هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٣٢

نعمة كذا إلا بسيرك معنا» وفي السفر الرابع : «إني أصعدت هؤلاء بقدرتك فيقولان لأهل هذه الأرض الذي سمعوا منك الله فيما بين هؤلاء القوم يرونه عينا بعين وغمامك تغيم عليهم ويعود غماما يسير بين أيديهم نهارا ويعود نارا ليلا» وفي التوراة أيضا : «يقول الله لموسى إني آت إليك في غلظ الغمام لكي يسمع القوم مخاطبتي لك وفي الكتب الإلهية وكلام الأنبياء من هذا كثير ، وفيما حكى خاتم الأنبياء عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي» ،

وإن قلتم جعلناه إلها لقول زكريا في نبوته (١) : «صهيون لأني آتيك وأحل فيك وأترائي ، وتؤمن بالله في ذلك اليوم الأمم الكثيرة ، ويكونون له شعبا واحدا ، ويحل هو فيهم ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك ، ويأخذ الله في ذلك اليوم الملك من يهودا ويملك عليهم إلى الأبد». قيل لكم إن أوجبتم له الإلهية بهذا فلتجب لإبراهيم وغيره من الأنبياء ، فإن عند أهل الكتاب وأنتم معهم أن الله تجلى لإبراهيم واستعلن له وترائي له. وأما قوله : «وأحل فيك» لم يرد سبحانه بهذا حلول ذاته التي لا تسعها السموات والأرض في بيت المقدس ، وكيف تحل ذاته في مكان يكون فيه مقهورا مغلوبا مع شرار الخلق؟! كيف وقد قال : «ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك»؟! افترى عرفوا قوته بالقبض عليه وشد يديه بالحبال وربطه على خشبة الصليب ودق المسامير في يديه ورجليه ووضع تاج الشوك على رأسه وهو يستغيث ولا يغاث ، وما كان المسيح يدخل بيت المقدس إلا وهو مغلوب مقهور مستخف في غالب أحواله. ولو صح مجيء هذه الألفاظ صحة لا تدفع وصحت ترجمتها كما ذكروه لكان معناها أن معرفة الله والإيمان به وذكره ودينه وشرعه حل في تلك البقعة ، وبيت المقدس لما ظهر فيه دين المسيح بعد رفعه حصل فيه من الإيمان بالله ومعرفته

__________________

(١) نسخة خطية : أخرجي يا بنت صهيون.

١٨١

ما لم يكن قبل ذلك.

«وجماع الأمر» أن النبوات المتقدمة والكتب الإلهية لم تنطق بحرف واحد يقتضي أن يكون ابن البشر إلها تاما : إله حق من إله حق ، وأنه غير مصنوع ولا مربوب ، بل لم يخصه إلا بما خص به أخوه وأولى الناس به محمد بن عبد الله في قوله : «إنه عبد الله ورسوله وكلمته القاها إلى مريم وروح منه» وكتب الأنبياء المتقدمة وسائر النبوات موافقة لما أخبر به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك كله يصدق بعضه بعضا ، وجميع ما تستدل به المثلثة عباد الصليب على إلهية المسيح من ألفاظ وكلمات في الكتب فانها مشتركة بين المسيح وغيره كتسميته أبا وكلمة وروح حق وإلها ، وكذلك ما أطلق من حلول روح القدس فيه وظهور الرب فيه أو في مكانه.

[وباء حلولهم أصاب بعض مبتدعة الصوفية

وعباد الجهمية]

وقد وقع في نظير شركهم وكفرهم طوائف من المنتسبين إلى الإسلام ، واشتبه عليهم ما يحل في قلوب العارفين من الإيمان به ومعرفته ونوره وهداه فظنوا أن ذلك نفس ذات الرب ، وقد قال تعالى : (الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النمل : ٦٠] ، وقال : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الروم : ٢٧] ، وهو ما في قلوب ملائكته وأنبيائه وعباده المؤمنين من الإيمان به ومعرفته ومحبته وإجلاله وتعظيمه ، وهو نظير قوله : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) [البقرة : ١٣٧] ، وقوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) [الأنعام : ٣] ، وقوله : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : ٨٤] ، فأولياء الله يعرفونه ويحبونه ويجلونه ، ويقال : هو في قلوبهم. والمراد محبته ومعرفته والمثل الأعلى في قلوبهم لا نفس ذاته وهذا أمر يعتاده الناس في مخاطباتهم ومحاوراتهم يقول الإنسان لغيره : أنت في قلبي ولا زلت في عيني كما قال القائل :

ومن عجب أني أحن إليهم

وأسأل عنهم من لقيت وهم معي

١٨٢

وتطلبهم عيني وهم في سوادها

ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي

وقال آخر

خيالك في عيني وذكرك في فمي

ومثواك في قلبي فأين تغيب

وقال آخر

إن قلت غبت فقلبي لا يصدقني

إذ أنت فيه لم تغب

أو قلت ما غبت قال الطرف ذا كذب

فقد تحيرت بين الصدق والكذب

وقال آخر

أحسن إليه وهو في القلب ساكن

فيا عجبا لمن يحن لقلبه

ومن غلظ طبعه وكشف فهمه عن فهم مثل هذا لم يكثر عليه أن يفهم من الفاظ الكتب أن ذات الله سبحانه تحل في الصورة البشرية وتتحد بها وتمتزج بها (تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا).

وإن قلتم أوجبنا له الإلهية من قول شعيا : «من أعجب الأعاجيب أن رب الملائكة سيولد من البشر» قيل لكم هذا مع أنه يحتاج إلى صحة هذا الكلام عن شعيا وأنه لم يحرف بالنقل من ترجمة إلى ترجمة وأنه كلام منقطع عما قبله وبعده ببينة ، فهو دليل على أنه مخلوق مصنوع ، وإنه ابن البشر مولود منه ، لا من الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؟!

وإن قلتم جعلناه إلها من قول متى في إنجيله : «إن ابن الإنسان يرسل ملائكته ويجتمعون كل الملوك فيلقونهم في اتون النار» .. قيل هذا كالذي قبله سواء ، ولم يرد أن المسيح هو رب الأرباب ولا أنه خالق الملائكة ، وحاش الله أن يطلق عليه أنه رب الملائكة بل هذا من أقبح الكذب والافتراء ، بل رب الملائكة أوصى الملائكة بحفظ المسيح وتأييده ونصره بشهادة لوقا النبي القائم عندهم : «إن الله يوصي ملائكته بك ليحفظوك» ثم بشهادة لوقا : «إن الله أرسل له ملكا من السماء ليقويه» هذا الذي نطقت به الكتب ، فحرف الكذابون على الله وعلى مسيحه ذلك ، ونسبوا إلى الأنبياء أنهم قالوا هو رب الملائكة. وإذا

١٨٣

شهد الإنجيل واتفاق الأنبياء والرسل أن الله يوصي ملائكته بالمسيح ليحفظوه علم أن الملائكة والمسيح عبيد الله منفذون لأمره ليسوا أربابا ولا آلهة ، وقال المسيح لتلامذته : «من قبلكم فقد قبلني ، ومن قبلني فقد قبل من أرسلني» وقال المسيح لتلامذته أيضا : «من أنكرني قدام الناس انكرته قدام ملائكة الله» وقال الذي ضرب عبد رئيس الكهنة : «أغمد سيفك ولا تظن أني استطيع أن ادعوا الله الأب فيقيم لي أكثر من اثني عشر من الملائكة» فهل يقول هذا من هو رب الملائكة وإلههم وخالقهم؟!

