هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٣٢

رحمتهم الروم وقال له وزراؤه إن لهم دينا وشريعة وأنه لا يحل استعبادهم فكف عنهم ، وفي عصره كتب يوحنا إنجيله بالرومية ، وفي ذلك العصر رجع اليهود إلى بيت المقدس ، فلما كثروا وامتلأت منهم المدينة عزموا على أن يملكوا منهم ملكا فبلغ الخبر قيصر فوجه إليهم جيشا فقتل منهم من لا يحصى ، ثم ملك بعده آخر وأخذ الناس بعبادة الأصنام ، وقتل من النصارى خلقا كثيرا ، ثم ملك بعده ابنه وفي زمانه قتل اليهود ببيت المقدس قتلا ذريعا وخرب بيت المقدس ، وهرب اليهود إلى مصر وإلى الشام والجبال والأغوار وتقطعوا في الأرض ، وأمر الملك أن لا يسكن بالمدينة يهودي ، وأن يقتل اليهود ويستأصلوا ، وأن يسكن المدينة اليونانيون ، وامتلأت بيت المقدس من اليونانيين ، والنصارى ذمة تحت أيديهم ، فرأوهم يأتون إلى مزبلة هناك فيصلون فيها فمنعوهم من ذلك ، وبنوا على المزبلة هيكلا باسم «الزهرة» فلم يمكن النصارى بعد ذلك قربان ذلك الموضع ، ثم هلك هذا الملك وقام بعده آخر فنصب يهودا أسقفا على بيت المقدس ، قال ابن البطريق فمن يعقوب أسقف بيت المقدس الأول إلى يهودا أسقفه هذا كانت الأساقفة الذين على بيت المقدس كلهم مختونين ، ثم ولى بعده آخر وأثار على النصارى بلاء شديدا وحربا طويلا ووقع في أيامه قحط شديد كاد الناس أن يهلكوا فسألوا النصارى أن يبتهلوا إلى آلههم فدعوا وابتهلوا إلى الله فمطروا وارتفع عنهم القحط والوباء. قال ابن البطريق : وفي زمانه كتب بترك الاسكندرية إلى أسقف بيت المقدس وبترك أنطاكية وبترك رومية في كتاب فصح النصارى وصومهم وكيف يستخرج من فصح اليهود ، فوضعوا فيها كتبا على ما هي اليوم ، قال وذلك أن النصارى كانوا بعد صعود المسيح إذا عيدوا عيد الغطاس من الغد يصومون أربعين يوما ويفطرون كما فعل المسيح ، لأنه لما اعتمد بالأردن خرج إلى البرية فأقام بها أربعين يوما ، وكان النصارى إذا افصح اليهود عيدوا هم الفصح ، فوضع هؤلاء البتاركة حسابا للفصح ليكون فطرهم يوم الفصح ، وكان المسيح يعيد مع اليهود في عيدهم واستمر على ذلك أصحابه إلى أن ابتدعوا تغيير الصوم فلم يصوموا عقيب الغطاس بل نقلوا الصوم إلى وقت لا

٢٠١

يكون عيدهم مع اليهود. ثم مات ذلك الملك وقام بعده آخر ، وفي زمنه كان «جالينوس» وفي زمنه ظهرت الفرس وغلبت على بابل وآمد وفارس. وتملك اردشير بن بابك في اصطخر وهو أول ملك ملك على فارس في المدة الثانية ، ثم مات قيصر وقام بعده آخر ، ثم آخر وكان شديدا على النصارى عذبهم عذابا عظيما وقتل خلقا كثيرا منهم ، وقتل كل عالم فيهم ، ثم قتل من كان بمصر والإسكندرية من النصارى ، وهدم الكنائس ، وبنى بالاسكندرية هيكلا وسماه هيكل «الآلهة» ثم قام بعده قيصر آخر ، ثم آخر وكانت النصارى في زمنه في هدوء وسلامة ، وكانت أمه تحب النصارى. ثم قام بعده آخر فأثار على النصارى بلاء عظيما وقتل منهم خلقا كثيرا ، وأخذ الناس بعبادة الأصنام ، وقتل من الأساقفة خلقا كثيرا ، وقتل بترك أنطاكية فلما سمع بترك بيت المقدس بقتله هرب وترك الكرسي ثم هلك ، وقام بعده آخر ، ثم آخر.

وفي أيام هذا ظهر «ماني» الكذاب وزعم أنه نبي ، وكان كثير الحيل والمخاريق ، فأخذه بهرام ملك الفرس فشقه نصفين ، وأخذ من أتباعه مائتي رجل فغرس رءوسهم في الطين منكسين حتى ماتوا ثم قام من بعده فيلبس فآمن بالمسيح فوثب عليه بعض قواده فقتله ، ثم قام بعده «دانقيوس» ويسمى دقيانوس فلقي النصارى منه بلاء عظيما وقتل منهم ما لا يحصى ، وقتل بترك رومية ، وبنى هيكلا عظيما وجعل فيه الأصنام ، وأمر أن يسجد لها ويذبح لها ومن لم يفعل قتل ، فقتل خلقا كثيرا من النصارى وصلبوا على الهيكل ، واتخذ من أولاد عظماء المدينة سبعة غلمان فجعلهم خاصته وقدمهم على جميع من عنده ، وكانوا لا يسجدون للأصنام فأعلم الملك بخبرهم فحبسهم ثم أطلقهم ، وخرج إلى مخرج له فأخذ الفتية كل مالهم فتصدقوا به ، ثم خرجوا إلى جبل فيه كهف كبير فاختفوا فيه وصب الله عليهم النعاس فناموا كالأموات ، وأمر الملك أن يبنى عليهم باب الكهف ليموتوا ، فأخذ قائد من قواده صفيحة من نحاس فكتب فيها أسماءهم وقصتهم مع دقيانوس وصيرهم في صندوق من نحاس ودفنه داخل الكهف وسده. ثم مات الملك.

٢٠٢

[بولس أول من ابتدع اللاهوت والناسوت في شأن المسيح]

ثم قام بعده قيصر آخر. وفي زمنه جعل في أنطاكية بتركا يسمى «بولس الشمشاطي» وهو أول من ابتدع في شأن المسيح اللاهوت والناسوت وكانت النصارى قبله كلمتهم واحدة أنه عبد رسول مخلوق مصنوع مربوب ، لا يختلف فيه اثنان منهم ، فقال بولس هذا ـ وهو أول من أفسد دين النصارى ـ إن سيدنا المسيح خلق من اللاهوت إنسانا كواحد منا في جوهره ، وأن ابتداء الابن من مريم ، وأنه اصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية فحلت فيه بالمحبة والمشيئة ، ولذلك سمي ابن الله. وقال ان الله جوهر واحد واقنوم واحد.

[المجمع الأول]

قال سعيد بن البطريق : وبعد موته اجتمع ثلاثة عشر اسقفا في مدينة انطاكية ونظروا في مقالة «بولس» فأوجبوا عليه اللعن فلعنوه ولعنوا من يقول بقوله وانصرفوا.

