معالم المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

وفي صحيح البخاري : كان عمر (رض) يضرب فيه بالعصا ، ويرمي بالحجارة ، ويحثي بالتراب (١٣).

* * *

كان ذلكم منشأ الخلاف في شأن البكاء على الميّت ، الأحاديث المتعارضة الواردة بشأنه في كتب الصّحاح ، ولعلّ اجتهاد الخليفة عمر (رض) في المنع كان منشأ للأحاديث المرويّة في منع البكاء على الميت. فقد رووا غير ما ذكرنا بعض الحديث في تأييد اجتهاد الخليفة الصحابيّ عمر ، ولا مجال في هذه العجالة لبيان علل تلك الأحاديث. وفي ما ذكرنا الكفاية في معرفة منشأ الخلاف في شأن البكاء والّذي نحن بصدده.

* * *

إلى هنا استعرضنا أمثلة من مسائل الخلاف الّتي كان منشؤها اختلاف الأحاديث في كلّ منها. ونذكر بحوله تعالى في ما يأتي آيات من كتاب الله ممّا نشأ الخلاف حول تأويلها.

__________________

(١٣) صحيح البخاري ، كتاب الجنائز ، باب البكاء عند المريض ، ١ / ١٥٨.

وقوله : «يضرب فيه» أي يضرب لأجل المنع من البكاء.

٨١

ـ ٨ ـ

آيات من كتاب الله نشأ الخلاف حول تأويلها

من أمثلة ما نشأ الخلاف حولها ، خلاف في تأويل بعض آيات من كتاب الله المجيد نذكر أمثلة منها في ما يأتي :

دعاء غير الله وحكم غير الله

أ ـ دعاء غير الله

قال الشيخ محمد بن عبد الوهّاب مؤسس المذهب الوهّابي في كتابه (الأصول الثلاثة وأدلّتها) ص ٤ منه :

اعلم رحمك الله أنّه يجب على كلّ مسلم ومسلمة تعلّم هذه الثلاث مسائل والعمل بهنّ (١) :

الأولى ـ أنّ الله خلقنا ....

الثّانية ـ أنّ الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد ، لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، والدليل قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (٢) الجن / ٢٨.

__________________

(١) كذا ورد في الأصل.

(٢) رسالة الأصول الثلاثة ط. مطبعة المدني ، ٢٩٥ شارع رمسيس بالقاهرة سنة ١٣٨٠ ه‍ ورسالة الدين وشروطها أيضا طبع فيها ، وكذلك استدلّوا بقوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ

٨٢

وقال في ص ٥ منه :

انّ الحنيفية ملّة إبراهيم أن تعبد الله وحده مخلصا له الدّين ، وبذلك أمر جميع الناس وخلقهم لها ، كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ومعنى يعبدون يوحّدوني. وأعظم ما أمر الله به التوحيد ، وهو إفراد الله بالعبادة ، وأعظم ما نهى عنه الشرك وهو دعوة غيره معه ـ إلى قوله في ص ٨ منه : ـ والدليل قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ...).

وقال في ص ٤٦ منه :

القاعدة الرابعة : إنّ مشركي زماننا أغلظ شركا من الأوّلين ، لأنّ الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدّة ، ومشركو زماننا شركهم دائما في الرخاء والشدّة ، والدليل قوله تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) العنكبوت / ٦٥.

وقال في ص ٨ من رسالته (الدين وشروط الصّلاة) (٣) ما ملخّصه : العبادة لها أنواع كثيرة ؛ منها الدعاء ، الدليل قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ).

وورد في رسالة (شفاء الصدور) الّتي أصدرتها دار الإفتاء العامّة ردّا على رسالة الجواب المشكور ص ٣ :

رفعوا إلى خليفة زعماء دعوة التوحيد والّذين أزاحوا غياهب الشرك عن هذه البلاد ـ أي عن مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة ـ وطهّروها من أدرانه وقضوا على كلّ أثر له ... (٤).

* * *

__________________

ـ مِنْ دُونِهِ ، فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) الإسراء / ٥٦ وآيات أخرى نظيرها.

(٣) رسالة الأصول الثلاثة ط. مطبعة المدني ٢٩٥ شارع رمسيس بالقاهرة سنة ١٣٨٠ ـ ورسالة الدين وشروطها أيضا طبع فيها بلا تاريخ.

(٤) رسالة شفاء الصدور ، ط. الأولى مؤسسة النور للطباعة والتجليد.

٨٣

يقصدون بدعاء غير الله أو مع الله أن يقول المسلم مثلا : (يا رسول الله) للتوسّل به إلى الله ، أو يدعو غيره من أولياء الله كذلك. وأدلّتهم كلّها تدور حول قوله تعالى : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ) ونظائرها ممّا نهى الله عن الدّعاء مع الله أو غير الله.

