هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٣٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي رضي لنا الاسلام دينا ، ونصب لنا الدلالة على صحته برهانا ، مبينا ، وأوضح السبيل الى معرفته واعتقاده حقا يقينا ، ووعد من قام باحكامه وحفظ حدوده أجرا جسيما ، وذخر لمن وافاه به ثوابا جزيلا وفوزا عظيما ، وفرض علينا الانقياد له ولا حكامه ، والتمسك بدعائمه وأركانه ، والاعتصام بعراه وأسبابه ، فهو دينه الذي ارتضاه لنفسه ولانبيائه ورسله وملائكة قدسه ، فبه اهتدى المهتدون وإليه دعا الأنبياء والمرسلون. (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران : ٨٣] فلا يقبل من أحد دينا سواه من الأولين والآخرين (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [آل عمران : ٨٥] شهد بأنه دينه قبل شهادة الأنام ، واشاد به ورفع ذكره وسمى به أهله وما اشتملت عليه الارحام ، فقال تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران : ١٨] (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] وجعل أهله هم الشهداء على الناس يوم يقوم الاشهاد ، لما فضلهم به من الاصابة في القول والعمل والهدى والنية والاعتقاد ، اذ كانوا أحق بذلك وأهله في سابق التقدير ، (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ، هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا ، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ

٥

وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج : ٧٨] وحكم سبحانه بانه أحسن الاديان ، ولا أحسن من حكمه ولا أصدق منه قيلا فقال : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [النساء : ١٢٥].

وكيف لا يميز من له أدنى عقل يرجع إليه بين دين قام أساسه وارتفع بناؤه على عبادة الرحمن ، والعمل بما يحبه ويرضاه مع الاخلاص في السر والاعلان ، ومعاملة خلقه بما أمر به من العدل والاحسان ، مع إيثار طاعته على طاعة الشيطان ، وبين دين أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار بصاحبه في النار لأنه أسس على عبادة النيران ، وعقد الشركة بين الرحمن والشيطان ، وبينه وبين الاوثان ، أو دين أسس بنيانه على عبادة الصلبان والصور المدهونة في السقوف والحيطان ، وأن رب العالمين نزل عن كرسي عظمته فالتحم ببطن انثى وأقام هناك مدة من الزمان ، بين دم الطمث في ظلمات الاحشاء تحت ملتقى الاعكان ، ثم خرج صبيا رضيعا يشب شيئا فشيئا ويبكي ويأكل ويشرب ويبول وينام ويتقلب مع الصبيان ، ثم أودع في المكتب بين صبيان اليهود يتعلم ما ينبغي للانسان ، هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان ، ثم جعل اليهود يطردونه ويشردونه من مكان الى مكان ، ثم قبضوا عليه وأحلوه أصناف الذل والهوان ، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجا من أقبح التيجان ، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان ، ثم ساقوه إلى خشبة الصلب مصنوعا مبصوقا في وجهه وهم خلفه وأمامه وعن شمائله وعن الأيمان ، ثم أركبوه ذلك المركب الذي تقشعر منه القلوب مع الأبدان ، ثم شدت بالحبال يداه ومع الرجلان ، ثم خالطهما تلك المسامير التي تكسر العظام وتمزق اللّحمان وهو يستغيث : يا قوم ارحموني! فلا يرحمه منهم إنسان. هذا وهو مدبر العالم العلوي والسفلي الذي يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن ، ثم مات ودفن في التراب تحت صم الجنادل والصوّان ، ثم قام من القبر وصعد الى عرشه وملكه بعد أن كان ما كان ، فما ظنك بفروع هذا أصلها الذي قام عليه البنيان ، أو دين أسس بنيانه على عبادة الإله المنحوت بالايدي بعد نحن الافكار من سائر اجناس الأرض على اختلاف الانواع والاصناف

٦

والالوان ، والخضوع له والتذلل والخرور سجودا على الاذقان ، لا يؤمن من يدين به بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه يوم يجزى المسيء بإساءته والمحسن بالاحسان. او دين الامة الغضبية الذين انسلخوا من رضوان الله كانسلاخ الحية من قشرها ، وباءوا بالغضب والخزي والهوان ، وفارقوا احكام التوراة ونبذوها وراء ظهورهم واشتروا بها القليل من الاثمان ، فترحل عنهم التوفيق وقارنهم الخذلان واستبدلوا بولاية الله وملائكته ورسله واوليائه ولاية الشيطان. أو دين اسس بنيانه على ان رب العالمين وجود مطلق في الاذهان ، لا حقيقة له في الاعيان ، ليس بداخل في العالم ولا خارج عنه ، ولا متصل به ولا منفصل عنه ، ولا محايث ولا مباين له ، لا يسمع ، ولا يرى ، ولا يعلم شيئا من الموجودات ولا يفعل ما يشاء ، لا حياة له ، ولا قدرة ، ولا إرادة ، ولا اختيار ، ولم يخلق السموات والأرض في ستة أيام بل لم تزل السموات والأرض معه وجودها مقارن لوجوده ، لم يحدثها بعد عدمها ولا له قدرة على إفنائها بعد وجودها ، ما أنزل على بشر كتابا ، ولا أرسل الى الناس رسولا ، فلا شرع يتبع ، ولا رسول يطاع ، ولا دار بعد هذه الدار ، ولا مبدأ للعالم ولا معاد ، ولا بعث ولا نشور ، ولا جنة ولا نار ، إن هي الا تسعة افلاك وعشرة عقول ، وأربعة أركان وأفلاك تدور ، ونجوم تسير ، وأرحام تدفع ، وأرض تبلغ و (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [الجاثية : ٢٤].

وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له ولا ضد له ولا ندّ له ، ولا صاحبة له ولا ولد له ، ولا كفؤ له ، تعالى عن إفك المبطلين ، وخرص الكاذبين ، وتقدس عن شرك المشركين ، وأباطيل الملحدين. كذب العادلون به سواه وضلوا ضلالا بعيدا ، وخسروا خسرانا مبينا (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [المؤمنون : ٩١].

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفوته من خلقه وخيرته من بريته ، وأمينه على وحيه ، وسفيره بينه وبين عباده. ابتعثه بخير ملة وأحسن شرعة ، وأظهر دلالة وأوضح حجة ، وأبين برهان الى جميع العالمين إنسهم وجنهم عربهم وعجمهم

٧

حاضرهم وباديهم ، الذي بشرت به الكتب السالفة ، وأخبرت به الرسل الماضية ، وجرى ذكره في الاعصار في القرى والامصار والامم الخالية ، ضربت لنبوته البشائر من عهد آدم أبي البشر ، الى عهد المسيح ابن البشر ، كلما قام رسول أخذ عليه الميثاق بالايمان به والبشارة بنبوته حتى انتهت النبوة الى كليم الرحمن ، موسى بن عمران فأذّن بنبوته على رءوس الاشهاد بين بني اسرائيل معلنا بالاذان «جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران الى أن ظهر المسيح ابن مريم عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها الى مريم فأذن بنبوته أذانا لم يؤذنه أحد مثله قبله ، فقام في بني اسرائيل مقام الصادق الناصح وكانوا لا يحبون الناصحين فقال : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الصف : ٦٠] تالله لقد أذن المسيح أذانا أسمعه البادي والحاضر ، فاجابه المؤمن المصدق وقامت حجة الله على الجاحد الكافر ، الله أكبر الله أكبر عما يقول فيه المبطلون ويصفه به الكاذبون ، وينسبه إليه المفترون والجاحدون ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا ند له ولا كفؤ له ، ولا صاحبة له ولا ولد له ، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، ثم رفع صوته بالشهادة لاخيه وأولى الناس به بانه عبد الله ورسوله ، وأنه أركون (١) العالم ، وانه روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه انما يقول ما يقال له وانه يخبر الناس بكل ما أعد الله لهم ، ويسوسهم بالحق ، ويخبرهم بالغيوب ويجيئهم بالتأويل ، ويوبخ العالم على الخطيئة ، ويخلصهم من يد الشيطان ، وتستمر شريعته وسلطانه الى آخر الدهر وصرح في أذانه باسمه ونعته وصفته وسيرته حتى كأنهم ينظرون إليه عيانا ، ثم قال حي على الصلاة خلف إمام المرسلين وسيد ولد آدم اجمعين ، حي على الفلاح باتباع من السعادة في اتباعه ، والفلاح في الدخول في زمرة أشياعه ، فأذن وأقام وتولى وقال : لست أدعكم كالأيتام ، وسأعود وأصلي وراء هذا الامام ، هذا عهدي إليكم ان حفظتموه دام لكم الملك الى آخر الايام» فصلى الله عليه من ناصح

__________________

(١) الأركون الرئيس والمقدم والدهقان المعظم. يونانية.

٨

بشّر برسالة أخيه عليهما أفضل الصلاة والسلام ، وصدق به أخوه ونزهه عما قال فيه وفي أمه أعداؤه المغضوب عليهم من الافك والباطل وزور الكلام ، كما نزه ربه وخالقه ومرسله عما قال فيه المثلثة عباد الصليب ، ونسبوه إليه من النقص والعيب والذم.

