هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٣٢

ثلاثا في غار تحت الأرض ، ثم خرجوا بعد ثلاث على غير الطريق إلى أن قدموا المدينة ، والشوكة والعدد والعدة فيها لليهود والمشركين ، فأسلم عبد الله بن سلام حين مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، المدينة لما رأى أعلام النبوة التي كان يعرفها وشاهدها فيه ، وترك الأغراض التي منعت المغضوب عليهم من الإسلام من الرئاسة والمال والجاه بينهم ، وقد شهدوا له كلهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رئيسهم وخيرهم وسيدهم ، فعلم أنهم إن علموا بإسلامه اخرجوه من تلك الرئاسة والسيادة فأحب أن يعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فقال أدخلني بعض بيوتك وسلهم عني ففعل ، وسألهم عنه فاخبروه أنه سيدهم ورئيسهم وعالمهم ، فخرج عليهم وذكرهم وأوقفهم على أنهم يعلمون أنه رسول الله ، وقابلهم بذلك ، فسبوه وقدحوا فيه وانكروا رئاسته وسيادته وعلمه فلو كان عبد الله بن سلام ممن يؤثر عرض الدنيا والرئاسة لفعل كما فعله إخوان القردة وأمة الغضب والقوم البهت ، وهكذا شأن من أسلم من اليهود حينئذ وأما المتخلفون فكثير منهم صرح بغرضه لخاصته وعامته ، وقال : إن هؤلاء القوم قد عظمونا ورأسونا وملونا فلو اتبعناه لنزعوا ذلك كله منا ، وهذا قد رأيناه نحن في زماننا وشاهدناه عيانا ، ولقد ناظرنا بعض علماء النصارى معظم يوم فلما تبين له الحق بهت ، فقلت له وأنا وهو خاليين : ما يمنعك الآن من اتباع الحق؟ فقال لي : إذا قدمت على هؤلاء الحمير ـ هكذا لفظه ـ فرشوا لنا الشقاق تحت حوافر دابتي وحكموني في أموالهم ونسائهم ولم يعصوني فيما آمرهم به ، وأنا لا اعرف صنعة ولا احفظ قرآنا ولا نحوا ولا فقها ، فلو أسلمت لدرت في الأسواق اتكفف الناس ، فمن الذي يطيب نفسا بهذا؟! فقلت هذا لا يكون ، وكيف تظن بالله أنك إذا آثرت رضاه على هواك يخزيك ويذلك ويحوجك؟! ولو فرضنا أن ذلك أصابك فما ظفرت به من الحق والنجاة من النار ومن سخط الله وغضبه فيه اتم العوض عما فاتك فقال حتى يأذن الله ، فقلت القدر لا يحتاج به ، ولو كان القدر حجة لكان حجة لليهود على تكذيب المسيح وحجة للمشركين على تكذيب الرسل ، ولا سيما أنتم تكذبون بالقدر فكيف تحتج به؟ فقال دعنا الآن من هذا وأمسك.

١٤١

(الخامس) إن جوابك في نفس سؤالك فإنك اعترفت أن عبد الله بن سلام وذويه كانوا قليلين جدا واضدادهم لا يحصون كثرة ، ومعلوم أن الغرض الداعي لموافقة الجمهور الذين لا يحصون كثرة وهم أولو القوة والشوكة أقوى من الغرض الداعي لموافقة الأقلين المستضعفين والله الموفق.

[المسلمون فوق كل الأمم في الأعمال والمعارف النافعة]

(فصل) قال السائل : «تدخل علينا الريبة من جهة عبد الله بن سلام وأصحابه ، وهو أنكم قد بنيتم أكثر اساس شرائعكم في الحلال والحرام والأمر والنهي على أحاديث عوام من الصحابة الذين ليس لهم بحث في علم ولا دراسة ولا كتابة قبل مبعث نبيكم ، فابن سلام هو وأصحابه أولى أن يؤخذ بأحاديثهم ورواياتهم ، لأنهم كانوا أهل علم وبحث ودراسة وكتابة قبل مبعث نبيكم وبعده ، ولا نراكم تروون عنهم من الحلال والحرام والأمر والنهي إلا شيئا يسيرا جدا ، وهو ضعيف عندكم» والجواب من وجوه :

(أحدها) إن هذا بهت من قائله ، فإنا لم نبن أساس شريعتنا في الحلال والحرام والأمر والنهي إلا على كتاب ربنا المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، الذي أنزله على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذي تحدى به الأمم كلها على اختلاف علومها وأجناسها وطبائعها وهو في غاية الضعف وأعداؤه طبقوا الأرض أن يعارضوه بمثله فيكونوا أولى بالحق منه ويظهر كذبه وصدقهم فعجزوا عن ذلك ، فتحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا ، فتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا ، هذا وأعداؤه الأدنون إليه أفصح الخلق وهم أهل البلاغة والفصاحة واللسن والنظم والنثر والخطب وأنواع الكلام ، فما منهم من فاه في معارضته ببنت شفة ، وكانوا احرص الناس على تكذيبه وأشدهم أذى له بالقول والفعل والتنفير عنه لكل طريق ، فما نقل عن أحد منهم سورة واحدة عارضة بها ، إلا مسيلمة الكذاب بمثل قوله : «يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي كم تنقين ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ، ومثل والطاحنات طحنا ، والعاجنات عجنا ، فالخابزات خبزا ، أهالة وسمنا» وأمثال هذه

١٤٢

الألفاظ التي هي بألفاظ أهل الجنون والمعتوهين أشبه منها بألفاظ العقلاء فالمسلمون إنما بنوا أساس دينهم ومعالم حلالهم وحرامهم على الكتاب الذي لم ينزل من السماء كتاب أعظم منه ، فيه بيان كل شيء وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة وشفاء لما في الصدور ، به هدى الله رسوله وأمته فهو أساس دينهم.

