هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٣٢

أسألك عنه : قال سلني عما بدا لك ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عنده ، ثم جعل ينظر بين عينيه ، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على الصفة التي عنده فقبل موضع الخاتم ، وقلت قريش : إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا ، وجعل أبو طالب لما يرى من الراهب يخاف على ابن أخيه ، فقال الراهب لأبي طالب : ما هذا الغلام منك؟ قال : هو ابني ، قال ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا ، قال : فابن أخي ، قال : فما فعل أبوه؟ قال هلك وأمه حبلى به ، قال فما فعلت أمه؟ قال : توفيت قريبا ، قال : صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود فو الله لئن عرفوا منه ما اعرف ليبغنه عنتا فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم نجده في كتابنا ، واعلم أني قد أديت إليك النصيحة ، فلما فرغوا من تجارتهم خرج به سريعا ، وكان رجال من يهود قد رأوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفوا صفته فارادوا أن يغتالوه فذهبوا إلى بحيرا فذكروه له امره فنهاهم أشد النهي ، وقال لهم : أتجدون صفته؟ قالوا : نعم ، قال : فما لكم إليه سبيل ، فصدقوه وتركوه ، ورجع أبو طالب فما خرج به سفرا بعد ذلك خوفا عليه.

[خبر عن هرقل أيضا]

وذكر الحاكم والبيهقي وغيرهما من حديث عبد الله بن إدريس ، عن شرحبيل بن مسلم ، عن أبي أمامة ، عن هشام بن العاص ، قال ذهبت أنا ورجل آخر من قريش إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام ، فخرجنا حتى قدمنا غوطة دمشق ، فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغسّاني ، فدخلنا عليه فإذا هو على سرير له ، فأرسل إلينا برسول نكلمه ، فقلنا لا والله لا نكلم رسولا ، إنا بعثنا إلى الملك فإن أذن لنا كلمناه وإلا لا نكلم الرسول ، فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك ، قال فأذن لنا ، فقال : تكلموا ، فكلمه هشام بن العاص ودعاه إلى الإسلام وإذا عليه ثياب سوداء فقال له هشام : وما هذه التي عليك؟ فقال لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام ، قلنا ومجلسك هذا فو الله لنأخذنه منك ، ولنأخذن ملك الملك الأعظم أخبرنا بذلك نبينا ، فقال لستم بهم ، بل هم قوم يصومون بالنهار ويفطرون بالليل ، فكيف صومكم؟ فأخبرناه فملأ وجهه سوادا ، فقال قوموا ، وبعث معنا رسولا إلى الملك فخرجنا حتى إذا كنا قريبا من المدينة قال

١٢١

لنا الذي معنا : إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك ، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال ، قلنا والله لا ندخل إلا عليها ، فارسلوا إلى الملك أنهم يأبون ، فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفة له فانخنا في أصلها وهو ينظر إلينا ، فقلنا لا إله إلّا الله والله وأكبر ، والله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح ، فارسل إلينا ليس لكم ان تجهروا علينا بدينكم ، وأرسل إلينا أن ادخلوا ، فدخلنا عليه وهو على فراش له وعنده بطارقته من الروم وكل شيء في مجلسه أحمر وما حوله حمرة وعليه ثياب من الحمرة ، فدنونا منه فضحك ، وقال : ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم؟! وإذا رجل فصيح بالعربية كثير الكلام ، فقلنا أن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك وتحيتك التي تحيا بها لا يحل لنا أن نحييك بها ، قال : كيف تحيتكم فيما بينكم؟ فقلنا السلام عليكم ، قال : كيف تحيون ملككم؟ قلنا بها ، قال : كيف يرد عليكم؟ قلنا بها ، قال فما أعظم كلامكم؟ قلنا لا إله إلا الله والله وأكبر. فلما تكلمنا بها ـ والله يعلم ـ لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها ، قال : فهذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة ، كلما قلتموها في بيوتكم تنتفض عليكم بيوتكم ، قلنا : لا ، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك ، قال : وددت أنكم كلما قلتموها ينتفض كل شيء عليكم وإني خرجت من نصف ملكي ، قلنا لم؟ قال : لأنه يكون أيسر لشأنها واجدر أن لا تكون من أمر النبوة وأن تكون من حيل الناس ، ثم سألنا عما أراد فاخبرناه ، ثم قال : كيف صلاتكم وصومكم؟ فاخبرناه ، فقال : قوموا. فقمنا فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كثير ، فأقمنا ثلاثا ، فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه ، فاستعاد قولنا فأعدناه ، ثم دعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب ففتح بيتا وقفلا واستخرج منه حريرة سوداء فنشرها ، فإذا فيها صورة حمراء ، وإذا فيها رجل ضخم العينين ، عظيم الأليتين لم أر مثل طول عنقه وإذا ليست له لحية وإذا له ظفيرتان أحسن ما خلق الله ، قال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا آدم عليه‌السلام ، وإذا هو أكثر الناس شعرا ، ثم فتح بابا آخر واستخرج منه حريرة سوداء ، وإذا فيها صورة بيضاء ، وإذا له شعر قطط أحمر العينين ضخم الهامة حسن اللحية ، قال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا نوح عليه‌السلام ، ثم

١٢٢

فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء وإذا فيها صورة رجل شديد البياض حسن العينين صلت الجبين طويل الخد أبيض اللحية كأنه يبتسم ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال هذا إبراهيم عليه‌السلام ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة فاذا صورة بيضاء واذا والله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال أتعرفون هذا؟ قلنا نعم محمد رسول الله وبكينا ، قال والله يعلم انه قام قائما ثم جلس فقال والله انه لهو؟ قلنا نعم انه لهو كأنما ننظر إليه ، فامسك ساعة ينظر إليها ثم قال أما أنه كان آخر البيوت ولكن عجلته لكم لأنظر ما عندكم ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فإذا فيها صورة أدماء سمحاء وإذا رجل جعد قطط غائر العينين حديد النظر عابس متراكب الاسنان مقلص الشفة كأنه غضبان ، فقال : هل تعرفون من هذا؟ قلنا لا ، قال هذا موسى بن عمران ، وإلى جنبه صورة تشبهه إلا انه مدهان الرأس عريض الجبين في عينيه قبل ، فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا هارون ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل آدم سبط ربعة كأنه غضبان ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال هذا لوط ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل أبيض مشرب حمرة اقنى خفيف العارضين حسن الوجه ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال هذا اسحاق ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة رجل تشبه اسحاق إلا أنه على شفته السفلى خال فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا يعقوب ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة رجل ابيض حسن الوجه اقنى الأنف حسن القامة يعلو وجهه نوره ، يعرف في وجهه الخشوع يضرب إلى الحمرة فقال : هل تعرفون هذا قلنا لا ، قال هذا إسماعيل جد نبيكم ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة كأنها صورة آدم كأن وجهه الشمس ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا يوسف ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة رجل أحمر خشن الساقين اخفش العينين ضخم البطن ربعة متقلد سيفا ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا داود ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة رجل