(أما بعد): فان الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتعالى جده ولا إله غيره جعل الاسلام عصمة لمن لجأ إليه ، وجنة لمن استمسك به وعض بالنواجذ عليه ، فهو حرمه الذي من دخله كان من الآمنين ، وحصنه الذي من لجأ إليه كان من الفائزين ، ومن انقطع دونه كان من الهالكين وأبى أن يقبل من أحد دينا سواه ، ولو بذل في المسير إليه جهده واستفرغ قواه ، فأظهره على الدين كله حتى طبق مشارق الأرض ومغاربها ، وسار مسير الشمس في الاقطار ، وبلغ الى حيث انتهى الليل والنهار ، وعلت الدعوة الاسلامية وارتفعت غاية الارتفاع والاعتلاء ، بحيث صار أصلها ثابت وفرعها في السماء فتضاءلت لها جميع الاديان ، وجرت تحتها الامم منقادة بالخضوع والذل والاذعان ، ونادى المنادى بشعارها في جو السماء بين الخافقين : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صارخا بالشهادتين ، حتى بطلت دعوة الشيطان ، وتلاشت عبادة الاوثان ، واضمحلت عبادة النيران ، وذل المثلثة عباد الصلبان ، وتقطعت الامة الغضبية في الأرض كتقطع السراب في القيعان ، وصارت كلمة الاسلام العليا ، وصار له في قلوب الخلائق المثل الاعلى ، وقامت براهينه وحججه على سائر الامم في الآخرة والأولى ، وبلغت منزلته في العلى والرفعة الغاية القصوى وأقام لدولته ومصطفيه أعوانا وأنصارا نشروا ألويته وأعلامه ، وحفظوا من التغيير والتبديل حدوده واحكامه ، وبلّغوا الى نظرائهم كما بلّغ إليهم من قبلهم ، حلاله وحرامه ، فعظموا شعائره ، وعلموا شرائعه ، وجاهدوا اعدائه بالحجة والبيان حتى (فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) [الفتح : ٤٨] وعلا بنيانه المؤسس على تقوى من الله ورضوان اذ كان بناء غيره مؤسسا على شفا جرف هار ، فتبارك الذي رفع منزلته واعلى كلمته وفخم شأنه واشاد بنيانه وأذل مخالفيه ومعانديه ، وكبت من يبغضه ويعاديه ،

٩

ووسمهم بانهم شر الدواب وأعد لهم إذا قدموا عليه أليم العقاب ، وحكم لهم بانهم أضل سبيلا من الانعام ، اذ استبدلوا الشرك بالتوحيد والضلال بالهدى والكفر بالاسلام ، وحكم سبحانه لعلماء الكفر وعباده حكما يشهد ذوو العقول بصحته ويرونه شيئا حسنا ، فقال تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ، ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) [الكهف : ١٠٣ ، ١٠٤ ، ١٠٥ ، ١٠٦].

فصل

[التهديد لمن حاد عن الاسلام]

فاين يذهب من تولى عن توحيد ربه وطاعته ، ولم يرفع رأسا بأمره ودعوته ، وكذب رسوله وأعرض عن متابعته ، وحاد عن شريعته ، ورغب عن ملته واتبع غير سنته ، ولم يستمسك بعهده ، ومكّن الجهل من نفسه ، والهوى والعناد من قلبه ، والجحود والكفر من صدره ، والعصيان والمخالفة من جوارحه ، فقد قابل خبر الله بالتكذيب ، وأمره بالعصيان ، ونهيه بالارتكاب ، يغضب الرب وهو راض ، ويرضي وهو غضبان ، يحب ما يبغض ، ويبغض ما يحب ، ويوالي من يعاديه ، ويعادي من يواليه ، يدعو الى خلاف ما يرضى ، وينهي عبدا إذا صلى قد (اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ، وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) [الجاثية : ٢٣] فأصمه وأبكمه وأعماه ، فهو ميّت الدارين ، فاقد السعادتين ، قد رضي بخزى الدنيا وعذاب الآخرة ، وباع التجارة الرابحة بالصفقة الخاسرة فقلبه عن ربه مصدود ، وسبيل الوصول الى جنته ورضاه وقربه عنه مسدود ، فهو ولي الشيطان وعدو الرحمن ، وحليف الكفر والفسوق والعصيان ، رضي المسلمون بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا ، ورضي المخذول بالصليب والوثن إلها ، وبالتثليث والكفر دينا ، وبسبيل الضلال والغضب سبيلا ، أعصى الناس للخالق الذي لا سعادة له إلا في طاعته ، وأطوعهم للمخلوق الذي ذهاب دنياه وأخراه في طاعته ، فاذا سئل في قبره : «من ربك وما دينك ومن نبيك؟ قال : هاه هاه ، لا أدري. فيقال : لا دريت ، ولا

١٠

تليت ، وعلى ذلك حييت ، وعليه مت ، وعليه تبعث إن شاء الله ، ثم يضرم عليه قبره نارا ، ويضيق عليه كالزج في الرمح الى قيام الساعة. واذا بعثر ما في القبور وحصّل ما في الصدور ، وقام الناس لرب العالمين ونادى المنادى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٣٦] ثم رفع لكل عابد معبوده الذي كان يعبده ويهواه ، وقال الرب تعالى وقد أنصت له الخلائق : «أليس عدلا مني أن أولي كل انسان منكم ما كان في الدنيا يتولاه»؟ فهناك يهلم المشرك حقيقة ما كان عليه ، ويتبين له سواء منقلبه وما صار إليه ، ويعلم الكفار انهم لم يكونوا أولياءه ان أولياؤه الا المتقون (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ، وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة : ١٠٥].