(الثاني) إن قولكم «إن المسلمين بنوا أساس دينهم على رواية عوام من الصحابة» من أعظم البهت وأفحش الكذب ، فإنهم وإن كانوا أميين فمذ بعث الله فيهم رسوله زكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة وفضلهم في العلم والعمل والهدى والمعارف والإلهية والعلوم النافعة المكملة للنفوس على جميع الأمم ، فلم تبق أمة من الأمم تدانيهم في فضلهم وعلومهم وأعمالهم ومعارفهم ، فلو قيس ما عند جميع الأمم من معرفة وعلم وهدى وبصيرة إلى ما عندهم لم يظهر له نسبة إليه بوجه ما ، وإن كان غيرهم من الأمم أعلم بالحساب والهندسة ، والكم المتصل والكم المنفصل ، والنبض والقارورة والبول والقسطة ، ووزن الأنهار ونقوش الحيطان ، ووضع الآلات العجيبة ، وصناعة الكيمياء ، وعلم الفلاحة ، وعلم الهيئة ، وتسيير الكواكب ، وعلم الموسيقا والألحان ، وغير ذلك من العلوم التي هي بين علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة ، وبين علم نفعه في العاجلة وليس من زاد المعاد. فإن أردتم أن الصحابة كانوا عواما في هذه العلوم فنعم إذا «وتلك شكاة ظاهر عنك عارها» وإن أردتم أنهم كانوا عواما في العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه ودينه وشرعه وتفاصيله واليوم الآخر وتفاصيله وتفاصيل ما بعد الموت وعلم سعادة النفوس وشقاوتها وعلم صلاح القلوب وأمراضها فمن بهت نبيهم بما بهته به وجحد نبوته ورسالته التي هي للبصائر أظهر من الشمس للأبصار لم ينكر له أن يبهت أصحابه ويجحد فضلهم ومعرفتهم ، وينكر ما خصهم الله به وميزهم على من قبلهم ومن هو كائن من بعدهم إلى يوم القيامة؟! وكيف يكونون عواما في ذلك وهم أذكى الناس فطرة وأزكاهم نفوسا ، وهم يتلقونه غضا طريا ومحضا لم يشب عن نبيهم ، وهم أحرص الناس عليه وأشوقهم إليه ، وخبر السماء يأتيهم على لسانه في ساعات الليل والنهار والحضر والسفر ، وكتابهم قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين ،

١٤٣

وعلم ما كان من المبدأ والمعاد ، وتخليق العالم وأحوال الأمم الماضية ، والأنبياء وسيرهم وأحوالهم مع أممهم ، ودرجاتهم ومنازلهم عند الله ، وعددهم ، وعدد المرسلين منهم ، وذكر كتبهم ، وأنواع العقوبات التي عذب الله بها أعداءهم ، وما أكرم به اتباعهم ، وذكر الملائكة وأصنافهم وأنواعهم وما وكلوا به واستعملوه فيه ، وذكر اليوم الآخر وتفاصيل أحواله ، وذكر الجنة وتفاصيل نعيمها والنار وتفاصيل عذابها ، وذكر البرزخ وتفاصيل أحوال الخلق فيه ، وذكر اشراط الساعة والأخبار بها مفصلا بما لم يتضمنه كتاب غيره من حين قامت الدنيا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، كما أخبر به المسيح عنه من قوله في الإنجيل وقد بشرهم به فقال : «وكل شيء أعده الله تعالى لكم يخبركم به» وفي موضع آخر منه : «ويخبركم بالحوادث والغيوب» وفي موضع آخر : «ويعلمكم كل شيء» وفي موضع آخر منه : «يحيي لكم الأسرار ، ويفسر لكم كل شيء ، وأجيئكم بالأمثال وهو يجيئكم بالتأويل ،» وفي موضع آخر : «إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله ، لكن إذا جاء روح الحق ذلك يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ، ويخبركم بكلما يأتي ، ويعرفكم جميع ما للأب» فمن هذا علمه بشهادة المسيح وأصحابه يتلقون ذلك جميعه عنه وهم أذكى الخلق وأحفظهم وأحرصهم كيف تدانيهم أمة من الأمم في هذه العلوم والمعارف؟! ولقد صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما صلاة الصبح ثم صعد المنبر فخطبهم حتى حضرت الظهر ، ثم نزل فصلى وصعد فخطبهم حتى حضرت العصر ، ثم نزل فصلى وخطبهم حتى حضرت المغرب ، فلم يدع شيئا إلى قيام الساعة إلا أخبرهم به ، فكان أعلمهم أحفظهم» وخطبهم مرة أخرى خطبة فذكر بدأ الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم ، وقال ، يهودي لسلمان : لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! قال أجل؟! فهذا اليهودي كان أعلم بنبينا من هذا السائل وطائفته!

١٤٤

[الصحابة أعلم الناس وأفضلهم ، علماء الأمة تلاميذهم]

[من أعلام الصحابة والأئمة]

وكيف يدعي في أصحاب نبينا أنهم عوام وهذه العلوم النافعة المبثوثة في الأمة على كثرتها واتساعها وتفنن ضروبها إنما هي عنهم مأخوذة ومن كلامهم وفتاويهم مستنبطة ، وهذا عبد الله بن عباس كان من صبيانهم وفتيانهم وقد طبق الأرض علما وبلغت فتاويه نحوا من ثلاثين سفرا ، وكان بحرا لا ينزف لو نزل به أهل الأرض لأوسعهم علما ، وكان إذا أخذ في الحلال والحرام والفرائض يقول القائل لا يحسن سواه ، فإذا أخذ في تفسير القرآن ومعانيه يقول السامع لا يحسن سواه ، فإذا أخذ في السنة والرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول القائل لا يحسن سواه ، فإذا أخذ في القصص وأخبار الأمم وسير الماضين فكذلك ، فإذا أخذ في أنساب العرب وقبائلها وأصولها وفروعها فكذلك فإذا أخذ في الشعر والغريب فكذلك. قال مجاهد : العلماء أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال قتادة في قوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ) [سبأ : ٦] ، قال : هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما حضر معاذ الموت قيل له : أوصنا : قال أجلسوني ، إن العلم والإيمان بمكانهما من اقتفاهما وجدهما عند أربعة رهط : عند عويمر أبي الدرداء ، وعند سلمان الفارسي ، وعند عبد الله بن مسعود ، وعند عبد الله بن سلام ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنه عاشر عشرة في الجنة» وقال أبو إسحاق السبيعي قال عبد الله : علماء الأرض ثلاثة ، فرجل بالشام ، وآخر بالكوفة ، وآخر بالمدينة فأما هذان فيسألان الذي بالمدينة ، والذي بالمدينة لا يسألهما عن شيء. وقيل لعلي بن أبي طالب : حدثنا عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : عن أيهم؟ قالوا : عن عبد الله بن مسعود ، قال : قرأ القرآن وعلم السنة ثم انتهى وكفى بذلك ، قالوا : فحدثنا عن حذيفة. قال : أعلم أصحاب محمد بالمنافقين ، قالوا : فأبو ذر؟ قال كنيف ملئ علما عجن فيه ، قالوا فعمار؟ قال : مؤمن نسي إذا ذكرته ذكر خلط الله الإيمان بلحمه ودمه ليس للنار فيه نصيب ، قالوا فأبو موسى؟ قال : صبغ في العلم صبغة ، قالوا : فسلمان؟ قال : علم العلم الأول والآخر بحر لا ينزح ، هو منا أهل البيت ،