ب ـ حكم غير الله

حكم غير الله مثله كمثل دعاء غير الله

وقال مخالفوهم : ما أشبه الليلة بالبارحة! وما أشبه هذا الاستدلال باستدلال الخوارج في تكفير من رضي بالتحكيم في صفّين بأمثال قوله تعالى :

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٥) يوسف / ٦٧. وقوله :

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) الأنعام / ١١٤.

وكان بداية ذلك في معركة صفّين ، عند ما أمر معاوية برفع كتاب الله على الرماح ودعوة جيش العراق إلى قبول حكم القرآن ، وانخداع أكثرية قراء جيش العراق بذلك ، وإجبارهم الإمام عليّا بترك القتال وقبول دعوة معاوية بالتحكيم ، ثمّ تعيين معاوية من قبله عمرو بن العاص حكما ، وإجبار جيش العراق الإمام عليّا على تعيين أبي موسى الأشعري حكما من قبله. فلمّا اجتمع الحكمان وخدع عمرو بن العاص أبا موسى وقال له : نخلع عليّا ومعاوية ونترك الأمر للناس ليختاروا لهم إماما. وسبق أبو موسى عمرا بالكلام وقال : أنا أخلع عليّا ومعاوية عن الأمر ليختار المسلمون لهم إماما. ثمّ خطب بعده ابن العاص وقال : إنّه خلع صاحبه كما رأيتم ، وأنا أنصب صاحبي للإمامة. فتنازعا وتسابّا وافترقا. بعد هذا أحسّ من قبل التحكيم من جيش العراق بخطئهم ونادوا بشعار : «لا حكم إلّا لله» وقالوا : إنّا كفرنا بقبولنا

__________________

(٥) نكرّر قولنا : بأننا لسنا بصدد إحصاء أدلّة الطرفين في البحث ، وإنّما نأتي بأمثلة منها.

٨٤

التحكيم ، وتبنا إلى الله ، ويجب على الآخرين أن يعترفوا بالكفر ، ثمّ يتوبوا مثلنا ؛ ومن لم يفعل ، فأولئك هم الكافرون.

وهكذا كفّروا أوّلا من اشترك في تلك الحوادث من عائشة وعثمان وعليّ وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص ومن تبعهم ؛ ثمّ شمل حكمهم بالكفر عامّة المسلمين ، وسمّوا أنفسهم بالشّراة ، ووضعوا سيوفهم قرونا طويلة على عواتقهم يقتلون بها المسلمين ويقتلون (٦).

وصدق رسول الله (ص) حيث أخبر عن الخوارج وقال : يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ، لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد (٧). وفي أحاديث أخرى : لأقتلنّهم قتل ثمود (٨).

جواب مخالفيهم في المسألتين

يقول في جواب هؤلاء وأولئك مخالفوهم بأنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا ، وإذا كان قد ورد في القرآن قوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فقد ورد فيه أيضا قوله تعالى :

(فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ

__________________

(٦) راجع أخبار يوم صفّين في تاريخ الطبري وابن الأثير وابن كثير ، ثمّ أخبار الخوارج فيها وفي غيرها من كتب التاريخ.

(٧) كان ذلك عند ما بعث ابن عمّ الرسول عليّ من اليمن بذهيبة إلى الرسول فقسّمها بين أربعة من المؤلفة قلوبهم ، فتغضبت قريش والأنصار ، فقالوا : يعطيه صناديد أهل نجد ويدعنا! قال : إنّما أتألّفهم. فأقبل رجل ... محلوق الرأس فقال : يا محمد ، اتق الله! فقال النبي (ص) : فمن يطيع الله إذا عصيته ، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني!؟ فلمّا ولى ، قال النبي (ص) إنّ من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية يقتلون أهل الاسلام ـ الحديث. صحيح البخاري ، كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ ...) ٤ / ١٨٨. وصحيح مسلم ، كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم ح ١٤٣ ص ٧٤١.

(٨) صحيح مسلم ، كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم ، ح ١٤٣ و ١٤٤ و ١٤٥ و ١٤٦.

٨٥

يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) المائدة / ٤٢.

فقد خوّل نبيّه في هذه الآية أن يحكم بين أهل الكتاب ، وفي آية أخرى أمر بأن يتّخذوا حكما من النّاس بقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ) النساء / ٣٥.