فصل

[الأمم قبل البعثة]

ولما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أهل الأرض صنفين : اهل الكتاب وزنادقة لا كتاب لهم وكان أهل الكتاب أفضل الصنفين ، وهم نوعان : مغضوب عليهم وضالون.

فالامة الغضبية هم «اليهود» أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل ، قتلة الأنبياء وأكلة السحت ـ وهو الربا والرشا ـ أخبث الامم طوية ، وأرداهم سجية ، وابعدهم من الرحمة ، واقربهم من النقمة عادتهم البغضاء ، وديدنهم العداوة والشحناء ، بيت السحر والكذب والحيل ، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة ، ولا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة ، ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفقة ، ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفة ، ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة ، ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة ، بل أخبثهم اعقلهم ، وأحذقهم أغشهم ، وسليم الناصية ـ وحاشاه أن يوجد بينهم ـ ليس بيهودي على الحقيقة أضيق الخلق صدورا ، وأظلمهم بيوتا ، وأنتنهم أفنية ، وأوحشهم سجية ، تحيتهم لعنة ولقاؤهم طيرة ، شعارهم الغضب ودثارهم المقت.

١١

(فصل) والصنف الثاني «المثلثة» أمة الضلال وعباد الصليب ، الذين سبوا الله الخالق مسبّة ما سبّه إياها أحد من البشر ، ولم يقروا بأنه الواحد الاحد الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، ولم يجعلوه أكبر من كل شيء ، بل قالوا فيه ما (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) [مريم : ٩٠] ، فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتها ان الله ثالث ثلاثة ، وان مريم صاحبته وان المسيح ابنه ، وانه نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة ، وجرى له ما جرى الى أن قتل ومات ودفن ، فدينها عبادة الصلبان ، ودعاء الصور المنقوشة بالاحمر والاصفر في الحيطان ، يقولون في دعائهم : يا والدة الإله ارزقينا ، واغفري لنا وارحمينا! فدينهم شرب الخمور وأكل الخنزير ، وترك الختان ، والتعبد بالنجاسات ، واستباحة كل خبيث من الفيل الى البعوضة ، والحلال ما حلله القس والحرام ما حرمه ، والدين مشرعه ، وهو الذي يغفر لهم الذنوب ، وينجيهم من عذاب السعير.

(فصل) فهذا حال من له كتاب وأما من لا كتاب له : فهو بين عابد أوثان ، وعابد نيران وعابد شيطان ، وصابئ حيران يجمعهم الشرك ، وتكذيب الرسل ، وتعطيل الشرائع ، وانكار المعاد وحشر الاجساد ، لا يدينون للخالق بدين ، ولا يعبدونه مع العابدين ، ولا يوحدونه مع الموحدين. وأمة «المجوس» منهم تسفرش الامهات والبنات والاخوات ، دع العمات والخالات ، دينهم الزمر ، وطعامهم الميتة ، وشرابهم الخمر ، ومعبودهم النار ، ووليهم الشيطان ، فهم أخبث بني آدم نحلة ، وارداهم مذهبا ، وأسوأهم اعتقادا.

(وأما) «زنادقة الصابئة وملاحدة الفلاسفة» فلا يؤمنون بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه ، ولا يؤمنون بمبدإ ولا معاد ، وليس للعالم عندهم رب فعال بالاختيار لما يريد قادر على كل شيء ، عالم بكل شيء ، آمر ، ناه ، مرسل الرسل ، ومنزل الكتب ، ومثيب المحسن ، ومعاقب المسيء ، وليس عند نظارهم الا تسعة أفلاك وعشرة عقول وأربعة أركان ، وسلسلة ترتيب فيها الموجودات هي بسلسلة المجانين أشبه منها بمجوزات العقول. (وبالجملة) فدين الحنيفية الذي