١٢٣

ضخم الأليتين ، طويل الرجلين ، راكب فرسا ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال هذا سليمان بن داود ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء وإذا رجل شاب شديد سواد اللحية لين الشعر حسن الوجه حسن العينين ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال هذا عيسى قلنا من أين لك هذه الصور لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء لأنا رأينا صورة نبينا مثله؟ قال إن آدم سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فانزل عليه صورهم ، وكانوا في خزانة آدم عند مغرب الشمس فاستخرجها ذو القرنين فصارت إلى دانيال ، ثم قال أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي وإني كنت عبدا لأشدكم ملكة حتى أموت. ثم أجازنا وأحسن جائزتنا وسرحنا ، فلما أتينا أبا بكر الصديق فأخبرناه بما رأينا وما قال لنا وما أجازنا فبكى أبو بكر ، وقال لو أراد الله به خيرا لفعل.

(فصل) فهذا في الأخبار بنبوته مما تلقاه المسلمون من أفواه علماء أهل الكتاب والمؤمنين منهم ، والأول فيما نقلوه من كتبتهم ، وعلمائهم يقرون أنه في كتبهم. فالدليل بالوجه الأول يقام عليهم من كتبهم ، وبهذا الوجه يقام بشهادة من لا يتهم عليهم لأنه إما من عظمائهم ، وإما ممن رغب عن رئاسته وماله ووجاهته فيهم وآثر الإيمان على الكفر والهدى على الضلال ، وهو في هذا مدع أن علماءهم يعرفون ذلك ويقرون به ولكن لا يطلعون جهالهم عليه.

[الطرق الأربعة الدالة على صحة البشارة به]

[دفع اليهود والنصارى لها استكبارا]

(فصل) فالأخبار والبشارة بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكتب المتقدمة عرفت من عدة طرق (أحدها) ما ذكرناه ، وهو قليل من كثير وغيض من فيض. (الثاني) إخباره صلى الله عليه وسلم لهم أنه مذكور عندهم وأنهم وعدوا به وأن الأنبياء بشرت به واحتجاجه عليهم بذلك ، ولو كان هذا الأمر لا وجود له البتة لكان مغريا لهم بتكذيبه منفرا لاتباعه محتجا على دعواه بما يشهد ببطلانها. (الثالث) أن هاتين الأمتين معترفون بأن الكتب القديمة بشرت بنبي عظيم الشأن يخرج في آخر الزمان نعته كيت وكيت ، وهذا مما اتفق عليه المسلمون واليهود والنصارى. فأما «المسلمون» فلما جاءهم آمنوا به وصدقوه وعرفوا أنه الحق من ربهم. وأما

١٢٤

«اليهود» فعلماؤهم عرفوه وتيقنوا أنه محمد بن عبد الله فمنهم من آمن به ومنهم من جحد نبوته وقالوا لأتباعه أنه لم يخرج بعد. وأما «النصارى» فوضعوا بشارات التوراة والنبوات التي بعدها على المسيح ، ولا ريب أن بعضها صريح فيه وبعضها ممتنع حمله عليه وبعضها محتمل ، وأما بشارات المسيح فحملوها كلها على الحواريين ، وإذا جاءهم ما يستحيل انطباقه عليهم حرفوه أو سكتوا عنه وقالوا لا ندري من المراد به (الرابع) اعتراف من أسلم منهم بذلك وانه صريح في كتبهم ، وعن المسلمين الصادقين منهم تلقى المسلمون هذه البشارات وتيقنوا صدقها وصحتها بشهادة المسلمين منهم بها مع تباين أعصارهم وأمصارهم وكثرتهم وانفاقهم على لفظها ، وهذا يفيد القطع بصحتها ولو لم يقر بها أهل الكتاب ، فكيف وهم مقرون بها لا يجحدونها وإنما يغالطون في تأويلها والمراد بها؟! وكل واحد من هذه «الطرق الأربعة» كاف في العلم بصحة هذه البشارات ، وقد قدمنا أن إقدامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إخبار أصحابه وأعدائه بأنه مذكور في كتبهم بنعته وصفته وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وتكراره ذلك عليهم مرة بعد مرة في كل مجمع وتعريفهم بذلك وتوبيخهم والنداء عليهم به من أقوى الأدلة القطعية على وجوده من وجهين «أحدهما» قيام الدليل القطعي على صدقه «الثاني» دعوته لهم بذلك إلى تصديقه ولو لم يكن له وجود لكان ذلك من أعظم دواعي تكذيبه والتنفير عنه.

[وقوع التحريف في التوراة ، وفريتهم على الأنبياء]

[سبعون كاهنا اجمعت على تبديل (١٣) حرفا من التوراة]

(فصل) وهذه الطرق يسلكها من يساعدهم على أنهم لم يحرفوا ألفاظ التوراة والإنجيل ولم يبدلوا شيئا منها فيسلكها بعض نظار المسلمين معهم من غير تعرض إلى التبادل والتحريف. وطائفة أخرى تزعم أنهم بدلوا وحرفوا كثيرا من ألفاظ الكتابين ، مع أن الغرض الحامل لهم على ذلك دون الغرض الحامل لهم على تبديل البشارة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكثير ، وأن البشارات لكثرتها لم يمكنهم إخفاؤها كلها وتبديلها ، ففضحهم ما عجزوا عن كتمانه أو تبديله. وكيف ينكر من الأمة الغضبية قتلة الأنبياء الذين رموهم بالعظائم أن يكتموا نعت رسول

١٢٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته وقد جحدوا نبوة المسيح ورموه وأمه بالعظائم ونعته والبشارة به موجود في كتبهم ، ومع هذا أطبقوا على جحد نبوته وإنكار بشارة الأنبياء به ، ولم يفعل بهم ما فعله بهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من القتل والسبي وغنيمة الأموال وتخريب الديار وإجلائهم منها ، فكيف لا تتواصى هذه الأمة بكتمان نعته وصفته وتبدله من كتبها؟! وقد عاب الله سبحانه عليهم ذلك في غير موضع من كتابه ولعنهم عليه. ومن العجب أنهم والنصارى يقرون أن التوراة كانت طول مملكة بني إسرائيل عند الكاهن الأكبر الهاروني وحده ، واليهود تقر أن السبعين كاهنا اجتمعوا على اتفاق من جميعهم على تبديل ثلاثة عشر حرفا من التوراة ، وذلك بعد المسيح في عهد القياصرة الذين كانوا تحت قهرهم حيث زال الملك عنهم ولم يبق لهم ملك يخافونه ويأخذ على أيديهم ومن رضي بتبديل موضع واحد من كتاب الله فلا يؤمن منه تحريف غيره ، واليهود تقر أيضا أن السامرة حرفوا مواضع من التوراة وبدلوها تبديلا ظاهرا وزادوا ونقصوا ، والسامرة تدعى ذلك عليهم. وأما «الإنجيل» فقد تقدم أن الذي بأيدي النصارى منه أربع كتب مختلفة من تأليف أربعة رجال : يوحنا ، ومتى ، ومرقس ، ولوقا فكيف ينكر تطرق التبديل والتحريف إليها ؛ وعلى ما فيها من ذلك فقد صرفهم الله عن تبديل ما ذكرنا من البشارات بمحمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإزالته وإن قدروا على كتمانه عن اتباعهم وجهالهم.

