هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٣٢

[حيل حخاميمهم الدنيئة]

وما من جماعة منهم في بلدة إلا إذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة يظهر لهم الخشونة في دينه والمبالغة في الاحتياط ، فإن كان من فقهائهم شرع في إنكار أشياء عليهم يوهمهم قلة دينهم وعلمهم ، وكلما شدد عليهم قالوا هذا هو العالم ، فأعلمهم أعظمهم تشديدا عليهم ، فتراه أول ما ينزل عليهم لا يأكل من أطعمتهم وذبائحهم ، ويتأمل سكين الذباح ويشرع في الإنكار عليه ببعض أمره ، ويقول لا آكل إلا من ذبيحة يدي ، فتراهم معه في عذاب ، ويقولون هذا عالم غريب قدم علينا فلا يزال ينكر عليهم الحلال ويشدد عليهم الآصار والأغلال ويفتح لهم أبواب المكر والاحتيال ، وكلما فعل هذا قالوا : هذا هو العالم الرباني والفخيم الفاضل ، فإذا رآه رئيسهم قد مشى حاله وقبل بينهم مقاله وزن نفسه معه إذا رأى أنه ازدري به وطعن عليه لم يقبل منه ، فإن الناس في الغالب يميلون مع الغريب وينسبه أصحابه إلى الجهل وقلة الدين ، ولا يصدقونه لأنهم يرون القادم قد شدد عليهم وضيق ، وكلما كان الرجل أعظم تضييقا وتشديدا كان أفقه عندهم ، فينصرف عن هذا الرأي فيأخذ في مدحه وشكره ، فيقول لقد عظم الله ثواب فلان إذ قوى ناموس الدين في قلوب هذه الجماعة ، وشيد اساسه ، وأحكم سياج الشرع ، فيبلغ القادم قوله فيقول ما عندكم أفقه منه ولا أعلم بالتوراة وإذا لقيه يقول : لقد زين الله بك أهل بلدنا ، ونعش بك هذه الطائفة!!! وإن كان القادم عليهم حبرا من أحبارهم فهناك ترى العجب العجيب من الناموس التي تراه يعتمده والسنن التي يحدثها ، ولا يعترض عليه أحد ، بل تراهم مسلمين له ، وهو يحتلب درّهم ويجتلب درهمهم ، وإذا بلغه عن يهودي طعن عليه صبر عليه حتى يرى منه جلوسا على قارعة الطريق يوم السبت أو يبلغه أنه اشترى من مسلم لبنا أو خمرا أو خرج عن بعض أحكام «المشنا ، والتلمود» فحرمه بين ملأ اليهود وأباحهم عرضه ونسبه إلى الخروج عن اليهودية ، فيضيق به البلد على هذه الحال ، فلا يسعه إلا أن يصلح ما بينه وبين الحبر بما يقتضيه الحال ، فيقول لليهود ، إن فلانا قد أبصر رشده وراجع الحق وأقلع عمّا كان فيه وهو اليوم يهودي على الوضع ، فيعودون له بالتعظيم

١٦١

والإكرام!!!

[من شريعتهم نكاح امرأة الأخ أو العار!!]

وأذكر لك مسألة من مسائل شرعهم المبدل أو المنسوخ تعرف بمسألة «البياما والجالوس» وهي أن عندهم في التوراة : إذا أقام أخوان في موضع واحد ومات أحدهما ولم يعقب ولدا فلا تصير امرأة الميت إلى رجل أجنبي بل حموها ينكحها ، وأول ولد يولدها ينسب إلى أخيه الدارج ، فإن أبى أن ينكحها خرجت متشكية إلى مشيخة قومه قائلة قد أبى حموي أن يستبقي اسما لأخيه في بني إسرائيل ولم يرد نكاحي فيحضره ويكلفه أن يقف ويقول ما أردت نكاحها ، فتتناول المرأة نعله فتخرجه من رجله وتمسكه بيدها وتبصق في وجهه وتنادي عليه : كذا فليصنع بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه. ويدعى فيما بعد بالمخلوع النعل ، وينتبز بنوه بهذا اللقب ، وفي هذا كالتلجئة له إلى نكاحها ، لأنه إذا علم أنه قد فرض على المرأة وعليه ذلك فربما استحيا وخجل من شيل نعله من رجله والبصق في وجهه ونبزه باللقب المستكره الذي يبقى عليه وعلى أولاده عاره ولم يجد بدا من نكاحها فإن كان من الزهد فيها والكراهة لها بحيث يرى أن هذا كله اسهل عليه من أن يبتلي بها وهان عليه هذا كله في التخلص منها لم يكره على نكاحها ، هذا عندهم في التوراة. ونشأ لهم من ذلك فرع مرتب عليه وهو : أن يكون مريدا للمرأة محبا لها وهي في غاية الكراهة له ، فأحدثوا لهذا الفرع حكما في غاية الظلم والفضيحة فإذا جاءت إلى الحاكم أحضروه معها ولقنوها أن تقول : أن حموي لا يقيم لأخيه اسما في بني إسرائيل ، ولم يرد نكاحي ، وهو عاشق لها ـ فيلزمونها بالكذب عليه وأنها أرادته فامتنع. فإذا قالت ذلك ألزمه الحاكم أن يقوم ويقول : ما أردت نكاحها ، ونكاحها غاية سؤله وأمنيته ، فيأمرونه بالكذب عليها ـ فيخرج نعله من رجله إلا أنه لا مسك هنا ولا ضرب بل يبصق في وجهه وينادي عليه : هذا جزاء من لا يبني بيت أخيه. فلم يكفهم أن كذبوا عليه حتى أقاموه مقام الخزي وألزموه بالكذب والبصاق في وجهه والعتاب على ذنب جره غيره ، كما قيل :

وجرم جره سفهاء قوم

وحل بغير جارمه العذاب

١٦٢

أفلا يستحي من تعيير المسلمين من هذا شرعه ودينه؟!

[ما لاقاه إخوان القردة .. من الإذلال والصغار من مختلف الأمم والدول]

[وكان سبب طمس معالم دينهم وآثارهم]