١٢

لا دين لله غيره بين هذه الاديان الباطلة التي لا دين في الأرض غيرها أخفى من السها تحت السحاب ، وقد نظر الله الى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم الا بقايا من أهل الكتاب ، فاطلع الله شمس الرسالة في حنادس تلك الظلم سراجا منيرا ، وأنعم بها على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكورا ، واشرقت الأرض بنورها أكمل الاشراق ، وفاض ذلك النور حتى عم النواحي والآفاق واسق قمر الهدى اتم الاتساق ، وقام دين الله الحنيف على ساق ، فلله الحمد الذي انقذنا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تلك الظلمات ، وفتح لنا به باب الهدى فلا يغلق الى يوم الميقات ، وأرانا في نوره أهل الضلال وهم في ضلالهم يتخبطون ، وفي سكرتهم يعمهون وفي جهالتهم يتقلبون ، وفي ريبهم يترددون ، يؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت يؤمنون ويعدلون ولكن بربهم يعدلون ، ويعلمون ولكن ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ويسجدون ولكن للصليب والوثن والشمس يسجدون ، ويمكرون وما يمكرون الا بأنفسهم وما يشعرون (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [آل عمران : ١٦٤] (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ. فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥١ ـ ١٥٢].

الحمد لله الذي أغنانا بشريعته التي تدعو الى الحكمة والموعظة الحسنة ، وتتضمن الامر بالعدل والاحسان ، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، فله المنة والفضل على ما أنعم به علينا وآثرنا به على سائر الامم ، وإليه الرغبة أن يوزعنا شكر هذه النعمة ، وان يفتح لنا أبواب التوبة والمغفرة والرحمة ، فأحب الوسائل الى المحسن التوسل إليه باحسانه والاعتراف له بأن الامر كله محض فضله وامتنانه ، فله علينا النعمة السابغة كما له علينا الحجة البالغة ، نبوء له بنعمه علينا ، ونبوء بذنوبنا وخطايانا وجهلنا وظلمنا واسرافنا في أمرنا فهذه بضاعتنا التي لدينا لم تبق لنا نعمة وحقوقها وذنوبنا حسنة نرجو بها الفوز بالثواب والتخلص من أليم العقاب ، بل بعض ذلك يستنفد جميع حسناتنا ، ويستوعب كل طاعتنا هذا

١٣

لو خلصت من الشوائب ، وكانت خالصة لوجهه واقعة على وفق أمره ، وما هو والله الا التعلق باذيال عفوه وحسن الظن به ، واللجأ منه إليه والاستعاذة به منه والاستكانة والتذلل بين يديه ، ومدّ يد الفاقة والمسكنة إليه ، بالسؤال والافتقار إليه في جميع الاحوال فمن أصابته نفحة من نفحات رحمته أو وقعت عليه نظرة من نظرات رأفته انتعش من بين الاموات وأناخت بفنائه وفود الخيرات ، وترحلت عنه جيوش الهموم والغموم والحسرات.

واذا نظرت إليّ نظرة راحم

في الدهر يوما انني لسعيد

[من حقوق الله رد الطاعنين على الرسول]

(فصل) ومن بعض حقوق الله على عبده رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان ، والسيف والسنان ، والقلب والجنان ، وليس وراء ذلك حبة خردل من الايمان وكان انتهى إلينا مسائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين فلم يصادف عنده ما يشفيه ، ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه ، وظن المسلم انه بضربه يداويه فسطا به ضربا وقال هذا هو الجواب! فقال الكافر : صدق أصحابنا في قولهم : إن دين الاسلام انما قام بالسيف لا بالكتاب! فتفرقا وهذا ضارب وهذا مضروب ، وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب ، فشمّر المجيب ساعد العزم ، ونهض على ساق الجد وقام لله قيام مستعين به مفوض إليه متكل عليه في موافقة مرضاته ، ولم يقل مقالة العجزة الجهال : إن الكفار انما يعاملون بالجلاد دون الجدال ، وهذا قرار من الزحف ، واخلاد الى العجز والضعف ، وقو أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم إقامة للحجة وإزاحة للعذر (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢] والسيف انما جاء منفذا للحجة ، مقوما للمعاند ، وحدا للجاحد ، قال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ، وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد : ٢٥]

فدين الاسلام قام بالكتاب

الهادي ونفذه السيف الماضي

١٤

فما هو الا الوحي أوحد مرهف

يقيم ضباه أخدعي كل مائل

فهذا شفاء الداء من كل عاقل

وهذا دواء الداء من كل جاهل

[مسائل الكتاب]

والى الله الرغبة في التوفيق ، فانه الفاتح من الخير أبوابه والميسر له أسبابه وسميته (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) وقسمته قسمين :

(القسم الأول) في أجوبة المسائل.

(القسم الثاني) في تقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجميع أنواع الدلائل ، فجاء بحمد الله ومنه وتوفيقه كتابا ممتعا معجبا ، لا يسأم قارئه ولا يمل الناظر فيه ، فهو كتاب يصلح للدنيا والآخرة ، ولزيادة الايمان ، ولذة الانسان ، يعطيك ما شئت من اعلام النبوة وبراهين الرسالة ، وبشارات الأنبياء بخاتمهم ، واستخراج اسمه الصريح من كتبهم ، وذكر نعته وصفته وسيرته من كتبهم ، والتمييز بين صحيح الاديان وفاسدها وكيفية فسادها بعد استقامتها ، وجملة من فضائح أهل الكتابين وما هم عليه ، وانهم أعظم الناس براءة من أنبيائهم ، وان نصوص انبيائهم تشهد بكفرهم وضلالهم ، وغير ذلك من نكت بديعة لا توجد في سواه ، والله المستعان وعليه التكلان ، فهو حسبنا ونعم الوكيل.