وفي «التوراة» التي بأيديهم من التحريف والتبديل وما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء ما لا يشك فيه ذو بصيرة ، والتوراة التي أنزلها الله على موسى بريئة من ذلك ، ففيها عن لوط رسول الله أنه خرج من المدينة وسكن في كهف الجبل ، ومعه ابنتاه ، فقالت الصغرى للكبرى قد شاخ أبونا فارقدي بنا معه لنأخذ منه نسلا ، فرقدت معه الكبرى ثم الصغرى ، ثم فعلتا ذلك في الليلة الثانية وحملتا منه بولدين مواب وعمون ، فهل يحسن أن يكون نبي رسول كريم على الله يوقعه الله سبحانه في مثل هذه الفاحشة العظيمة في آخر عمره ، ثم يذيعها عنه ويحكيها للأمم؟! وفيها «أن الله تجلى لموسى في طور سيناء وقال له بعد كلام كثير أدخل يدك في حجرك وأخرجها مبروصة كالثلج» وهذا من النمط

١٢٦

الأول. والله سبحانه لم يتجل لموسى وإنما أمره أن يدخل يده في جيبه وأخبره أنها تخرج بيضاء من غير سوء أي من غير برص. وفيها أن هارون هو الذي صاغ لهم العجل ، وهذا إن لم يكن من زياداتهم وافترائهم فهارون اسم السامري الذي صاغه ليس هو بهارون أخي موسى. وفيها أن الله قال لإبراهيم : «اذبح ابنك بكرك اسحاق» وهذا من بهتهم وزيادتهم في كلام الله ، فقد جمعوا بين النقيضين ، فان بكره هو إسماعيل فإنه بكر أولاده ، وإسحاق إنما بشر به على الكبر بعد قصة الذبح وفيها : «ورأى الله أن قد كثر فساد الآدميين في الأرض فندم على خلقهم ، وقال سأذهب الآدمي الذي خلقت على الأرض والخشاش وطيور السماء لأني نادم على خلقها جدا» تعالى الله عن إفك المفترين وعما يقول الظالمون علوا كبيرا أو فيها «أن الله سبحانه وتعالى علوا كبيرا تصارع مع يعقوب فضرب به يعقوب الأرض» وفيها «أن يهوذا بن يعقوب النبي زوج ولده الأكبر من امرأة يقال لها تامار ، فكان يأتيها مستدبرا فغضب الله من فعله فأماته ، فزوج يهوذا ولده الآخر بها فكان إذا دخل بها أمنى على الأرض علما بانه إن أولدها كان أول الأولاد مدعو باسم أخيه ومنسوبا إلى أخيه ، فكره الله ذلك من فعله فأماته ، فأمرها يهوذا باللحاق ببيت أبيها إلى أن يكبر ولده شيلا ويتم عقله ، ثم ماتت زوجة يهوذا وذهب إلى منزله ليجز غنمه ، فلما أخبرت تامار لبست زي الزواني وجلست على طريقه ، فلما مر بها خالها زانية فراودها فطالبته بالأجرة فوعدها بجدي ورمى عندها عصاه وخاتمه فدخل بها فعلقت منه بولد ومن هذا الولد كان داود النبي» فقد جعلوه ولد زنا كما جعلوا المسيح ولد زنا ، ولم يكفهم ذلك حتى نسبوا ذلك إلى التوراة. وكما جعلوا ولدي لوط ولدي زنا ، ثم نسبوا داود وغيره من أنبيائهم إلى ذينك الوالدين.

وأما فريتهم على الله ورسله وأنبيائه ورميهم لرب العالمين ورسله بالعظائم فكثير جدا ، كقولهم أن الله استراح في اليوم السابع من خلق السموات والأرض ، فأنزل الله عزوجل على رسوله تكذيبهم بقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) [ق : ٣٨] ، وقولهم : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] ، وقولهم : (يَدُ اللهِ

١٢٧

مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] ، وقولهم : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) [آل عمران : ١٨٣] ، وقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] ، وقولهم : أن الله تعالى بكى على الطوفان حتى رمدت عيناه وعادته الملائكة ، وقولهم الذي حكيناه آنفا : «أن الله ندم على خلق بني آدم» وأدخلوا هذه الفرية في التوراة ، وقولهم عن لوط : انه وطئ ابنتيه وأولدهما ولدين نسبوا إليهما جماعة من الأنبياء ، وقولهم في بعض دعاء صلواتهم : انتبه كم تنام يا رب استيقظ من رقدتك. فتجرءوا على رب العالمين بهذه المناجاة القبيحة ، كأنهم ينخونه بذلك لينتخي لهم ويحتمي ، كأنهم يخبرونه أنه قد اختار الخمول لنفسه وأحبابه فيهزونه بهذا الخطاب للنباهة واشتهار الصيت ، قال بعض أكابرهم بعد. إسلامه : فترى أحدهم إذا تلى هذه الكلمات في الصلاة يقشعر جلده ، ولا يشك أن كلامه يقع عند الله بموقع عظيم ، وأنه يؤثر في ربه ويحركه ويهزه وينخيه ، وعندهم في توراتهم : «أن موسى صعد الجبل مع مشايخ أمته فأبصروا الله جهرة وتحت رجليه كرسي منظره كمنظر البلور» وهذا من كذبهم وافترائهم على الله وعلى التوراة ، وعندهم في توراتهم «أن الله سبحانه لما رأى فساد قوم نوح وأن شرهم قد عظم ندم على خلق البشر في الأرض وشق عليه» وعندهم في توراتهم أيضا : «أن الله ندم على تمليكه شاؤل على اسرائيل» وعندهم فيها «أن نوحا لما خرج من السفينة بنى بيتا مذبحا وقرب عليه قرابين ، واستنشق الله رائحة : القتار ؛ فقال في ذاته لن أعاود لعنة الأرض بسبب الناس لأن خاطر البشر مطبوع على الرداءة ، ولن أهلك جميع الحيوان كما صنعت».