١٤٥

قالوا : فحدثنا عن نفسك يا أمير المؤمنين؟ قال : إياها أردتم ، كنت إذا سئلت أعطيت ، وإذا سكت ابتديت. وقال مسروق : شافهت أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة : إلى علي وعبد الله وعمر وزيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبي بن كعب ، ثم شافهت الستة فوجدت علمهم ينتهي إلى عليّ وعبد الله. وقال مسروق : جالست أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا كالأخاذ الأخاذ يروي الراكب ، والأخاذ يروي الراكبين ، والأخاذ العشرة ، والأخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم ، وإن عبد الله من تلك الأخاذ ، وفي الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى أرى الري يخرج من أظفاري ، ثم أعطيت فضلي عمر» فقالوا : «فما أولت ذلك يا رسول الله قال : «العلم» وقال عبد الله : إني لا حسب أن عمر بن الخطاب قد ذهب بتسعة أعشار العلم. وقال عبد الله : لو أن علم عمر بن الخطاب وضع في كفة الميزان ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر. وقال : حذيفة بن اليمان : كأن علم الناس مع علم عمر دس في حجر. وقال الشعبي : قضاة هذه الأمة أربعة عمر وعلي وزيد وأبو موسى. وقال قبيصة بن جابر : ما رأيت رجلا قط أعلم بالله ولا أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله من عمر. وقال علي : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليمن وأنا حديث السن ليس لي علم بالقضاء ، فقلت إنك ترسلني إلى قوم يكون فيهم الأحداث وليس لي علم بالقضاء ، قال فضرب في صدري وقال : «إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك» ، قال : فما شككت في قضاء بين اثنين بعده. وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال : كنت أرعى غنما لعقبة ابن أبي معيط فمر بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو بكر ، فقال لي : «يا غلام هل من لبن»؟! فقلت : نعم ولكني مؤتمن ، قال : «فهل من شاة لم ينز عليها الفحل؟؟ قال فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء فشرب وسقى أبا بكر ، ثم قال للضرع : «أقلص» فقلص ، قال ثم أتيته بعد هذا فقلت : يا رسول الله علمني من هذا القول ، فمسح رأسي ، وقال : «يرحمك الله أنك عليم معلم» وقال عقبة بن عامر : ما أرى أحدا أعلم بما أنزل على محمد من عبد الله ، فقال أبو موسى : إن تقل ذلك فإنه كان يسمع حين لا نسمع ويدخل حين

١٤٦

لا ندخل. وقال مسروق : قال : عبد الله ما أنزلت سورة إلا وأنا أعلم فيما انزلت ، ولو إني أعلم أن رجلا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل والمطايا لأتيته. وقال عبد الله بن بريدة في قوله عزوجل : (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً) قال : هو عبد الله بن مسعود. وقيل لمسروق : كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال : والله لقد رأيت الأكابر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألونها عن الفرائض. وقال أبو موسى : ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما. وقال شهر بن حوشب : كان أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل نظروا إليه هيبة له ، وقال عليّ بن أبي طالب : أبو ذر وعاء ملئ علما ، ثم وكى عليه فلم يخرج منه شيء حتى قبض. وقال مسروق : قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم ، ولما بلغ أبا الدرداء موت عبد الله بن مسعود قال : أما إنه لم يخلف بعده مثله. وقال أبو الدرداء : إن من الناس من أوتي علما ولم يؤت حلما ، وشداد بن أوس ممن أوتي علما وحلما ، ولما مات زيد بن ثابت قام ابن عباس على قبره وقال : هكذا يذهب العلم. وضم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن عباس وقال : «اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب» وقال محمد بن الحنيفية لما مات ابن عباس : لقد مات رباني هذه الأمة. وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : ما رأيت أحدا أعلم بالسنة ولا أجلد رأيا ولا أثقب نظرا حين ينظر من ابن عباس. وكان عمر بن الخطاب يقول له : قد طرأت علينا عضل أقضيه أنت لها ولأمثالها ، ثم يقول عبيد الله ، وعمر عمر في جده وحسن نظره للمسلمين. وقال عطاء بن أبي رباح : ما رأيت مجلسا قد أكرم من مجلس ابن عباس : أكثر فقها وأعظم جفنة ، إن أصحاب الفقه عنده ، وأصحاب القرآن عنده ، وأصحاب الشعر ، يصدرهم كلهم في واد واسع ، وكان عمر بن الخطاب يسأله مع الأكابر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعى له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يزيده الله علما وفقها. وقال عبد الله بن مسعود : لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عشره منا رجل. أي ما بلغ عشرة. وقال ابن عباس : ما سألني أحد عن مسألة إلا عرفت أنه فقيه أو غير فقيه ، وقيل له أنى أصبت هذا العلم؟ قال : بلسان سئول ، وقلب عقول ، وكان