وإن اوجبتم له الإلهية بما نقلتموه عن شعيا «تخرج عصا من بيت نبي ، وينبت منها نور ، ويحل فيه روح القدس ، روح الله ، روح الكلمة والفهم ، روح الحيل والقوة ، روح العلم وخوف الله ، وبه يؤمنون وعليه يتوكلون ، ويكون لهم التاج والكرامة إلى دهر الداهرين». قيل لكم هذا الكلام بعد المطالبة بصحة نقله عن شعيا وصحة الترجمة له باللسان العربي وأنه لم يحرفه المترجم هو حجة على المثلثة عباد الصليب لا لهم ، فإنه لا يدل على أن المسيح خالق السموات والأرض ، بل يدل على مثل ما دل عليه القرآن ، وأن المسيح أيد بروح القدس ؛ ، فانه قال : «ويحل فيه روح القدس روح الله ، روح الكلمة والفهم ، روح الحيل والقوة ، روح العلم وخوف الله ، ولم يقل تحل فيه حياة الله فضلا عن أن يحل الله فيه ويتحد به ويتخذ حجابا من ناسوته ، وهذه روح تكون مع الأنبياء والصديقين ، وعندهم في التوراة «أن الذين كانوا يعملون في قبة الزمان حلت فيهم روح الحكمة» وروح الفهم والعلم هي ما يحصل به الهدى والنصر والتأييد ، وقوله : «هي روح الله» لا تدل على أنها صفة فضلا عن أن يكون هو الله!! وجبريل يسمى روح الله ، والمسيح اسمه روح الله.

«والمضاف» إذا كان ذاتا قائمة بنفسها فهو إضافة مملوك إلى مالك كبيت الله وناقة الله وروح الله ، ليس المراد به بيت يسكنه ، ولا ناقة يركبها ، ولا روح قائمة به ، وقد قال تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة : ٢٢] ، وقال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] ، فهذه الروح أيد بها عباده المؤمنين. وأما قوله : «وبه يؤمنون

١٨٤

وعليه يتوكلون فهو عائد إلى الله لا إلى العصا التي نبت من بيت النبوة ، وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في قوله : (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) [الملك : ٢٩] ، وقال موسى لقومه : (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) وهو كثير في القرآن ، وقد أخبر أنه أيده بروح العلم وخوف الله ، فجمع بين العلم والخشية وهما الأصلان اللذان جمع القرآن بينهما في قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ، وفي قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، : «أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية» وهذا شأن العبد المحض. وأما الإله الحق ورب العالمين فلا يلحقه خوف ولا خشية ولا يعبد غيره ، والمسيح كان قائما بأوراد العبادات لله أتم القيام!!

وإن أوجبتم له الإلهية بقول شعيا : «إن غلاما ولد لنا وأننا أعطيناه كذا وكذا ، ورئاسته على عاتقيه وبين منكبيه ، ويدعى اسمه ملكا عظيما عجيبا إلها قويا مسلطا رئيسا ، قوي السلامة في كل الدهور وسلطانه كامل ليس له فناء» ، قيل لكم ليس في هذه البشارة ما يدل على أن المراد بها المسيح بوجه من الوجوه ، ولو كان المراد بها المسيح لم يدل على مطلوبهم. أما «المقام الأول» فدلالتها على محمد بن عبد الله اظهر من دلالتها على المسيح ، فإنه هو الذي رئاسته على عاتقيه وبين منكبيه من جهتين ، من جهة أن خاتم النبوة علا نغض كتفيه ، وهو من أعلام النبوة التي أخبرت به الأنبياء ، وعلامة ختم ديوانهم ، ولذلك كان في ظهوره ومن جهة أنه بعث بالسيف الذي يتقلد به على عاتقه ويرفعه إذا ضرب به على عاتقه ، ويدل عليه قوله : «رئيس مسلط قوي السلامة» وهذه صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤيد المنصور رئيس السلامة ، فإن دينه الإسلام ، ومن اتبعه سلم من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة ومن استيلاء عدوه عليه ، والمسيح لم يسلط على أعدائه كما سلط محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل كان أعداؤه مسلطين عليه قاهرين له حتى عملوا به ما عملوا عند المثلثة عباد الصليب. فأين مطابقة هذه الصفات للمسيح بوجه من الوجوه؟! وهي مطابقة لمحمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من كل وجه ، وهو الذي سلطانه كامل ليس له فناء إلى آخر الدهور. فإن قيل : إنكم لا تدعون محمدا إلها بل هو عندكم عبد محض؟ قيل نعم والله أنه لكذلك عبد محض

١٨٥

لله ، والعبودية أجل مراتبه ، واسم «الإله» من جهة التراجم جاء ، والمراد به السيد المطاع لا الإله المعبود الخالق الرازق ...

وإن أوجبتم له الإلهية من قول شعيا فيما زعمتم : «ها هي العذراء تحبل وتلد ابنا يدعى اسمه عمانويل» وعمانويل كلمة عبرانية تفسيرها بالعربية «إلهنا معنا» فقد شهد له النبي أنه إله. قيل لكم بعد ثبوت هذا الكلام وتفسيره لا يدل على أن العذراء ولدت رب العالمين وخالق السموات والأرضين ، فإنه قال تلد ابنا وهذا دليل على أنه ابن من جملة البنين ليس هو رب العالمين. وقوله : «ويدعى اسمه عمانويل» فإنما يدل على أنه يسمى بهذا الاسم كما يسمي الناس أبناءهم بأنواع من الصفات والأسماء والأفعال والجمل المركبة من اسمين أو اسم وفعل وكثير من أهل الكتاب يسمون أولادهم عمانويل. ومن علمائكم من يقول المراد بالعذراء هاهنا غير مريم ، ويذكر في ذلك قصة ، ويدل على هذا أن المسيح لا يعرف اسمه «عمانويل» وأن كان ذلك اسمه فكونه يسمى إلهنا معنا أو بالله حسبي أو الله وحده ونحو ذلك ، وقد حرف بعض المثلثة عباد الصليب هذه الكلمة وقال معناها «الله معنا» ورد عليهم بعض من أنصف من علمائهم وحكم رشده على هواه وهداه الله للحق وبصره من عماه وقال : أهذا هو القائل : «أنا الرب ، ولا إله غيري ، وأنا أحيي وأميت وأخلق وأرزق؟! أم هو القائل لله : «إنك أنت الإله الحق وحدك الذي أرسلت اليسوع المسيح؟!» قال : «والأول باطل قطعا ، والثاني هو الذي شهد به الإنجيل ، ويجب تصديق الإنجيل وتكذيب من زعم أن المسيح إله معبود. قال وليس المسيح مخصوصا بهذا الاسم فان «عمانويل» اسم تسمي به النصارى واليهود أولادهما ، قال : وهذا موجود في عصرنا هذا ، ومعنى هذه التسمية بينهم شريف القدر. قال وكذلك السريان يسمون أولادهم «عمانويل» والمسلمون وغيرهم يقولون للرجل : الله معك. فإذا سمى الرجل بقوله الله معك كان هذا تبركا بمعنى هذا الاسم!!