[سبب تبديل التوراة]

قال بعض علمائهم الراسخين في العلم ممن هداه الله إلى الإسلام ، لسنا نرى أن هذه الكفريات كانت في التوراة المنزلة على موسى ، ولا نقول أيضا أن اليهود قصدوا تغييرها وإفسادها ، بل الحق أولى ما اتبع ، قال : ونحن نذكر حقيقة سبب تبديل التوراة ، فإن علماء القوم وأحبارهم يعلمون أن هذه التوراة التي بأيديهم لا يعتقد أحد من علمائهم وأحبارهم أنها عين التوراة المنزلة على

١٢٨

موسى بن عمران البتة لأن موسى صان التوراة عن بني إسرائيل ولم يبثها فيهم خوفا من اختلافهم من بعده في تأويل التوراة المؤدي إلى انقسامهم أحزابا ، وإنما سلمها إلى عشيرته أولاد لاوى ، قال : ودليل ذلك قول التوراة ما هذه ترجمته : «وكتب موسى هذه التوراة ودفعها إلى أئمة بني لاوي ، وكان بنو هارون قضاة اليهود وحكامهم ، لأن الإمامة وخدمة القرابين والبيت المقدس كانت فيهم ، ولم يبد موسى لبني إسرائيل من التوراة إلا نصف سورة ، وقال الله لموسى عن هذه السورة : «وتكون لي هذه السورة شاهدة على بني إسرائيل ولا تنسى هذه السورة من أفواه أولادهم» وأما بقية التوراة فدفعها إلى أولاد هارون وجعلها فيهم وصانها عمن سواهم ، فالأئمة الهارونيون هم الذين كانوا يعرفون التوراة ويحفظون أكثرها فقتلهم بختنصر على دم واحد ، وأحرق هيكلهم يوم استولى على بيت المقدس ، ولم تكن التوراة محفوظة على ألسنتهم ، بل كان كل واحد من الهارونيين يحفظ فصلا من التوراة ، فلما رأى عزيز أن القوم قد أحرق هيكلهم وزالت دولتهم وتفرق جمعهم ورفع كتابهم جمع من محفوظاته ومن الفصول التي يحفظها الكهنة ما لفق منه هذه التوراة التي بأيديهم ، ولذلك بالغوا في تعظيم عزير غاية المبالغة ، وقالوا فيه ما حكاه الله عنهم في كتابه ، وزعموا أن النور على الأرض إلى الآن يظهر على قبره عند بطائح العراق ، لأنه عمل لهم كتابا يحفظ دينهم ، فهذه التوراة التي بأيديهم على الحقيقة كتاب عزير وإن كان فيها أو أكثرها من التوراة التي أنزلها الله على موسى ، قال وهذا يدل على أن الذي جمع هذه الفصول التي بأيديهم رجل جاهل بصفات الرب تعالى وما ينبغي له وما لا يجوز عليه ، فلذلك نسب إلى الرب تعالى ما يتقدس ويتنزه عنه ، وهذا الرجل يعرف عند اليهود والنصارى بعازر الوراق ، ويظن بعض الناس أنه (كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) [البقرة : ٢٥٩] ، ويقول إنه نبي ولا دليل على هاتين المقدمتين ، ويجب التثبت في ذلك نفيا وإثباتا ، فإن كان هذا نبيا واسمه عزير فقد وافق صاحب التوراة في الاسم.

«وبالجملة» فنحن وكل عاقل نقطع ببراءة التوراة التي أنزلها الله على كليمه

١٢٩

موسى من هذه الأكاذيب والمستحيلات والترهات ، كما نقطع ببراءة صلاة موسى وبني إسرائيل معه من هذا الذي يقولونه في صلاتهم اليوم ، فبأنهم في العشر الأول من المحرم في كل سنة يقولون في صلاتهم ما ترجمته : «يا أبانا أملك على جميع أهل الأرض ليقول كل ذي نسمة الله إله إسرائيل قد ملك ، ومملكته في الكل متسلطة» ويقولون فيها أيضا «وسيكون لله الملك ، وفي ذلك اليوم يكون الله واحدا واسمه واحد» ويعنون بذلك أنه لا يظهر كون الملك له وكونه واحدا إلا إذا صارت الدولة لهم ، فأما ما دامت الدولة لغيرهم فإنه تعالى خامل الذكر عند الأمم ، مشكوك في وحدانيته ، مطعون في ملكه ومعلوم قطعا أن موسى ورب موسى بريء من هذه الصلاة براءته من تلك الترهات.

[اليهود كذبوا مسيح الهدى ، وينتظرون مسيح الضلال]

[المسيح وأصحابه يقتلونهم شر قتلة]

(فصل) وجحدهم نبوة محمد من الكتب التي بأيديهم نظير «جحدهم نبوة المسيح» وقد صرحت باسمه ، ففي نص التوراة «لا يزول الملك من آل يهوذا ، والراسم من بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح» وكانوا أصحاب دولة حتى ظهر المسيح فكذبوه ورموه بالعظائم وبهتوه وبهتوا أمه فدمر الله عليهم وأزال ملكهم ، وكذلك قوله : «جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران» فأي نبوة أشرقت من ساعير غير نبوة المسيح ، وهم لا ينكرون ذلك ، ويزعمون أن قائما يقوم فيهم من ولد داود النبي إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم ولا يبقى إلا اليهود ، وهذا «المنتظر» بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به ، قالوا ومن علامة مجيئه أن الذئب والتيس يربضان معا ، وان البقرة والذئب يرعيان معا ، وأن الأسد يأكل التبن كالبقر ، فلما بعث الله المسيح كفروا به عند مبعثه ، وأقاموا ينتظرون متى يأكل الأسد التبن حتى تصح لهم علامة مبعث المسيح ، ويعتقدون أن هذا المنتظر متى جاءهم يجمعهم باسرهم إلى القدس ، وتصير لهم الدولة ، ويخلو العالم من غيرهم ، ويحجم الموت عن جنابهم المنيع مدة طويلة ، وقد عوضوا من الإيمان بالمسيح ابن مريم بانتظار مسيح الضلالة الدجال ، فإنه هو الذي ينتظرونه حقا ، وهم عسكره واتبع الناس