ثم قام قيصر آخر فكانت النصارى في زمنه يصلون في المطامير والبيوت فزعا من الروم ، ولم يكن بترك الإسكندرية يظهر خوفا أن يقتل ، فقام بارون بتركا فلم يزل يداري الروم حتى بنى بالإسكندرية كنيسة ، ثم قام قياصرة أخر منهم اثنان تملكا على الروم إحدى وعشرين سنة فأثارا على النصارى بلاء عظيما وعذابا أليما وشدة تجل عن الوصف من القتل والعذاب واستباحة الحريم والأموال وقتل ألوف مؤلفة من النصارى ، وعذبوا مارجرجس أصناف العذاب ثم قتلوه ، وفي زمنهما ضربت عنق بطرس بترك الاسكندرية ، وكان له تلميذان ، وكان في زمنه «أريوس» يقول : إن الأب وحده الله الفرد الصمد والابن مخلوق مصنوع وقد كان الأب إذ لم يكن الابن ، فقال بطرس لتلميذيه : إن المسيح لعن أريوس فاحذرا أن تقبلا قوله ، فاني رأيت المسيح في النوم مشقوق الثوب ، فقلت يا سيدي! من شق ثوبك؟ فقال لي : «أريوس» فاحذروا أن تقبلوه أو يدخل معكم الكنيسة ، وبعد قتل بطرس بخمس سنين صير أحد تلميذيه بتركا

٢٠٣

على الإسكندرية فأقام ستة أشهر ومات ، ولما جرى على أريوس ما جرى أظهر أنه قد رجع عن مقالته فقبله هذا البترك وأدخله الكنيسة وجعله قسيسا ، ثم قام قيصر آخر فجعل يتطلب النصارى ويقتلهم حتى صب الله عليه النقمة فهلك شر هلكة.

ثم قام بعده قيصران : (أحدهما) ملك الشام وأرض الروم وبعض الشرق ، (والآخر) رومية وما جاورها ، وكانا كالسباع الضارية على النصارى فعلا بهم من القتل والسبي والجلاء ما لم يفعله بهم ملك قبله ، وملك معهما «قسطنطين» أبو قسطنطين ، وكان دينا يبغض الأصنام محبا للنصارى ، فخرج إلى ناحية الجزيرة والرها ، فنزل في قرية من قرى الرها فرأى امرأة جميلة يقال لها «هيلانة» وكانت قد تنصر على يدي اسقف الرها وتعلمت قراءة الكتب فخطبها قسطنطين من أبيها فزوجه إياها ، فحبلت منه وولدت قسطنطين فتربى بالرها ، وتعلم حكمة اليونان ، وكان جميل الوجه قليل الشر محبا للحكمة ، وكان «عليانوس» ملك الروم حينئذ رجلا فاجرا شديد البأس مبغضا للنصارى جدا ، كثير القتل فيهم ، محبا للنساء ، لم يترك للنصارى بنتا جميلة إلا أفسدها وكذلك أصحابه ، وكان النصارى في جهد جهيد معه ، فبلغه خبر قسطنطين وأنه غلام هاد قليل الشر كثير العلم ، وأخبره المنجمون والكهنة أنه سيملك ملكا عظيما فهم بقتله فهرب قسطنطين من الرها ، ووصل إلى أبيه فسلم إليه الملك ، ثم مات أبوه ، وصب الله على «عليانوس» أنواعا من البلاء حتى تعجب الناس مما ناله ورحمه أعداؤه مما حل به ، فرجع إلى نفسه وقال لعل هذا بسبب ظلم النصارى فكتب إلى جميع عماله أن يطلقوا النصارى من الحبوس ، وأن يكرموهم ويسألوهم أن يدعوا له في صلواتهم ، فوهب الله له العافية ورجع إلى أفضل ما كان عليه من الصحة والقوة ، فلما صح وقوي رجع إلى شر مما كان عليه ، وكتب إلى عماله أن يقتلوا النصارى ولا يدعوا في مملكته نصرانيا ولا يسكنوا له مدينة ولا قرية ، فكان القتلى يحملون على العجل ويرمى بهم في البحر والصحارى. وأما «قيصر الآخر» الذي كان معه فكان شديدا على النصارى ، واستعبد من كان برومية من النصارى ، ونهب أموالهم ، وقتل رجالهم ونساءهم وصبيانهم.

٢٠٤

[أول من ابتدع شارة الصليب قسطنطين]

فلما سمع أهل رومية بقسطنطين وأنه مبغض للشر محب للخير وأن أهل مملكته معه في هدو وسلامة كتب رؤساءهم إليه يسألونه أن يخلصهم من عبودية ملكهم ، فلما قرأ كتبهم اغتم غما شديدا وبقي متحيرا لا يدري كيف يصنع. قال سعيد بن البطريق فظهر له على ما يزعم النصارى نصف النهار في السماء «صليب» من كوكب مكتوبا حوله : «بهذا تغلب». فقال لأصحابه رأيتم ما رأيت؟ قالوا نعم ، فآمن حينئذ بالنصرانية ، فتجهز لمحاربة قيصر المذكور ، وصنع صليبا كبيرا من ذهب وصيره على رأس البند ، وخرج بأصحابه فأعطي النصر على قيصر فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة وهرب الملك ومن بقي من أصحابه ، فخرج أهل رومية إلى قسطنطين بالإكليل الذهب وبكل أنواع اللهو واللعب فتلقوه وفرحوا به فرحا عظيما ، فلما دخل المدينة أكرم النصارى وردهم إلى بلادهم بعد النفي والتشريد ، وأقام أهل رومية سبعة أيام يعيّدون للملك وللصليب ، فلما سمع عليانوس جمع جموعه وتجهز للقتال مع قسطنطين ، فلما وقعت العين في العين انهزموا وأخذتهم السيوف ، وأفلت عليانوس فلم يزل من قرية إلى قرية حتى وصل إلى بلده ، فجمع السحرة والكهنة والعرافين الذين كان يحبهم ويقبل منهم فضرب أعناقهم لئلا يقعوا في يد قسطنطين ، وأمر ببناء الكنائس ، وأقام في كل بلد من بيت المال الخراج فيما تعمل به أبنية الكنائس ، وقام بدين النصرانية حتى ضرب بجرانه في زمانه ، فلما تم له خمس عشرة سنة من ملكه حاج النصارى في أمر المسيح واضطربوا ، فأمر بالمجمع في مدينة نيقية وهي التي رتبت فيها «الأمانة» بعد هذا المجمع ، كما سيأتي ، فأراد أريوس أن يدخل معهم فمنعه بترك الإسكندرية ، وقال أن بطرسا قال هم أن الله لعن أريوس فلا تقبلوه ولا تدخلوه الكنيسة ، وكان على مدينة أسيوط من عمل مصر اسقف يقول بقول أريوس فلعنه أيضا ، وكان بالإسكندرية هيكل عظيم على اسم زحل وكان فيه صنم من نحاس يسمى ميكائيل ، وكان أهل مصر والإسكندرية في اثني عشر يوما من شهر هتور وهو تشرين الثاني يعيدون لذلك الصنم عيدا عظيما ويذبحون له الذبائح الكثيرة فلما ظهرت النصرانية