وإن أوجبتم له الإلهية بقول حنقوق فيما حكيتموه عنه «أن الله في الأرض يتراءى ويختلط مع الناس ويمشي معهم» ، ويقول أرميا أيضا بعد هذا «الله يطير في الأرض وينقلب مع البشر» .. قيل لكم هذا بعد احتياجه إلى ثبوت نبوة هذين

١٨٦

الشخصين أولا وإلى ثبوت هذا النقل عنهما ، وإلى مطابقة الترجمة من غير تحريف ـ وهذه «ثلاث مقامات» يعز عليكم اثباتها ـ لا يدل على أن المسيح هو خالق السموات والأرض ، وإنه إله حق ليس بمخلوق ولا مصنوع ، ففي التوراة ما هو من الجنس وأبلغ ولم يدل ذلك على أن موسى إله ولا إنه خارج عن جملة العبيد! وقوله «يتراءى» مثل تجلى وظهر واستعلن» ونحو ذلك من ألفاظ التوراة وغيرها من الكتب الإلهية ، وقد ذكر في التوراة «أن الله تجلى وتراءى لإبراهيم وغيره من الأنبياء» ولم يدل ذلك على الإلهية لاحد منه ، ولم يزل في عرف الناس ومخاطبتهم أن يقولوا فلان معنا وهو بين أظهرنا ولم يمت. إذا كان عمله وسنته وسيرته بينهم ووصاياه يعمل بها بينهم ، وكذلك يقول القائل لمن مات والده : ما مات من خلف مثلك ، وأنا والدك. وإذا رأوا تلميذا لعالم تعلم علمه قالوا : هذا فلان باسم استاذه ، كما كان يقال عن عكرمة هذا ابن عباس ، وعن أبي حامد : هذا الشافعي. وإذا بعث الملك نائبا يقوم مقامه في بلد يقول الناس جاء الملك ، وحكم الملك ، ورسم الملك. وفي الحديث الصحيح الإلهي : «يقول الله عزوجل يوم القيامة عبدي مرضت فلم تعدني ، فيقول يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال أما أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ، أما لوا عدته لوجدتني عنده ، عبدي جعت فلم تطعمني ، فيقول رب كيف اطعمك وانت رب العالمين!! قال أما علمت أن عبدي فلانا استطعمك فلم تطعمه ، أما لو اطعمته لوجدت ذلك عندي. عبدي استسقيتك فلم تسقني ، فيقول رب كيف استقيك وأنت رب العالمين؟! فيقول أما ان عبدي فلانا عطش فاستسقاك فلم تسقه ، أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي» وأبلغ من هذا قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠] ، ومن هذا قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] ، فلو استحل المسلمون ما استحللتم لكان استدلالهم بذلك على أن محمدا إله من جنس استدلالكم لا فرق بينهما!!

وإن أوجبتم له الإلهية بقوله في السفر الثالث من أسفار الملوك : «والآن يا رب إله إسرائيل يتحقق كلامك لداود لأنه حق أن يكون أنه سيسكن الله مع الناس على الأرض ، اسمعوا أيتها الشعوب كلكم ، ولتنصت الأرض وكل من فيها ،

١٨٧

فيكون الرب عليها شاهدا ، ويخرج من موضعه ، وينزل ، ويطأ على مشارق الأرض في شأن خطيئة بني يعقوب» .. قيل لكم هذا السفر يحتج أولا إلى أن يثبت أن الذي تكلم به نبي ، وأن هذا لفظه ، وأن الترجمة مطابقة له وليس ذلك بمعلوم. وبعد ذلك فالقول في هذا الكلام كالقول في نظائره مما ذكرتموه وما لم تذكروه ، وليس في هذا الكلام ما يدل على أن المسيح خالق السموات والأرض ، وأنه إله حق غير مصنوع ولا مخلوق ، فإن قوله : «أن الله سيسكن مع الناس في الأرض» هو مثل كونه معهم ، وإذا صار في الأرض نوره وهداه ودينه ونبيه كانت هذه سكناه لا أنه بذاته المقدسة نزل عن عرشه وسكن مع أهل الأرض ، ولو قدر تقدير المحالات أن ذلك واقع لم يلزم أن يكون هو المسيح ، فقد سكن الرسل والأنبياء قبله وبعده ، فما الموجب لأن يكون المسيح هو الإله دون إخوانه من المرسلين؟! أترى ذلك للقوة والسلطان الذي كان له وهو في الأرض ، وقد قلتم أنه قبض عليه وفعل به ما فعل من غاية الإهانة والإذلال والقهر ، فهذا ثمرة سكناه في الأرض مع خلقه فإن قلتم سكنه وفي الأرض هو ظهوره في ناسوت المسيح. قيل لكم أما الظهور الممكن المعقول وهو ظهور محبته ومعرفته ودينه كلامه فهذا لا فرق فيه بين ناسوت المسيح وناسوت سائر الأنبياء والمرسلين ، وليس في اللفظ على هذا التقدير ما يدل على اختصاصه بناسوت المسيح ، وأما الظهور المستحيل الذي تأباه العقول والفطر والشرائع وجميع النبوات وهو ظهور ذات الرب في ناسوت مخلوق من مخلوقاته واتحاده به ، وامتزاجه واختلاطه فهذا محال عقلا وشرعا ، فلا يمكن أن تنطق به نبوة أصلا ، بل جميع النبوات من أولها إلى آخرها متفقة على أصول.