(فصل) ولا يستبعد اصطلاح الأمة الغضبية على المحال واتفاقهم على أنواع من الكفر والضلال فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها وأخذ بلادها انطمست حقائق سالف أخبارها ودرست معالم دينها وآثارها ، وتعذر الوقوف على الصواب الذي كان عليه أولوها وأسلافها ، لأن زوال الدولة عن الأمة إنما يكون بتتابع الغارات وخراب البلاد واحراقها وجلاء أهلها عنها ، فلا تزال هذه البلايا متتابعة عليها إلى ان تستحيل رسوم دياناتها وتضمحل أصول شرعها وتتلاشى قواعد دينها ، وكلما كانت الأمة أقدم واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالإذلال والصغار كان حظها من اندراس دينها أوفر وهذه الأمة الغضبية أوفر الأمم حظا من ذلك ، فانها أقدم الأمم عهدا ، واستولت عليها سائر الأمم من الكندانيين والكلدانيين والبابليين والفرس واليونان والنصارى ، وما من هذه الأمم أمة إلا وقصدت استئصالهم وإحراق كتبهم وتخريب بلادهم ، حتى لم يبق لهم مدينة ولا جيش ولا حصن إلا بأرض الحجاز وخيبر فأعز ما كانوا هناك ، فلما قام الإسلام واستعلن الرب تعالى من جبال فاران صادفهم تحت ذمة الفرس والنصارى وصادف هذه الشرذمة بخيبر والمدينة فأذاقهم الله بالمسلمين من القتل والسبي وتخريب الديار ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم ، وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء فكتب الله عليهم الجلاء وشتتهم ومزقهم بالإسلام كل ممزق ، ومع هذا فلم يكونوا مع أمة من الأمم أطيب منهم مع المسلمين ولا آمن ، فإن الذي نالهم من النصارى والفرس وعباد الأصنام لم ينلهم من المسلمين مثله ، وكذلك الذي نالهم مع ملوكهم العصاة الذين قتلوا الأنبياء وبالغوا في طلبهم وعبدوا الأصنام ، وأحضروا من البلاد سدنة للأصنام لتعظيمها وتعظيم رسومها في العبادة وبنوا لها البيع والهياكل وعكفوا على عبادتها وتركوا لها أحكام التوراة وشرع موسى أزمنة طويلة وأعصارا متصلة ، فإذا كان هذا شأنهم مع ملوكهم فما الظن بشأنهم مع أعدائهم أشد الأعداء عليهم كالناصري الذين عندهم أنهم قتلوا المسيح وصلبوه

١٦٣

وصفعوه وبصقوا في وجهه ووضعوا الشوك على رأسه وكالفرس والكلدانيين وغيرهم.

[صلاتهم دعاء على الأمم .. وإفك على الله تعالى وتقدس]

وكثيرا ما منعهم ملوك الفرس من الختان وجعلوهم قلفا ، وكثيرا ما منعوهم من الصلاة لمعرفتهم بأن معظم صلاتهم دعاء على الأمم بالبوار وعلى بلادهم بالخراب إلا أرض كنعان ، فلما رأوا أن صلاتهم هكذا منعوهم من الصلاة ، فرأت اليهود أن الفرس قد جدوا في منعهم من الصلاة فاخترعوا أدعية مزجوا بها صلاتهم سموها «الخزانة» وصاغوا لها ألحانا عديدة وصاروا يجتمعون على تلحينها وتلاوتها ، والفرق بين الخزانة والصلاة أن الصلاة بغير لحن ويكون المصلي فيها وحده والخزانة بلحن يشاكره غيره فيه ، فكانت الفرس إذا أنكروا ذلك عليهم قالت اليهود نحن نغني وننوح على أنفسنا فيخلون بينهم وبين ذلك ، فجاءت دولة الإسلام فأمنوا فيها غاية الأمن ، وتمكنوا من صلاتهم في كنائسهم ، واستمرت الخزانة سنة فيهم في الأعياد والمواسم والأفراح وتعرضوا بها عن الصلاة.

والعجب أنهم مع ذهاب دولتهم تفرق شملهم وعلمهم بالغضب المدود المستمر عليهم ومسخ أسلافهم قردة لقتلهم الأنبياء وعدوانهم في السبت وخروجهم عن شريعة موسى والتوراة وتعطيلهم لا حكامها يقولون في كل يوم في صلاتهم «محبة الدهر» أحبنا يا إلهنا! يا أبانا! أنت أبونا منقذنا! ويمثلون أنفسهم بعناقيد العنب وسائر الأمم بالشوك المحيط بالكرم لحفظه ، وأنهم سيقيم الله لهم نبيا من آل داود إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم ولا يبقى على وجه الأرض إلا اليهود ، وهو بزعمهم المسيح الذي وعدوا به ، وينبهون الله بزعمهم من رقدته في صلاتهم ، وينخونه ويحمونه تعالى الله عن إفكهم وضلالهم علوا كبيرا. وضلال هذه الأمة الغضبية وكذبها وافتراؤها على الله ودينه وأنبيائه لا مزيد عليه.

وأما أكلهم الربا والسحت والرشا ، واستبدادهم دون العالم بالخبث والمكر

١٦٤

والبهت ، وشدة الحرص على الدنيا ، وقسوة القلوب ، والذل والصغار ، والخزي ، والتحيل على الأغراض الفاسدة ، ورمي البرآء بالعيوب ، والطعن على الأنبياء : فأرخص شيء عندهم ، وما عيروا به المسلمين مما ذكروه ومما لم يذكروه فهو في بعضهم وليس في جميعهم ونبيهم وكتابه ودينه وشرعه بريء منه ، وما عليه من معاصي أمته وذنوبهم ، فإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم.

[اساس دين النصارى قائم على شتم الله. والشرك به]

[خرافة الفداء]

(فصل) وإن كان المعير للمسلمين من أمة الضلال وعباد الصليب والصور المدهونة في الحيطان والسقوف فيقال له : ألا يستحي من أصل دينه الذي يدين به اعتقاده أن رب السموات والأرض تبارك وتعالى نزل عن كرسي عظمته وعرشه ودخل في فرج امرأة تأكل وتشرب وتبول وتتغوط وتحيض ، فالتحم ببطنها ، وأقام هناك تسعة أشهر يتلبط بين نجو وبول ودم طمث ، ثم خرج إلى القماط والسرير كلما بكى ألقمته أمه ثديها ، ثم انتقل إلى المكتب بين الصبيان ، ثم آل أمره إلى لطم اليهود خديه ، وصفعهم قفاه ، وبصقهم في وجهه ، ووضعهم تاجا من الشوك على رأسه والقصبة في يده ، استخفافا به ، وانتهاكا لحرمته. ثم قربوه من مركب خص بالبلاء راكبه ، فشدوه عليه وربطوه بالحبال ، وسمروا يديه ورجليه ، وهو يصيح ويبكي ويستغيث من حر الحديد وألم الصلب ، هذا وهو الذي خلق السموات والأرض ، وقسم الأرزاق والآجال ، ولكن اقتضت حكمته ورحمته أن يمكن أعداءه من نفسه لينالوا منه ما نالوا فيستحقوا بذلك العذاب والسجن في الجحيم ، ويفدي أنبياءه ورسله وأولياءه بنفسه فيخرجهم من سجن إبليس ، فإن روح آدم وإبراهيم ونوح وسائر النبيين عندهم كانت في سجن إبليس في النار حتى خلصها من سجنه بتمكينه أعداءه من صلبه!!!