١٤٧

يسمى البحر من كثرة علمه. وقال طاوس : أدركت نحو خمسين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أذكر لهم ابن عباس شيئا فخالفوه لم يزل بهم حتى يقررهم. وقال الأعمش : كان ابن عباس إذا رأيته قلت : أجمل الناس ، فإذا تكلم قلت : أفصح الناس ، فإذا حدث قلت : أعلم الناس. وقال مجاهد : كان ابن عباس إذا فسر الشيء رأيت عليه النور. وقال ابن سيرين : كانوا يرون أن الرجل الواحد يعلم من العلم ما لا يعلمه الناس أجمعون. قال ابن عون : فكأنه رآني أنكرت ذلك قال فقال : أليس أبو بكر كان يعلم ما لا يعلم الناس ، ثم كان عمر يعلم ما لا يعلم الناس؟! وقال عبد الله بن مسعود : لو وضع علم أحياء العرب في كفة وعلم عمر في كفة لرجح بهم علم عمر ، قال الأعمش فذكروا ذلك لإبراهيم فقال : عبد الله إن كنا لنحسبه قد ذهب بتسعة أعشار العلم. وقال سعيد بن المسيب : ما أعلم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم من عمر بن الخطاب ، وقال الشعبي : قضاة الناس أربعة : عمر وعليّ وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري. وكانت عائشة رضي الله عنها مقدمة في العلم بالفرائض والسنن والأحكام والحلال والحرام والتفسير. قال عروة بن الزبير : ما جالست أحدا قط أعلم بقضاء ولا بحديث الجاهلية ولا أروى للشعر ولا أعلم بفريضة ولا طب من عائشة. وقال عطاء : كانت عائشة أعلم الناس وأفقه الناس. وقال البخاري في تاريخه : روى العلم عن أبي هريرة ثمانمائة رجل ما بين صاحب وتابع. وقال عبد الله بن مسعود : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه وبعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلوا وزراءه. وقال ابن عباس في قوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [النمل : ٥٩] ، قال : هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن مسعود : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فان الحي لا يؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد ، أبرّ هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لإقامة دينه وصحبة نبيه فاعرفوا لهم حقهم ، وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وقد أثنى الله سبحانه عليهم بما لم يثنه على أمة من الأمم سواهم فقال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ، أي عدولا

١٤٨

خيارا : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] ، وقال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران : ١١٠] ، وقال : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ، تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الفتح : ٢٩] ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة : ١١٩] ، وهم محمد وأصحابه. وصح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عزوجل» وقال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة : ١٠٠] ، وقال مالك عن نافع : كان ابن عباس وابن عمر يجلسان للناس عند قدوم الحاج وكنت أجلس إلى هذا يوما وإلى هذا يوما ، فكان ابن عباس يجيب ويفتي في كل ما يسأل عنه وكان ابن عمر يرد أكثر مما يفتي. قال مالك : وسمعت «أن معاذ بن جبل يكون أمام العلماء برتوة» يعني يكون أمامهم يوم القيامة برمية حجر. وقال مالك : أقام ابن عمر بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستين سنة يفتي الناس في الموسم وغير ذلك وكان من أئمة الدين ، وقال عمر لجرير : يرحمك الله إن كنت لسيدا في الجاهلية فقيها في الإسلام. وقال محمد بن المنكدر : ما قدم البصرة أحد أفضل من عمران بن حصين. وكان لجابر بن عبد الله حلقة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يؤخذ عنه العلم ... والعلم إنما انتشر في الآفاق عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم الذين فتحوا البلاد بالجهاد ، والقلوب بالعلم والقرآن ، فملئوا الدنيا خيرا وعلما ، والناس اليوم في بقايا آثار علمهم. قال الشافعي في رسالته وقد ذكر الصحابة فعظمهم وأثنى عليهم ثم قال : وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك

١٤٩

به علم ، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا ، ومن أدركنا ممن نرضى أو حكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرقوا ، وكذلك نقول ولم نخرج من أقاويلهم كلهم. وقال الشافعي : وقد أثنى الله على الصحابة في التوراة والإنجيل والقرآن وسبق لهم على لسان نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من الفصل ما ليس لأحد بعدهم. وقال أبو حنيفة : إذا جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلى الرأس والعين ، وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم ولم نخرج عنه. وقال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : لما دخل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشام نظر إليهم رجل من أهل الكتاب فقال ما كان أصحاب عيسى بن مريم الذين قطعوا بالمناشير وصلبوا على الخشب بأشد اجتهادا من هؤلاء. وقد شهد لهم الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بأنهم خير القرون على الإطلاق ، كما شهد لهم ربهم تبارك وتعالى بأنهم خير الأمم على الإطلاق.

وعلماؤهم وتلاميذهم هم الذين ملئوا الأرض علما ، فعلماء الإسلام كلهم تلاميذهم وتلاميذهم وهلم جرا ، وهؤلاء الأئمة الأربعين الذين طبق علمهم الأرض شرقا وغربا هم تلاميذ تلاميذهم ، وخيار ما عندهم ما كان عن الصحابة ، وخيار الفقه ما كان عنهم ، وأصح التفسير ما أخذ عنهم. وأما كلامهم في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وقضائه وقدره ففي أعلى المراتب ، فمن وقف عليه وعرف ما قالته الأنبياء عرف أنه مشتق منه مترجم عنه ، وكل علم نافع في الأمة فهو مستنبط من كلامهم ومأخوذ عنهم ، وهؤلاء تلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم قد طبقت تصانيفهم وفتاويهم الأرض ، فهذا مالك جمعت فتاويه في عدة أسفار ، وكذلك أبو حنيفة ، وهذه تصانيف الشافعي تقارب المائة ، وهذا الإمام أحمد بلغت فتاويه وتآليفه نحو مائة سفر ، وفتاويه عندنا في نحو عشرين سفرا ، وغالب تصانيفه بل كلها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الصحابة والتابعين ، وهذا علامتهم المتأخر «شيخ الإسلام ابن تيمية» جمع بعض أصحابه فتاواه في ثلاثين مجلدا ورأيتها في الديار المصرية ، وهذه تآليف أئمة الإسلام التي لا يحصيها إلا الله ، وكلهم من أولهم إلى آخرهم يقر للصحابة بالعلم والفضل ، ويعترف بأن علمه بالنسبة إلى علومهم كعلومهم بالنسبة إلى علم نبيهم.