[المثلثة خالفت أصول الأنبياء في تقديس الله ووصفه بصفات الكمال]

(أحدها) أن الله سبحانه وتعالى قديم واحد لا شريك له في ملكه ولا ند ولا ضد ولا وزير ولا مشير ولا ظهير ولا شافع إلا من بعد إذنه. «الثاني» أنه لا والد له ولا ولد ولا كفؤ ولا نسيب بوجه من الوجوه ولا زوجة. «الثالث» أنه غني بذاته فلا يأكل ولا يشرب ولا يحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه خلقه بوجه من الوجوه. «الرابع» أنه لا يتغير ولا تعرض له الآفات من الهرم والمرض والسّنة

١٨٨

والنوم والنسيان والندم والخوف والهم والحزن ونحو ذلك. «الخامس» أنه لا يماثل شيئا من مخلوقاته بل ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. «السادس» أنه لا يحل في شيء من مخلوقاته ولا يحل في ذاته شيء منها بل هو بائن عن خلقه بذاته والخلق بائنون عنه. «السابع» أنه أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء وفوق كل شيء وعال على كل شيء وليس فوقه شيء البتة. «الثامن» أنه قادر على كل شيء فلا يعجزه شيء يريده بل هو الفعال لما يريد. «التاسع» أنه عالم بكل شيء يعلم السر وأخفى ويعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) [الأنعام : ٥٩] ، ولا متحرك إلا وهو يعلمه على حقيقته. «العاشر» أنه سميع بصير يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات ، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، فقد أحاط سمعه بجميع المسموعات ، وبصره بجميع المبصرات ، وعلمه بجميع المعلومات ، وقدرته بجميع المقدورات ، ونفذت مشيئته في جميع البريات ، وعمت رحمته جميع المخلوقات ، ووسع كرسيه الأرض والسموات. «الحادي عشر» أنه الشاهد الذي لا يغيب ولا يستخلف أحدا على تدبير ملكه ولا يحتاج إلى من يرفع إليه حوائج عباده أو يعاونه عليها أو يستعطفه عليهم ويسترحمه لهم. «الثاني عشر» أنه الأبدي الباقي الذي لا يضمحل ولا يتلاشى ولا يعدم ولا يموت. «الثالث عشر» أنه المتكلم الآمر الناهي قائل الحق وهادي السبيل ومرسل الرسل ومنزل الكتب والقائم على كل نفس بما كسبت من الخير والشر ، ومجازي المحسن باحسانه ، والمسيء بإساءته ، «الرابع عشر» أنه الصادق في وعده وخبره ، فلا اصدق منه قيلا ، ولا أصدق منه حديثا ، وهو لا يخلف الميعاد. «الخامس عشر» أنه تعالى صمد بجميع الصمدية ، فيستحيل عليه ما يناقض صمديته. «السادس عشر» أنه قدوس سلام ، فهو المبرأ من كل عيب وآفة ونقص. «السابع عشر» أنه الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه «الثامن عشر» أنه العدل الذي لا يجور ولا يظلم ولا يخاف عباده منه ظلما. فهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل ، وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه ولا يخبر نبي

١٨٩

بخلافه أصلا ، فترك المثلثة عباد الصليب هذا كله ، وتمسكوا بالمتشابهة من المعاني والمجمل من الألفاظ ، وأقوال من ضلوا من قبل ، وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. وأصول المثلثة ومقالتهم في رب العالمين تخالف هذا كله اشد المخالفة وتباينه أعظم المباينة.

[لو لم يظهر محمد بن عبد الله لبطلت نبوة سائر الأنبياء]

[بنو إسرائيل قبل موسى وبعده]

(فصل) في أنه لو لم يظهر محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لبطلت نبوة سائر الأنبياء ، فظهور نبوته تصديق لنبواتهم وشهادة لها بالصدق ، فإرساله من آيات الأنبياء قبله ، وقد اشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في قوله : (جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ٣٧] ، فإن المرسلين بشروا به وأخبروا بمجيئه ، فمجيؤه هو نفس صدق خبرهم ، فكأن مجيئه تصديقا لهم إذ هو تأويل ما اخبروا به ، ولا تنافي بين هذا وبين القول الآخر : إن تصديقه المرسلين شهادته بصدقهم وإيمانه بهم فإنه صدقهم بقوله ومجيئه فشهد بصدقهم بنفس مجيئه ، وشهد بصدقهم بقوله ، ومثل هذا قول المسيح : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦] ، فإن التوراة لما بشرت به وبنبوته كان نفس ظهوره تصديقا لها ، ثم بشر برسول يأتي من بعده فكان ظهور الرسول المبشر به تصديقا له ، كما كان ظهوره تصديقا للتوراة فعادة الله في رسله أن السابق يبشر باللاحق ، واللاحق يصدق السابق ، فلو لم يظهر محمد بن عبد الله ولم يبعث لبطلت نبوة الأنبياء قبله ، والله سبحانه لا يخلف وعده ولا يكذب خبره ، وقد كان بشر إبراهيم وهاجر بشارات بينات ولم نرها تمت ولا ظهرت إلا بظهور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد بشرت هاجر من ذلك بما لم تبشر به امرأة من العالمين غير مريم ابنة عمران بالمسيح على أن مريم بشرت به مرة واحدة ، وبشرت هاجر باسماعيل مرتين ، وبشر به إبراهيم مرارا ، ثم ذكر الله سبحانه هاجر بعد وفاتها كالمخاطب لها على ألسنة الأنبياء ، ففي التوراة : «أن الله تعالى قال لإبراهيم قد اجبت دعاءك في إسماعيل ، وباركت عليه ، وكبرته ، وعظمته» هكذا في ترجمة بعض المترجمين. وأما في الترجمة التي ترجمها اثنان

١٩٠

وسبعون حبرا من أحبار اليهود فإنه يقول : «وسيلد اثني عشر أمة من الأمم» وفيها «لما هربت هاجر من سارة تراءى لها ملك الله ، وقال يا هاجر أمة سارة من اين اقبلت وإلى أين تذهبين؟! قالت هربت من سيدتي ، فقال لها الملك ارجعي إلى سيدتك واخضعي لها ، فإني ساكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون كثرة ، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا تسميه اسماعيل ، لأنه الله قد سمع بذلك خشوعك ، وهو يكون عين الناس ، ويكو يده فوق الجميع ، ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع ، ويكون مسكنه على تخوم جميع اخوته» وفي موضع آخر قصة إسكانها وابنها اسماعيل في برية فاران ، وفيها «فقال لها الملك يا هاجر ليفرح روعك فقد سمع الله تعالى صوت الصبي ، قومي فاحمليه وتمسكي به فإن الله جاعله لأمة عظيمة ، وإن الله فتح عليها فإذا ببئر ماء فذهبت وملأت المزادة منه وسقت الصبي منه ، وكان الله معها ومع الصبي حتى تربى ، وكان مسكنه في برية فاران» فهذه أربع بشارات خالصة لأم اسماعيل : نزلت اثنتان منها على إبراهيم ، واثنتان على هاجر. وفي التوراة أيضا بشارات أخر باسماعيل وولده وأنهم أمة عظيمة جدا ، وأن نجوم السماء تحصى ولا يحصون ، وهذه البشارة إنما تمت بظهور محمد بن عبد الله وأمته.