ولا منافاة بين الآيتين ، فإنّ الآية الأولى عند ما أثبتت (الحكم) لله لم تثبت له حكما محدودا مثل ما للقضاة في المحاكم بأنّ لهم أن يحكموا بين الناس بموجب القوانين المرعيّة ، وأنّه ليس لهم أن يعيّنوا حاكما من قبلهم ، وإنّما ذلك لذي سلطة أعلى ، وعلى هذا فليس للقضاة (الحكم) مطلقا ، وإنّما لهم أن يحكموا بين الناس فحسب ، ولكنّ الله له أن يحكم بين الناس بموجب حكمه ، وله أن يأذن لغيره بالحكم ، أي : له أن يعيّن حاكما على أي جهة في ملكه ، فله الحكم مطلقا. وعلى هذا فإن الأنبياء بحكم الله يحكمون ، حين يحكمون ، وكذلك الاثنان اللّذان يحكمان بين الزوجين. إذا فإنّ حكم أولئك الحكّام إذا حكموا بموجب ما أمر الله ، ليس حكم ما سوى الله ، ولا حكم غير الله ، ولا حكم دون الله ، ولا حكم مع الله ، وإنّما هو حكم بأمر الله وحكم بإذن الله.

وسيأتي جوابهم على دعاء غير الله في ذكر (دعوة الرسول (ص) والتّوسل به الى الله) بعيد هذا إن شاء الله تعالى.

وكذلك الشأن بالنسبة إلى بعض الآيات الأخرى الّتي تثبت بعض الصفات لله فإنّها لا تثبتها لله محدودة بحدّ ، وإنّما تثبتها لله مطلقا. مثل إثبات صفة الملك لله تعالى.

صفة الملك لله

لا منافاة في إثبات صفة الملك لله في قوله تعالى :

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) المائدة / ١٨ ،

٨٦

وقوله تعالى :

(لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) الإسراء / ١١١ ، والفرقان / ٢ ، وأمثالهما.

وبين قوله تعالى :

(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) النساء / ٣ و ٢٤ و ٢٥ و ٣٦ وآيات أخرى مثلها ، لأنّه سبحانه وتعالى يقول : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) آل عمران / ٢٦.

إذا فإنّ الله تعالى حين يملّك عبده لم يملك العبد عندئذ مع الله ، ولم يملك غير الله ولا سوى الله ولا دون الله ، وإنّما العبد وما يملك لمولاه ، وإنّ تملّك العبد بإذن الله من أجلى مصاديق (الملك لله) ، أي : إنّ ملك الله ليس محدودا كملك عبيده الّذي يحدّ بحدود مشيئة الله وإذن الله ، ولا حول للعبد أن يتصرّف في ما خوّله الله بأكثر مما حدّد الله له في التصرّف من زمان ومكان وسيطرة. وكذلك الشأن في صفة الخالقية.

الخالق والمحيي

كذلك شأن صفة (الخالق) و (المحيي) ، فإنّه سبحانه وتعالى (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الأنعام / ١٠٢. و (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) فاطر / ٣. وقال الله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) الأعراف / ٥٤. وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) المؤمنون / ٨٠. وقال : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) الشورى / ٩.

ولا منافاة بين هذا وبين أن يأذن لعيسى بن مريم (ع) أن يخلق ويحيي كما قال سبحانه مخاطبا إيّاه : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى

٨٧

بِإِذْنِي) المائدة / ١١٠ وقوله تعالى عن لسان عيسى : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) آل عمران / ٤٩.

فإنّ الله سبحانه حين يخلق ليس كالآلة الصّانعة لا يحول عن عمله ولا يزول ـ جلّ عن ذلك ـ وليس كالبشر حين يعمل لا يستطيع أن يهب قدرة العمل لغيره ، بل إنّه قادر أن يخلق الحياة ، إنسانا كان أو حيوانا ، من طريق اللّقاح بين الزّوجين ، ويستطيع أن يخلقه بيديه دون أب ولا أمّ ، مثل آدم ، ويقدر كذلك أن يأذن لعيسى فيخلق بإذنه ، والخالق في كلّ ذلك هو الله تعالى.

وكذلك شأن الإحياء ، فإنّه قادر على أن يحيي الموتى بلا واسطة يوم القيامة ، وقادر على أن يهب الإحياء لرسوله عيسى بن مريم (ع) فيحيي الموتى بإذنه ، وقادر على أن يجعل الإحياء في ضرب بعض بقرة بني إسرائيل الصّفراء بميّتهم المقتول فيحيا المقتول ويخبرهم عن قاتله (٩).

وإنّ عيسى بن مريم حين خلق الطير وأحيا الموتى ، كان الخلق والإحياء بإذن الله ، وعلى هذا فإنّ عيسى حين خلق الطّير وأحيا الموتى لم يخلق مع الله ، ولم يحي مع الله ، ولم يخلق ولم يحي غير الله ولا دون الله ، وإنّما خلق وأحيا بإذن الله.