[ليست الرئاسة منع وحدها لأهل الكتاب عن قبول الاسلام]

فتقول (أما المسألة الأولى) وهي قول السائل : «قد اشتهر عندكم بان أهل الكتابين ما منعهم من الدخول في الاسلام الا الرئاسة والمأكلة لا غير» فكلام جاهل بما عند المسلمين وبما عند الكفار أما المسلمون فلم يقولوا انه لم يمنع أهل الكتاب من الدخول في الاسلام الا الرئاسة والمأكلة لا غير ، وان قال هذا بعض عوامهم فلا يلزم جماعتهم ، والممتنعون من الدخول في الاسلام من أهل الكتابين وغيرهم جزء يسير جدا بالإضافة الى الداخلين فيه منهم ، بل اكثر الامم دخلوا في الاسلام طوعا ورغبة واختيارا لا كرها ولا اضطرارا ، فان الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا الى أهل الأرض وهم «خمسة

١٥

أصناف» قد طبقوا الأرض : يهود ، ونصارى ، ومجوس ، وصابئة ، ومشركون وهذه الأصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من مشارقها الى مغاربها.

فاما «اليهود» فاكثر ما كانوا باليمن وخيبر والمدينة وما حولها ، وكانوا بأطراف الشام مستذلين مع النصارى ، وكان منهم بأرض فارس فرقة مستذلة مع المجوس وكان منهم بأرض العرب فرقة وأعز ما كانوا بالمدينة وخيبر ، وكان الله سبحانه قد قطعهم في الأرض أمما وسلبهم الملك والعز وأما «النصارى» فكانوا طبق الأرض : فكانت الشام كلها نصارى ، وأرض المغرب كان الغالب عليهم النصارى وكذلك أرض مصر والحبشة والنوبة والجزيرة والموصل وأرض نجوان وغيرها من البلاد وأما «المجوس» فهم أهل مملكة فارس وما اتصل بها وأما «الصابئة» فاهل حران وكثير من بلاد الروم وأما «المشركون» فجزيرة العرب جميعها وبلاد الهند وبلاد الترك وما جاورها وأديان أهل الأرض لا تخرج عن هذه الاديان الخمسة ، ودين الحنفاء لا يعرف فيهم البتة ، وهذه الاديان الخمسة كلها للشيطان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : الاديان ستة واحد للرحمن وخمسة للشيطان : وهذه الاديان الستة مذكورة في آية الفصل في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [الحاج : ١٧] فلما بعث الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استجاب له ولخلفائه بعده اكثر الاديان طوعا واختيارا ، ولم يكره أحدا قط على الدين ، وانما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله ، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالا لامر ربه سبحانه حيث يقول : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) [البقرة : ٢٥٦] وهذا نفي في معنى النهي ، أي لا تكرهوا أحدا على الدين ، نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الاسلام ، فلما جاء الاسلام أسلم الآباء وأرادوا اكراه الأولاد على الدين ، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الاسلام والصحيح ان الآية على عمومها في حق كل كافر ، وهذا ظاهر على قول من يجوز أخذ الجزية من جميع الكفار ، فلا يكرهون على الدخول في الدين ، بل اما أن يدخلوا في الدين وإما أن يعطوا