فإن «بني إسحاق» كانوا لم يزالوا مطرودين مشردين خولا للفراعنة والقبط حتى أنقذهم الله بنبيه وكليمه موسى بن عمران ، وأورثتهم أرض الشام فكانت كرسي مملكتهم ، ثم سلبهم ذلك وقطعهم في الأرض أمما مسلوبا عزهم وملكهم : قد أخذتهم سيوف السودان ، وعلتهم أعلاج الحمران حتى إذا ظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تمت تلك النبوات وظهرت تلك البشارات بعد دهر طويل وعلت بنو إسماعيل على من حولهم فهشموهم هشما ، وطحنوهم طحنا ، وانتشروا في آفاق الدنيا ، ومدت الأمم أيديهم إليهم بالذل والخضوع ، وعلوهم علو الثريا فيما بين الهند والحبشة والسوس الأقصى وبلاد الترك والصقالبة والخزر ، وملكوا ما بين الخافقين وحيث ملتقى أمواج البحرين ، وظهر ذكر إبراهيم على ألسنة الأمم ، فليس صبي من بعد ظهور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا امرأة ولا حر ولا عبد ولا ذكر ولا أنثى إلا وهو يعرف إبراهيم وآل إبراهيم.

١٩١

وأما «النصرانية» وإن كانت قد ظهرت في أمم كثيرة جليلة فإنه لم يكن لهم في محل إسماعيل وأمه هاجر سلطان ظاهر ولا عز قاهر البتة ، ولا صارت أيدي هذه الأمة فوق أيدي الجميع ولا امتدت إليهم أيدي الأمم بالخضوع ، وكذلك سائر ما تقدم من البشارات التي تفيد بمجموعها العلم القطعي بأن المراد بها محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمته ، فإنه لو لم يقع تأويلها بظهوره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لبطلت تلك النبوات ، ولهذا لما علم الكفار من أهل الكتاب أنه لا يمكن الإيمان بالأنبياء المتقدمين إلا بالإيمان بالنبي الذي بشروا به قالوا نحن في انتظاره ولم يجيء بعد ولما علم بعض الغلاة في كفره وتكذيبه منهم أن هذا النبي في ولد إسماعيل أنكروا أن يكون لإبراهيم ولد اسمه اسماعيل ، وأن هذا لم يخلقه الله : ولا يكثر على أمة البهت وإخوان القرود وقتلة الأنبياء مثل ذلك ، كما لم يكثر على المثلثة عباد الصليب الذين سبوا رب العالمين أعظم مسبة أن يطعنوا في ديننا وينتقصوا نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ونحن نبين أنهم لا يمكنهم أن يثبتوا للمسيح فضيلة ولا نبوة ولا آية ولا معجزة إلا بإقرارهم أن محمدا رسول الله ، وإلا فمع تكذيبه لا يمكن أن يثبت للمسيح شيء من ذلك البتة ..

[لا يمكنهم أن يثبتوا للمسيح فضيلة ولا نبوة إذا كفروا بمحمد]

[اليهود اساتذة النصارى في قصة الصلب وأخبار المسيح]

فنقول : إذا كفرتم معاشر المثلثة عباد الصليب بالقرآن وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن أين لكم أن تثبتوا لعيسى فضيلة أو معجزة ، ومن نقل إليكم عنه آية او معجزة؟! فإنكم إنما تبعتم من بعده بنيف على مائتين وعشرات من السنين اخبرتم عن منام رؤى فأسرعتم إلى تصديقه ، وكان الأولى لمن كفر بالقرآن أن ينكر وجود عيسى في العالم لأنه لا يقبل قول اليهود فيه ، ولا سيما وهم أعظم أعدائه الذين رموه وأمه بالعظائم ، فأخبار المسيح والصليب إنما شيوخكم فيها اليهود ، وهم فيما بينهم مختلفون في أمره أعظم اختلاف ، وانتم مختلفون معهم في أمره ، فاليهود تزعم أنهم حين أخذوه حبسوه في السجن أربعون يوما ، وقالوا ما كان لكم أن تحبسوه أكثر من ثلاثة أيام ثم تقتلوه إلا أنه كان يعضده أحد قواد الروم ، لأنه كان يداخله في صناعة الطب عندهم. وفي الأناجيل التي بأيديكم : «أنه أخذ صبح

١٩٢

يوم الجمعة وصلب في الساعة التاسعة من اليوم بعينه» فمتى تتوافقون مع اليهود في خبره ، واليهود مجمعون أنه لم يظهر له معجزة ولا بدت منه لهم آية غير أنه طار يوما وقد هموا بأخذه فطار على أثره آخر منهم فعلاه في طيرانه فسقط إلى الأرض بزعمهم. وفي الإنجيل الذي بأيديكم في غير موضع ما يشهد أنه لا معجزة له ولا آية!! فمن ذلك أن فيه منصوصا : «أن اليهود قالوا له يوما ما ذا تفعل حتى تنتهي به إلى أمر الله تعالى؟ فقال أمر الله أن تؤمنوا بمن بعثه ، فقالوا له : وما آتيتك التي ترينا ونؤمن بك وأنت تعلم أن آباءنا قد أكلوا المن والسلوى بالمفاوز؟ قال إن كان أطعمكم موسى خبزا فأنا أطعمكم خبزا سماويا ، يريد نعيم الآخرة فلو عرفوا له معجزة ما قالوا ذلك .. وفي الإنجيل الذي بأيديكم ان اليهود قالت له : «ما آيتك التي نصدقك بها؟» قال : «اهدموا البيت أبنيه لكم في ثلاثة أيام» فلو كانت اليهود تعرف له آية لم تقل هذا ، ولو كان قد أظهر لهم معجزة لذكرهم بها حينئذ. وفي الإنجيل الذي بأيديكم أيضا «أنهم جاءوا يسألونه آية فقذفهم ، وقال : أن القبيلة الفاجرة الخبيثة تطلب آية فلا تعطى ذلك» .. وفيه أيضا : «أنهم كانوا يقولون له وهو على الخشبة بظنكم إن كنت المسيح فأنزل نفسك فنؤمن بك يطلبون بذلك آية فلم يفعل» فإذا كفرتم معاشر المثلثة عباد الصليب بالقرآن لم يتحقق لعيسى ابن مريم آية ولا فضيلة ، فإن أخباركم عنه وأخبار اليهود لا يلتفت إليها لاختلافكم في شأنه أشد الاختلاف وعدم تيقنكم لجميع امره. وكذلك اجتمعت اليهود على أنه لم يدع شيئا من الإلهية التي نسبتم إليه أنه ادعاها ، وكان أقصى مرادهم أن يدعي فيكون أبلغ في تسلطهم عليه ، وقد ذكر السبب في استفاضة ذلك عنه وهو أن أحبارهم وعلماءهم لما مضى وبقي ذكره خافوا أن تصير عامتهم إليه إذ كان على سنن تقبله قلوب الذين لا غرض لهم ، فشنعوا عليه أمورا كثيرة ، ونسبوا إليه دعوى الإلهية تزهيدا للناس في أمره.