٢٠٥

بالإسكندرية أراد بتركها أن يكسر الصنم ويبطل الذبائح له ، فامتنع عليه أهلها ، فاحتال عليهم بحيلة ، وقال : لو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله لكان أولى فإن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر فأجابوه إلى ذلك ، فكسر الصنم وجعل منه صليبا وسمى الهيكل كنيسة ميكائيل ، فلما منع بترك الإسكندرية أريوس من دخول الكنيسة ولعنه خرج أريوس مستعديا عليه ومعه اسقفان فاستغاثوا إلى قسطنطين ، وقال أريوس انه تعدى عليّ وأخرجني من الكنيسة ظلما ، وسئل الملك أن يشخص بترك الإسكندرية يناظره قدام الملك ، فوجه قسطنطين برسول إلى الإسكندرية فأشخص البترك وجمع بينه وبين أريوس ليناظره ، فقال قسطنطين لأريوس اشرح «مقالتك» قال أريوس : أقول إن الأب كان إذ لم يكن الابن ، ثم إنه أحدث الابن فكان كلمة له إلا أنه محدث مخلوق ، ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة ، فكان هو خالق السموات والأرض وما بينهما ، كما قال في إنجيله إن يقول «وهب لي سلطانا على السماء والأرض» فكان هو الخالق لهما بما اعطى من ذلك ، ثم إن الكلمة تجسدت من مريم العذراء ومن روح القدس فصار ذلك مسيحا واحدا ، فالمسيح الآن معنيان كلمة وجسد إلا أنهما جميعا مخلوقان. فأجابه عند ذلك بترك الإسكندرية ، وقال : تخبرنا الآن أيما أوجب علينا عندك عبادة من خلقنا أو عبادة من لم يخلقنا؟ قال أريوس بل عبادة من خلقنا ، فقال له البترك فان كان خالقنا الابن كما وصفت وكان الابن مخلوقا فعبادة الابن المخلوق أوجب من عبادة الأب الذي ليس بخالق ، بل تصير عبادة الأب الذي خلق الابن كفرا وعبادة الابن المخلوق إيمانا ، وذلك من أقبح الأقاويل. فاستحسن الملك وكل من حضر مقالة البترك ، وشنع عندهم مقالة أريوس ، ودارت بينهما أيضا مسائل كثيرة ، فأمر قسطنطين البترك أن يكفر أريوس وكل من قال بمقالته ، فقال له بل يوجه الملك بشخص للبتاركة والأساقفة حتى يكون لنا مجمع ونصنع فيه قضية ويكفر أريوس ويشرح الدين ويوضحه للناس.

[المجمع الثاني]

[وفيه وضعوا الأمانة]

فبعث قسطنطين الملك إلى جميع البلدان فجمع البتاركة والأساقفة فاجتمع

٢٠٦

في مدينة نيقية بعد سنة وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أسقفا ، فكانوا مختلفي الآراء ، مختلفي الأديان. فمنهم من يقول : المسيح ومريم إلهان من دون الله وهم «المريمانية» ومنهم من يقول : المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة نار فلم ينقص الأولى لا يقاد الثانية منها. ومنهم من كان يقول لم تحبل مريم لتسعة أشهر وإنما مر نور في بطن مريم كما يمر الماء في الميزاب ، لأن كلمة الله دخلت من أذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها وهذه «مقالة الباد وأشياعه». ومنهم من كان يقول أن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره ، وإن ابتداء الابن من مريم ، وأنه اصطفى ليكون مخلصا للجواهر الأنسية صحبته النعمة الإلهية فحلت منه بالمحبة والمشيئة فلذلك سمي ابن الله ، ويقولون إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد ويسمونه بثلاثة أسماء ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس وهذه «مقالة بولص وأشياعه» ومنهم من كان يقول ثلاثة آلهة لم تزل صالح وطالح وعدل بينهما هذه «مقالة مرقيون وأشياعه» ومنهم من يقول : ربنا هو المسيح ، وهي مقالة «ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا» قال ابن البطريق : ولما سمع قسطنطين الملك مقالتهم عجب من ذلك وأخلى لهم دارا وتقدم لهم بالإكرام والضيافة ، وأمرهم أن يتناظروا فيما بينهم لينظر من معه الحق فيتبعه ، فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على دين واحد ورأي واحد وناظروا بقية الأساقفة المختلفين ففلجوا عليهم في المناظرة ، وكان باقي الأساقفة مختلفي الآراء والأديان فصنع الملك للثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا مجلسا عظيما وجلس في وسطه وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه فدفع ذلك إليهم ، وقال لهم قد سلطتكم اليوم على المملكة فاصنعوا ما بدا لكم وما ينبغي لكم أن تضيعوا ما في قوام الدين وصلاح الأمة ، فباركوا على الملك وقلدوه سيفه ، وقالوا له : أظهر دين النصرانية وذب عنه ، ووضعوا له أربعين كتابا فيها السنن والشرائع وفيها ما يصلح أن يعمل به الأساقفة وما يصلح للملك أن يعمل بما فيها ، وكان رئيس القوم والمجمع والمقدم فيه بترك الاسكندرية وبترك أنطاكية وأسقف بيت المقدس ، ووجه بترك رومية من عنده رجلين فاتفق الكل على لعن أريوس وأصحابه ولعنوه وكل من قال بمقالته ، ووضعوا «الأمانة» وقالوا إن الابن مولود من الأب قبل كون الخلائق وأن الابن من طبيعة الأب غير مخلوق ، واتفقوا على أن

٢٠٧

يكون فصح النصارى يوم الأحد ليكون بعد فصح اليهود ، وأن لا يكون فصح اليهود مع فصحهم في يوم واحد ، ومنعوا أن يكون للأسقف زوجة ، وذلك أن الأساقفة منذ وقت الحواريين إلى مجمع الثلاثمائة وثمانية عشر كان لهم نساء ، لأنهم كانوا إذا صيروا واحدا أسقفا وكانت له زوجة ثبتت معه ولم تتنح عنه ما خلا البتاركة فانهم لم يكن لهم نساء ، ولا كانوا أيضا يصيرون أحدا له زوجة بتركا ، قال وانصرفوا مكرمين محظوظين ، وذلك في سبعة عشر سنة من ملك قسطنطين الملك ، ومكث بعد ذلك ثلاث سنين (إحداها) كسر الأصنام وقتل من يعبدها (والثانية) أمر أن لا يثبت في الديوان إلا أولاد النصارى ، ويكونون هم الأمراء والقواد (والثالثة) أن يقيم للناس جمعة الفصح والجمعة التي بعدها لا يعملون فيها عملا ولا يكون فيها حرب ، وتقدم قسطنطين إلى أسقف بيت المقدس أن يطلب موضع المقبرة والصليب ويبني الكنائس ، ويبدأ ببناء القيامة ، فقالت هيلانة أمه إني نذرت أن أسير إلى بيت المقدس وأطلب المواضع المقدسة وابنيها ، فدفع إليها الملك أموالا جزيلة ، وسارت مع أسقف بيت المقدس ، فبنت كنيسة القيامة في موضع الصليب وكنيسة قسطنطين.