[مقالة أشباه الحمير في مريم وابنها]

وأما قولهم في «مريم» فانهم يقولون إنها أم المسيح ابن الله في الحقيقة ، ووالدته في الحقيقة ، لا أم لابن الله إلا هي ، ولا والدة له غيرها ، ولا أب لابنها إلا الله ، ولا ولد له سواه ، وإن الله اختارها لنفسه ولولادة ولده وابنه من بين

١٦٥

سائر النساء ، ولو كانت كسائر النساء لما ولدت إلا عن وطء الرجال لها ، ولكن اختصت عن النساء بأنها حبلت بابن الله ، وولدت ابنه الذي لا ابن له في الحقيقة غيره ، ولا والد له سواه ، وإنها على العرش جالسة عن يسار الرب تبارك وتعالى والد ابنها ، وابنها عن يمينه. والنصارى يدعونها ويسألونها سعة الرزق وصحة البدن ، وطول العمر ، ومغفرة الذنوب ، وأن تكون لهم عند ابنها ووالده ـ الذي يعتقد عامتهم أنه زوجها ، ولا ينكرون ذلك عليهم ـ سورا وسندا وذخرا وشفيعا وركنا ، ويقولون في دعائهم : يا والدة الإله اشفعي لنا! وهم يعظمونها ويرفعونها على الملائكة وعلى جميع النبيين والمرسلين ، ويسألونها ما يسأل الإله من العافية والرزق والمغفرة ، حتى أن «اليعقوبية» يقولون في مناجاتهم لها : يا مريم يا والدة الإله ، كوني لنا سورا وسندا وذخرا وركنا ، «والنسطورية» يقولون : يا والدة المسيح كوني لنا كذلك! ويقولون لليعقوبية لا تقولوا يا والدة الإله وقولوا يا والدة المسيح ، فقالت لهم اليعقوبية : المسيح عندنا وعندكم إله في الحقيقة فأي فرق بيننا وبينكم في ذلك؟ ولكنكم أردتم مصالحة المسلمين ومقاربتهم في التوحيد. هذا والأوقاح الأرجاس من هذه الأمة تعتقد أن الله سبحانه اختار مريم لنفسه ولولده ، وتخطاها كما يتخطى الرجل المرأة ، قال النظام بعد أن حكى ذلك عنهم : وهم يفصحون بهذا عند من يثقون به وقد قال ابن الاخشيد هذا عنهم في المعونة ، وقال إليه يشيرون ، ألا ترون أنهم يقولون ، من لم يكن والدا يكون عقيما والعقم آفة وعيب ، وهذا قول جميعهم وإلى المباضعة يشيرون ومن خالط القوم وطاولهم وباطنهم عرف ذلك منهم فهذا كفرهم وشركهم برب العالمين ومستهم له ، ولهذا قال فيهم أحد الخلفاء الراشدين : أهينوهم ولا تظلموهم فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر. وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن ربه في الحديث الصحيح أنه قال : «شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وكذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، أما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته» فلو أتى الموحدون بكل ذنب وفعلوا كل قبيح وارتكبوا كل معصية ما بلغت مثقال ذرة في جنب هذا الكفر العظيم برب العالمين ، ومسبته هذا السب ،

١٦٦

وقول العظائم فيه. فما ظن هذه الطائفة برب العالمين أن يفعله بهم إذا لقوه (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] ويسأل المسيح على رءوس الأشهاد وهم يسمعون : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] ، فيقول المسيح مكذبا لهم ومتبرئا منهم : (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المائدة : ١١٦]؟!!

[النصارى مخالفون للمسيح في كل فروع دينهم أيضا :]

[في الطهارة والصلاة والصوم وأكل الخنزير وتعليق الصليب ...]

(فصل) فهذا أصل دينهم واساسه الذي قام عليه وأما فروعه وشرائعه فهم مخالفون للمسيح في جميعها ، وأكثر ذلك بشهادتهم وإقرارهم ولكن يحيلون على البتاركة والأساقفة ، فإن المسيح صلوات الله وسلامه عليه كان يتدين بالطهارة ، ويغتسل من الجنابة ، ويوجب غسل الحائض. وطوائف النصارى عندهم أن ذلك كله غير واجب ، وأن الإنسان يقوم من على بطن المرأة ويبول ويتغوط ولا يمس ماء ولا يستجمر ، والبول والنجو ينحدر على ساقه وفخذه ويصلي كذلك وصلاته صحيحة تامة ، ولو تغوط وبال وهو يصلي لم يضره فضلا عن أن يفسو أو يضرط ، ويقولون أن الصلاة بالجنابة والبول والغائط أفضل من الصلاة بالطهارة ، لأنها حينئذ أبعد من صلاة المسلمين واليهود وأقرب إلى مخالفة الأمتين. ويستفتح الصلاة بالتصليب بين عينيه ، وهذه الصلاة رب العالمين بريء منها ، وكذلك المسيح وسائر النبيين ، فإن هذه بالاستهزاء أشبه منها بالعبادة ، وحاش المسيح أن تكون هذه صلاته أو صلاة أحد من الحواريين ، والمسيح كان يقرأ في صلاته ما كان الأنبياء وبنو إسرائيل يقرءونه في صلاتهم من التوراة والزبور ، وطوائف النصارى إنما يقرءون في صلاتهم كلاما قد لحنه لهم الذين يتقدمون ويصلون بهم ، يجري مجرى النوح والأغاني. فيقولون : هذا قداس فلان وهذا قداس فلان. ينسبونه إلى الذين وضعوه ، وهم يصلون إلى

١٦٧

الشرق وما صلى المسيح إلى الشرق قط ، وما صلى إلى أن توفاه الله إلا إلى بيت المقدس ، وهي قبلة داود والأنبياء قبله ، وقبلة بني إسرائيل. والمسيح اختتن وأوجب الختان كما أوجبه موسى وهارون والأنبياء قبل المسيح. والمسيح حرم الخنزير ، ولعن آكله ، وبالغ في ذمه ؛ ـ والنصارى تقر بذلك ـ ولقي الله ولم يطعم من لحمه بوزن شعيرة ، والنصارى تتقرب إليه بأكله. والمسيح ما شرع لهم هذا الصوم الذي يصومونه قط ولا صامه في عمره مرة واحدة ولا أحد من أصحابه ، ولا صام صوم العذارى في عمره ، ولا أكل في الصوم ما يأكلونه ولا حرم فيه ما يحرمونه ، ولا عطل السبت يوما واحدا حتى لقي الله ، ولا اتخذ الأحد عيدا قط ، والنصارى تقر أنه رقى مريم المجد الإنسية فأخرج منها سبع شياطين ، وأن الشياطين قالت له : أين نأوي فقال لها : اسلكي هذه الدابة النجسة يعني الخنزير. فهذه حكاية النصارى عنه وهم يزعمون أن الخنزير من أطهر الدواب أجملها ، والمسيح سار في الذبائح والمناكح والطلاق والمواريث والحدود سيرة الأنبياء قبله.

[الراهب والقسيس يغفر ذنوبهم!! ويطيب لهم نسائهم!!!]

وليس عند النصارى على من زنا أو لاط أو سكر حد في الدنيا أبدا ولا عذاب في الآخرة ، لأن القس والراهب يغفره لهم فكلما أذنب أحدهم ذنبا أهدى للقس هدية أو أعطاه درهما أو غيره ليغفر له به!! وإذا زنت امرأة أحدهم بيتها عند القس ليطيبها له فإذا انصرفت من عنده وأخبرت زوجها أن القس طيبها قبل ذلك منها وتبرك به!!!