١٥٠

وفي «الثقفيات» حدثنا قتيبة بن سعيد ، عن سعيد بن عبد الرحمن المعافري ، عن أبيه ، أن كعبا رأى حبر اليهود يبكي ، فقال له ما يبكيك؟ قال : ذكرت بعض الأمر ، فقال كعب : أنشدك الله لئن أخبرتك ما أبكاك لتصدقني؟ قال نعم ، قال أنشدك الله : هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال : رب إني أجد خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلون الأعور الدجال فاجعلهم أمتي قال هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر : نعم ، قال كعب : فانشدك الله هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال : يا رب إني أجد أمة هم الحمادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمرا قالوا : نفعله إن شاء الله. فاجعلهم أمتي ، قال هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر نعم ، فقال كعب فانشدك الله أتجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال : يا رب إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله وإذا هبط حمد الله ، الصعيد طهورهم والأرض لهم مسجد حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة ، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء ، غرا محجلين من آثار الوضوء فاجعلهم أمتي ، قال هم أمة أحمد يا موسى؟ ، قال الحبر نعم ، قال كعب : فانشدك الله أتجد في كتاب الله أن موسى نظر في التوراة فقال : يا رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء أورثتهم الكتاب فاصطفيتهم لنفسك فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد أحدا منهم إلا مرحوما فاجعلهم أمتي قال : هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر : نعم. قال كعب : أنشدك الله أتجد في كتاب الله أن موسى نظر في التوراة فقال : يا رب إني أجد أمة مصاحفهم في صدورهم ، يصفون في صلاتهم كصفوف الملائكة ، اصواتهم في مساجدهم كدوي النحل ، لا يدخل الناس منهم أحد إلا من برئ من الحسنات مثل ما برئ الحجر من ورق الشجر. قال موسى : فاجعلهم أمّتي قال : هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر : نعم ، فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمدا وأمته قال ليتني من أصحاب محمد ، فاوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن : (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) [الأعراف : ١٤٤] ، الآية : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ

١٥١

يَعْدِلُونَ) [الأعراف : ١٥٩] ، (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ) [الأعراف : ١٤٥] ، الآية ، قال فرضي موسى كل الرضا .. وهذه الفصول بعضها في التوراة التي بأيديهم وبعضها في نبوة شعيا ، وبعضها في نبوة غيره «والتوراة» أعم من التوراة المعينة ، وقد كان الله سبحانه كتب لموسى في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فلما كسرها رفع منها الكثير وبقي خير كثير ، فلا يقدح في هذا النقل جهل أكثر أهل الكتاب به فلا يزال في العلم الموروث عن الأنبياء شيء لا يعرفه إلا الآحاد من الناس أو الواحد وهذه الأمة على قرب عهدها بنبيها ، في العلم الموروث عنه ما لا يعرفه إلا الأفراد القليلون جدا من أمته وسائر الناس منكر له وجاهل به.

وسمع كعب رجلا يقول : رأيت في المنام كأن الناس جمعوا للحساب فدعي الأنبياء فجاء مع كل نبي أمته ورأيت لكل نبي نورين ولكل من اتبعه نورا يمشي بين يديه ، فدعي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا لكل شعرة في رأسه ووجهه نور ، ولكل من اتبعه نوران يمشي بهما ، فقال كعب : من حدثك بهذا؟ قال : رؤيا رأيتها في منامي ، قال : أنت رأيت هذا في منامك؟ قال : نعم ، قال : والذي نفسي بيده إنها لصفة محمد وأمته وصفة الأنبياء وأممهم لكأنما قرأتها من كتاب الله. وفي بعض الكتب القديمة أن عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه قيل له : يا روح الله! هل بعد هذه الأمة أمة؟ قال : نعم ، قيل : وأية أمة؟ قال : أمة أحمد ، قيل : يا روح الله! وما أمة أحمد؟ قال : علماء حكماء أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله منهم باليسير من العمل ، يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلّا الله. وقال كعب : علماء هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل ، وفيه حديث مرفوع لا أعرف حاله.

[هنيئا لأمة الغضب والضلال بعلومهم .. وبعلمائهم ..!! (١)]

ثم نقول : وما يدريكم معاشر المثلثة وعباد الصلبان وأمة اللعنة والغضب بالفقه والعلم؟ ومسمى هذا الاسم حيث تسلبونه أصحاب محمد الذين هم

__________________

(١) وانظر ص ٦١٣ ، ٦١٤.

١٥٢

وتلاميذهم كأنبياء بني إسرائيل ، وهل يميز بين العلماء والجهال ويعرف مقادير العلماء إلا من هو من جملتهم ومعدود في زمرتهم؟!! فأما طائفة شبه الله علماءهم بالحمير التي تحمل أسفارا ، وطائفة علماؤها يقولون في الله ما لا ترضاه أمة من الأمم فيمن تعظمه وتجله ، وتأخذ دينها عن كل كاذب ومفتر على الله وعلى أنبيائه ، فمثلها مثل عريان يحارب شاكي السلام ، ومن سقف بيته زجاج وهو يزاحم أصحاب القصور بالأحجار ، ولا يستكثر على من قال في الله ورسوله ما قال أن يقول في أعلم الخلق أنهم عوام .. فليهن أمة الغضب علم «المشنا ، والتلمود» (١) وما فيهما من الكذب على الله وعلى كليمه موسى. وما يحدث لهم أحبارهم وعلماء السوء منهم كل وقت ، ولتهنهم علوم دلتهم على أن الله ندم على خلق البشر حتى شق عليه ، وبكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة ، ودلتهم على أن يناجوا في صلاتهم بقولهم : يا إلهنا انتبه من رقدتك كم تنام ، ينخونه حتى يتنخى لهم ويعيد دولتهم ، ولتهن أمة الضلال علومهم التي فارقوا بها جميع شرائع الأنبياء وخالفوا بها المسيح خلافا تتحققه علماؤهم في كل أمره كما ستمر بك ، وعلومهم التي قالوا بها في رب العالمين ما قالوا مما كادت السموات تنشق منه والأرض تتفطر والجبال تنهد لو لا إن أمسكها الحليم الصبور ، وعلومهم التي دلتهم على التثليث ، وعبادة خشبة الصليب والصور المدهونة بالسيرقون والزنجفر ، ودلتهم على قول عالمهم أفريم أن اليد التي جبلت طينة آدم هي التي علقت على الصلبوب ، وأن الشبر الذي ذرعت به السموات هو الذي سمر على الخشبة ، وقول عالمهم عريقودس (٢) : من لم يقل أن مريم والدة الله فهو خارج عن ولاية الله!!!