ثم اجتمعوا بعد هذا مجمعا عظيما ببيت المقدس ، وكان معهم رجل دسه بترك القسطنطينية وجماعة معه ليسألوا بترك الإسكندرية ، وكان هذا الرجل لما رجع إلى الملك أظهر أنه مخالف لاريوس ، وكان يرى رأيه ويقول بمقالته ، فقام الرجل وقال إن «أريوس» لم يقل أن المسيح خلق الإنسان ولكن قال به خلقت الأشياء لأنه كلمة الله التي بها خلقت السموات والأرض ، وإنما خلق الله الاشياء بكلمته ، ولم تخلق الأشياء كلمته كما قال المسيح في الإنجيل «كل بيده كان ومن دونه لم يكن شيء» وقال : «به كانت الحياة والحياة نور البشر» وقال : «العالم به يكون» فأخبر أن الأشياء به تكونت. قال ابن البطريق فهذه كانت مقالة أريوس ولكن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا تعدوا عليه وحرفوه ظلما وعدوانا ، فرد عليه بترك الإسكندرية وقال أما أريوس فلم تكذب عليه الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ولا ظلموه لأنه إنما قال الابن خالق الأشياء دون الأب ، وإذا كانت الأشياء إنما خلقت بالابن دون أن يكون الأب لها خالقا فقد أعطى أنه ما خلق منها

٢٠٨

شيئا ، وفي ذلك تكذيب قوله : «الأب يخلق ، وأنا أخلق». وقال : «إن أنا لم أعمل عمل أبي فلا تصدقوني» وقال : «كما أن الأب يحيي من يشاء ويميته كذلك الابن يحيي من يشاء ويميته» قالوا فدل على أنه يحيي ويخلق ، وفي هذا تكذيب لمن زعم أنه ليس بخالق وإنما خلقت الأشياء به دون أن يكون خالقا. وأما قولك : إن الأشياء كونت به فانا لما قلنا لا شك أن المسيح حي فعال وكان قد دل بقوله : «إني أفعل الخلق والحياة» كان قولك به كونت الأشياء إنما هو راجع في المعنى إلى أنه كونها وكانت به مكونة ، ولو لم يكن ذلك لتناقض القولان. قال : وأما قول من قال من أصحاب أريوس : أن الأب يريد الشيء فيكونه الابن والإرادة للأب والتكوين للابن فإن ذلك يفسد أيضا إذا كان الابن عنده مخلوقا ، فقد صار حظ المخلوق في الخلق أوفى من حظ الخالق فيه ، وذلك أن هذا أراد وفعل وذلك أراد ولم يفعل فهذا اوفر حظا في فعله من ذلك ، ولا بد لهذا أن يكون في فعله لما يريد ذلك بمنزلة كل فاعل من الخلق لما يريد الخالق منه ، ويكون حكمه كحكمه في الخير والاختيار ، فان كان مجبورا فلا شيء له في الفعل ، وإن كان مختارا فجائز أن يطاع وجائز أن يعصي ، وجائز أن يثاب وجائز أن يعاقب. وهذا أشنع في القول ، ورد عليه أيضا وقال : إن كان الخالق إنما خلق خلقه بمخلوق والمخلوق غير الخالق بلا شك فقد زعمتم أن الخالق يفعل بغيره والفاعل بغيره محتاج إلى متمم ليفعل به إذ كان لا يتم له الفعل إلا به ، والمحتاج إلى غيره منقوص والخالق متعال عن هذا كله. قال فلما دحض بترك الإسكندرية حجج أولئك المخالفين وظهر لمن حضر بطلان قولهم ، وتحيروا وخجلوا فوشوا على بترك الإسكندرية فضربوه حتى كاد يموت ، فخلصه من أيديهم ابن أخت قسطنطين ، وهرب بترك الإسكندرية وصار إلى بيت المقدس من غير حضور أحد من الأساقفة ، ثم أصلح دهن الميرون وقدس الكنائس ومسحها بدهن الميرون ، وسار إلى الملك فأعلمه الخبر فصرفه إلى الإسكندرية. قال ابن البطريق : وأمر الملك أن لا يسكن يهودي ببيت المقدس ولا يجور بها ومن لم يتنصر قتل ، فظهر دين النصرانية وتنصر من اليهود خلق ، فقيل للملك : إن اليهود يتنصرون من خوف القتل وهم على دينهم ، فقال كيف لنا أن نعلم ذلك منهم؟ فقال بولس البترك : إن الخنزير في التوراة حرام واليهود لا يأكلون لحم الخنزير ، فأمر أن تذبح الخنازير ويطبخ

٢٠٩

حومها ويطعم منها فمن لم يأكل منه علم أنه مقيم على دين اليهودية ، فقال الملك إذا كان الخنزير في التوراة حراما فكيف يحل لنا أن نأكله ونطعمه الناس؟ فقال له بولس : إن سيدنا المسيح قد أبطل كل ما في التوراة ، وجاء بنواميس أخر وبتوراة جديدة وهو الإنجيل ، وفي إنجيله «إن كل ما يدخل البطن فليس بحرام ولا نجس ، وإنما ينجس الإنسان ما يخرج من فيه» وقال يونس : إن بطرس رئيس الحواريين بينما هو يصلي في ست ساعات من النهار وقع عليه سبات فنظر إلى السماء قد تفتحت ، وإذا زاد قد نزل من السماء حتى بلغ الأرض ، وفيه كل ذي أربع قوائم على الأرض من السباع والدواب وغير ذلك من طير السماء ، وسمع صوتا يقول له : يا بطرس قم فاذبح وكل ، فقال بطرس : يا رب ما أكلت شيئا نجسا قط ولا دنسا قط ، فجاء صوت ثان كل ما طهره الله فليس بنجس ، وفي نسخة أخرى ما طهره الله فلا تنجسه أنت ، ثم جاءه الصوت بهذا ثلاث مرات ، ثم أن الزاد ارتفع إلى السماء فتعجب بطرس وتحير فيما بينه وبين نفسه ، فأمر الملك أن تذبح الخنازير وتطبخ لحومها وتقطع صغارا وتصير على أبواب الكنائس في كل مملكته يوم أحد الفصح ، وكل من خرج من الكنيسة يلقم لقمة من لحم الخنازير ، فمن لم يأكل منه يقتل فقتل لاجل ذلك خلق كثير ، ثم هلك قسطنطين وقام بعده أكبر أولاده واسمه قسطنطين وفي أيامه اجتمع أصحاب أريوس ومن قال بمقالته إليه فحسنوا لهم دينهم ومقالتهم وقالوا إن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا الذين كانوا اجتمعوا بنيقية قد أخطئوا وحادوا عن الحق في قولهم إن الابن متفق مع الأب في الجوهر ، فأمر أن لا يقال هذا فأنه خطأ ، فعزم الملك على فعله ، فكتب إليه أسقف بيت المقدس أن لا يقبل قول أصحاب أريوس فأنهم حائدون عن الحق وكفار ، وقد لعنهم الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ولعنوا كل من يقول بمقالتهم فقبل قوله. قال ابن البطريق : وفي ذلك الوقت أعلنت مقالة أريوس على قسطنطينة وأنطاكية والإسكندرية ، وفي ثاني سنة من ملك قسطنطين هذا صار على أنطاكية بترك أريوسي ثم بعده آخر مثله ، قال : وأما أهل مصر والإسكندرية وكان أكثرهم أريوسيين ومانيين فغلبوا على كنائس مصر فأخذوها ، ووثبوا على بترك الإسكندرية ليقتلوه فهرب منهم واستخفى. ثم ذكر جماعة من البتاركة والأساقفة من طوائف النصارى وما جرى لهم مع بعضهم بعضا ، وما تعصبت به كل طائفة لبتركها حتى قتل بعضهم بعضا واختلف النصارى أشد الاختلاف وكثرت مقالاتهم