[المسيح لم يفوض الأساقفة والبتاركة في التشريع]

[مناقضة النصارى لليهود]

وهم يقرون أن المسيح قال : «إنما جئتكم لاعمل بالتوراة وبوصايا الأنبياء قبلي ، وما جئت ناقضا بل متمما ، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض شيئا من شريعة موسى ، ومن نقض شيئا من ذلك يدعى ناقضا في ملوكت السماء» وما زال هو وأصحابه كذلك إلى أن خرج من الدنيا ، وقال لأصحابه : «اعملوا بما رأيتموني أعمل ، وارضوا من الناس بما أرضيتكم به ،

١٦٨

ووصوا الناس بما وصيتكم به ، وكونوا معهم كما كنت معكم ، وكونوا لهم كما كنت لكم» وما زال أصحاب المسيح بعده على ذلك قريبا من ثلاثمائة سنة ثم أخذ القوم في التغيير والتبديل والتقرب إلى الناس بما يهوون ومكايدة اليهود ومناقضتهم بما فيه ترك دين المسيح والانسلاخ منه جملة.

فرأوا اليهود قد قالوا في المسيح : إنه ساحر مجنون ممخرق ولد زنية فقالوا : هو إله تام وهو ابن الله!! ورأوا اليهود يختتنون فتركوا الختان!! ورأوهم يبالغون في الطهارة فتركوها جملة!! ورأوهم يتجنبون مؤاكلة الحائض وملامستها ومخالطتها جملة فجامعوها! ورأوهم يحرمون الخنزير ، فأباحوه وجعلوه شعار دينهم ، ورأوهم يحرمون كثيرا من الذبائح والحيوان فأباحوا ما دون الفيل إلى البعوضة وقالوا : كل ما شئت ودع ما شئت لا حرج ، ورأوهم يستقبلون بيت المقدس في الصلاة فاستقبلوا هم الشرق ، ورأوهم يحرمون على الله نسخ شريعة شرعها فجوزوا هم لأساقفتهم وبتاركتهم أن ينسخوا ما شاءوا ويحللوا ما شاءوا ويحرموا ما شاءوا ، ورأوهم يحرمون السبت ويحفظونه فحرموا هم الأحد وأحلوا السبت مع إقرارهم بان المسيح كان يعظم السبت ويحفظه ، ورأوهم ينفرون من الصليب ، فإن في التوراة «ملعون من تعلق بالصليب» والنصارى تقر بهذا ، فعبدوا هم الصليب ، كما أن في التوراة تحريم الخنزير نصا فتعبدوا هم بأكله ، وفيها الأمر بالختان فتعبدوا هم بتركه مع إقرار النصارى بأن المسيح قال لاصحابه : «إنما جئتكم لاعمل بالتوراة ووصايا الأنبياء قبلي ، وما جئت ناقضا بل متمما ، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض شيئا من شريعة موسى» فذهبت النصارى تنقضها شريعة شريعة في مكايدة اليهود ومغايظتهم وانضاف إلى هذا السبب ما في كتابهم المعروف عندهم «بافركسيس» أن قوما من النصارى خرجوا من بيت المقدس وأتوا أنطاكية وغيرها من الشام فدعوا الناس إلى دين المسيح الصحيح ، فدعوهم إلى العمل بالتوراة وتحريم ذبائح من ليس من أهلها ، وإلى الختان وإقامة السبت ، وتحريم الخنزير وتحريم ما حرمته التوراة ، فشق ذلك على الأمم واستثقلوه ، فاجتمع النصارى ببيت المقدس وتشاوروا فيما يحتالون به على الأمم ليحببوهم إلى دين المسيح

١٦٩

ويدخلوا فيه ، فاتفق رأيهم على مداخلة الأمم والترخيص لهم والاختلاط بهم ، وأكل ذبائحهم ، والانحطاط في أهوائهم ، والتخلق بأخلاقهم وإنشاء شريعة تكون بين شريعة الإنجيل وما عليه الأمم وأنشئوا في ذلك كتابا ، فهذا أحد مجامعهم الكبار. وكانوا كلما أرادوا إحداث شيء اجتمعوا مجمعا وافترقوا فيه على ما يريدون إحداثه إلى أن اجتمعوا المجمع الذي لم يجتمع لهم أكبر منه في عهد قسطنطين الرومي ابن هيلانة الحرانية الفندقية ، وفي زمنه بدل دين المسيح وهو الذي أشاد دين النصارى المبتدع وقام به وقعد ، وكان عدتهم زهاء الفي رجل ، فقرروا تقريرا ثم رفضوه ولم يرتضوه ، ثم اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا منهم ـ والنصارى يسمونهم الآباء ـ فقرروا هذا التقرير الذي هم عليه اليوم ، وهو أصل الأصول عند جميع طوائفهم لا يتم لأحد منهم نصرانية إلا به ، ويسمونه «سنهودس» وهي «الأمانة»!!

[أمانة المثلثة أكبر خيانة]

ولفظها : «نؤمن بالله الأب الواحد خالق ما يرى وما لا يرى ، وبالرب الواحد اليسوع المسيح ابن الله بكر أبيه وليس بمصنوع ، إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه ، الذي بيده اتقنت العوالم وخلق كل شيء ، الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم البتول وحبلت به مريم البتول وولدته ، وأخذ وصلب ، وقتل أيام فيلاطس الرومي ، ومات ودفن ، وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب ، وصعد إلى السماء ، وجلس عن يمين أبيه ، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بالرب الواحد روح القدس روح الحق الذي يخرج من أبيه روح محبته ، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا ، وبجماعة واحدة قديسية سليحية جاثليقية ، وبقيام أبداننا وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين» فصرحوا فيها بأن المسيح رب وأنه ابن الله ، وإنه بكره ليس له ولد غيره ، وأنه ليس بمصنوع : أي ليس بعبد مخلوق بل هو رب خالق ، وأنه إله حق استل وولد من إله حق ، وأنه مساو لأبيه في الجوهر ، وأنه بيده اتقنت العوالم ، وهذه اليد التي اتقنت العوالم بها عندهم هي التي ذاقت حر المسامير كما صرحوا به في كتبهم ، وهذه