[أخبار اليهود والنصارى عن عيسى ونسبه لا يوثق بها ..]

ثم إن اليهود عندهم من الاختلاف في أمره ما يدل على عدم تيقنهم بشيء من أخباره ، فمنهم من يقول أنه كان رجلا منهم ويعرفون أباه وأمه وينسبونه

١٩٣

لزانية! وحاشاه وحاشا أمه الصديقة الطاهرة البتول التي لم يقرعها فحل قط قاتلهم الله أنى يؤفكون ، ويسمون أباه الزاني البنديرا الرومي ، وأمه مريم الماشطة ، ويزعمون أن زوجها يوسف بن يهودا وجد البنديرا عندها على فراشها وشعر بذلك فهجرها وأنكر ابنها. ومن اليهود من رغب عن هذا القول وقال إنما أبوه يوسف بن يهودا الذي كان زوجا لمريم ، ويذكرون أن السبب في استفاضة اسم الزنا عليه أنه بينا هو يوما مع معلمه بهشوع بن برخيا وسائر التلاميذ في سفر فنزلوا موضعا فجاءت امرأة من أهله وجعلت تبالغ في كرامتهم ، فقال بهشوع ما أحسن هذه المرأة؟! يريد أفعالها ، فقال عيسى بزعمهم لو لا عور في عينها ، فصاح بهشوع وقال له يا ممزار ـ ترجمته يا زنيم ـ أتزني بالنظر ؛ وغضب غضبا شديدا وعاد إلى بيت المقدس وحرم اسمه ولعنه في أربعمائة قرن ، فحينئذ لحق ببعض قواد الروم وداخله بصناعة الطب فقوي بذلك على اليهود ، وهم يومئذ في ذمة قيصر بتاريوش ، وجعل يخالف حكم التوراة ويستدرك عليها ويعرض عن بعضها إلى أن كان من أمره ما كان. وطوائف من اليهود يقولون غير هذا ، ويقولون إنه كان يلاعب الصبيان بالكرة فوقعت منهم بين جماعة من مشايخ اليهود فضعف الصبيان عن استخراجها من بينهم حياء من المشايخ ، فقوى عيسى وتخطى رقابهم وأخذها ، فقالوا له ما نظنك إلا زنيما .. ومن اختلاف اليهود في أمره أنهم يسمون أباه بزعمهم الذي كان خطب مريم يوسف بن يهودا النجار. وبعضهم يقول إنما هو يوسف الحداد. والنصارى تزعم أنها كانت ذات بعل وأن زوجها يوسف بن يعقوب. وبعضهم يقول يوسف بن آل. وهم يختلفون أيضا في آبائه وعددهم إلى إبراهيم فمن مقل ومن مكثر. فهذا ما عند اليهود وهم شيوخكم في نقل الصلب وأمره وإلا فمن المعلوم أنه لم يحضره أحد من النصارى وإنما حضره اليهود وقالوا قتلناه وصلبناه وهم الذين قالوا فيه ما حكيناه عنهم فإن صدقتموهم في الصلب فصدقوهم في سائر ما ذكروه ، وإن كذبتموهم فيما نقوله عنه فما الموجب لتصديقهم في الصلب وتكذيب أصدق الصادقين الذي قامت البراهين القطعية على صدقه أنهم ما قتلوه وما صلبوه ، بل صانه الله وحماه وحفظه ، وكان أكرم على الله وأوجه عنده من أن يبتليه بما تقولون أنتم واليهود.

١٩٤

[النصارى أشد الأمم افتراقا في دينهم]

[وما اتفقت عليه فرقهم المشهورة]

وأما خبر ما عندكم أنتم فلا نعلم أمة أشد اختلافا في معبودها ونبيها ودينها منكم ، فلو سألت الرجل وامرأته وابنته وأمه وأباه عن دينهم لأجابك كل منهم بغير جواب الآخر ، ولو اجتمع عشرة منهم يتذاكرون الدين لتفرقوا عن أحد عشر مذهبا مع اتفاق فرقهم المشهورة اليوم على القول بالتثليث وعبادة الصليب ، وأن المسيح ابن مريم ليس بعبد صالح ولا نبي ولا رسول ، وأنه إله في الحقيقة ، وأنه هو خالق السموات والأرض والملائكة والنبيين ، وأنه هو الذي أرسل الرسل وأظهر على أيديهم المعجزات والآيات ، وأن للعالم إلها هو أب والد لم يزل ، وأن ابنه نزل من السماء وتجسم من روح القدس ومن مريم وصار هو وابنها الناسوتي إلها واحدا ومسيحا واحدا وخالقا واحدا ورازقا واحدا ، وحبلت به مريم وولدته ، وأخذ وصلب وألم ومات ودفن ، وقام بعد ثلاثة أيام وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه قالوا والذي ولدته مريم وعاينه الناس وكان بينهم هو الله وهو ابن الله وهو كلمة الله ، فالقديم الأزلي خالق السموات والأرض هو الذي حبلت به مريم وأقام هناك تسعة أشهر ، وهو الذي ولد ورضع وفطم وأكل وشرب وتغوط وأخذ وصلب وشد بالحبال وسمرت يداه.

[اختلاف فرقهم المشهورة في شخصية المسيح]

ثم اختلفوا : فقالت «اليعقوبية» ـ اتباع يعقوب البرادعي ولقب بذلك لأن لباسه كان من خرق برادع الدواب يرقع بعضها ببعض ويلبسها ـ إن المسيح طبيعة واحدة من طبيعتين : «احداهما» طبيعة الناسوت ، «والأخرى» طبيعة اللاهوت ، وأن هاتين الطبيعتين تركبتا فصار إنسانا واحدا وجوهرا واحدا وشخصا واحدا ، فهذه الطبيعة الواحدة والشخص الواحد هو المسيح ، وهو إله كله ، وإنسان كله ، وهو شخص واحد ، وطبيعة واحدة من طبيعتين. وقالوا : إن مريم ولدت الله ، وأن الله سبحانه قبض عليه وصلب وسمر ومات ودفن ثم عاش بعد ذلك.

