هذه!! وقال الاخنس بن شريق يوم بدر لابي جهل : يا أبا الحكم! اخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فانه ليس هاهنا من قريش احد غيري وغيرك يسمع كلامنا؟ فقال أبو جهل : ويحك! والله ان محمدا لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة فما ذا يكون لسائر قريش؟!

[علماء اليهود يعرفون النبي كما يعرفون ابناءهم]

وأما «اليهود» فقد كان علماؤهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، قال ابن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة ، قال : هل

٢٢

تدري عما كان اسلام اسد وثعلبة ابني شعبة واسد بن عبيد لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير كانوا فوق ذلك؟ فقال : لا ، قال فانه قدم علينا رجل من الشام من اليهود يقال له ابن الهيبان فاقام عندنا ، والله ما رأينا رجلا يصلي خيرا منه ، فقدم علينا قبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسنتين ، فكنا اذا قحطنا وقل علينا المطر نقول يا ابن الهيبان اخرج فاستسق لنا فيقول ، : لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة ، فنقول : كم؟ فيقول صاع من تمر ، او مدين من شعير فنخرجه ، ثم يخرج الى ظاهر حرتنا ونحن معه نستسقي فو الله ما يقوم من مجلسه حتى تمطر ويمر بالشعاب ، قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة ، فحضرته الوفاة واجتمعنا إليه ، فقال : يا معشر يهود! أترون ما اخرجني من ارض الخمر والخمير إلى ارض البؤس والجوع؟ قالوا أنت اعلم ، قال فإني إنما خرجت أتوقع خروج نبي قد اظل زمانه ، هذه البلاد مهاجرة ، فاتبعوه ولا يسبقن إليه غيركم إذا خرج ، يا معشر اليهود فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن يخالفه فلا يمنعكم ذلك منه ، ثم مات ، فلما كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة قال اولئك الثلاثة الفتية وكانوا شبانا احداثا يا معشر اليهود والله إنه للذي ذكر لكم ابن الهيبان ، فقالوا ما هو به ، قالوا بلى والله انه لصفته ، ثم نزلوا واسلموا وخلوا اموالهم واهليهم. قال ابن إسحاق وكانت أموالهم في الحصن مع المشركين فلما فتح ردت عليهم وقال ابن إسحاق حدثني صالح بن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد ، قال كان بين ابياتنا يهودي فخرج على نادي قومه بني عبد الاشهل ذات غداة فذكر البعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان ، فقال ذلك لاصحاب وثن لا يرون ان بعثا كائن بعد الموت وذلك قبيل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : ويحك يا فلان! وهذا كائن ان الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون بأعمالهم؟! قال : نعم ، والذي يحلف به لوددت ان حظى من تلك النار ان توقدوا أعظم تنور في داركم فتحمونه ثم تقذفوني فيه ثم تطبقون علي واني انجو من النار غدا ، فقيل يا فلان ما علامة ذلك؟ قال نبي يبعث من ناحية هذه البلاد وأشار بيده نحو مكة واليمن ، قالوا : فمتى نراه؟ فرمى بطرفه فرآني وأنا مضطجع بفناء باب أهلي وأنا أحدث القوم ، فقال إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه ، فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله

٢٣

رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه لحي بين أظهرنا ، فآمنا به وصدقناه وكفر به بغيا وحسدا ، فقلنا يا فلان ألست الذي قلت ما قلت وأخبرتنا به؟! قال ليس به. قال ابن إسحاق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال حدثني اشياخ منا قالوا : لم يكن احد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منا ، كان معنا يهود وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن ، وكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا إن نبيا مبعوثا الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم قتل عاد وإرم ، فلما بعث الله عزوجل رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم اتبعناه وكفروا به ففينا وفيهم أنزل الله عزوجل (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) [البقرة : ٨٩] وذكر الحاكم وغيره عن ابن أبي نجيح عن علي الأزدي ، قال كانت اليهود تقول : اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت يهود خيبر تقاتل غطفان ، فلما التقوا هزمت يهود خيبر فعاذت اليهود بهذا الدعاء ، فقالت : اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الامي الذي وعدتنا ان تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم ، قال فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفروا به فانزل الله عزوجل (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني بك يا محمد (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) [البقرة : ٨٩] (يَسْتَفْتِحُونَ) أي يستنصرون. وذكر الحاكم وغيره ان بني النضير لما اجلوا من المدينة أقبل عمرو بن سعد فأطاف بمنازلهم فرأى خرابها ففكر ثم رجع إلى بني قريظة فوجدهم في الكنيسة فنفخ في بوقهم فاجتمعوا ، فقال الزبير ابن باطا : يا أبا سعيد أين كنت منذ اليوم فلم نرك وكان لا يفارق الكنيسة وكان يتأله في اليهودية ـ قال رأيت اليوم عبرا اعتبرنا بها ، رأيت اخواننا قد جلوا بعد ذلك العز والجلد والشرف الفاضل والعقل البارع قد تركوا اموالهم وملكها غيرهم وخرجوا خروج ذل ، ولا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة ، وقد أوقع قبل ذلك بابن الاشرف في عزة بنيانه في بيته آمنا ، واوقع بابن سنينة سيدهم ، واوقع ببني قينقاع فاجلاهم وهم جل اليهود وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة ، فحصرهم النبي عليه‌السلام ، فلم يخرج انسان منهم رأسه حتى سباهم ، فكلم فيهم فتركهم على ان أجلاهم من يثرب ، يا قوم قد رأيتم ما رأيتم