١٧٠

ألفاظهم ، قالوا : «وقد قال القدوة عندنا : إن اليد التي سمرها اليهود في الخشبة هي اليد التي عجنت طين آدم وخلقته ، وهي اليد التي شبرت السماء ، وهي اليد التي كتبت التوراة لموسى»! قالوا وقد وصفوا صنيع اليهود به وهذه ألفاظهم «وإنهم لطموا الإله وضربوه على رأسه» قالوا : «وفي بشارة الأنبياء به أن الإله تحبل به امرأة عذراء وتلده ويؤخذ ويصلب ويقتل!» قالوا وأما «سنهودس» دون الأمم ، قد اجتمع عليه سبعمائة من الآباء وهم القدوة وفيه : أن مريم حبلت بالإله وولدته وأرضعته وسقته وأطعمته» قالوا : «وعندنا أن المسيح ابن آدم وهو ربه وخالقه ورازقه ، وابن ولده إبراهيم وربه وخالقه ورازقه ، وابن إسرائيل وربه وخالقه ورازقه ، وابن مريم وربها وخالقها ورازقها» قالوا : وقد قال علماؤنا ومن هو القدوة عند جميع طوائفنا : «اليسوع في البدء ولم يزل كلمة ، والكلمة لم تزل الله ، والله هو الكلمة ، فذاك الذي ولدته مريم وعاينه الناس وكان بينهم هو الله وهو ابن الله وهو كلمة الله ، هذه ألفاظهم ، قالوا : فالقديم الأزلي خالق السموات والأرض هو الذي عاينه الناس بأبصارهم ولمسوه بأيديهم ، وهو الذي حبلت به مريم وخاطب الناس من بطنها حيث قال للأعمى : أنت مؤمن بالله ، قال الأعمى : ومن هو حتى أؤمن به؟ قال : هو المخاطب لك ، ابن مريم ، فقال : آمنت بك وخرسا جدا» قالوا : «فالذي حبلت به مريم هو الله وابن الله وكلمة الله» وقالوا : «وهو الذي ولد ورضع وفطم وأخذ وصلب وصفع وكتفت يداه وسمر وبصق في وجهه ومات ودفن وذاق ألم الصلب والتسمير والقتل لأجل خلاص النصارى من خطاياهم. قالوا : وليس المسيح عند طوائفنا الثلاثة بنبي ولا عبد صالح بل هو رب الأنبياء وخالقهم وباعثهم ومرسلهم وناصرهم ومؤيدهم ورب الملائكة ، قالوا : وليس مع أمه بمعنى الخلق والتدبير واللطف والمعونة ، فإنه لا يكون لها بذلك مزية على سائر الإناث ولا الحيوانات ولكنه معها بحبلها به واحتواء بطنها عليه ، فلهذا فارقت إناث جميع الحيوانات وفارق ابنها جميع الخلق ، فصار الله وابنه الذي نزل من السماء وحبلت به مريم وولدته إلها واحدا ومسيحا واحدا وربا واحدا وخالقا واحدا لا يقع بينهما فرق ولا يبطل الاتحاد بينهما بوجه من الوجوه لا في حبل ولا في ولادة ولا في حال نوم ولا مرض ولا صلب ولا موت ولا دفن بل هو متحد به في حال الحبل ، فهو في تلك

١٧١

الحال مسيح واحد وخالق واحد وإله واحد ورب واحد ، وفي حال الولادة كذلك ، وفي حال الصلب والموت كذلك ، قالوا : فمنا من يطلق في لفظه وعبارته حقيقة هذا المعنى فيقول : مريم حبلت بالإله ، وولدت الإله ، ومات الإله. ومنا من يمتنع من هذه العبارة لبشاعة لفظها ويعطي معناها وحقيقتها ، ويقول : مريم حبلت بالمسيح في الحقيقة ، وولدت المسيح في الحقيقة ، وهي أم المسيح في الحقيقة ، والمسيح إله في الحقيقة ، ورب في الحقيقة ، وابن الله في الحقيقة ، وكلمة الله في الحقيقة ، لا ابن لله في الحقيقة سواه ، ولا أب للمسيح في الحقيقة إلا هو. قالوا فهؤلاء يوافقون في المعنى قول من قال حبلت بالإله وولدت الإله وقتل الإله وصلب الإله ، ومات ودفن ، وأن منعوا اللفظ والعبارة. قالوا : وإنما منعنا هذه العبارة التي أطلقها إخواننا ، لئلا يتوهم علينا إذا قلنا : حبلت بالإله وولدت الإله وألم الإله ومات الإله ان هذا كله حل ونزل بالإله الذي هو أب ولكنا نقول حل هذا كله ونزل بالمسيح والمسيح عندنا وعند طوائفنا إله تام من إله تام من جوهر أبيه ، فنحن وإخواننا في الحقيقة شيء واحد لا فرق بيننا إلا في العبارة فقط. قالوا فهذا حقيقة ديننا وإيماننا ، والآباء والقدوة قد قالوه قبلنا وسنوه لنا ومهدوه وهم أعلم بالمسيح منا. ولا تختلف المثلثة عباد الصليب من أولهم إلى آخرهم أن المسيح ليس بنبي ولا عبد صالح ولكنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه ، وإنه إله تام من إله تام ، وإنّه خالق السموات والأرضين ، والأولين ، والآخرين ورازقهم ومحييهم ومميتهم وباعثهم من القبور وحاشرهم ومحاسبهم ومثيبهم ومعاقبهم ، والنصارى تعتقد أن الأب انخلع من ملكه كله وجعله لابنه ، فهو الذي يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويدبر أمر السموات والأرض ، ألا تراهم يقولون في أمانتهم : «ابن الله وبكر أبيه ، وليس بمصنوع ـ إلى قولهم ـ بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء ـ إلى قولهم ـ وهو مستعد للمجيء تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والاحياء» ، ويقولون في صلواتهم ومناجاتهم «أنت أيها المسيح اليسوع تحيينا وترزقنا وتخلق أولادنا وتقيم أجسادنا وتبعثنا وتجازينا»!!

١٧٢

[المسيح يكذب دعوى ربوبيته وإلهيته]

[ويصرح بأنه نبي بشر ..]

وقد تضمن هذا كله تكذيبهم الصريح للمسيح وإن أوهمتهم ظنونهم الكاذبة أنهم يصدقونه فإن المسيح قال لهم : «إن الله ربي وربكم ، وإلهي وإلهكم» فشهد على نفسه أنه عبد لله مربوب مصنوع ، كما أنهم كذلك ، وأنه مثلهم في العبودية والحاجة والفاقة إلى الله ، وذكر أنه رسول الله إلى خلقه كما أرسل الأنبياء قبله ، ففي إنجيل يوحنا أن المسيح قال في دعائه : «إن الحياة الدائمة إنما تجب للناس بأن يشهدوا أنك أنت الله الواحد الحق وأنك أرسلت اليسوع المسيح» وهذا حقيقة شهادة المسلمين أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله وقال لبني إسرائيل «تريدون قتلي وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله : «فذكر ما غايته أنه رجل بلغهم ما قاله الله ، ولم يقل وأنا إله ولا ابن الإله على معنى التوالد ، وقال : «إني لم أجئ لا عمل بمشيئة نفسي ولكن بمشيئة من أرسلني» وقال : «إن الكلام الذي تسمعونه مني ليس من تلقاء نفسي ، ولكن من الذي أرسلني ، والويل لي إن قلت شيئا من تلقاء نفسي ولكن بمشيئة هو من أرسلني» وكان يواصل العبادة من الصلاة والصوم ويقول : «ما جئت لأخدم إنما جئت لأخدم» «فأنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله الله بها وهي منزلة الخدام ، وقال : «لست أدين العباد بأعمالهم ولا أحاسبهم بأعمالهم ، ولكن الذي أرسلني هو الذي يلي ذلك منهم» كل هذا في الإنجيل الذي بأيدي النصارى .. وفيه أن المسيح قال : «يا رب قد علموا إنك قد أرسلتني ، وقد ذكرت لهم اسمك» فأخبر أن الله ربه وأنه عبده ورسوله. وفيه : «أن الله الواحد رب كل شيء ، أرسل من أرسل من البشر إلى جميع العالم ليقبلوا إلى الحق» وفيه أنه قال : «أن الأعمال التي أعمل هي الشاهدات لي بأن الله أرسلني إلى هذا العالم». وفيه «ما أبعدني وأتعبني أن أحدثت شيئا من قبل نفسي ، ولكن أتكلم وأجيب بما علمني ربي» ، وقال «إن الله مسحني وأرسلني ، وأنا عبد الله ، وإنما أعبد الله الواحد ليوم الخلاص» .. وقال «إن الله عزوجل ما أكل ولا يأكل وما شرب ولا يشرب ولم ينم ولا ينام ولا ولد له ولا يلد ولا يولد ولا رآه أحد ولا يراه أحد إلا مات»