[معاصي الأمم لا تقدح في الرسل وفي رسالتها]

(فصل) قال السائل : «نرى في دينكم أكثر الفواحش فيمن هو أعلم وأفقه في دينكم كالزنا واللواط والخيانة والحسد ، والبخل ، والغدر والتجبر والتكبر

__________________

(١) وانظر ص ٦٠٧

(٢) كذا. وفي المجند غريغوريوس. اسم عدة بابوات الخ.

١٥٣

والخيلاء ، وقلة الورع واليقين وقلة الرحمة والمروءة والحمية ، وكثرة الهلع ، والتكالب على الدنيا ، والكسل في الخيرات وهذا الحال يكذب لسان المقال» والجواب من وجوه :

(أحدها) أن يقال : ما ذا على الرسل الكرام من معاصي أممهم وأتباعهم؟! وهل يقدح ذلك شيئا في نبوتهم أو يغير وجه رسالتهم؟! وهل سلم من الذنوب على اختلاف أنواعها وأجناسها إلا الرسل صلوات الله وسلامه عليهم؟! وهل يجوز رد رسالتهم وتكذيبهم بمعصية بعض أتباعهم لهم؟! وهل هذا إلا من أقبح التعنت؟! وهو بمنزلة رجل مريض دعاه طبيب ناصح إلى سبب ينال به غاية عافيته فقال : لو كنت طبيبا لم يكن فلان وفلان وفلان مرضى! وهل يلزم الرسل أن يشفوا جميع المرضى بحيث لا يبقى في العالم مريض؟! هل تعنت أحد من الناس للرسل بمثل هذا التعنت؟!

[ذنوب الموحدين من المسلمين في جنب عظائم اليهود والنصارى

كتفلة في بحر (١)!]

(الوجه الثاني) أن الذنوب والمعاصي أمر مشترك بين الأمم لم تزل في العالم من طبقات بني آدم عالمهم وجاهلهم وزاهدهم في الدنيا وراغبهم وأميرهم ومأمورهم ، وليس ذلك أمرا اختصت به هذه الأمة حتى يقدح به فيها وفي نبيها (الوجه الثالث) أن الذنوب والمعاصي لا تنافي الإيمان بالرسل ، بل يجتمع في العبد الإسلام والإيمان والذنوب والمعاصي ، فيكون فيه هذا وهذا. فالمعاصي لا تنافي الإيمان بالرسل وإن قدحت في كماله وتمامه (الوجه الرابع) أن الذنوب تغفر بالتوبة النصوح ، فلو بلغت ذنوب العبد عنان السماء وعدد الرمل والحصا ثم تاب منها تاب الله عليه ، قال تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : ٥٣] ، فهذا في حق التائب ، فإن التوبة تجبّ ما قبلها ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والتوحيد يكفر الذنوب ، كما في

__________________

(١) وانظر ص ٦١٣ ، ٦١٤

١٥٤

الحديث الصحيح الإلهي : «ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة» فالمسلمون ذنوبهم ذنوب موحد إن قوي التوحيد على محو آثارها بالكلية ، وإلا فما معهم من التوحيد يخرجهم من النار إذا عذبوا بذنوبهم. وأما المشركون والكفار فإن شركهم وكفرهم يحبط حسناتهم ، فلا يلقون ربهم بحسنة يرجون بها النجاة ، ولا يغفر لهم شيء من ذنوبهم ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] ، وقال تعالى في حق الكفار والمشركين : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبى الله أن يقبل من مشرك عملا» فالذنوب تزول آثارها بالتوبة النصوح ، والتوحيد الخالص ، والحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة لها ، وشفاعة الشافعين في الموحدين ، وآخر ذلك إذا عذب بما يبقى عليه منها أخرجه توحيده من النار ، وأما الشرك بالله والكفر بالرسول فإنه يحبط جميع الحسنات بحيث لا تبقى معه حسنة.

[من فضائح اليهود وقبائحهم المنكرة]

(الوجه الخامس) أن يقال لمورد هذا السؤال إن كان من الأمة الغيبة إخوان القردة : ألا يستحي من إيراد هذا السؤال من آباؤه وأسلافه كانوا يشاهدون في كل يوم من الآيات ما لم يره غيرهم من الأمم؟! وقد فلق الله لهم البحر وأنجاهم من عدوهم وما جفت أقدامه من ماء البحر حتى قالوا لموسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ، قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف : ١٣٨] ، ولما ذهب لميقات ربه لم يمهلوه أن عبدوا بعد ذهابه العجل المصوغ ، وغلب أخوه هارون معهم ولم يقدر على الإنكار عليهم ، وكانوا مع مشاهدتهم تلك الآيات والعجائب يهمون برجم موسى وأخيه هارون في كثير من الأوقات والوحي بين أظهرهم!! ولما ندبهم إلى الجهاد قالوا : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤] ، وآذوا موسى أنواع الأذى حتى قالوا : إنه آدر ـ أي منتفخ الخصية ـ ولهذا يغتسل وحده ، فاغتسل يوما ووضع ثوبه على حجر ففر