٢٤

فاطيعوني وتعالوا نتبع محمدا ، فو الله أنكم لتعلمون أنه نبي وقد بشرنا به وبأمره ابن الهيبان وأبو عمرو بن حواس وهما أعلم اليهود جاء من بيت المقدس يتوكفان قدومه وامرنا باتباعه وأمر أنا أن نقرئه منهما السلام ثم ماتا على دينهما ودفناهما بحرتنا ، فاسكت القوم فلم يتكلم منهم متكلم ، فاعاد هذا الكلام ونحوه وخوفهم بالحرب والسباء والجلاء ، فقال الزبير بن باطا : قد والتوراة قرأت صفته في كتاب التوراة التي أنزلت على موسى ليس في المثاني التي أحدثنا ، فقال له كعب بن أسد : ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه؟ قال أنت. قال : ولم فو التوراة ما حلت بينك وبينه قط؟ قال الزبير : بل أنت صاحب عهدنا وعقدنا فان اتبعته اتبعناه وإن أبيت أبينا ، فاقبل عمرو بن سعد على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك إلى أن قال كعب ما عندي في ذلك إلا ما قلت ، ما تطيب نفسي أن أصير تابعا وهذا المانع هو الذي منع فرعون من اتباع موسى ، فإنه لما تبين له الهدى عزم على اتباع موسى عليه‌السلام ، فقال له! وزيره هامان : بينا أنت إله تعبد تصبح تعبد ربا غيرك؟! قال : صدقت ، وذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر ، قال حدثت عن صفية عن حيي أنها قالت : كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة غدوا عليه ثم جاءا من العشي ، فسمعت عمي يقول لأبي أهو هو؟ قال : نعم والله ، قال أتعرفه وتثبته قال نعم ، قال فما في نفسك منه قال : عداوته والله ما بقيت فهذه الأمة الغضبية معروفة بعداوة الأنبياء قديما واسلافهم وخيارهم قد اخبرنا الله سبحانه عن أذاهم لموسى ونهانا عن التشبه بهم في ذلك فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) [الأحزاب : ٦٩] وأما خلفهم فهم قتلة الأنبياء : قتلوا زكريا وابنه يحيى وخلقا كثيرا من الأنبياء ، حتى قتلوا في يوم سبعين نبيا وأقاموا السوق في آخر النهار كانهم لم يصنعوا شيئا ، واجتمعوا على قتل المسيح وصلبه فصانه الله من ذلك واكرمه ان يهينه على أيديهم ، وألقى شبهه على غيره فقتلوه وصلبوه ، وراموا قتل خاتم النبيين مرارا عديدة والله يعصمه منهم ، ومن هذا شأنهم لا يكبر عليهم اختيار الكفر على الإيمان لسبب من الاسباب التي ذكرنا بعضها أو سببين أو أكثر.

٢٥

[لا غرابة في جحد النصارى رسالة محمد وقد سبوا الله ..]

وقد ذكرنا اتفاق امة الضلال وعباد الصليب على مسبة رب العالمين أقبح مسبة ، على ما يعلم بطلانه بصريح العقل ، فان خفى عليهم إن هذا مسبة لله وان العقل يحكم ببطلانه وبفساده من أول وهلة لم يكثر على تلك العقول السخيفة أن تسب بشرا أرسله الله ، وتجحد نبوته ، وتكابر ما دل عليه صريح العقل من صدقه وصحة رسالته ، فلو قالوا فيه ما قالوا لم يبلغ بعض قولهم في رب الأرض والسموات الذي صاروا به ضحكة بين جميع اصناف بني آدم فامة اطبقت على ان الاله الحق سبحانه عما يقولون صلب وصفع وسمر ووضع الشوك على رأسه ودفن في التراب ، ثم قام في اليوم الثالث وصعد وجلس على عرشه يدبر أمر السموات والأرض ، لا يكثر عليها أن تطبق على جحد نبوة من جاء بسبها ولعنها ومحاربتها وإبداء معايبها والنداء على كفرها بالله ورسوله ، والشهادة على براءة المسيح منها ومعاداته لها ، ثم قاتلها وأذلها وأخرجها من ديارها وضرب عليها الجزية ، وأخبر أنها من أهل الجحيم خالدة مخلدة لا يغفر الله لها وأنها شر من الحمير ، بل هي شر الدواب عند الله.