١٧٣

وبهذا يظهر لك سر قوله تعالى في القرآن : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة : ٧٥] ، تذكيرا للنصارى بما قال لهم المسيح. وقال في دعائه لما سأل ربه أن يحيي الميت : «أنا أشكرك وأحمدك لأنك تجيب دعائي في هذا الوقت وفي كل وقت ، فأسألك أن تحيي هذا الميت ليعلم بنو إسرائيل أنك أرسلتني وأنك تجيب دعائي». وفي الإنجيل أن المسيح حين خرج من السامرية ولحق بجلجال قال : «لم يكرم أحد من الأنبياء في وطنه» فلم يزد على دعوى النبوة. وفي إنجيل لوقا : «لم يقتل أحد من الأنبياء في وطنه فكيف تقتلونني». وفي إنجيل مرقس : «أن رجلا أقبل إلى المسيح وقال أيها المعلم الصالح أي خير أعمل لأنال الحياة الدائمة؟ فقال له المسيح : لم قلت صالحا؟ إنما الصالح الله وحده ، وقد عرفت الشروط ، لا تسرق ولا تزن ولا تشهد بالزور ولا تخن ، واكرم أباك وأمك». وفي إنجيل يوحنا أن اليهود لما أرادوا قبضه رفع بصره إلى السماء وقال : «قد دنا الوقت يا إلهي فشرفني لديك ، واجعل لي سبيلا أن أملك كل من ملكتني الحياة الدائمة ، وإنّما الحياة الباقية أن يؤمنوا بك إلها واحدا وبالمسيح الذي بعثت وقد عظمتك على أهل الأرض واحتملت الذي أمرتني به فشرفني» فلم يدع سوى أنه عبد مرسل مأمور مبعوث. وفي إنجيل متى «لا تنسبوا أباكم الذي على الأرض فإن أباكم الذي في السماء وحده ، ولا تدعوا معلمين فإنما معلمكم المسيح وحده» والأب في لغتهم الرب المربي ، أي لا تقولوا إلهكم وربكم في الأرض ولكنه في السماء ، ثم أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه ومالكه وهو أن غايته أنه يعلم في الأرض وإلههم هو الذي في السماء. وفي إنجيل لوقا حين دعا الله فأحيا ولد المرأة فقالوا : «إن هذا النبي لعظيم ، وأن الله قد تفقد أمته». وفي إنجيل يوحنا أن المسيح أعلن صوته في البيت وقال لليهود : «قد عرفتموني وموضعي ، ولم آت من ذاتي ، ولكن بعثني الحق وأنتم تجهلونه ، فإن قلت إني أجهله كنت كاذبا مثلكم وأنا أعلم وأنتم تجهلونه أني منه وهو بعثني» فما زاد في دعواه على ما ادعاه الأنبياء فأمسكت المثلثة قوله «إني منه» وقالوا : إله حق من إله حق وفي القرآن : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) [البينة : ٢] ، وقال هود : (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِ

١٧٤

الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٦١] ، وكذلك قال صالح! ولكن أمة الضلال كما أخبر الله عنهم يتبعون المتشابه ويردون المحكم. وفي الإنجيل أيضا أنه قال لليهود وقد قالوا له : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ) [المائدة : ١٨] ، فقال لهم : «لو كان الله أباكم لأطعتموني لأني رسول منه خرجت مقبلا ولم أقبل من ذاتي ولكن هو بعثني ، لكنكم لا تقبلون وصيتي وتعجزون عن سماع كلامي ، إنما أنتم ابناء الشيطان وتريدون إتمام شهواته» وفي الإنجيل «أن اليهود أحاطت به وقالت له إلى متى تخفي أمرك إن كنت المسيح الذي ننتظره فاعلمنا بذلك» ولم تقل إن كنت الله أو ابن الله فإنه لم يدع ذلك ولا فهمه عنه أحد من أعدائه ولا أتباعه. وفي الإنجيل أيضا : «أن اليهود أرادوا القبض عليه فبعثوا لذلك الأعوان وأن الأعوان رجعوا إلى قوادهم فقالوا لهم لم لم تأخذوه ، فقالوا ما سمعنا آدميا أنصف منه ، فقالت اليهود وأنتم أيضا مخدوعون أترون أنه آمن به أحد من القواد أو من رؤساء أهل الكتاب؟ فقال لهم بعض أكابرهم : أترون كتابكم يحكم على أحد قبل أن يسمع منه؟ فقالوا له اكشف الكتب ترى أنه لا يجيء من جلجال نبي» فما قالت اليهود ذلك إلا وقد أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه ومالكه أنه نبي ، ولو علمت من دعواه الإلهية لذكرت ذلك له وأنكرته عليه وكان أعظم أسباب التنفير عن طاعته ، لأن كذبه كان يعلم بالحس والعقل والفطرة واتفاق الأنبياء.

ولقد كان يجب لله سبحانه ـ لو سبق في حكمته أنه يبرز لعباده ، وينزل عن كرسي عظمته ، ويباشرهم بنفسه ـ أن لا يدخل في فرج امرأة ، ويقيم في بطنها بين البول والنجو والدم عدة أشهر. وإذ فعل ذلك لا يخرج صبيا صغيرا ، يرضع ويبكي ، وإذا قد فعل ذلك ، لا يأكل مع الناس ويشرب معهم وينام ، وإذ فعل ذلك فلا يبول ولا يتغوط ويمتنع من الحرأة إذ هي منقصة ابتلى بها الإنسان في هذا الدار لنقصه وحاجته ، وهو تعالى المختص بصفات الكمال المنعوت بنعوت الجلال ، الذي ما وسعته سماواته ولا أرضه ، وكرسيه وسع السموات والأرض ، فكيف وسعه فرج امرأة تعالى الله رب العالمين .. وكلكم متفقون على أن المسيح كان يأكل ويشرب ويبول ويتغوط وينام.