١٥٥

الحجر بثوبه فعدا خلفه عريانا حتى نظر بنو إسرائيل إلى عورته فرأوه احسن خلق الله متجردا ، ولما مات أخوه هارون قالوا : إن موسى قتله وغيبه. فرفعت الملائكة لهم تابوته بين السماء والأرض حتى عاينوه ميتا ، وآثروا العود إلى مصر وإلى العبودية ليشبعوا من أكل اللحم والبصل والقثاء والعدس. هكذا عندهم. والذي حكاه الله عنهم أنهم آثروا ذلك على المن والسلوى ؛ وانهماكهم على الزنا وموسى بين أظهرهم وعدوهم بإزائهم حتى ضعفوا عنهم ولم يظفروا بهم ، وهذا معروف عندهم ، وعبادتهم الأصنام بعد عصر يوشع بن نون معروف ، وتحيلهم على صيد الحيتان في يوم السبت لا تنسه ، حتى مسخوا قردة خاسئين ، وقتلهم الأنبياء بغير حق حتى قتلوا في يوم واحد سبعين نبيا ، في أول النهار وأقاموا السوق آخر كأنهم جزروا غنما وذلك أمر معروف ، وقتلهم يحيى بن زكريا ، ونشرهم إياه بالمنشار ، وإصرارهم على العظائم ، واتفاقهم على تغيير كثير من أحكام التوراة ، ورميهم لوطا بأنه وطئ ابنتيه وأولدهما ، ورميهم يوسف بأنه حل سراويله وجلس من امرأة العزيز مجلس المرأة من القابلة حتى انشق له الحائط وخرجت له كف يعقوب وهو عاض على أنامله فقام وهرب. وهذا لو رآه افسق الناس وأفجرهم لقام ولم يقض غرضه ، وطاعتهم للخارج على ولد سليمان بن داود لما وضع لهم كبشين من ذهب فعكفت جماعتهم على عبادتهما ، إلى أن جرت الحرب بينهم وبين المؤمنين الذين كانوا مع ولد سليمان ، وقتل منهم في معركة واحدة ألوف مؤلفة. أفلا يستحي عباد الكباش والبقر من تعيير الموحدين بذنوبهم؟! أولا تستحي ذرية قتلة الأنبياء من تعيير المجاهدين لاعداء الله؟! فأين ذرية من سيوف آبائهم تقطر من دماء الأنبياء ممن تقطر سيوفهم من دماء الكفار والمشركين؟! والا يستحي من يقول في صلاته لربه : انتبه كم تنام يا رب استيقظ من رقدتك ، ينخيه بذلك ويحميه ، من تغيير من يقول في صلاته (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ١ ـ ٢ ـ ٣ ـ ٤] فلو بلغت ذنوب المسلمين عدد الحصا والرمال والتراب والأنفاس ما بلغت مبلغ قتل نبي واحد ولا وصلت إلى قول إخوان القردة (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] ، وقولهم : (عُزَيْرٌ

١٥٦

ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] ، وقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وقولهم : إن الله بكى على الطوفان حتى رمد من البكاء وجعلت الملائكة تعوده ، وقولهم : إنه عض أنامله على ذلك ، وقولهم : إنه ندم على خلق البشر وشق عليه لما رأى من معاصيهم وظلمهم ، وأعظم من ذلك نسبة هذا كله إلى التوراة التي أنزلها على كليمه. فلو بلغت ذنوب المسلمين ما بلغت لكانت في جنب ذلك كتفلة في بحر ، ولا تنس «قصة أسلافهم مع شاؤل الخارج على داود» فإن سوادهم الأعظم انضم إليه وشدوا معه على حرب داود ، ثم لما عادوا إلى طاعة داود وجاءت وفودهم وعساكرهم مستغفرين معتذرين بحيث اختصموا في السبق إليه فنبغ منهم شخص ونادى بأعلى صوته : لا نصيب لنا في داود ولا حظ في شاؤل ، ليمض كل منكم إلى خبائه يا إسرائيليين ، فلم يكن بأوشك من أن ذهب جميع عسكر بني إسرائيل إلى أخبيتهم بسبب كلمته ، ولما قتل هذا الصائح عادت العساكر جميعها إلى خدمة داود ، فما كان القوم إلا مثل همج رعاع يجمعهم طبل ويفرقهم عصى!!

[افتراق اليهود ، واختلاقهم كتاب علم الذباحة]

(فصل) وهذه «الأمة الغضبية» وإن كانوا مفترقين افتراقا فيجمعهم فرقتان «القرابون والربانيون» وكان لهم أسلاف فقهاء وهم صنفوا لهم كتابين : أحدهما يسمى «المشنا» ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة ، والثاني يسمى «التلمود» ومبلغه قريب من نصف حمل بغل ، ولم يكن المؤلفون له في عصر واحد وإنما ألفوه في جيل بعد جيل ، فلما نظر متأخروهم إلى ذلك وأنه كلما مر عليه الزمان زادوا فيه ، وفي الزيادات المتأخرة ما ينقض كثيرا من أوله ، علموا أنهم أن لم يقفلوا باب الزيادة وإلا أدى إلى الخلل الفاحش فقطعوا الزيادة وحظروها على فقهائهم وحرموا من يزيد عليه شيئا فوقف الكتاب على ذلك المقدار ، وكان فقهاؤهم قد حرموا عليهم في هذين الكتابين مؤاكلة من كان على غير ملتهم ، وحظروا عليهم أكل اللحمان من ذبائح من لم يكن على دينهم ، لأنهم علموا أن دينهم لا يبقى عليهم مع كونهم تحت الذل والعبودية وقهر الأمم لهم إلا أن يصدوهم عن مخالطة من كان على غير ملتهم ، وحرموا عليهم مناكحتهم والأكل