[ألوان من سخافة النصارى في الصليب]

وكيف ينكر لامة أطبقت على صلب معبودها وإلهها ثم عمدت إلى الصليب فعبدته وعظمته ، وكان ينبغي لها أن تحرق كل صليب تقدر على احراقه ، وأن تهينه غاية الاهانة إذ صلب عليه إلها الذي يقولون تارة : إنه الله ، وتارة يقولون إنه ابنه ، وتارة يقولون ثالث ثلاثة ، فجحدت حق خالقها وكفرت به أعظم كفر وسبته أقبح مسبة أن تجحد حق عبده ورسوله وتكفر به وكيف يكثر على أمة قالت في رب الأرض والسموات إنه ينزل من السماء ليكلم الخلق بذاته لئلا يكون لهم حجة عليه ، فاراد أن يقطع حجتهم بتكليمه لهم بذاته لترتفع المعاذير عمن ضيع عهده بعد ما كلمه بذاته ، فهبط بذاته من السماء ، والتحم في بطن مريم ، فاخذ منها حجابا ، وهو مخلوق من طريق الجسم ، وخالق من طريق النفس ، وهو الذي خلق جسمه وخلق أمه ، وأمه كانت من قبله بالناسوت ، وهو كان من قبلها باللاهوت ، وهو الإله التام ، والانسان التام ومن تمام رحمته

٢٦

تبارك وتعالى على عباده أنه رضي بإراقة دمه عنهم على خشبة الصليب ، فمكن اعداءه اليهود من نفسه ليتم سخطه عليهم ، فاخذوه وصلبوه وصفعوه وبصقوا في وجهه ، وتوجوه بتاج من الشوك على رأسه ، وغار دمه في إصبعه لأنه لو وقع منه شيء إلى الأرض ليبس كل ما كان على وجهها ، فثبت في موضع صلبه النور ، ولما لم يكن في الحكمة الازلية ان ينتقم الله من عبده العاصي الذي ظلمه أو استهان بقدره لاعتلاء منزلة الرب وسقوط منزلة العبد أراد سبحانه أن ينتصف من الانسان الذي هو إله مثله ، فانتصف من خطيئة آدم بصلب عيسى المسيح الذي هو إله مساو له في الالهية ، فصلب ابن الله الذي هو الله في الساعة التاسعة من يوم الجمعة هذه ألفاظهم في كتبهم!! فامة أطبقت على هذا في معبودها؟!! كيف يكثر عليها ان تقول في عبده ورسوله إنه ساحر وكاذب وملك مسلط ونحو هذا؟!!

ولهذا قال بعض ملوك الهند : أما النصارى فإن كان أعداؤهم من اهل الملل يجاهدونهم بالشرع فأنا ارى جهادهم بالعقل ، وان كنا لا نرى قتال احد لكني استثني هؤلاء القوم من جميع العالم؟ لأنهم قصدوا مضادة العقل وناصبوه العداوة وشذوا عن جميع مصالح العالم الشرعية والعقلية الواضحة ، واعتقدوا كل مستحيل ممكنا ، وبنوا من ذلك شرعا لا يؤدي إلى صلاح نوع من انواع العالم ، ولكنه يصير العاقل إذا شرع به أخرق ، والرشيد سفيها ، والحسن قبيحا ، والقبيح حسنا ، لأن من كان في أصل عقيدته التي جرى نشؤه عليها الإساءة إلى الخلاق والنيل منه ، وسبه اقبح مسبة ، ووصفه بما يغير صفاته الحسنى ، فاخلق به ان يستسهل الإساءة إلى مخلوق ، وإن يصفه بما يغير صفاته الجميلة فلو لم تجب مجاهدة هؤلاء القوم إلا لعموم أضرارهم التي لا تحصى وجوهه كما يجب قتل الحيوان المؤذي بطبعه لكانوا أهلا لذلك.

والمقصود أن الذين اختاروا هذه المقالة في رب العالمين على تعظيمه وتنزيهه واجلاله ووصفه بما يليق به ، هم الذين اختاروا الكفر بعبده ورسوله وجحد نبوته ، والذين اختاروا عبادة صور خطوها بايديهم ، في الحيطان مزوقة بالاحمر والاصفر والأزرق لو دنت منها الكلاب لبالت عليها فاعطوها غاية

٢٧

الخضوع والذل والخشوع والبكاء وسألوها المغفرة والرحمة والرزق والنصر هم ، الذين اختاروا التكذيب بخاتم الرسول على الايمان به وتصديقه واتباعه. والذين نزهوا بطارقتهم وبتاركتهم عن الصاحبة والولد ونحلوهما للفرد الصمد ، هم الذين انكروا نبوة عبده وخاتم رسله.