١٧٥

[ما يراد بلفظ «الأب» و «الرب» و «الإله» و «السيد»

في كتبهم التي اشتبهت عليهم]

[اسئلة على إلهية المسيح تنتظر الجواب من عباد الصليب]

فيا معشر المثلثة وعباد الصليب! أخبرونا من كان الممسك للسماوات والأرض حين كان ربها وخالقها مربوطا على خشبة الصليب وقد شدت يداه ورجلاه بالحبال وسمرت اليد التي أتقنت العوالم ، فهل بقيت السموات والأرض خلوا من إلهها وفاطرها وقد جرى عليه هذا الأمر العظيم؟! أم تقولون استخلف على تدبيرها غيره وهبط عن عرشه لربط نفسه على خشبة الصليب وليذوق حر المسامير وليوجب اللعنة على نفسه حيث قال في التوراة : ملعون من تعلق بالصليب» ، أم تقولون : كان هو المدبر لها في تلك الحال ، فكيف وقد مات ودفن؟! أم تقولون ـ وهو حقيقة قولكم ـ لا ندري ولكن هذا في الكتب وقد قاله الآباء وهم القدوة والجواب عليهم؟! فنقول لكم وللآباء معاشر المثلثة عباد الصليب! ما الذي دلكم على إلهية المسيح؟ فإن كنتم استدللتم عليها بالقبض من أعدائه عليه وسوقه إلى خشبة الصليب وعلى رأسه تاج من الشوك وهم يبصقون في وجهه ويصفعونه ثم أركبوه ذلك المركب الشنيع وشدوا يديه ورجليه بالحبال وضربوه فيها المسامير وهو يستغيث وتعلق ثم فاضت نفسه وأودع ضريحه ، فما أصحه من استدلال عند أمثالكم ممن هم أضل من الأنعام؟ وهم عار على جميع الأنام!! وإن قلتم إنما استدللنا على كونه إلها بأنه لم يولد من البشر ولو كان مخلوقا لكان مولودا من البشر ، فان كان هذا الاستدلال صحيحا فآدم إله المسيح ، وهو أحق بأن يكون إلها منه لأنه لا أم له ولا أب والمسيح له أم ، وحواء أيضا اجعلوها إلها خامسا لأنها لا أم لها وهي أعجب من خلق المسيح؟!! والله سبحانه قد نوّع خلق آدم وبنيه إظهارا لقدرته وإنه يفعل ما يشاء ، فخلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى ، وخلق زوجه حوى من ذكر لا من أنثى ، وخلق عبده المسيح من أنثى لا من ذكر ، وخلق سائر النوع من ذكر وأنثى. وإن قلتم : استدللنا على كونه إلها بأنه أحيا الموتى ، ولا يحييهم إلا الله. فاجعلوا موسى إلها آخر ، فانه آتى من ذلك بشيء لم يأت المسيح بنظيره ولا ما يقاربه ،

١٧٦

وهو جعل الخشبة حيوانا عظيما ثعبانا ، فهذا أبلغ واعجب من إعادة الحياة إلى جسم كانت فيه أولا ، فإن قلتم هذا غير احياء الموتى فهذا اليسع النبي أتى باحياء الموتى وهم يقرون بذلك ، وكذلك إيليا النبي أيضا أحيا صبيا بإذن الله ، وهذا موسى قد أحيا بإذن الله السبعين الذين ماتوا من قومه ، وفي كتبكم من ذلك كثير عن الأنبياء والحواريين : فهل صار أحد منهم إلها بذلك؟!! وإن قلتم جعلناه إلها للعجائب التي ظهرت على يديه فعجائب موسى أعجب وأعجب ، وهذا إيليا النبي بارك على دقيق العجوز ودهنها فلم ينفد ما في جرابها من الدقيق وما في قارورتها من الدهن سبع سنين!! وإن جعلتموه إلها لكونه أطعم من الأرغفة اليسيرة آلافا من الناس فهذا موسى قد أطعم أمته أربعين سنة من المن والسلوى!! وهذا محمد بن عبد الله قد أطعم العسكر كله من زاد يسير جدا حتى شبعوا وملئوا أوعيتهم ، وسقاهم كلهم من ماء يسير لا يملأ اليد حتى ملئوا كل سقاء في العسكر ، وهذا منقول عنه بالتواتر؟! وان قلتم جعلناه إلها لأنه صاح بالبحر فسكنت أمواجه ، فقد ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق اثني عشر طريقا وقام الماء بين الطرق كالحيطان ، وفجر من الحجر الصلد اثني عشر عينا سارحة!! وإن جعلتموه إلها لأنه أبرأ الأكمه والأبرص فإحياء الموتى أعجب من ذلك ، وآيات موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أعجب من ذلك!! وإن جعلتموه إلها لأنه ادعى ذلك فلا يخلو إما أن يكون الأمر كما تقولون عنه أو يكون إنما ادعى العبودية والافتقار وأنه مربوب مصنوع مخلوق ، فإن كان كما ادعيتم عليه فهو أخو المسيح الدجال وليس بمؤمن ولا صادق فضلا عن أن يكون نبيا كريما وجزاؤه جهنم وبئس المصير ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٩] ، وكل من ادعى الإلهية من دون الله فهو من أعظم أعداء الله كفرعون ونمرود وأمثالهما من أعداء الله ، فأخرجتم المسيح عن كرامة الله ونبوته ورسالته وجعلتموه من أعظم أعداء الله ، ولهذا كنتم أشد الناس عداوة للمسيح في صورة محب موال!! ومن أعظم ما يعرف به كذب المسيح الدجال أنه يدعي الإلهية فيبعث الله عبده ورسوله مسيح الهدى ابن مريم فيقتله ، ويظهر للخلائق أنه كان كاذبا مفتريا ولو كان إلها لم يقتل فضلا عن أن يصلب ويسمر ويبصق في وجهه!! وإن كان المسيح إنما

١٧٧

ادعى أنه عبد ونبي ورسوله كما شهدت به الأناجيل كلها ودل عليه العقل والفطرة وشهدتم أنتم له بالإلهية ـ وهذا هو الواقع ـ فلم تأتوا على إلهيته ببينة غير تكذيبه في دعواه ، وقد ذكرتم عنه في أناجيلكم في مواضع عديدة ما يصرح بعبوديته وأنه مربوب مخلوق ، وأنه ابن البشر ، وأنه لم يدع غير النبوة والرسالة ، فكذبتموه في ذلك كله وصدقتم من كذب على الله وعليه!! وإن قلتم إنما جعلناه إلها لانه أخبر بما يكون بعده من الأمور فكذلك عامة الأنبياء ، وكثير من الناس يخبر عن حوادث في المستقبل جزئية ويكون ذلك كما أخبر به ويقع من ذلك كثير للكهان والمنجمين والسحرة!! وإن قلتم إنما جعلناه إلها لأنه سمى نفسه ابن الله في غير موضع من الإنجيل كقوله : «إني ذاهب إلى أبي» و «إني سائل أبي» ونحو ذلك وابن الإله إله ، قيل فاجعلوا أنفسكم كلكم آلهة في غير موضع أنه سماه «أباه ، وأباهم» كقوله «اذهب إلى أبي وأبيكم» وفيه «ولا تسبوا أباكم على الأرض فإن أباكم الذي في السماء وحده» وهذا كثير في الإنجيل وهو يدل على أن الأب عندهم الرب!! وإن جعلتموه إلها لأن تلاميذه ادعوا ذلك له وهم أعلم الناس به كذبتم أناجيلكم التي بأيديكم فكلها صريحة أظهر صراحة بأنهم ما ادعوا له إلّا ما ادعاه لنفسه من أنه عبد ، فهذا «متى» يقول في الفصل التاسع من إنجيله محتجا بنبوة شعيا في المسيح عن الله عزوجل : «هذا عبدي الذي اصطفيته وحبيبي الذي ارتاحت نفسي له» وفي الفصل الثامن من إنجيله : «إني أشكرك يا رب» «ويا رب السموات والأرض» وهذا «لوقا» يقول في آخر إنجيله «إن المسيح عرض له ولآخر من تلاميذه في الطريق ملك وهما محزونان فقال لهما وهما لا يعرفانه : ما بالكما محزونين؟ فقالا : كأنك غريب في بيت المقدس ، إذ كنت لا تعلم ما حدث فيها في هذه الأيام من أمر الناصري فإنه كان رجلا نبيا قويا تقيا في قوله وفعله عند الله وعند الأمة أخذوه وقتلوه» وهذا كثير جدا في الإنجيل! وإن قلتم : إنما جعلناه إلها لأنه صعد إلى السماء. فهذا أخنوخ والياس قد صعدا إلى السماء وهما حيان مكرمان لم تشكهما شوكة ولا طمع فيهما طامع ، والمسلمون مجمعون على أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صعد إلى السماء وهو عبد محض ، وهذه الملائكة تصعد إلى السماء ، وهذه أرواح المؤمنين تصعد إلى السماء بعد مفارقتها الأبدان ولا تخرج بذلك عن العبودية وهل كان الصعود إلى السماء مخرج