٢١٠

واجتمعوا عدة مجامع كل مجمع يلعن فيه بعضهم بعضا ونحن نذكر بعض مجامعهم بعد هذين المجمعين.

[المجمع الثالث]

فكان لهم مجمع ثالث بعد ثمان وخمسين سنة من المجمع الأول بنيقية فاجتمع الوزراء والقواد إلى الملك ، وقالوا إن مقالة الناس قد فسدت وغلبت عليهم مقالة أريوس ومقدونيس ، فاكتب إلى جميع الأساقفة والبتاركة أن يجتمعوا ويوضحوا دين النصرانية فكتب الملك إلى سائر بلاده ، فاجتمع في قسطنطينية مائة وخمسون أسقفا ، فنظروا وبحثوا في مقالة أريوس فوجدوها أن روح القدس مخلوق ومصنوع ليس بإله ، فقال بترك الإسكندرية ليس روح القدس عندنا غير روح الله ، وليس روح الله غير حياته ، فإذا قلنا أن روح الله مخلوق فقد قلنا إن حياته مخلوقة ، وإذا قلنا أن حياته مخلوقة فقد جعلناه غير حي ، وذلك كفر به.

فلعنوا جميعهم من يقول بهذه المقالة ولعنوا جماعة من أساقفتهم وبتاركتهم كانوا يقولون بمقالات أخر لم يرتضوها ، وبينوا أن روح القدس خالق غير مخلوق ، إله حق من إله حق من طبيعة الأب والابن ، جوهر واحد وطبيعة واحدة ، وزادوا في الأمانة التي وضعتها الثلاثمائة والثمانية عشر ونؤمن بروح القدس الرب المحيي الذي من الأب منبثق الذي مع الأب والابن هو مسجود ومجد» وكان في تلك الامانة «وبروح القدس» ، فقط ، وبينوا أن الابن والأب وروح القدس ثلاثة أقانيم وثلاث وجوه وثلاث خواص ، وأنها وحدة في تثليث وتثليث في وحدة ، وبينوا أن جسد المسيح بنفس ناطقة عقلية فانفض هذا المجمع وقد لعنوا فيه كثيرا من اساقفتهم وأشياعهم ...

[المجمع الرابع]

ثم بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع كان لهم مجمع رابع على نسطورس ، وكان رأيه أن ليست بوالدة الإله على الحقيقة ، ولذلك كان اثنان : أحدهما الإله الذي هو موجود من الأب ، والآخر إنسان وهو الموجود من مريم ، وإن هذا الإنسان الذي نقول إنه المسيح متوحد مع ابن الإله ، ويقال له إله وابن

٢١١

الإله ليس على الحقيقة ولكن موهبة واتفاق الاسمين على طريق الكرامة. فبلغ ذلك بتاركة سائر البلاد فجرت بينهم مراسلات واتفقوا على تخطئته واجتمع منهم مائتا أسقف في مدينة أفسيس وأرسلوا إليه للمناظرة فامتنع ثلاث مرات فاجمعوا على لعنه فلعنوه ونفوه وبينوا أن مريم ولدت إلها وأن المسيح إله حق من إله حق وهو إنسان وله طبيعتان فلما لعنوا نسطورس تعصب له بترك أنطاكية فجمع الأساقفة فلم يزل الملك حتى الذين قدموا معه وناظرهم وقطعهم فتقاتلوا وتلاعنوا وجرى بينهم شر فتفاقم أمرهم ثم أصلح بينهم فكتب أولئك صحيفة أن مريم القديسة ولدت إلها وهو ربنا يسوع المسيح الذي هو مع الله في الطبيعة ومع الناس في الناسوت وأقروا بطبيعتين وبوجه واحد وأقنوم واحد وأنفذوا لعن نسطورس فلما لعنوه ونفي سار إلى مصر وأقام في أخميم سبع سنين ومات ودفن بها ، وماتت مقالته إلى أن أحياها ابن صرما مطران نصيبين وبثها في بلاد المشرق فأكثر نصارى المشرق والعراق نسطورية فانفض ذلك المجمع الرابع أيضا وقد اطبقوا على لعن نسطوري وأشياعه ومن قال بمقالته.

[المجمع الخامس]

ثم كان لهم بعد هذا المجمع «مجمع خامس» وذلك أنه كان بالقسطنطينية طبيب راهب يقال له أوطيسوس يقول : إن جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا بالطبيعة ، وأن المسيح قبل التجسد من طبيعتين وبعد التجسد طبيعة واحدة ، وهو أول من أحدث هذه المقالة وهي «مقالة اليعقوبية» فرحل إليه بعض الأساقفة فناظره وقطعه ودحض حجته ، ثم صار إلى قسطنطينية فاخبر بتركها بالمناظرة وبانقطاعه فأرسل بترك القسطنطينية إليه فاستحضره وجمع جمعا عظيما وناظره ، فقال أوطيسوس ، : إن قلنا أن المسيح طبيعتين فقد قلنا بقول نسطورس ، ولكنا نقول إن المسيح طبيعة واحدة وأقنوم واحد ؛ لأنه من طبيعتين كانتا قبل التجسد ، فلما قبل التجسد زالت عنه وصار طبيعة واحدة واقنوما واحدا ، فقال به بترك القسطنطينية : إن كان المسيح طبيعة واحدة فالطبيعة القديمة هي الطبيعة المحدثة ، وإن كان القديم هو المحدث فالذي لم يزل هو الذي لم يكن ، ولو جاز أن يكون القديم هو المحدث لكان القائم هو القاعد والحار هو البارد ، فأبى

٢١٢

أن يرجع عن مقالته فلعنوه ، فاستعدى إلى الملك وزعم أنهم ظلموه وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة ، فاستحضر الملك البتاركة والأساقفة من سائر البلاد إلى مدينة أفسيس ، فثبت بترك الإسكندرية مقالة أوطيسوس ، وقطع بتارك القسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس وسائر البتاركة والأساقفة ، وكتب إلى بترك رومية وإلى جماعة الكهنة فحرمهم ومنعهم من القربان إن لم يقبلوا مقالة أوطيسوس ، ففسدت الأمانة وصارت مقالة أوطيسوس خاصة بمصر والإسكندرية وهو مذهب اليعقوبية ، فافترق هذا المجمع الخامس وكل فريق يلعن الآخر ويحرمه ويبرأ من مقالته ..