[صلاة النصارى استهزاء بالمعبود]

والذين اختاروا صلاة يقوم اعبدهم وأزهدهم إليها والبول على ساقه وافخاذه فيستقبل الشرق ثم يصلب على وجهه ويعبد الاله المصلوب ، ويستفتح الصلاة بقوله يا أبانا أنت الذي في السموات تقدس اسمك وليأت ملكك ولتكن ارادتك في السماء مثلها في الأرض اعطنا خبزنا الملائم لنا ، ثم يحدث من هو إلى جانبه ، وربما سأل عن سعر الخمر والخنزير وعما كسب في القمار وعما طبخ في بيته ، وربما احدث وهو في صلاته ، ولو أراد لبال في موضعه إن أمكنه ، ثم يدعو تلك الصورة التي هي صنعة يد الإنسان فالذين اختاروا هذه الصلاة على صلاة من إذا قام إلى صلاته طهر أطرافه وثيابه وبدنه من النجاسة ، واستقبل بيته الحرام ، وكبر الله وحمده وسبحه ، وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم ناجاه بكلامه المتضمن لافضل الثناء عليه وتحميده وتمجيده وتوحيده ، وافراده بالعبادة والاستعانة وسؤاله أجلّ مسئول وهو الهداية إلى طريق رضاه التي خص بها من أنعم الله عليه دون طريق الامتين المغضوب عليهم وهم اليهود والضالين وهم النصارى ، ثم اعطى كل جارحة من الجوارح حظها من الخشوع والخضوع والعبودية مع غاية الثناء والتمجيد لله رب العالمين ، لا يلتفت عن معبوده بوجهه ، ولا قلبه ، ولا يكلم أحدا كلمة ، بل قد فرغ قلبه لمعبوده وأقبل عليه بقلبه ووجهه ، ولا يحدث في صلاته ، ولا يجعل بين عينيه صورة مصنوعة يدعوها ويتضرع إليها ، فالذين اختاروا تلك الصلاة التي هي في الحقيقة استهزاء بالمعبود لا يرضاها المخلوق لنفسه فضلا أن يرضى بها الخالق على هذه الصلاة التي لو عرضت على من له أدنى مسكة من عقل لظهر له التفاوت بينهما : هم الذين اختاروا تكذيب رسوله وعبده على الايمان به وتصديقه : فالعاقل إذا وازن بين ما اختاروه ورغبوا فيه وبين ما رغبوا عنه تبين له أن القوم اختاروا الضلالة

٢٨

على الهدى والغي على الرشاد ، والقبيح على الحسن ، والباطل على الحق ، وإنهم اختاروا من العقائد أبطلها ، ومن الاعمال أقبحها ، وأطبق على ذلك اساقفتهم وبتاركتهم ورهبانهم فضلا عن عوامهم وسقطهم.

[أكثر النصارى مقلدون]

(فصل) ولم يقل أحد من المسلمين إن ما ذكرتم من صغير وكبير وذكر وأنثى وحر وعبد وراهب وقسيس كلهم تبين له الهدى ، بل أكثرهم جهال بمنزلة الدواب السائمة ، معرضون عن طلب الهدى فضلا عن تبيينه لهم ، وهم مقلدون لرؤسائهم وكبرائهم وعلمائهم ـ وهم أقل القليل وهم الذين اختاروا الكفر على الإيمان بعد تبين الهدى ، وأي إشكال يقع للعقل في ذلك فلم يزل في الناس من يختار الباطل ، فمنهم من يختاره جهلا وتقليدا لمن يحسن الظن به ومنهم من يختاره مع علمه ببطلانه كبرا وعلوا ، ومنهم من يختاره طمعا ورغبة في مأكل أو جاه أو رئاسة ، ومنهم من يختاره حسدا وبغيا ، ومنهم من يختاره محبة في صورة وعشقا ، ومنهم من يختاره خشية ومنهم من يختاره راحة ودعة ، فلم تنحصر اسباب اختيار الكفر في حب الرئاسة والمأكلة.

[من آمن بالنبي من رؤساء النصارى]

(فصل) وأما (المسألة الثانية) وهي قولكم : هب أنهم اختاروا الكفر لذلك فهل لا اتبع الحق من لا رئاسة له ولا مأكلة إما اختيارا وأما قهرا فجوابه من وجوه :

«أحدها» إنا قد بينا إن أكثر من ذكرتم قد آمن بالرسول وصدقه اختيارا لا اضطرارا وأكثرهم أولو العقول والأحلام والعلوم ممن لا يحصيهم إلا الله ، فرقعة الإسلام إنما انتشرت في الشرق والغرب بإسلام أكثر الطوائف ، فدخلوا في دين الله افواجا حتى صار الكفار معهم تحت الذلة والصغار وقد بينا إن الذين اسلموا من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين أكثر من الذين لم يسلموا ، وأنه إنما بقي منهم أقل القليل ، وقد دخل في دين الإسلام من ملوك الطوائف ورؤسائهم في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلق كثير ، وهذا (ملك