١٦

الجزية كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة ، وان استثنى هؤلاء بعض عبدة الأوثان ومن تأمل سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبين له انه لم يكره أحدا على دينه قط ، وانه انما قاتل من قاتله : وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيما على هدنته لم ينقض عهده بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له كما قال تعالى : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) [التوبة : ٧] ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم ، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدءوه بالقتال قاتلهم ، فمنّ على بعضهم ، وأجلى بعضهم ، وقتل بعضهم وكذلك لما هادن قريشا عشر سنين لم يبدئهم بقتال حتى بدءوا هم بقتاله ونقضوا عهده ، فعند ذلك غزاهم في ديارهم ، وكانوا هم يغزونه قبل ذلك كما قصدوه يوم أحد ويوم الخندق ، ويوم بدر أيضا هم جاءوا لقتاله ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم (والمقصود) انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكره أحدا على الدخول في دينه البتة ، وانما دخل الناس في دينه اختيارا وطوعا فاكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى وانه رسول الله حقا. فهؤلاء أهل اليمن كانوا على دين اليهودية أو أكثرهم كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ لما بعثه الى اليمن : انك ستأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ان لا إله الا الله» وذكر الحديث ، ثم دخلوا في الاسلام من غير رغبة ولا رهبة ، وكذلك من اسلم من يهود المدينة وهم جماعة كثيرون غير عبد الله بن سلام مذكورون في كتب السير والمغازي لم يسلموا رغبة في الدنيا ولا رهبة من السيف بل اسلموا في حال حاجة المسلمين وكثرة اعدائهم ومحاربة أهل الأرض لهم من غير سوط ولا نوط ، بل تحملوا معاداة اقربائهم وحرمانهم نفعهم بالمال والبدن مع ضعف شوكة المسلمين وقلة ذات ايديهم ، فكان احدهم يعادي اباه وأمه واهل بيته وعشيرته ، ويخرج من الدنيا رغبة في الاسلام لا لرئاسة ولا مال ، بل ينخلع من الرئاسة والمال ويتحمل أذى الكفار من ضربهم وشتمهم وصنوف اذا هم ولا يصرفه ذلك عن دينه. فان كان كثير من الاحبار والرهبان والقسيسين ومن ذكره هذا السائل قد اختاروا الكفر فقد أسلم جمهور أهل الأرض من فرق الكفار ولم يبق الا الاقل بالنسبة الى من أسلم ، فهؤلاء نصارى الشام كانوا ملء الشام ثم صاروا مسلمين الا النادر ، فصاروا في المسلمين كالشعرة السوداء في الثور الابيض وكذلك المجوس كانت أمة لا يحصى عددهم الا الله فاطبقوا على

١٧

الاسلام لم يتخلف منهم الا النادر ، وصارت بلادهم بلاد اسلام ، وصار من لم يسلم منهم تحت الجزية والذلة وكذلك اليهود أسلم أكثرهم ولم يبق منهم الا شرذمة قليلة مقطعة في البلاد فقول هذا الجاهل : «ان هاتين الامتين لا يحصى عددهم الا الله كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كذب ظاهر وبهت مبين ، حتى لو كانوا كلهم قد أجمعوا على اختيار الكفر لكانوا في ذلك أسوة قوم نوح ، وقد أقام فيهم ألف سنة الا خمسين عاما يدعوهم الى الله ويريهم من الآيات ما يقيم حجة الله عليهم وقد أطبقوا على الكفر الا قليلا منهم كما قال تعالى : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠] وهم كانوا اضعاف اضعاف هاتين الامتين الكافرتين اهل الغضب وأهل الضلال ، وعاد اطبقوا على الكفر وهم أمة عظيمة عقلاء حتى استؤصلوا بالعذاب ، وثمود اطبقوا جميعهم على الكفر بعد رؤية الآية العظيمة التي يؤمن على مثلها البشر ومع هذا فاختاروا الكفر على الايمان كما قال تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧] وقال تعالى : (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) [العنكبوت : ٣٨] فهاتان امتان عظيمان من اكبر الامم قد اطبقتا على الكفر مع البصيرة فامة الغضب والضلال اذ اطبقتا على الكفر فليس ذلك ببدع وهؤلاء قوم فرعون مع كثرتهم قد أطبقوا على جحد نبوة موسى مع تظاهر الآيات الباهرة آية بعد آية فلم يؤمن منهم الا رجل واحد كان يكتم ايمانه : وأيضا ، فيقال للنصارى : هؤلاء اليهود مع كثرتهم في زمن المسيح حتى كانوا ملأ بلاد الشام كما قال تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) [الأعراف : ١٣٧] وكانوا قد أطبقوا على تكذيب المسيح وجحدوا نبوته ، وفيهم الاحبار والعباد والعلماء حتى آمن به الحواريون فاذا جاز على اليهود وفيهم الاحبار والعباد والزهاد وغيرهم الاطباق على جحد نبوة المسيح والكفر به مع ظهور آيات صدقه كالشمس جاز عليهم انكار نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعلوم ان جواز ذلك على أمة الضلال الذين هم أضل من الانعام ، وهم النصارى أولى وأحرى ، فهذا السؤال الذي أورده هذا السائل وارد بعينه في حق كل نبي كذبته امة من الامم ، فان صواب هذا السائل رأى تلك الامم كلها فقد كفر بجميع الرسل ، وان قال ان