[المجمع السادس]

(فصل) ثم كان لهم بعد هذا «مجمع سادس» في مدينة حلقدون ، فأنه لما مات الملك ولى بعده مرقيون فاجتمع إليه الأساقفة من سائر البلاد فاعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع وقلة الانصاف ، وأن مقالة أوطيسوس قد غلبت على الناس وأفسدت دين النصرانية فأمر الملك باستحضار سائر البتاركة والمطارنة والأساقفة إلى مدينة حلقدون فاجتمع فيها ستمائة وثلاثون أسقفا فنظروا في مقالة أوطيسوس وبترك الإسكندرية الذي قطع جميع البتاركة فافسد الجميع مقالتهما ولعنوهما ، وأثبتوا أن المسيح إله وإنسان في المكان مع الله باللاهوت وفي المكان معنا بالناسوت ، ويعرف بطبيعتين تام باللاهوت وتام بالناسوت ومسيح واحد ، وثبتوا أقوال الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ، وقبلوا قولهم بأن الابن مع الله في المكان نور من نور إله حق من إله حق ، ولعنوا أريوس ، وقالوا إن روح القدس إله ، وأن الأب والابن وروح القدس واحد بطبيعة واحدة وأقانيم ثلاثة ، وثبتوا قول المجمع الثالث في مدينة أفسيس أعني المائتي أسقف على نسطورس ، وقالوا إن مريم العذراء ولدت إلها ربنا اليسوع المسيح الذي هو مع الله بالطبيعة ومع الناسوت بالطبيعة ، وشهدوا أن للمسيح طبيعتين وأقنوما واحدا ، ولعنوا نسطورس وبترك الإسكندرية ، ولعنوا المجمع الثاني الذي كان بافسيس ، ثم المجمع الثالث المأتي أسقف بمدينة أفسيس أول مرة ، ولعنوا نسطورس ، وبين نسطورس إلى مجمع حلقدون أحد وعشرون سنة ، فانفض هذا المجمع

٢١٣

وقد لعنوا من مقدميهم وأساقفتهم من ذكرنا وكفروهم وتبرءوا منهم ومن مقالاتهم.

[المجمع السابع]

ثم كان لهم بعد هذا المجمع «مجمع سابع» في أيام أنسطاس الملك ، وذلك أن سورس القسطنطيني كان على رأي أوطيسوس ، فجاء إلى الملك فقال إن المجمع الحلقدوني الستمائة وثلاثين قد أخطئوا في لعن أوطيسوس وبترك الإسكندرية ، والدين الصحيح ما قالاه فلا يقبل دين من سواهما ، ولكن أكتب إلى جميع عمالك أن يلعنوا الستمائة وثلاثين ويأخذوا الناس بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة وأقنوم واحد ، فأجابه الملك إلى ذلك ، فلما بلغ ذلك إيليا بترك بيت المقدس جمع الرهبان ولعنوا أنسطاس الملك وسورس ومن يقول بمقالتهما ، فبلغ ذلك أنسطاس ونفاه إلى أيلة ، وبعث يوحنا بتركا على بيت المقدس لأن يوحنا كان قد ضمن له أن يلعن المجمع الحلقدوني الستمائة وثلاثين ، فلما قدم إلى بيت المقدس اجتمع الرهبان وقالوا إياك أن تقبل من سورس ولكن قاتل عن المجمع الحلقدوني ونحن معك ، فضمن لهم ذلك وخالف أمر الملك ، فبلغ ذلك الملك فأرسل قائدا وأمره أن يأخذ يوحنا بطرح المجمع الحلقدوني ، فان لم يفعل ينفيه عن الكرسي ، فقدم القائد وطرح يوحنا في الحبس فصار إليه الرهبان في الحبس وأشاروا عليه بان يضمن للقائد أن يفعل ذلك ، فإذا حضر فليقر بلعنة من لعنه الرهبان ففعل ذلك ، واجتمع الرهبان وكانوا عشرة آلاف راهب ومعهم مدرس وسابا ورؤساء الديرات ، فلعنوا أوطيسوس وسورس ونسطورس ومن لا يقبل المجمع الحلقدوني ، وفزه رسول الملك من الرهبان ، وبلغ ذلك الملك فهم بنفي يوحنا ، فاجتمع الرهبان والأساقفة فكتبوا إلى أنسطاس الملك أنهم لا يقبلون مقالة سورس ولا أحد من المخالفين ولو أهرقت دماؤهم وسألوه أن يكف أذاه عنهم ، وكتب بترك رومية إلى الملك يقبح فعله ويلعنه ، فانفض هذا المجمع أيضا وقد تلاعنت فيه هذه الجموع على ما وصفنا!! وكان لسورس تلميذ يقال له يعقوب يقول بمقالة سورس ، وكان يسمى يعقوب البرادعي وإليه تنسب «اليعاقبة» فافسد أمانة

٢١٤

النصارى ، ثم مات أنسطاس وولى قسطنطين فرد كل من نفاه أنسطاس الملك إلى موضعه ، واجتمع الرهبان وأظهروا كتاب الملك وعيدوا عيدا حسنا بزعمهم ، واثبتوا المجمع الحلقدوني بالستمائة وثلاثين أسقفا ، ثم ولى ملك آخر وكانت اليعقوبية قد غلبوا على الإسكندرية وقتلوا بتركا لهم يقال له بولس. كان ملكيا ، فارسل قائدا ومعه عسكر عظيم إلى الإسكندرية ، فدخل الكنيسة في ثياب البترك ، وتقدم وقدس فرموه بالحجارة حتى كادوا يقتلونه فانصرف ، ثم أظهر لهم من بعد ثلاثة أيام أنه قد أتاه كتاب الملك ، وضرب الجرس ليجتمع الناس يوم الأحد في الكنيسة فلم يبق أحد بالإسكندرية حتى حضر لسماع كتاب الملك ، وقد جعل بينه وبين جنده علامة إذا هو فعلها وضعوا السيف في الناس ، فصعد المنبر وقال : يا معشر أهل اسكندرية! إن رجعتم إلى الحق وتركتم مقالة اليعاقبة وإلا لن تأمنوا أن يرسل إليكم الملك من يسفك دماءكم ، فرموه بالحجارة حتى خاف على نفسه أن يقتل ، فاظهر العلامة فوضعوا السيف على كل من في الكنيسة فقتل داخلها وخارجها أمم لا تحصى كثرة حتى خاض الجند في الدماء ، وهرب منهم خلق كثير ، وظهرت «مقالة الملكية ...».