٢٩

النصارى على إقليم الحبشة) في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تبين له إنه رسول الله آمن به ودخل في دينه وآوى أصحابه ومنعهم من أعدائهم ، وقصته أشهر من أن تذكر ، ولما مات أعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بالساعة التي توفي فيها وبينهما مسيرة شهر ، ثم خرج بهم إلى المصلى وصلى عليه ، فروى الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام المخزومي ، عن أم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي ، أمنا على ديننا ، وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه ، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا على أن يبعثوا إلى النجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة ، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم فجمعوا له أدما كثيرا ، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية ، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي وعمرو بن العاص ، وأمروهما أمرهم ، وقالوا لهما : ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم ، ثم قدموا إلى النجاشي هداياه ، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم. قالت فخرجا فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار وعند خير جوار ، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي. ثم قالا لكل بطريق إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم ، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم فاشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم ، فإن قومهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم ، فقالوا نعم ، ثم إنهما قربا هدايا هم إلى النجاشي فقبلها منهم ، ثم كلماه فقالا له أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم اشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم ، فهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت : ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو ابن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم ، فقالت بطارقته حوله صدقوا أيها الملك ، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فاسلمهم إليهما ليردوهم إلى بلادهم وقومهم ، قالت فغضب النجاشي ، ثم قال : لا ها الله اذن لا

٣٠

أسلمهم إليهما ولا أكاد أقوام جاوروني ونزلوا ببلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم ، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني ، قالت ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعاهم ، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ، ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كائنا في ذلك ما هو كائن ، فلما جاءوه ـ وقد دعا النجاشي اسقفته فنشروا مصاحفهم حوله ـ سألهم فقال : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الامم ، قالت وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب ، فقال له أيها الملك ، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الاصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ونقطع الارحام ، ونسيء الجوار ، يأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ، قالت فعدد عليه أمور الإسلام ، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عزوجل وأن تستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت فقال النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت فقال له جعفر : نعم فقال له النجاشي : فاقرأه علي ، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) قالت فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت اساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلى عليهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقوا فو الله لا اسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد قالت أم سلمة فلما خرجنا من عنده قال عمر بن العاص والله

٣١

لآتينه غدا أعيبهم عنده بما استأصل به خضراءهم ، قالت فقال عبد الله بن أبي ربيعة وكان ابقى الرجلين فينا لا تفعل فإن لهم ارحاما وإن كانوا قد خالفونا ، قال والله لأخبرنه أنهم يزعمون ان عيسى ابن مريم عبد ، قالت ثم غدا عليه من الغد فقال له أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما فارسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه ، قالت فأرسل إليهم فسألهم عنه ، قالت ولمم ينزل بنا مثلها ، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض : ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه ، قالوا نقول والله فيه ما قال الله عزوجل وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن ، فلما دخلوا عليه قال لهم : ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه ، فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود ، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال ، فقال : وإن نخرتم ، وإن نخرتم والله اذهبوا فانتم سيوم بأرضي ـ «والسيوم» الآمنون ـ من سبكم غرم من سبكم غرم ، ما أحب ان لي دبر ذهب وأني أذيت رجلا منكم ـ «والدبر» بلسان الحبشة الجبل ردوا عليهما هدايا هما ولا حاجة لي بها ، فو الله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فيّ فاطيعهم فيه ، قالت فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءوا به ، واقمنا عنده بخير دار مع خير جار ، قالت فو الله إنا لعلى ذلك اذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه ، قالت فو الله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفا أن يظهر على النجاشي فيأتي رجلا لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه ، قالت فسار النجاشي وبينهما عرض النيل فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم حتى يأتينا بالخبر ، قالت فقال الزبير إنا ، وكان من أحدث القوم سنا ، قالت فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ، ثم انطلق حتى حضرهم ، قالت ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده فاستوسق له أمر الحبشة ، فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما كان شهر ربيع الأول سنة سبع من الهجرة كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النجاشي كتابا يدعوه فيه إلى الاسلام ،

٣٢

وبعث به مع عمرو بن أمية الضمري ، فلما قرئ عليه الكتاب أسلم ، وقال لو قدرت على أن آتيه لأتيته ، وكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ففعل وأصدق عنه أربعمائة دينار ، وكان الذي تولى التزويج خالد بن سعيد بن العاص بن أمية ، وكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه ويحملهم ففعل ، فقدموا المدينة فوجدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر ، فشخصوا إليه فوجدوه قد فتح خيبر ، فكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين أن يدخلوهم في سهامهم ففعلوا فهذا ملك النصارى قد صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمن به واتبعه. وكم مثله ومن هو دونه ممن هداه الله من النصارى قد دخل في الدين ، وهم أكثر باضعاف مضاعفة ممن أقام على النصرانية.