(فصل) وقالت «الملكية» ـ وهم الروم نسبة إلى دين الملك لا إلى رجل

١٩٥

يدعى ملكانيا هو صاحب مقالتهم كما يقوله بعض من لا علم له بذلك ـ أن الابن الأزلي الذي هو الكلمة تجسدت من مريم تجسدا كاملا كسائر أجساد الناس ، وركبت في ذلك الجد نفسا كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس ، وأنه صار إنسانا بالجسد والنفس اللذين هما من جوهر الناس ، وإلها بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل ، وهو إنسان بجوهر الناس مثل إبراهيم وموسى وداود ، وهو شخص واحد لم يزد عدده ، وثبت له جوهر اللاهوت كما لم يزل ، وصح له جوهر الناسوت الذي لبسه ابن مريم ، وهو شخص واحد لم يزد عدده وطبيعتان ، ولكل واحد من الطبيعتين مشيئة كاملة ، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب ، وله بناسوته مشيئة كمشيئة إبراهيم وداود. وقالوا : إن مريم ولدت «المسيح» وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت ، وقالوا : إن الذي مات هو الذي ولدته مريم ، وهو الذي وقع عليه الصلب والتسمير والصفع والربط وبالحبال واللاهوت لم يمت ولم يألم ولم يدفن ، قالوا وهو إله تام بجوهر لاهوته ، وإنسان تام بجوهر ناسوته ، وله المشيئتان : مشيئة اللاهوت ، ومشيئة الناسوت. فأتوا بمثل ما أتى به اليعقوبية من أن مريم ولدت الإله إلا أنهم بزعمهم نزهوا الإله عن الموت. وإذا تدبرت قولهم وجدته في الحقيقة هو قول اليعقوبية مع تنازعهم وتناقضهم فيه ، فاليعقوبية أطرد لكفرهم لفظا ومعنى ..

وأما «النسطورية» فذهبوا إلى القول بأن المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة ، وأن طبيعة اللاهوت لما وجدت بالناسوت صار لهما إرادة واحدة ، واللاهوت لا يقبل زيادة ولا نقصان ولا يمتزج بشيء ، والناسوت يقبل الزيادة والنقصان ، فكان المسيح بذلك إلها وإنسانا ، فهو الإله بجوهر اللاهوت الذي لا يقبل الزيادة والنقصان ، وهو إنسان بجوهر الناسوت الذي يقبل الزيادة والنقصان. وقالوا إن مريم ولدت المسيح بناسوته وأن اللاهوت لم يفارقه قط. وكل هذه الفرق استنكفت أن يكون المسيح عبدا لله وهو لم يستنكف من ذلك ، ورغبت به عن عبودية الله وهو لم يرغب عنها بل أعلى منازل العبودية عبودية الله ، ومحمد وإبراهيم خير منه ، وأعلى منازلهما تكميل مراتب العبودية ، فالله رضيه أن يكون له عبدا فلم ترض المثلثة بذلك.

١٩٦

.. وقالت : «الاريوسية» منهم وهم أتباع أريوس : إن المسيح عبد الله كسائر الأنبياء والرسل ، وهو مربوب مخلوق مصنوع ، وكان النجاشي على هذا المذهب. وإذا ظفرت المثلثة بواحد من هؤلاء قتلته شر قتلة ، وفعلوا به ما يفعل بمن سب المسيح وشتمه أعظم سب. والكل من تلك الفرق الثلاث عوامهم لا تفهم مقالة خواصهم على حقيقتها ، بل يقولون أن الله تخطى مريم كما يتخطى الرجل المرأة وأحبلها فولدت له ابنا ، ولا يعرفون تلك الهذيانات التي وضعها خواصهم ، فهم يقولون : الذي تدندن حوله نحن نعتقده بغير حاجة منا إلى معرفة الأقانيم الثلاثة من الطبيعتين والمشيئتين ، وذلك للتهويل والتطويل ؛ وهم يصرحون بأن مريم والدة الإله ، والله أبوه ، وهو الابن فهذا الزوج ، والزوجة ، والولد : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٨٨ ، ٨٩ ، ٩٠ ، ٩١ ، ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٤ ، ٩٥] ،

[محمد برأ المسيح وأمه من افتراء اعدائهما وأنزله المنزلة العالية]

[ونزه الله عن افتراء المثلثة عليه]

فهذه أقوال أعداء المسيح من اليهود والغالين فيه من النصارى المثلثة عباد الصليب فبعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بما أزال الشبه في أمره وكشف الغمة ، وبرأ المسيح وأمه من افتراء اليهود وبهتهم وكذبهم عليهما ونزه رب العالمين ، وخالق المسيح وأمه مما افتراه عليه المثلثة عباد الصليب الذين سبوه أعظم السب ، فانزل المسيح أخاه بالمنزلة التي أنزله الله بها وهي أشرف منازله ، فآمن به وصدقه ، وشهد له بأنه عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول الطاهرة الصديقة سيدة نساء العالمين في زمانها ، وقرر معجزات المسيح وآياته ، واخبر عن ربه تعالى بتخليد من كفر بالمسيح في النار ، وأن ربه تعالى أكرم عبده ورسوله ونزهه وصانه أن ينال إخوان القردة منه ما زعمته النصارى أنهم نالوه منه ، بل رفعه إليه مؤيدا منصورا لم يشكه أعداؤه بشوكة ، ولا نالته

١٩٧

أيديهم باذى ، فرفعه إليه وأسكنه سماءه ، وسيعيده إلى الأرض ينتقم به من مسيح الضلال واتباعه ، ثم يكسر به الصليب ، ويقتل به الخنزير ، ويعلى به الإسلام ، وينصر به ملة أخيه وأولى الناس به محمد عليهما افضل الصلاة والسلام. فإذا وضع هذا القول في المسيح في كفة وقول عباد الصليب المثلثة في كفة تبين لكل من له أدنى مسكة من عقل ما بينهما من التفاوت ، وأن تفاوتهما كتفاوت ما بينه وبين قول المغضوب عليهم فيه ، وبالله التوفيق.

فلو لا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عرفنا أن المسيح ابن مريم الذي هو رسول الله وعبده وكلمته وروحه موجود أصلا ، فإن هذا المسيح الذي أثبته اليهود من شرار خلق الله ليس بمسيح الهدى ، والمسيح الذي أثبته النصارى من أبطل الباطل لا يمكن وجوده في عقل ولا فطرة ، ويستحيل أن يدخل في الوجود أعظم استحالة ، ولو صح وجوده لبطلت أدلة العقول ولم يبق لأحد ثقة بمعقول أصلا ، فإن استحالة وجوده ، فوق استحالة جميع المحالات ، ولو صح ما يقول لبطل العالم واضمحلت السموات والأرض وعدمت الملائكة والعرش والكرسي ولم يكن بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار. ولا يستعجب من اطباق أمة الضلال الذين شهد الله أنهم أضل من الأنعام على ذلك بكل باطل في الوجود ينسب إلى أمة من الأمم فانها مطبقة عليه ، وقد تقدم ذكر إطباق الأمم العظيمة التي لا يحصيها إلا الله على الكفر والضلال بعد معاينة الآيات البينات ، فلعباد الصليب أسوة بإخوانهم من أهل الشرك والضلال!