١٣٠

له ، ويكون لهم في زمانه شوكة ودولة إلى أن ينزل مسيح الهدى ابن مريم فيقتل منتظرهم ، ويضع هو واصحابه فيهم السيوف حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقولان يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله ، فإذا نظف الأرض منهم ومن عباد الصليب فحينئذ يرعى الذئب والكبش معا ، ويربضان معا ، وترعى البقرة والذئب معا ، ويأكل الأسد التبن ، ويلقى الأمن في الأرض ، هكذا أخبر به شعيا في نبوته وطابق خبره ما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح في خروج الدجال وقتل المسيح ابن مريم له ، وخروج يأجوج ومأجوج في أثره ومحقهم من الأرض ، وإرسال البركة والأمن في الأرض حتى ترعى الشاة والذئب ، وحتى أن الحيات والسباع لا تضر الناس فصلوات الله وسلامه على من جاء بالهدى والنور وتفصيل كل شيء وبيانه ، فأهل الكتاب عندهم عن انبيائهم حق كثير لا يعرفونه ولا يحسنون أن يضعوه مواضعه ، ولقد أكمل الله سبحانه بمحمد صلوات الله وسلامه عليه ما أنزله على الأنبياء عليهم‌السلام من الحق وبينه وأظهره لأمته ، وفصل على لسانه ما أجمله لهم وشرح ما رمزوا إليه ، فجاء بالحق وصدق المرسلين ، وتمت به نعمة الله على عباده المؤمنين ، فالمسلمون واليهود والنصارى تنتظر مسيحا يجيء في آخر الزمان ، فمسيح اليهود هو الدجال ، ومسيح النصارى لا حقيقة له ، فانه عندهم إله وابن إله وخالق ومميت ومحيي ، فمسيحهم الذي ينتظرونه هو المصلوب المسمر المكلل بالشوك بين اللصوص ، المصفوع الذي هو مصفعة اليهود ، وهو عندهم رب العالمين وخالق السموات والأرضين ، ومسيح المسلمين الذي ينتظرونه هو عبد الله ورسوله وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول عيسى ابن مريم ، أخو عبد الله ورسوله محمد بن عبد الله ، فيظهر دين الله وتوحيده ، ويقتل أعداءه عباد الصليب الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون الله ، وأعداءه اليهود الذين رموه وأمه بالعظائم فهذا هو الذي ينتظره المسلمون ، وهو نازل على المنارة الشرقية بدمشق ، واضعا يديه على منكبي ملكين ، يراه الناس عيانا بأبصارهم نازلا من السماء ، فيحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينفذ ما أضاعه الظلمة والفجرة والخونة من دين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحيي ما أماتوه ، وتعود الملل كلها في زمانه ملة واحدة وهي ملته وملة أخيه محمد وملة أبيهما إبراهيم وملة

١٣١

سائر الأنبياء ، وهي الإسلام الذي من يبتغي غيره دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. وقد حمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من أدركه من أمته السلام ، وأمره أن يقرئه إياه منه ، فأخبر عن موضع نزوله ، بأي بلد وبأي مكان منه ، وبحالة وقت نزوله ، وملبسه الذي كان عليه ، وأنه «ممصرتان» أي ثوبان ، وأخبر بما يفعل عند نزوله مفصلا حتى كأن المسلمين يشاهدونه عيانا قبل أن يروه ، وهذا من جملة الغيوب التي اخبر بها فوقعت مطابقة لخبره حذو القذة بالقذة ، فهذا منتظر المسلمين لا منتظر المغضوب عليهم والضالين ، ولا منتظر إخوانهم من الروافض المارقين ، وسوف يعلم المغضوب عليهم إذا جاء منتظر المسلمين أنه ليس بابن يوسف النجار ، ولا هو ولد زنية ، ولا كان طبيبا حاذقا ماهرا ، في صناعته استولى على العقول بصناعته ، ولا كان ساحرا ممخرقا ، ولا مكنوا من صلبه وتسميره وصفعه وقتله ، بل كانوا أهون على الله من ذلك. ويعلم الضالون أنه ابن البشر ، وأنه عبد الله ورسوله ليس بإله ولا ابن إله ، وأنه بشر بنبوة محمد أخيه أولا وحكم بشريعته ودينه آمرا ، وأنه عدو المغضوب عليهم والضالين ، وولي رسول الله واتباعه المؤمنين ، وما كان أولياؤه الأرجاس الأنجاس عبدة الصلبان والصور المدهونة في الحيطان ، إن أولياؤه إلا الموحدون عباد الرحمن أهل الإسلام والإيمان ، الذين نزهوه وأمه عما رماهما به اعداؤهما اليهود ، ونزهوا ربه وخالقه ومالكه وسيده عما رماه به أهل الشرك والسب للواحد المعبود.

(فصل) فلنرجع إلى الجواب على طريق من يقول : «إنهم غيروا الفاظ الكتب وزادوا ونقصوا» كما اجبنا على طريق من يقول : «إنما غيروا معانيها وتأولوها على غير تأويلها». قال هؤلاء : نحن لا ندعي ولا طائفة من المسلمين أن الفاظ كل نسخة في العالم غيرت وبدلت ؛ بل من المسلمين من يقول أنه غير بعض الفاظها قبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وغيرت بعض النسخ بعد مبعثه ، ولا يقولون أنه غيرت كل نسخة في العالم بعد المبعث ؛ بل غير البعض وظهر عند كثير من الناس تلك النسخ المغيرة المبدلة دون التي لم تبدل ، والنسخ التي لم تبدل موجودة في العالم ومعلوم أن هذا مما لا يمكن نفيه والجزم بعدم وقوعه ؛

١٣٢

فإنه لا يمكن أحدا أن يعلم ان كل نسخة في العالم على لفظ واحد بسائر الألسنة ، ومن الذي احاط بذلك علما وعقلا؟! أهل الكتاب يعلمون أن أحدا لا يمكنه ذلك. وأما من قال من المسلمين. «أن التغيير وقع في أول الأمر فانهم قالوا أنه وقع أولا من عازر الوراق ، في «التوراة» في بعض الأمور إما عمدا وإما خطأ ، فإنه لم يقم دليل على عصمته ولا أن تلك الفصول التي جمعها من التوراة بعد احتراقها هي عين التوراة التي انزلت على موسى ، وقد ذكرنا أن فيها ما لا يجوز نسبته إلى الله وأنه أنزله على رسوله وكليمه ، وتركنا كثيرا لم نذكره».

[المناقضات في الإنجيل]

وأما «الإنجيل» فهي أربعة أناجيل اخذت عن أربعة نفر ، اثنان منهم لم يريا المسيح أصلا ، واثنان رأياه واجتمعا به وهما متى ويوحنا ، وكل منهم يزيد وينقص ويخالف انجيله إنجيل أصحابه في أشياء ، وفيها ذكر القول ونقيضه كما فيه أنه قال : «ان كنت أشهد لنفسي فشهادتي غير مقبولة ، ولكن غيري يشهد لي» وقال في موضع آخر «ان كنت اشهد لنفسي فشهادتي حق لاني أعلم من أين جئت وإلى أين أذهب» وفيه أنه لما استشعر بوثوب اليهود عليه قال : «قد جزعت نفسي الآن فما ذا أقول؟ يا أبتاه سلمني من هذا الوقت ، وأنه لما رفع على خشبة الصلب صاح صياحا عظيما وقال : يا إلهي! لم اسلمتني؟! فكيف يجتمع هذا مع قولكم : إنه هو الذي اختار إسلام نفسه إلى اليهود ليصلبوه ويقتلوه رحمة منه بعباده حتى فداهم بنفسه من الخطايا ، وأخرج بذلك آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وجميع الأنبياء من جهنم بالحيلة التي دبرها على إبليس؟ وكيف يجزع إله العالم من ذلك وكيف يسأل السلامة منه وهو الذي اختاره ورضيه؟! وكيف يشتد صياحه ويقول : «يا إلهي لم اسلمتني» وهو الذي أسلم نفسه؟! وكيف لم يخلصه أبوه مع قدرته على تخليصه وإنزال صاعقة على الصليب وأهله أم كان ربا عاجزا مقهورا مع اليهود ، وفيه أيضا : «أن اليهود سألته أن يظهر لهم برهانا أنه المسيح ، فقال : تهدمون هذا البيت ـ يعني بيت المقدس ـ وأبنيه لكم في ثلاثة أيام ، فقالوا له بيت مبني في خمس وأربعين سنة تبنيه أنت في ثلاثة أيام» ثم ذكرتم في الإنجيل أيضا : «أنه لما ظفرت به اليهود وحمل إلى بلاط عامل قيصر