قال ابن إسحاق : وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريبا من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة فوجدوه في المسجد ، فجلسوا إليه وكلموه ، وقبالتهم رجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ، فلما فرغوا من مسئلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أرادوا دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الله ، وتلا عليهم القرآن فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش ، فقالوا لهم خيبكم الله من ركب؟! بعثكم من ورائكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال؟! ما نعلم ركبا أحمق منكم أو كما قالوا فقالوا لهم سلام عليكم ، لا نجاهلكم ، لنا من نحن عليه ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل من أنفسنا خيرا ويقال ان النفر من النصارى من أهل نجران ، ويقال فيهم نزلت : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) إلى قوله (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٥] .. وقال الزهري ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه

قال ابن إسحاق : ووفد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد «نصارى نجران» بالمدينة ، فحدثني محمدا بن جعفر بن الزبير ، قال : لما قدم وفد نجران على رسول الله

٣٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخلوا عليه مسجده بعد العصر ، فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده فاراد الناس منعهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعوهم» فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم ، وكانوا ستين راكبا ، منهم أربعة وعشرون رجلا من أشرافهم منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم «العاقب» أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره ، واسمه عبد المسبح. «والسيل» عقالهم وصاحب رحلهم ومجمعهم. «وأبو حارثة بن علقمة» أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم ، وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم ، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم. فلما وجهوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نجران جلس أبو حارثة على بغلة متوجها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى جنبه أخ له يقال له كرز بن علقمة يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة ، فقال له كرز تعس الابعد يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له أبو حارثة ، بل أنت تعست. فقال : ولم يا أخي؟! فقال والله إنه للنبي الذي كنا ننتظره ، فقال له كرز فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا ، فقال ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا الا خلافه ، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى ، فاصر عليها أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك فهذا وأمثاله من الذين منعتهم الرئاسة والمأكل من اختيار الهدى وآثروا دين قومهم وإذا كان هذا حال الرؤساء المتبوعين الذين هم علماؤهم وأحبارهم كان بقيتهم تبعا لهم ، وليس بمستنكر أن تمنع الرئاسة والمناصب والمآكل للرؤساء ويمنع الأتباع تقليدهم ، بل هذا هو الواقع والعقل لا يستشكله.

(فصل): وكان من رؤساء النصارى الذين دخلوا في الإسلام لما تبين أنه الحق الرئيس المطاع في قومه «عدي بن حاتم الطائي» ونحن نذكر قصته رواها الإمام أحمد والترمذي والحاكم وغيرهم ، قال عدي بن حاتم أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس في المسجد ، فقال القوم : هذا عدي بن حاتم. وجئت بغير أمان ولا كتاب ، فلما رفعت إليه أخذ بيدي ، وقد كان قال قبل ذلك : «اني لا أرجوا أن يجعل الله يده في يدي» قال فقام لي ، فلقيته امرأة وصبي معها فقالا إن لنا إليك

٣٤

حاجة فقام معهما حتى قضى حاجتهما ، ثم أخذ بيدي حتى أتى بي داره فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها ، وجلست بين يديه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «ما يفرك أن تقول لا إله إلا الله ، فهل تعلم من إله سوى الله» قال قلت لا ، ثم تكلم ساعة ، ثم قال «إنما يفرك ان يقال الله تعالى أكبر ، وتعلم أن شيئا أكبر ، من الله»؟! قال قلت لا ، قال : «فإن اليهود مغضوب عليهم وإن النصارى ضلال» قال قلت فإني حنيف مسلم ، قال فرأيت وجهه ينبسط فرحا ، قال ثم امر بي فانزلت عند رجل من الانصار جعلت اغشاه آتيه طرفي النهار ، قال فبينا أنا عنده عشية اذ جاءه قوم في ثياب من الصوف من هذه النمار ، قال فصلى وقام فحث عليهم ، قم قال : «ولو بصاع ، ولو بنصف صاع ، ولو بقبضة ، ولو ببعض قبضة ، يقي أحدكم وجهه حر جهنم أو النار ولو بتمرة ولو بشق تمرة ، فإن أحدكم لاقى الله وقائل له ما أقول لكم ، ألم أجعل لك سمعا وبصرا؟ فيقول : بلى ، فيقول : ألم أجعل لك مالا وولدا؟ فيقول : بلى فيقول : أين ما قدمت لنفسك؟! فينظر قدامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله ثم لا يجد شيئا يقي وجهه حر جهنم ، ليق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة! فإن لم يجد فبكلمة طيبة ، فإني لا أخاف عليكم الفاقة ، فإن الله ناصركم ومعطيكم حتى لتسير الظعينة فيما بين يثرب والحيرة أكثر مما يخاف على مطيتها السرق» قال فجعلت أقول في نفسي فاين لصوص طي؟! وكان عدي مطاعا في قومه بحيث يأخذ المرباع من غنائمهم. وقال حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين. ، قال قال أبو عبيدة بن حذيفة ، قال عدي بن حاتم بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكرهته أشد ما كرهت شيئا قط ، فخرجت حتى أتيت أقصى أرض العرب مما يلي الروم ، ثم كرهت مكاني أشد مما كرهت مكاني الأول ، فقلت لو أتيته فسمعت منه ، فأتيت المدينة فاستشرفني الناس ، وقالوا جاء عدي بن حاتم الطائي! جاء عدي بن حاتم الطائي! فقال : «يا عدي بن حاتم الطائي أسلم تسلم» فقلت إني علي دين ، قال : «أنا أعلم بدينك منك» قلت أنت أعلم بديني مني؟ قال : «نعم» قال هذا ثلاثا قال : «ألست لوسيا» قلت : بلى قال : «الست ترأس قومك» قلت بلى ، قال «ألست تأخذ المرباع» قلت بلى ، قال «فإن ذلك لا يحل لك في دينك» قال فوجدت بها على غضاضة ، ثم قال «لعله أن يمنعك أن تسلم أن ترى عندنا