[المجمع الثامن]

ثم كان لهم بعد ذلك «مجمع ثامن» بعد المجمع الحلقدوني الذي لعن فيه اليعقوبية بمائة سنة وثلاث سنين ، وذلك أن أسقف منبج ـ وهي بلدة شرقي حلب بالقرب منها ، وهي مخسوفة الآن ـ كان يقول بالتناسخ وأن ليس قيامة ، وكان أسقف الرها وأسقف المصيصة وأسقف آخر يقولون إن جسد المسيح خيال غير حقيقة ، فحشرهم الملك إلى قسطنطينية ، فقال لهم بتركها إن كان جسده خيالا فيجب أن يكون فعله خيالا وقوله خيالا وكل جسد يعاين لأحد من الناس أو فعل أو قول فهو كذلك ، وقال لأسقف منبج : إن المسيح قد قام من الموت وأعلمنا أنه كذلك يقوم الناس من الموت يوم الدينونة ، وقال في «إنجيله» : لن تأتي الساعة حتى أن كل من في القبور إذا سمعوا قول ابن الله يجيبوا» فكيف تقولون ليس قيامة؟! فاوجب عليهم الخزي واللعن ، وأمر الملك أن يكون لهم مجمع يلعنون فيه ، واستحضر بتاركة البلاد ، فاجتمع في هذا المجمع مائة وأربعة

٢١٥

وستون أسقفا ، فلعنوا أسقف منبج وأسقف المصيصة ، وثبتوا على قول أسقف الرها. أن جسد المسيح حقيقة لا خيال ، وأنه إله تام وإنسان تام معروف بطبيعتين ومشيئتين وفعلين أقنوم واحد ، وثبتوا المجامع الأربعة التي قبلهم بعد المجمع الحلقدوني ، وأن الدنيا زائلة ، وأن القيامة كائنة ، وأن المسيح يأتي بمجد عظيم فيدين الأحياء والاموات كما قال الثلاثمائة والثمانية عشر ...

[المجمع التاسع]

(فصل) ثم كان لهم «مجمع التاسع» في أيام معاوية بن أبي سفيان تلاعنوا فيه ، وذلك أنه كان برومية راهب قديس يقال له مقسلمس وله تلميذان ، فجاء إلى قسطا الوالي فوبخه على قبح مذهبه وشناعة كفره ، فأمر به قسطا فقطعت يداه ورجلاه ونزع لسانه ، وفعل بأحد التلميذين مثله ، وضرب الآخر بالسياط ونفاه ، فبلغ ذلك ملك قسطنطينية فأرسل إليه أن يوجه إليه من أفاضل الأساقفة ليعلم وجه هذه الحجة ومن الذي كان ابتدأها لكيما يطرح جميع الآباء القديسين كل من استحق اللعنة ، فبعث إليه مائة وأربعين أسقفا وثلاث شمامسة فلما وصلوا إلى قسطنطينية جمع الملك مائة وثمانية وستين أسقفا فصاروا ثلاثمائة وثمانية ، واسقطوا الشمامسة في البرطحة ، وكان رئيس هذا المجمع بترك قسطنطينية وبترك أنطاكية ، ولم يكن لبيت المقدس والإسكندرية بترك ، فلعنوا من تقدم من القديسين الذين خالفوهم ، وسموهم واحدا واحدا وهم جماعة ، ولعنوا اصحاب المشيئة الواحدة ، ولما لعنوا هؤلاء جلسوا فلخصوا الأمانة المستقيمة بزعمهم ، فقالوا : «نؤمن بأن الواحد من اللاهوت الابن الوحيد الذي هو الكلمة الأزلية الدائم ، المستوي مع الأب الإله في الجوهر. الذي هو ربنا اليسوع المسيح بطبيعتين تامتين ، وفعلين ، ومشيئتين ، في أقنوم واحد ووجه واحد ، يعرف تاما بلاهوته تاما بناسوته ، وشهدت كما شهد مجمع الحلقدونية على ما سبق أن الإله الابن في آخر الأيام اتحد مع العذراء السيدة مريم القديسة جسدا إنسانا بنفسين ، وذلك برحمة الله تعالى محب البشر ولم يلحقه اختلاط ولا فساد ولا فرقة ولا فصل ، ولكن هو واحد يعمل بما يشبه الإنسان أن يعمله في طبيعته وما يشبه الإله إن يعمل في طبيعته الذي هو الابن الوحيد والكلمة الأزلية

٢١٦

المتجسدة إلى أن صارت في الحقيقة لحما كما يقول الإنجيل المقدس من غير أن تنتقل عن محلها الأزلي ، وليست بمتغيرة لكنها بفعلين ومشيئتين وطبيعتين إلهي وانسي الذي بهما يكون القول الحق ، وكل واحد من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبتها ، مشيئتين غير متضادتين ولا متضارعتين ، ولكن مع المشيئة الإنسية في المشيئة الإلهية القادرة على كل شيء» هذه شهادتهم وأمانة المجمع السادس من المجمع الحلقدوني ، وثبتوا ما ثبته الخمس مجامع التي كانت قبلهم ولعنوا من لعنوه ، وبين المجمع الخامس إلى هذا المجمع مائة سنة ..

[المجمع العاشر]

(فصل) ثم كان لهم «مجمع عاشر» لما مات الملك وولى بعده ابنه ، واجتمع فريق المجمع السادس وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل ، فجمع الملك مائة وثلاثين أسقفا فثبتوا قول المجمع السادس ولعنوا من لعنهم وخالفهم ، وثبتوا قول المجامع الخمسة ، ولعنوا من لعنوا وانصرفوا. فانقرضت هذه المجامع والحشود وهم علماء النصارى وقدماؤهم وناقلو الدين إلى المتأخرين وإليهم يستند من بعدهم ، وقد اشتملت هذه المجامع العشرة المشهورة على زهاء أربعة عشر ألفا من الأساقفة والبتاركة والرهبان كلهم يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا ، فدينهم إنما قام على اللعنة بشهادة بعضهم على بعض وكل منهم لاعن ملعون.