١٣٣

واستدعيت عليه بينة أن شاهدي زور جاءا إليه وقالا سمعناه يقول أنا قادر على بنيان بيت المقدس في ثلاثة أيام» فيا لله العجب كيف يدعي أن تلك المعجزة والقدرة له ويدعي أن الشاهدين عليه بها شاهدا زور؟! وفيه أيضا للوقا «أن المسيح قال لرجلين من تلامذته : اذهبا إلى الحصن الذي يقابلكما ، فإذا دخلتماه فستجدان فلوا مربوطا لم يركبه أحد فحلاه واقبلا به إلي» وقال في إنجيل متى في هذه القصة «أنها كانت حمارة متبعة» وفيه أنه قال : «لا تحسبوا أني قدمت لأصلح بين أهل الأرض ، لم آت لصلاحهم ، لكن لألقي المحاربة بينهم ؛ إنما قدمت لأفرق بين المرء وابنه والبنت وأمها حتى يصير أعداء المرء أهل بيته» ثم فيه أيضا : «إنما قدمت لتحيوا وتزدادوا خيرا وأصلح بين الناس» وانه قال : «من لطم خدك اليمين فانصب له الآخر». وفيه أيضا انه قال : «طوبى لك يا شمعون رأس الجماعة ، وأنا أقول انك ابن الحجر (١) وعلى هذا الحجر تبني بيعتي ، فكلما أحللته على الأرض يكون محللا في السماء ، وما عقدته على الأرض يكون معقودا في السماء» ثم فيه بعينه بعد أسطر يقول له : «اذهب يا شيطان ولا تعارض فإنك جاهل» فكيف يكون شيطان جاهل مطاع في السموات وفي الإنجيل نص «انه لم تلد النساء مثل يحيى» هذا في إنجيل متى ، وفي إنجيل يوحنا؟! «إن اليهود بعثت إلى يحيى من يكشف عن أمره ، فسألوه من هو أهو المسيح؟ قال : لا ، قالوا : نراك الياس؟ قال : لا ، قالوا أنت نبي؟ قال : لا ، قالوا أخبرنا من أنت؟ قال : أنا صوت مناد المفاوز «ولا يجوز لنبي أن ينكر نبوته فانه يكون مخبرا بالكذب.

ومن العجب أن في إنجيل متى نسبة المسيح إلى أنه ابن يوسف ، فقال : عيسى بن يوسف بن فلان ، ثم عد إلى إبراهيم الخليل تسعة وثلاثين أبا. ثم نسبه لوقا أيضا في إنجيله إلى يوسف ، وعد منه إلى إبراهيم نيفا وخمسين أبا. فبينا هو إله تام إذ صيروه ابن الإله ثم جعلوه ابن يوسف النجار؟!!

__________________

(١) في خطية : صلوا بالك يا شمعون ابن الحمامة وأنا أقول أنك ابن الحجر.

١٣٤

[تواطؤ اليهود والنصارى على تغيير بعض النسخ غير ممتنع.

من مثالب النصارى]

والمقصود أن هذا الاضطراب في «الإنجيل» يشهد بان التغيير وقع فيه قطعا ، ولا يمكن أن يكون ذلك من عند الله ، بل الاختلاف الكثير الذي فيه يدل على أن ذلك الاختلاف من عند غير الله ، وأنت إذا اعتبرت نسخه ونسخ التوراة التي بأيدي اليهود والسامرة والنصارى رأيتها مختلفة اختلافا يقطع من وقف عليه بأنه من جهة التغيير والتبديل وكذلك نسخ «الزبور» مختلفة جدا ومن المعلوم أن نسخ التوراة والإنجيل إنما هي عند رؤساء اليهود والنصارى وليست عند عامتهم ، ولا يحفظونها في صدورهم كحفظ المسلمين للقرآن ، ولا يمتنع على الجماعة القليلة التواطؤ على تغيير بعض النسخ ، ولا سيما إذا كان بفيتهم لا يحفظونها ، فإذا قصد طائفة منهم تغيير نسخة أو نسخ عندهم أمكن ذلك ، ثم إذا تواطئوا على أن لا يذكروا ذلك لعوامهم وأتباعهم أمكن ذلك ، وهذا واقع في العالم كثيرا ، فهؤلاء اليهود تواطئوا وتواصوا بكتمان نبوة المسيح وجحد البشارة به وتحريفها واشتهر ذلك بين طائفتهم في الأرض. مشارقها ومغاربها ، وكذلك تواطئوا على انه كان طبيبا ساحرا ممخرقا ابن زانية ، وتواصوا به مع رؤيتهم الآيات الباهرات التي ارسل بها وعلمهم أنه أبعد خلق الله مما رمي به وشاع ما تواطئوا عليه وملئوا به كتبهم شرقا وغربا ، وكذلك تواطئوا على أن لوطا نكم ابنتيه وأولدهما أولادا وشاع ذلك فيهم جميعهم ، وتواطئوا على أن الله ندم وبكى على الطوفان وعض أنامله ، وصارع يعقوب فصرعه يعقوب ، وأنه راقد عنهم وأنهم يسألونه أن ينتبه من رقدته وشاع ذلك في جميعهم ، وكذلك تواطئوا على فصول لفقوها بعد زوال مملكتهم يصلون بها ، لم تعرف عن موسى ولا عن أحد من أتباعه ، كقولهم في صلاتهم : «اللهم اضرب ببوق عظيم لعتقنا ، واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك ، سبحانك ، يا جامع تشتيت قوم إسرائيل» وقولهم فيها «أردد حكامنا منا كالأولين وسيرتنا كالابتداء ، وابن أورشليم قرية قدسك في أيامنا وأعزنا ببنائها ، سبحانك ، يا باني أورشليم» ولم يكن موسى وقومه يقولون في صلاتهم شيئا من ذلك ، وكذلك تواطؤهم على