٣٥

خصاصة ، وترى الناس علينا ألبا واحدا ، هل رأيت الحيرة؟ «قلت لم أرها وقد علمت مكانها ، قال «فإن الظعينة سترحل من الحيرة تطوف بالبيت بغير جوار ، وليفتحن الله علينا كنوز كسرى بن هرمز قلت : كسرى بن هرمز ، قال : «كنوز كسرى بن هرمز ، وليفيض المال حتى يهتم الرجل من يقبل منه صدقته» قال فقد رأيت الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار ، وكنت في أول خيل أغارت على المدائن ، وو الله لتكونن الثالثة إنه حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد كان «سلمان الفارسي» من أعلم النصارى بدينهم ، وكان قد تيقن خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدم المدينة قبل مبعثه ، فلما رآه عرف أنه هو النبي الذي بشر به المسيح فآمن به واتبعه ، ونحن نسوق قصته ، قال ابن إسحاق : حدثني عاصم ، عن محمود ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال حدثني سلمان الفارسي من فيه ، قال كنت رجلا فارسيا من أهل اصبهان من قرية يقال لها جي ، وكان أبي دهقان قريته ، وكنت أحب خلق الله إليه لم يزل حبه إياي حتى حبه إياي حبسي في بيت كما تحبس الجارية ، فاجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار التي نوقدها لا نتركها تخبو ساعة ، وكانت لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان له يوما ، فقال يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب إليها فاطلعها ، وأمرني فيها ببعض ما يريد ، ثم قال لي ولا تحتبس عني فانك إن احتبست عني كنت أهم إليّ من ضيعتي وشغلتني عن كل شيء من أمري ، فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته ، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم ، وقلت هذا والله خير من الذي نحن عليه ، فو الله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعته فلم آتها ، ثم قلت لهم أين أصل هذا الدين؟ قالوا بالشام ، فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله ، فلما جئته قال يا بني أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قلت يا أبت مررت باناس يصلون في كنيسة لهم فاعجبني ما رأيت من دينهم فو الله ما زلت حتى غربت الشمس ، قال : أي بني! ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خير منه ، فقلت له كلا والله إنه لخير من

٣٦

ديننا ، فخافني فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته ، وبعثت إلى النصارى فقلت لهم إذا قدم عليكم ركب من الشام فاخبروني بهم ، فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبروني ، فقلت لهم إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم. قال فلما أرادوا الرجعة أخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام ، فلما قدمتها قلت من أفضل أهل هذا الدين علما قالوا الاسقف في الكنيسة فجئته فقلت له إني قد رغبت في هذا الدين ، وأحببت أن أكون معك فأخدمك في كنيستك ، وأتعلم منك ، وأصلي معك ، قال ادخل فدخلت معه ، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين ، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق ، فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع ، ثم مات واجتمعت النصارى ليدفنوه فقلت لهم إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا ، فقالوا لي : وما علمك بذلك؟ قلت : أنا أدلكم على كنزه ، فأريتهم موضعه فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا ، فلما رأوها قالوا والله لا ندفنه أبدا ، فصلبوه ورموه بالحجارة!! وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه ، فما رأيت رجلا يصلي ارى أنه أفضل منه ولا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ولا نهارا منه ، فأحببته حبا لم أحبه شيئا قبله ، فأقمت معه زمانا ثم حضرته الوفاة ، فقلت له يا فلان إني قد كنت معك واحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك ، وقد حضرك من أمر الله ما ترى ، فالى من توصي بي وبم تأمرني ، فقال أي بني والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه ، ولقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه ، فلما مات وغيّب لحقت بصاحب الموصل ، فقلت له يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته إن ألحق بك ، وأخبرني إنك على أمره ، فقال أقم عندي ، فاقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه ، فلما حضرته الوفاة قلت له يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من أمر الله ما ترى ، فالى من توصي بي ، وبم تأمرني ، قال يا بني والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به ، فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فاخبرته خبري وما أمرني به