١٥٧

من ذبائحهم ، ولم يمكنهم ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم ويكذبون فيها على الله ، فإن التوراة إنما حرمت عليهم مناكحة غيرهم من الأمم لئلا يوافقوا أزواجهم في عبادة الأصنام والكفر بالله ، وإنما حرمت عليهم أكل ذبائح الأمم التي يذبحونها قربانا للأصنام لأنه سمي عليها غير اسم الله ، فأما ما ذكر عليه اسم الله وذبح لله فلم تنطق التوراة بتحريمه البتة بل نطقت بإباحة أكلهم من أيدي غيرهم من الأمم ، وموسى إنما نهاهم عن مناكحة عباد الأصنام خاصة وأكل ما يذبحونه باسم الأصنام ، قالوا : التوراة حرمت علينا أكل الطريفا ، قيل لهم : الطريفا هي الفريسة التي يفترسها الأسد أو الذئب أو غيرهما من السباع كما قال في التوراة «ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا وللكلب القوة» فلما نظر فقهاؤهم إلى أن التوراة غير ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عباد الأصنام وصرحت التوراة بأن تحريم مؤاكلتهم ومخالطتهم خوف استدراج المخالطة إلى المناكحة والمناكحة قد تستتبع الانتقال من دينهم إلى أديانهم وموافقتهم في عبادة الأوثان ووجدوا جميع هذا واضحا في التوراة اختلقوا كتابا سموه «هلكث شحيطا» وتفسيره! علم الذباحة ، ووضعوا في هذا الكتاب من الآصار والأغلال ما شغلوهم به عما هم فيه من الذل والصغار والخزي ، فامروهم فيه أن ينفخوا الرئة حتى يملؤها هواء ويتأملونها هل يخرج الهواء من ثقب منها أم لا فإن خرج منها الهواء حرموه ، وإن كانت بعض أطراف الرئة لاصقة ببعض لم يأكلوه ، وأمروا الذي يتفقد الذبيحة أن يدخل يده في بطن الذبيحة ويتأمل بأصابعه فإن وجد القلب ملتصقا إلى الظهر أو أحد الجانبين ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة حرموه ولم يأكلوه وسموه «طريفا» ومعنى هذه اللفظة عندهم أنه نجس حرام ، وهذه التسمية عدوان منهم ، فإن معناها في لغتهم هي الفريسة التي يفترسها السبع ليس لها معنى في لغتهم سواه ، ولذلك عندهم في التوراة أن إخوة يوسف لما جاءوا بقميصه ملطخا بالدم قال يعقوب في جملة كلام «طاروف طوراف يوسيف» تفسره : وحش رديء أكله افتراسا افترس يوسف ، وفي التوراة «ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا» فهذا الذي حرمته التوراة من الطريفا ، وهذا نزل عليهم وهم في التيه وقد اشتد قرمهم إلى اللحم فمنعوا من أكل الفريسة والميتة ، ثم اختلفوا في خرافات وهذيانات تتعلق بالرئة وقالوا ما

١٥٨

كان من الذبائح سليما من هذه الشروط فهو «دخيا» وتفسيره طاهر ، وما كان خارجا عن ذلك فهو «طريفا» وتفسيره نجس حرام ثم قالوا : معنى قوله في التوراة «ولحم فريسة في الصحراء لا تأكلوه ، للكلب القوة» يعني إذا ذبحتم ذبيحة ولم توجد فيها هذه الشروط فلا تأكلوها بل بيعوها على من ليس من أهل ملتكم ، قالوا ومعنى قوله «للكلب القوة» أي لمن ليس على ملتكم فهو الكلب فأطعموه إياه بالثمن ، فتأمل هذا التحريف والكذب على الله وعلى التوراة وعلى موسى ، ولذلك كذبهم الله على لسان رسوله في تحريم ذلك فقال في السورة المدنية التي خاطب فيها أهل الكتاب (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ، إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [النحل : ١١٤ ـ ١١٥] ، الآية ، وقال في سورة الأنعام : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) [الأنعام : ١٤٥ ـ ١٤٦] ، فهذا تحريم زائد على تحريم الأربعة المتقدمة ، وقال في سورة النحل وهي بعد هذه السورة نزولا : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) [النمل : ١١٨] ، فهذا المحرم عليهم بنص التوراة ونص القرآن.

فلما نظر «القرابون» منهم وهم أصحاب عايان وبنيامين إلى هذه المحالات الشنيعة والافتراء الفاحش والكذب البارد على الله وعلى التوراة وعلى موسى وأن أصحاب «التلمود والمشنا» كذابون على الله وعلى التوراة وعلى موسى ، وأنهم أصحاب حماقات ورقاعات ، وأن أتباعهم ومشايخهم يزعمون أن الفقهاء منهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة من هذه المسائل وغيرها يوحي الله إليهم بصوت يسمعونه «الحق في هذه المسألة مع الفقيه فلان» ويسمون هذا الصوت «بث قول» فلما نظر «القرابون» إلى هذا الكذب المحال قالوا : قد فسق هؤلاء ،

١٥٩

ولا يجوز قبول خبر فاسق ولا فتواه ، فخالفوهم في سائر ما أصلوه من الأمور التي لم ينطبق بها نص التوراة. وأما تلك الترهات التي ألفها فقهاؤهم الذين يسمونهم «الحخاميم» في علم الذباحة ورتبوها ونسبوها إلى الله فاطرحها القرابون كلها وألغوها ، وصاروا لا يحرمون شيئا من الذبائح التي يتولون ذبحها البتة ، ولهم فقهاء أصحاب تصانيف إلا أنهم يبالغون في الكذب على الله ، وهم أصحاب ظواهر مجردة ، والأولون أصحاب استنباط وقياسات.

(فصل) والفرقة الثانية يقال لهم «الربانون» وهم أكثر عددا ، وفيهم الحخاميم الكذابون على الله الذين زعموا أن الله كان يخاطب جميعهم في كل مسألة بالصوت الذي يسمونه «بث قول» وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم ، فإن الحخاميم أوهموهم بأن الذبائح لا يحل منها إلا ما كان على الشروط التي ذكروها ، فإن سائر الأمم لا تعرف هذا وأنه شيء خصوا به وميزوا بهم عمن سواهم ، وأن الله شرفهم به كرامة لهم ، فصار الواحد منهم ينظر إلى من ليس على نحلته كما ينظر إلى الدابة ، وينظر إلى ذبائحه كما ينظر إلى الميتة ، وأما «القرابون» فاكثرهم خرجوا إلى دين الإسلام ونفعهم تمسكهم بالظواهر وعدم تحريفها إلى أن لم يبق منهم إلا القليل لأنهم أقرب استعدادا لقبول الإسلام لأمرين .. (أحدهما) إساءة ظنهم بالفقهاء الكذابين المفترين على الله وطعنهم عليهم .. (الثاني) تمسكهم بالظواهر وعدم تحريفها وإبطال معانيها.

وأما أولئك «الربانون» فإن فقهاءهم وحخاميمهم حصروهم في مثل سم الخياط بما وضعوا لهم من التشديدات والآصار والأغلال المضافة إلى الآصار والأغلال التي شرعها الله عقوبة لهم ، وكان لهم في ذلك مقاصد .. (منها) أنهم قصدوا بذلك مبالغتهم في مضادة مذاهب الأمم حتى لا يختلطوا بهم فيؤدي اختلاطهم بهم إلى موافقتهم والخروج من السبت واليهودية .. (القصد الثاني) أن اليهود مبددون في شرق الأرض وغربها وجنوبها وشمالها كما قال تعالى : (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) [الأعراف : ١٦٧] ،

١٦٠