١٣٥

قولهم في صلاتهم أول العام ما حكيناه عنهم ، وكذلك تواطؤهم على شرع صوم إحراق بيت المقدس وصوم حصا وصوم كدليا وفرضهم ذلك وصوم صلب هامان وقد اعترفوا بأنهم زادوها لأسباب اقتضتها ، وتواطئوا بذلك على مخالفة ما نصت عليه التوراة من قوله : «لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئا ، ولا تنقصوا منه شيئا» فتواطئوا على الزيادة والنقصان وتبديل أحكام الله ، كما تواطئوا على تعطيل فريضة الرجم على الزاني وهو في التوراة نصا ، وكذلك تواطؤهم على امتناع النسخ على الله فيما شرعه لعباده تمسكا منهم باليهودية ، وقد أكذبتهم التوراة وسائر النبوات. ومن العجائب حجرهم على الله أن ينسخ ما شرعه لئلا يلزم البداء ثم يقولون أنه ندم وبكى على الطوفان وعاد في رأيه وندم على خلق الإنسان ، وهذه مضارعة لإخوانهم من عباد الصليب الذين نزهوا رهبانهم عن الصاحبة والولد ثم نسبوهما إلى الفرد الصمد ، ومن ذلك تواطؤهم على أن الملك يعود إليهم وترجع الملل كلها إلى ملة اليهودية ويصيرون قاهرين لجميع أهل الملل ، ومن ذلك تواطؤهم على تعطيل أحكام التوراة وفرائضها ، وتركها في جل أمورهم إلا اليسير منها وهم معترفون بذلك وأنه أكبر أسباب زوال ملكهم وعزهم. فكيف ينكر من طائفة تواطأت على تكذيب المسيح وجحد نبوته وبهته وبهت أمه والكذب الصريح على الله وعلى أنبيائه وتعطيل أحكام الله والاستبدال بها وعلى قتلهم أنبياء الله أن تتواطأ على تحريف بعض التوراة وكتمان نعت محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصفته فيها.

(فصل) وأما أمة الضلال وعباد الصليب والصور المزوقة في الحيطان ، وإخوان الخنازير ، وشاتمو خالقهم ورازقهم اقبح شتم ، وجاعلوه مصفعة اليهود ، وتواطؤهم على ذلك ، وعلى ضروب المستحيلات وأنواع الأباطيل ، فلا إله إلّا الله الذي أبرز للوجود مثل هذه الأمة التي هي أضل من الحمير ومن جميع الأنعام السائمة ، وخلى بينهم وبين سبه وشتمه وتكذيب عبده ورسوله ومعاداة حزبه وأوليائه وموالاة الشيطان ، والتعوض بعبادة الصور والصلبان عن عبادة الرحمن الرحيم ، وعن قول الله أكبر بالتصليب على الوجه ، وعن قراءة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ١ ـ ٢ ـ ٣] ،

١٣٦

باللهم أعطنا خبزنا الملائم لنا ، وعن السجود للواحد القهار بالسجود للصور المدهونة في الحائط بالأحمر والأصفر واللازورد. فهذا بعض شأن هاتين الأمتين اللتين عندهما آثار النبوة والكتاب فما الظن بسائر الأمم الذين ليس عندهم من النبوة والكتاب حس ولا خبر ، ولا عين ولا أثر.

[قول السائل : هلا أتى ابن سلام .. بالنسخ الصحيحة؟]

(فصل) قال السائل : إن قلتم أن عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ونحوهما شهدوا لنا بذلك من كتبهم فهلا أتى ابن سلام وأصحابه الذين اسلموا بالنسخ التي لهم كي تكون شاهدة علينا ، والجواب من وجوه :

(احدها) أن شواهد النبوة وآياتها لا تنحصر فيما عند أهل الكتاب من نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصفته ، بل آياتها وشواهدها متنوعة متعددة جدا ، ونعته وصفته في الكتب المتقدمة فرد من أفرادها ، وجمهور أهل الأرض لم يكن إسلامهم عن الشواهد والاخبار التي في كتبهم ، وأكثرهم لا يعلمونها ولا سمعوا بها بل أسلموا للشواهد التي عاينوها والآيات التي شاهدوها وجاءت تلك الشواهد التي عند أهل الكتاب مقوية عاضدة من باب تقوية البينة وقد تم النصاب بدونها ، فهؤلاء العرب من أولهم إلى آخرهم لم يتوقف إسلامهم على معرفة ما عند أهل الكتاب من الشواهد ، وإن كان ذلك قد بلغ بعضهم وسمعه منهم قبل النبوة وبعدها كما كان الأنصار يسمعون من اليهود صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونعته ومخرجه ، فلما عاينوه وأبصروه عرفوه بالنعت الذي أخبرهم به اليهود فسبقوهم إليه ، فشرق أعداء الله بريقهم وغصوا بمائهم ، وقالوا ليس هو الذي كنا نعدهم به ، فالعلم بنبوة محمد والمسيح وموسى صلوات الله وسلامه عليهم لا يتوقف على العلم بأن من قبلهم أخبر بهم وبشر بنبوتهم بل طرق العلم بها متعددة فإذا عرفت نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق من الطرق ثبتت نبوته وجب اتباعه وإن لم يكن من قبله بشر به فإذا علمت نبوته بما قام عليها من البراهين. فإما أن يكون تبشير من قبله به لازما لنبوته ، وإما أن لا يكون لازما ، فإن لم يكن لازما لم يجب وقوعه ولا يتوقف تصديق النبي عليه بل يجب تصديقه بدونه ، وإن كان لازما علم قطعا أنه قد وقع ، وعدم نقله إلينا لا يدل على عدم وقوعه إذ لا يلزم من وجود الشيء نقله العام ، ولا

١٣٧

الخاص ، وليس كلما أخبر به موسى والمسيح وغيرهما من الأنبياء المتقدمين وصل إلينا ، وهذا مما يعلم بالاضطرار ، فلو قدر ان البشارة بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست في الكتب الموجودة بأيديكم لم يلزم أن لا يكون المسيح وغيره بشروا به ، بل قد يبشرون ولا ينقل ، ويمكن أن يكون في كتب غير هذه المشهورة المتداولة بينكم فلم يزل عند كل أمة كتب لا يطلع عليها إلا بعض خاصتهم فضلا عن جميع عامتهم ، ويمكن أنه كان في بعضها فأزيل منه وبدل ونسخت النسخ من هذه التي قد غيرت واشتهرت بحيث لا يعرف غيرها وأخفى أمر تلك النسخ الأولى ، وهذا كله ممكن ، لا سيما من الأمة التي تواطأت على تبديل دين نبيها وشريعته هذا كله على تقدير عدم البشارة به في شيء من كتبهم أصلا. ونحن قد ذكرنا من البشارات به التي في كتبهم ما لا يمكن لمن له أدنى معرفة منهم جحده والمكابرة فيه ، وإن أمكنهم المغالطة بالتأويل عند رعاعهم وجهالهم.