٣٧

صاحبي ، فقال أقم عندي ، فاقمت عنده فوجدته على أمر صاحبه ، فاقمت مع خير رجل ، فو الله ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حضر قلت له يا فلان إن فلانا أوصى بي؟ إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ فقال : يا بني! والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم ، فإنه على مثل ما نحن عليه فإن أحببت فأته ، فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية فاخبرته خبري ، فقال أقم عندي فاقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم ، فاكتسبت حتى كانت لي بقيرات وغنيمة ، ثم نزل به أمر الله ، فلما حضر قلت له يا فلان إني كنت مع فلان فاوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ، فالى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال : يا بني والله ما أعلمه أصبح على مثل ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ، ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين ابراهيم يخرج بأرض العرب ، مهاجره إلى أرض بين حرتين ، بينهما نخل ، به علامات لا تخفى : يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ، فان استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ، ثم مات وغيب ، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ، ثم مر بي نفر من كلب تجار فقلت لهم : احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقيراتي هذه وغنيمتي هذه قالوا نعم فأعطيتموها فحملوني معهم ، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي فكنت عنده ، فرأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق في نفسي ، فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة فابتاعني منه فحملني إلى المدينة ، فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي ، فاقمت بها ، وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ، ثم هاجر إلى المدينة ، فو الله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي إذ اقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال يا فلان قاتل الله بني قيلة والله إنهم الآن لمجتمعون معنا على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي ، فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت أني ساقط على سيدي ، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك ما تقول؟ فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة ، ثم قال : ما لك ولهذا؟ اقبل على عملك! فقلت : لا شيء إنما اردت أن استثبته عما قال ،

٣٨

وقد كان عندي شيء جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بقبا فدخلت عليه ، فقلت له إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذو وحاجة ، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم ، فقربته إليه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاصحابه «كلوا» وأمسك فلم يأكل ، فقلت في نفسي هذه واحدة ، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا وتحول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ثم جئته به ، فقلت إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها ، فاكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمر أصحابه فأكلوا معه ، فقلت في نفسي هاتان اثنتان ، ثم جئت رسول الله وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه وعليّ شملتان لي وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم استدرت انظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ، فلما رآني صلى‌الله‌عليه‌وسلم استدبرته عرف أني استثبت في شيء وصف لي ، فألقى الرداء عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فأكببت عليه أقبله وأبكي ، فقال لي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحول» فتحولت فجلست بين يديه ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فاعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسمع ذلك أصحابه ، ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدر وأحد ، قال سلمان ثم قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كاتب يا سلمان» فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير ، وأربعين اوقية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعينوا أخاكم» فأعانوني بالنخل : الرجل بثلاثين ودية ، والرجل بعشرين ودية ، والرجل بخمسة عشر ، والرجل بعشر ، يعينني الرجل بقدر ما عنده ، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فأتني أكن أنا اضعها بيدي» ففقرت ، واعانني اصحابي حتى إذا فرغت جئته فأخبرته ، فخرج معي إليها ، فجعلنا نقرب إليه الودي ويضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده حتى فرغت ، فهو الذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة ، فأديت النخل وبقي على المال ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن ، فقال «ما فعل الفارسي المكاتب» فدعيت له فقال : «خذ هذه فادها مما عليك يا سلمان» فقلت : وأين تقع يا رسول الله مما علي؟! خذها فان الله سيؤدي بها» فاخذتها فوزنت منها لهم والذي نفسي بيده أربعين أوقية فاوفيتهم حقهم ، فشهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٩

الخندق ثم لم يفتني معه مشهد.

(فصل) وكان ملك الشام أحد أكابر علمائهم بالنصرانية (هر قل) قد عرف أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقا ، وعزم على الإسلام فابى عليه عباد الصليب ، فخافهم على نفسه ، وضن بملكه مع علمه بانه سينقل عنه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته. ونحن نسوق قصته ، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس ، أن أبا سفيان أخبره من فيه إلى فيه ، قال انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هرقل ، وقد كان دحية ابن خليفة جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى ، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل ، فقال هرقل : هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا نعم ، قال فدعيت في نفر من قريش ، فدخلنا على هرقل ، فاجلسنا بين يديه ، واجلسوا اصحابي خلفي ، فدعا بترجمانه فقال : قل لهم إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي فان كذبني فكذبوه ، فقال أبو سفيان وايم الله لو لا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت ، ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم؟ قال قلت : هو فينا ذو حسب : قال : فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت : لا. قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت لا ، قال ومن اتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم ، قلت : بل ضعفاؤهم ، قال أيزيدون أم ينقصون؟ قلت لا بل يزيدون ، قال فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال قلت لا ، قال : فهل قاتلتموه؟ قلت نعم ، قال فكيف كان قتالكم إياه؟ قال قلت يكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه ، قال فهل يغدر؟ قلت لا ونحن منه في مدة ما ندري ما هو صانع فيها ، قال فو الله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه ، قال : فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت لا. قال لترجمانه قل له أني سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب ، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها ، وسألتك هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت ان لا ، فقلت لو كان في آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك آبائه ، وسألتك عن اتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت بل ، ضعفاؤهم وهم اتباع الرسل. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا ، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله عزوجل ، وسألتك هل يرتد أحد

٤٠