[النصارى تلقوا أصول دينهم عن أصحاب المجامع]

[١٠ مجامع لعلماء النصارى يكفر فيها بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا] [قصة المسيح قبل بعثه وبعده إلى أن رفع وما لاقى اتباعه من اليهود والقياصرة]

(فصل) في ذكر استنادهم في دينهم إلى أصحاب «المجامع» الذين كفر بعضهم بعضا وتلقيهم أصول دينهم عنهم ، ونحن نذكر الآن الأمر كيف ابتدأ وتوسط ، وانتهى ، حتى كأنك تراه عيانا.

كان الله سبحانه قد بشر بالمسيح على ألسنة أنبيائه ، من لدن موسى إلى زمن داود ومن بعده من الأنبياء ، واكثر الأنبياء تبشيرا به داود ، وكانت اليهود تنتظره

١٩٨

وتصدق به قبل مبعثه ، فلما بعث كفروا به بغيا وحسدا وشردوه في البلاد وطردوه وحبسوه وهموا بقتله مرارا إلى أن أجمعوا على القبض عليه وعلى قتله فصانه الله وأنقذه من أيديهم ، ولم يهنه بأيديهم ، وشبه لهم بأنهم لبوه ولم يصلبوه ، كما قال تعالى : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً ، بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ، وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء : ١٥٦ ـ ١٥٧] وقد اختلف في معنى قوله : (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ). [النساء : ٥٧] ، فقيل المعنى ولكن شبه للذين صلبوه بأن ألقى شبهه على غيره فصلبوا الشبه ، وقيل المعنى ولكن شبه النصارى أي حصلت لهم الشبهة في أمره وليس لهم علم بأنه ما قتل وما صلب ، ولكن لما قال أعداؤه إنهم قتلوه وصلبوه واتفق رفعه من الأرض وقعت الشبهة في أمره ، وصدقهم النصارى في صلبه لتتم الشناعة عليهم ، وكيف ما كان فالمسيح صلوات الله وسلامه عليه لم يقتل ولم يصلب يقينا لا شك فيه.

ثم تفرق الحواريون في البلاد بعد رفعه على دينه ومنهاجه يدعون الأمم إلى توحيد الله ودينه والإيمان بعبده ورسوله ومسيحه ، فدخل كثير من الناس في دينه ما بين ظاهر مشهور ومختف مستور ، وأعداء الله اليهود في غاية الشدة والأذى لأصحابه وأتباعه ، ولقي تلاميذ المسيح وأتباعه من اليهود ومن الروم شدة شديدة من قتل وعذاب وتشريد وحبس وغير ذلك ، وكان اليهود في زمن المسيح في ذمة الروم وكانوا ملوكا عليهم ، وكتب نائب الملك ببيت المقدس إلى الملك يعلمه بأمر المسيح وتلاميذه وما يفعل من العجائب الكثيرة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، فهمّ أن يؤمن به ويتبع دينه فلم يتابعه أصحابه ، ثم هلك وولى بعده ملك آخر فكان شديدا على تلامذة المسيح.

ثم مات وولى بعده آخر ، وفي زمنه كتب «مرقس» إنجيله بالعبرانية ، وفي زمانه صار إلى الإسكندرية فدعا إلى الإيمان بالمسيح ، وهو أول شخص جعل بتركا على الإسكندرية ، وصير معه اثني عشر قسيسا على عدة نقباء بني إسرائيل

١٩٩

في زمن موسى وأمرهم إذا مات البترك أن يختاروا من الاثني عشر واحدا يجعلونه مكانه ، ويضع الاثني عشر أيديهم على رأسه ويبركونه ، ثم يختارون رجلا فاضلا قسيسا يصيرونه تمام العدة ، ولم يزل أمر القوم كذلك إلى زمن قسطنطين. ثم انقطع هذا الرسم واصطلحوا على أن ينصبوا البترك من أي بلد كان من أولئك القسيسين أو من غيرهم ، ثم سموه «بابا» ومعناه ابو الآباء ، وخرج «مرقس» إلى برقة يدعو الناس إلى دين المسيح. ثم ملك آخر فأهاج على اتباع المسيح الشر والبلاء وأخذهم بأنواع العذاب ، وفي عصره كتب «بطرس» رئيس الحواريين إنجيل مرقس عنه بالرومية ، ونسبه إلى مرقس.

وفي عصره كتب لوقا «إنجيله» بالرومية لرجل شريف من عظماء الروم ، وكتب له الإبركسيس الذي فيه أخبار التلاميذ. وفي زمنه صلب «بطرسن» ، وزعموا أن بطرس قال له إن أردت أن تصلبني فاصلبني منسكا لئلا أكون مثل سيدي المسيح فإنه صلب قائما ، وضرب عنق بولس بالسيف ، وأقام بعد صعود المسيح اثنين وعشرين سنة ، وأقام «مرقس» بالإسكندرية وبرقة سبع سنين يدعو الناس إلى الإيمان بالمسيح ، ثم قتل بالإسكندرية وأحرق جسده بالنار ، ثم استمرت القياصرة ملوك الروم على هذه السيرة إلى أن ملك مصر قيصر يسمى «طيطس» فخرب بيت المقدس بعد المسيح بسبعين سنة بعد أن حاصرها وأصاب أهلها جوع عظيم ، وقتل من كان بها من ذكر وأنثى حتى كانوا يشقون بطون الحبالى ويضربون بأطفالهن الصخور ، وخرب المدينة وأضرم فيها النار ، وأحصى القتلى على يده فبلغوا ثلاثة آلاف ألف. ثم ملك ملوك آخرون فكان منهم واحد شديد على اليهود جدا ، فبلغوه أن النصارى يقولون إن المسيح ملكهم وأن ملكه يدوم إلى آخر الدهر فاشتد غضبه وأمر بقتل النصارى وأن لا يبقى في ملكه نصراني ، وكان «يوحنا» صاحب الإنجيل هناك فهرب ، ثم أمر الملك باكرامهم وترك الاعتراض عليهم ، ثم ملك بعده آخر فأثار على النصارى بلاء عظيما ، وقتل بترك أنطاكية برومية ، وقتل اسقف بيت المقدس وصلبه وله يومئذ مائة وعشرون سنة ، وأمر باستعباد النصارى فاشتد عليهم البلاء إلى أن

٢٠٠