١٧٨

عن العبودية بوجه من الوجوه؟! وإن جعلتموه إلها لأن الأنبياء سمته إلها وربا وسيدا ونحو ذلك فلم يزل كثير من أسماء الله عزوجل تقع على غيره عند جميع الأمم وفي سائر الكتب ، وما زالت الروم والفرس والهند والسريانيون والعبرانيون والقبط وغيرهم يسمون ملوكهم آلهة وأربابا ، وفي السفر الأول من التوراة «أن نبي الله دخلوا على بنات الياس ورأوهن بارعات الجمال فتزوجوا منهن» وفي السفر الثاني من التوراة في قصة المخرج من مصر «إني جعلتك إلها لفرعون» وفي المزمور الثاني والثمانين لداود «قام الله لجميع الآلهة» هكذا في العبرانية ، وأما من نقله إلى السريانية فانه حرفه فقال : «قام الله في جماعة الملائكة» وقال في هذا المزمور وهو يخاطب قوما بالروح : «لقد ظننت أنكم آلهة وأنكم أبناء الله كلكم» وقد سمى الله سبحانه عبده بالملك ، كما سمى نفسه بذلك ، وسماه بالرءوف الرحيم كما سمى نفسه بذلك ، وسماه بالعزيز وسمى نفسه بذلك. واسم الرب واقع على غير الله تعالى في لغة أمة التوحيد ، كما يقال هذا رب المنزل ورب الإبل ورب هذا المتاع ، وقد قال شعيا : «عرف الثور من اقتناه والحمار مربط ربه ولم يعرف بنو إسرائيل». وإن جعلتموه إلها لأنه صنع من الطين صورة طائر ثم نفخ فيها فصارت لحما ودما وطائرا حقيقة ولا يفعل هذا إلا الله ، قيل فاجعلوا موسى بن عمران إله الآلهة فانه ألقى عصا فصارت ثعبانا عظيما ثم أمسكها بيده فصارت عصا كما كانت!! وإن قلتم : جعلناه إلها لشهادة الأنبياء والرسل له بذلك ، قال عزرا حيث سباهم بختنصر إلى أرض بابل إلى أربعمائة واثنين وثمانين سنة : «يأتي المسيح ويخلص الشعوب والأمم» وعند انتهاء هذه المدة أتى المسيح ، ومن يطيق تخليص الأمم غير الإله التام ، قيل لكم : فاجعلوا جميع الرسل آلهة فانهم خلصوا الأمم من الكفر والشرك وخلصوهم من النار بإذن الله ، وحده ، ولا شك أن المسيح خلص من آمن به واتبعه من ذل الدنيا وعذاب الآخرة ، كما خلص موسى بني إسرائيل من فرعون وقومه ، وخلصهم بالإيمان بالله واليوم الآخر من عذاب الآخرة ، وخلص الله سبحانه بمحمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عبده ورسوله من الأمم والشعوب ما لم يخلصه نبي سواه فإن وجبت بذلك الإلهية لعيسى فموسى

١٧٩

ومحمد أحق بها منه. وإن قلتم أوجبنا له بذلك الإلهية لقول أرمياء النبي عن ولادته : «وفي ذلك الزمان يقوم لداود ابن ، وهو ضوء النور ، يملك الملك ، ويقيم الحق والعدل في الأرض ، ويخلص من آمن به من اليهود ومن بني إسرائيل ومن غيرهم ، ويبقى بيت المقدس من غير مقاتل ، ويسمى الإله.» فقد تقدم أن اسم الإله في الكتب المتقدمة وغيرها قد أطلق على غيره وهو بمنزلة الرب والسيد والأب ولو كان عيسى هو الله لكان أجل من أن يقال ويسمى الإله وكان يقول وهو الله ، فإن الله سبحانه لا يعرف بمثل هذا ، وفي هذا الدليل الذي جعلتموه به إلها أعظم الأدلة على أنه عبد وإنه ابن البشر ، فإنه قال : «يقوم لداود ابن» فهذا الذي قام لداود هو الذي سمي بالإله ، فعلم أن هذا الاسم لمخلوق مصنوع مولود لا لرب العالمين وخالق السموات والأرضين».

وإن قلتم إنما جعلناه إلها من جهة قول شعيا النبي : «قل لصهيون يفرح ويتهلل فإن الله يأتي ويخلص الشعوب ويخلص من آمن به ويخلص مدينة بيت المقدس ويظهر الله ذراعه الطاهر فيها لجميع الأمم المتبددين ويجعلهم أمة واحدة ، ويصر جميع أهل الأرض خلاص الله لأنه يمشي معهم وبين أيديهم ويجمعهم إله إسرائيل» قيل لهم هذا يحتاج «أولا» إلى أن يعلم أن ذلك في نبوة اشعيا بهذا اللفظ بغير تحريف للفظه ولا غلط في الترجمة ، وهذا غير معلوم ، وإن ثبت ذلك لم يكن فيه دليل على أنه إله تام وأنه غير مصنوع ولا مخلوق فإنه نظير ما في التوراة : «جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران» وليس في هذا ما يدل على أن موسى ومحمد إلهان والمراد بهذا مجيء دينه وكتابه وشرعه وهداه ونوره ، وأما قوله : «ويظهر ذراعه الطاهر لجميع الأمم المبددين» ففي التوراة مثل هذا وأبلغ منه في غير موضع ، وأما قوله : «ويصر جميع أهل الأرض خلاص الله لأنه يمشي معهم ومن بين أيديهم» فقد قال في التوراة في السفر الخامس لبني إسرائيل : «لا تهابوهم ولا تخافوهم لأن الله ربكم السائر بين أيديكم وهو محارب عنكم» وفي موضع آخر قال موسى : «إن الشعب هو شعبك ، فقال أنا أمضي أمامك ، فقال إن لم تمض أنت أمامنا وإلا فلا تصعدنا من هاهنا ، فكيف أعلم أنا وهذا الشعب أني وجدت

١٨٠