١٨

الأنبياء كانوا على الحق وكانت تلك الامم مع كثرتها ووفور عقولها على الباطل فلأن يكون المكذبون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم الاقلون الاذلون الارذلون من هذه الطوائف على الباطل أولى واحرى واي امة من الامم اعتبرتها وجدت المصدقين بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمهورها وأقلها واراذلها هم الجاحدون لنبوته ، فرقعة الاسلام قد اتسعت في مشارق الأرض ومغاربها غاية الاتساع بدخول هذه الامم في دينه وتصديقهم برسالته ، وبقي من لم يدخل منهم في دينه وهم من كل أمة أقلها وأين يقع النصارى المكذبون برسالته اليوم من أمة النصرانية الذين كانوا قبله؟! وكذلك اليهود والمجوس والصابئة لا نسبة للمكذبين برسالته بعد بعثه الى جملة تلك الامة قبل بعثه ، وقد أخبر تعالى عن الامم التي أطبقت على تكذيب الرسل ودمرها الله تعالى فقال تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً ، وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : ٤٤] فأخبر عن هؤلاء الامم أنهم تطابقوا على تكذيب رسلهم وانه عمهم بالاهلاك ، وقال تعالى : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) [الذاريات : ٢] (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٣]. ومعلوم قطعا ان الله تعالى لم يهلك هذه الامم الكثيرة الا بعد ما تبين لهم الهدى فاختاروا عليه الكفر ، ولو لم يتبين لهم الهدى لم يهلكهم ، كما قال تعالى : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) [القصص : ٥٩] وقال تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨] أي فلم يكن قرية آمنت فنفعها ايمانها الا قوم يونس ومعلوم قطعا انه لم يصدق نبي من الأنبياء من أولهم الى آخرهم ولم يتبعه من الأمم ما صدق محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذين اتبعوه من الأمم أضعاف هاتين الامتين المكذبتين مما لا يحصيهم الا الله ولا يستريب من له مسكة من عقل أن الضلال والجهل والغي وفساد العقل الى من خالفه وجحد نبوته أقرب منه الى اتباعه ومن أقر بنبوته ، ... وحينئذ فيقال : كيف جاز على هؤلاء الأمم التي لا يحصيهم الا الله الذي قد بلغوا مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف طبائعهم وأغراضهم وتباين مقاصدهم الاطباق على اتباع من يكذب على الله وعلى رسله وعلى

١٩

العقل ويحل ما حرم الله ورسله ويحرم ما احله الله ورسله ومعلوم ان الكاذب على الله في دعوى الرسالة وهو شر خلق الله وافجرهم وأظلمهم واكذبهم ، ولا يشك من له أدنى عقل أن إطباق أكثر الامم على متابعة هذا النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخروجهم عن ديارهم وأموالهم ومعاداتهم آباءهم وأبناءهم وعشائرهم في متابعته وبذلهم نفوسهم بين يديه من أمحل المحال ، فتجويز اختيارهم الكفر بعد تبين الهدى على شرذمة قليلة حقيرة لها أغراض عديدة من هاتين الامتين أولى من تجويز ذلك على المسلمين الذين طبقوا مشارق الأرض ومغاربها ، وهم أعقل الامم وأكملها في جميع خصال الفضل.

واين عقول عباد العجل وعباد الصليب الذين أضحكوا سائر العقلاء على عقولهم ودلوهم على مبلغها بما قالوه في معبودهم من عقول المسلمين؟!! واذا جاز اتفاق أمة ـ فيها من قد ذكره هذا السائل ـ على أن رب العالمين وخالق السموات والأرضين نزل عن عرشه وكرسي عظمته ودخل في بطن امرأة في محل الحيض والطمث عدة شهور ثم خرج من فرجها طفلا يمص الثدي ويبكي ، ويكبر شيئا فشيئا ، ويأكل ويشرب ويبول ، ويصح ويمرض ، ويفرح ويحزن ، ويلذ ويألم ، ثم دبر حيلة على عدوه إبليس بأن مكن أعداءه اليهود من نفسه ، فأمسكوه وساقوه الى خشبتين يصلبونه عليهما ، وهم يجرونه الى الصلب ، والاوباش والاراذل قدامه وخلفه وعن يمينه وعن يساره ، وهو يستغيث ويبكي فقربوه من الخشبتين ، ثم توجوه بتاج من الشوك ، وأوجعوه صفعا ، ثم حملوه على الصليب وسمروا يديه ورجليه وجعلوه بين لصين ، وهو الذي اختار هذا كله لتتم له الحيلة على ابليس ليخلص آدم وسائر الأنبياء من سجنه ، ففداهم بنفسه حتى خلصوا من سجن ابليس ، واذا جاز اتفاق هذه الامة وفيهم الأحبار والرهبان والقسيسون والزهاد والعباد والفقهاء ومن ذكرتم على هذا القول في معبودهم وإلههم حتى قال قائل منهم وهو من اكابرهم عندهم : اليد الذي خلقت آدم هي التي باشرت المسامير ونالت الصلب ، فكيف لا يجوز عليهم الاتفاق على تكذيب من جاء بتكفيرهم وتضليلهم ، ونادى سرا وجهرا بكذبهم على الله شتمهم له أقبح شتم ، وكذبهم على المسيح ، وتبذيلهم دينه ، وعاداهم

٢٠