[لو عرض دين النصرانية على قوم لم يعرفوا لهم إلها لامتنعوا من قبوله]

فإذا كانت هذه حال المتقدمين مع قرب زمنهم من أيام المسيح وبقاء أخيارهم فيهم والدولة دولتهم والكلمة لهم وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا واحتفالهم بأمر دينهم واهتمامهم به كما ترى ، ثم هم مع ذلك تائهون حائرون بين لاعن وملعون لا يثبت لهم قدم. ولا يتحصل لهم قول في معرفة معبودهم ، بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه ، وباح باللعن والبراءة ممن اتبع سواه. فما الظن بحثالة الماضين ، ونفاية الغابرين ، وزبالة الحائرين ، وذرية الضالين ، وقد طال عليهم الأمد ، وبعد العهد ، وصار دينهم ما يتلقونه عن الرهبان. وقوم إذا كشفت عنهم وجدتهم أشبه شيء بالأنعام ، وإن كانوا في صور الأنام ، بل هم كما قال

٢١٧

تعالى ومن أصدق من الله قيلا : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٤] ، وهؤلاء هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٧٧] ، ومن أمة الضلال بشهادة الله ورسوله عليهم ، وأمة اللعن بشهادتهم على نفوسهم بلعن بعضهم بعضا ، وقد لعنهم الله سبحانه على لسان رسوله في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوه» هذا والكتاب واحد ، والرب واحد ، والنبي واحد ، والدعوى واحدة ، وكلهم يتمسك بالمسيح وإنجيله وتلاميذه ثم يختلفون فيه هذا الاختلاف المتباين ، فمنهم من يقول إنه إله ، ومنهم من يقول ابن الله ، ومنهم من يقول ثالث ثلاثة ، ومنهم من يقول إنه عبد ، ومنهم من يقول إنه أقنوم وطبيعة ، ومنهم من يقول أقنومان وطبيعتان ، إلى غير ذلك من المقالات التي حكوها عن أسلافهم ، وكل منهم يكفر صاحبه. فلو أن قوما لم يعرفوا لهم إلها ثم عرض عليهم دين النصرانية هكذا لتوقفوا عنه وامتنعوا من قبوله. فوازن بين هذا وبين ما جاء به خاتم الأنبياء والرسل صلوات الله عليه وسلامه تعلم علما يضارع المحسوسات أو يزيد عليها : ان الدين عند الله الإسلام.

[يستحيل الإيمان بنبي من الأنبياء مع جحد نبوة محمد ..]

[معجزات محمد أعظم وأدل]

(فصل) في أنه لا يمكن الإيمان بنبي من الأنبياء أصلا مع جحود نبوة محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأنه من جحد نبوته فهو لنبوة غيره من الأنبياء أشد جحدا. وهذا يتبين بوجوه :

(أحدها) أن الأنبياء المتقدمين بشروا بنبوته وأمروا أممهم بالإيمان به ، فمن جحد نبوته فقد كذب الأنبياء قبله فيما أخبروا به وخالفهم فيما أمروا وأوصوا به من الإيمان به ، والتصديق به لازم من لوازم التصديق بهم ، وإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه قطعا وبيان الملازمة ما تقدم من الوجوه الكثيرة التي تفيد بمجموعها القطع على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد ذكر في الكتب الإلهية على ألسن الأنبياء ، وإذا ثبتت الملازمة فانتفاء اللازم موجوب لانتفاء ملزومه.

٢١٨

(الوجه الثاني) أن دعوة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه هي دعوة جميع المرسلين قبله من أولهم إلى آخرهم ، فالمكذب بدعوته مكذب بدعوة إخوانه كلهم ، فإن جميع الرسل جاءوا بما جاء به ، فإذا كذبه المكذب فقد زعم أن ما جاء به باطل ، وفي ذلك تكذيب كل رسول ارسله الله وكل كتاب أنزل الله ، ولا يمكن أن يعتقد أن ما جاء به صدق وأنه كاذب مفتر على الله ، وهذا في غاية الوضوح وهذا بمنزلة شهود شهدوا بحق فصدقهم الخصم ، وقال هؤلاء كلهم شهود عدول صادقون ، ثم شهد آخر على شهادتهم سواء فقال الخصم هذه الشهادة باطلة وكذب لا أصل لها ، وذلك تكذيب بشهادة جميع الشهود قطعا ، ولا ينجيه من تكذيبهم اعترافه بصحة شهادتهم وأنها شهادة حق مع قوله أن الشاهد بها كاذب فيما شهد به. فكما أنه لو لم يظهر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لبطلت نبوات الأنبياء قبله فكذلك إن لم يصدق لم يمكن تصديق نبي من الأنبياء قبله.

(الوجه الثالث) أن الآيات والبراهين التي دلت على صحة نبوته وصدقه أضعاف أضعاف آيات من قبله من الرسل ، فليس لنبي من الأنبياء آية توجب الإيمان به إلا ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مثلها أو ما هو في الدلالة مثلها وإن لم يكن من جنسها ، فآيات نبوته أعظم وأكبر وأبهر وأدل ، والعلم بنقلها قطعي ، لقرب العهد ، وكثرة النقلة ، واختلاف أمصارهم وأعصارهم ، واستحالة تواطئهم على الكذب ، فالعلم بآيات نبوته كالعلم بنفس وجوده وظهوره وبلده ، بحيث لا تمكن المكابرة في ذلك ، والمكابر فيه في غاية الوقاحة والبهت ، كالمكابرة في وجود ما يشاهده الناس ولم يشاهده هو من البلاد والأقاليم والجبال والأنهار ، فان جاز القدح في ذلك كله ، فالقدح في وجود عيسى وموسى وآيات نبوتهما أجوز وأجوز ، وان امتنع القدح فيهما وفي آيات نبوتهما فامتناعه في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآيات نبوته أشد ، ولذلك لما علم بعض علماء أهل الكتاب أن الإيمان بموسى لا يتم مع التكذيب بمحمد أبدا كفر بالجميع ، وقال : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] ، كما قال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً

٢١٩

وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ ، تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً ، وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ : اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام : ٩١] ، قال سعيد بن جبير : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟! وكان حبرا سمينا ، فغضب عدو الله وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه الذين معه : ويحك ولا موسى؟ فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فأنزل الله عزوجل : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] ، الآية ، وهذا قول عكرمة ، قال محمد بن كعب : «جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو محتب ، فقالوا : يا أبا القاسم ، ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا يحملها من عند الله عزوجل؟ فأنزل الله عزوجل : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) [النساء : ١٥٣] ، الآية وجاء رجل من اليهود فقال : ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا ، ما أنزل الله على بشر من شيء ، فحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبوته ، وجعل يقول : ولا على أحد؟!!» وذهب جماعة منهم مجاهد ، إلى أن الآية نزلت في مشركي قريش ، فهم الذين جحدوا أصل الرسالة ، وكذبوا بالرسل ، وأما أهل الكتاب فلم يجحدوا نبوة موسى وعيسى ، وهذا اختيار ابن جرير ، قال : وهو أولى الأقاويل بالصواب ، لأن ذلك في سياق الخبر عنهم ، فهو أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ، ولم يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلا ، مع ما في الخبر عن من أخبر الله عنه من هذه الآية من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتب ، وليس ذلك مما تدين به اليهود ، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم ، وموسى ، وزبور داود ، والخبر من أول السور إلى هذا الموضع خبر عن المشركين من عبدة الأوثان ، وقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] ، موصول به غير مفصول عنه ، قلت : ويقوي قوله ، أن السورة مكية ، فهي خبر عن زنادقة العرب ، المنكرين لأصل النبوة. ولكن بقي أن يقال : فكيف يحسن الرد عليهم بما لا يقرون به من إنزال الكتاب الذي جاء به موسى؟ وكيف يقال لهم : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [الأنعام : ٩١] ،؟!

٢٢٠