(فصل الوجه الثاني) أن عبد الله بن سلام قد قابل اليهود واوقفهم بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن ذكره ونعته وصفته في كتبهم وأنهم يعلمون أنه رسول الله وقد شهدوا بأنه أعلمهم وابن أعلمهم وخيرهم وابن خيرهم ، فلم يضر قولهم بعد ذلك أنه شرهم وابن شرهم وجاهلهم وابن جاهلهم ، كما إذا شهد على رجل شاهد عند الحاكم فسأله عنه فعدله وقال إنه مقبول الشهادة عدل رضي لا يشهد إلا بالحق وشهادته جائزة علي فلما أدى الشهادة قال إنه كاذب شاهد زور ، ومعلوم أن هذا لا يقدح في شهادته. وأما كعب الأحبار فقد ملأ الدنيا من الأخبار بما في النبوات المتقدمة من البشارة به وصرح بها بين أظهر المسلمين واليهود والنصارى ، وأذن بها على رءوس الملأ وصدقه مسلمو أهل الكتاب عليها ، وأقروه على ما أخبر به ، وأنه كان أوسعهم علما بما في كتب الأنبياء ، وقد كان الصحابة يمتحنون ما ينقله ويزنونه بما يعرفون صحته فيعلمون صدقه ، وشهدوا له بأنه أصدق الذين يحكون لهم عن أهل الكتاب أو من أصدقهم ونحن اليوم ننوب عن عبد الله بن سلام وقد أوجدناكم هذه البشارات في كتبكم فهي شاهدة لنا عليكم والكتب بأيديكم فأتوا بها فاتلوها أن كنتم صادقين ، وعندنا ممن وفقه الله للإسلام منكم من يواقفكم ويقابلكم ويحاققكم عليها ، وإلا فاشهدوا على

١٣٨

أنفسكم بما شهد الله وملائكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنون به عليكم من الكفر والتكذيب والجحد للحق ومعاداة الله ورسوله.

(الوجه الثالث) أنه لو أتاكم عبد الله بن سلام بكل نسخة متضمنة لغاية البيان والصراحة لكان في بهتكم وعنادكم وكذبكم ما يدفع في وجوهها ويحرفها أنواع التحريف ما وجد إليه سبيلا ، فإذا جاءكم بما لا قبل لكم به قلتم : ليس هو ، ولم يأت بعد ، وقلتم : نحن لا نفارق حكم التوراة ، ولا نتبع نبي الأميين. وقد صرح اسلافكم الذين شاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاينوه أنه رسول حقا ، وأنه المبشر به الموعود به على ألسنة الأنبياء المتقدمين ، وقال من قال منهم في وجهه : نشهد أنك نبي فقال : «ما يمنعك من اتباعي»؟ قال : إنا نخاف أن يقتلنا يهود ، وقد قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦] وقد جاءكم بآيات هي أعظم من بشارات الأنبياء به وأظهر بحيث أن كل آية منها يصلح أن يؤمن على مثلها البشر ، فما زادكم ذلك إلا نفورا وتكذيبا وإباء لقبول الحق ، فلو نزّل الله إليكم ملائكته وكلمكم الموتى وشهد له بالنبوة كل رطب ويابس لغلبت عليكم الشقوة وصرتم إلى ما سبق لكم في أم الكتاب ، وقد رأى من كان أعقل منكم وأبعد من الحسد من آيات الأنبياء ما رأوا وما زادهم ذلك إلا تكذيبا وعنادا ، فاسلافكم وقدوتكم في تكذيب الأنبياء من الأمم لا يحصيهم إلا الله حتى كأنكم تواصيتم بذلك أوصى به الأول للآخر واقتدى فيه الآخر بالأول ، قال تعالى : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٢] ، وهبنا ضربنا عن إخبار الأنبياء المتقدمين به صفحا أفليس في الآيات والبراهين التي ظهرت على يديه ما يشهد بصحة نبوته؟! وسنذكر منها بعد الفراغ من الأجوبة طرفا يقطع المعذرة ويقيم الحجة ، والله المستعان.

(فصل) قال السائل : «إنكم نسبتم الأمتين العظيمتين المذكورتين إلى اختيار الكفر على الإيمان للغرض المذكور فابن سلام وأصحابه أولى بذلك الغرض ؛

١٣٩

لأنهم قليلون جدا ، وأضداده كثيرون لا يحصيهم عدد والجواب من وجوه :

(أحدها) إنا قد بينا أن جمهور هاتين الأمتين المذكورتين آمن به وصدقه وقد كانوا ملء الأرض ، وهذه الشام ومصر وما جاورهما واتصل بهما من أعمالهما ، والجزيرة والموصل وأعمالهما ، وأكثر بلال المغرب وكثير من بلاد المشرق ، كانوا كلهم نصارى فأصبحت هذه البلاد كلها مسلمين ، فالمختلف من هاتين الأمتين عن الإيمان به أقل القليل بالإضافة إلى من آمن به وصدقه ، وهؤلاء عباد الأوثان كلهم أطبقوا على الإسلام إلا من كان منهم في أطراف الأرض بحيث لم تصل إليه الدعوة ، وهذه أمة المجوس توازي هاتين الأمتين كثرة وشوكة وعددا دخلوا في دينه وبقي من بقي منهم كما بقيتم أنتم تحت الذلة والجزية (الثاني) إنا قد بينا أن الغرض الحامل لهم على الكفر ليس هو مجرد المأكلة والرئاسة فقط وإن كان من جملة الأغراض ، بل منهم من حملة ذلك ، ومنهم من حمله الحسد ، ومنهم من حمله الكبر ، ومنهم من حمله الهوى ، ومنهم من حمله محبة الآباء والأسلاف وحسن الظن بهم ومنهم من حمله الفه للدين الذي نشأ عليه ، وجبل بطبعه فصار انتقاله عنه كمفارقة الإنسان ما طبع عليه ، وأنت ترى هذا السبب كيف هو الغالب المستولى على أكثر بني آدم في إيثارهم ، ما اعتادوه من المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والديانات على ما هو خير منه وأوفق بكثير ، ومنهم من حمله التقليد والجهل وهم الأتباع الذين ليس لهم علم ، ومنهم من حمله الخوف من فوات محبوب أو حصول مرهوب ، فلم تنسب هاتين الأمتين إلى الغرض المذكور وحده (الثالث) إنا قد بينا أن الأمم الذين كانوا قبلهم كانوا أكثر عددا وأغزر عقولا منهم وكلهم اختاروا العمى على الهدى والكفر على الإيمان بعد البصيرة ، فلهاتين الأمتين سلف كثير وهم أكثر الخلق.

(الرابع) إن عبد الله بن سلام وذويه إنما أسلموه في وقت شدة من الأمر وقلة من المسلمين وضعف وحاجة وأهل الأرض مطبقون على عداوتهم ، واليهود والمشركون هم أهل الشوكة والعدة والحلقة والسلاح ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إذ ذاك قد أووا إلى المدينة ، واعداؤهم يتطلبونهم في كل وجه ، وقد بذلوا الرغائب لمن جاءهم بهم ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبه وخادمهما فاستخفوا

١٤٠