الوليّ والشفيع

وكذلك شأن صفة الوليّ والشّفيع :

فإنّه لا منافاة في شأن الشفاعة بين قوله تعالى :

أ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً

__________________

(٩) إشارة إلى الآيات ٦٧ ـ ٧٣ من سورة البقرة.

٨٨

وَلا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الزمر / ٤٣ ، ٤٤.

ب ـ (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) السجدة / ٤.

ج ـ (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) الأنعام / ٥١.

د ـ (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) الأنعام / ٧٠.

وبين قوله تعالى :

أ ـ (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) يونس / ٣.

ب ـ (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) البقرة / ٢٥٥.

ج ـ (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) طه / ١٠٩.

د ـ (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ...) سبأ / ٢٣.

ه ـ (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) مريم / ٨٧.

و ـ (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) الأنبياء / ٢٨.

فإنّه تعالى حين يأذن لعباده الصّالحين أن يشفعوا ، كانت الشّفاعة لله فأذن لهم أن يشفعوا. فالشفيع عندئذ ليس دون الله.

وكذلك شأن الولي :

فإنّ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) التوبة / ١١٦.

وقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) البقرة / ١٠٧.

٨٩

وقوله : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ. إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) الكهف / ١٠٢.

هذه الأقوال لا تنافي قوله تعالى :

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) المائدة / ٥٥.

لا منافاة بينهما وليس شركا أن نقول : الله وليّنا ورسوله ومن يقيم الصّلاة ويؤتي الزّكاة في الركوع من المؤمنين ، لأنّ الولاية لله وهو الّذي أعطى هذه الولاية لهما كما أعطى للوالد الولاية على ولده.

* * *

في كلّ الصّفات المذكورة صحّ أن يقال : الله ، هو الحاكم والمالك والشفيع والولي و... وصحّ ـ أيضا ـ أن يقال لمن منح من عبيده هذه الصفات : المالك والحاكم والشفيع والولي. وإنّ أوضح مثال لما قلنا ، المورد الآتي.

من يتوفّى الأنفس

قال تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) النحل / ٢٨.

وقال : (تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) النحل / ٣٢.

وقال : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) الأنعام / ٦١.

وقال : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) السجدة / ١١.

وقال : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) الزمر / ٤٢.

فمن قال : إنّ الملائكة تتوفّى الأنفس حين موتها بإذن الله ، لم يكذب ولم يشرك ، ومن قال : ملك الموت عزرائيل يتوفّى الأنفس حين موتها بإذن الله ، لم يكذب ولم يشرك. ولا منافاة بين القولين وبين القول بأنّ الله يتوفّى الأنفس

٩٠

حين موتها ، وفي كلّ هذه الحالات لم يتوفّ الأنفس غير الله ولا مع الله بل إنّ الله هو الذي توفّاها (١٠). وكذلك الشّأن بالنسبة إلى الصفات الأخرى المذكورة سابقا.

دعوة الرّسول (ص) والتوسّل به إلى الله

بناء على ما بيّنّا بأنّ كلّا من الحاكم والمالك والشّفيع والخالق والمحيي والمميت والوليّ إذا كان بإذن الله فليس ثمّت غير الله ولا دون الله ولا مع الله ، بناء على ذلك فإنّ دعوة النبيّ (ص) في التوسّل به إلى الله ـ أيضا ـ إذا كان بإذن الله ، فليس ثمّت دعاء غير الله ولا دون الله ولا مع الله ، وليس من مصاديق ما نهى الله عنه في قوله تعالى : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً).

وقد مرّ بنا في الحديث المرويّ بمسند أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة ورواية البيهقي والّتي صحّحوها بأن رسول الله (ص) علّم الصحابي الضرير أن يدعو بعد الصّلاة ويقول :

«اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة. يا محمّد إنّي توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي لتقضى لي. اللهمّ فشفّعه فيّ» (١١).

فقضى الله حاجته وشفّع رسوله فيه وشافاه ، وإنّ هذا النوع من التوسّل من مصاديق قوله تعالى :

(وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) المائدة / ٣٥.

(يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) الإسراء / ٥٧.

* * *

__________________

(١٠) هذا الاستدلال مستفاد من قول الإمام عليّ ، برواية الصدوق عنه في باب الردّ على الثنوية والزنادقة بكتاب التوحيد ، ص : ٢٤١.

(١١) راجع مصادره في باب الاستشفاع برسول الله في حياته من هذه المقدّمة.

٩١

إلى هنا استعرضنا بعض مسائل الخلاف وأشرنا إلى ما كان ظاهرا من منشئها. وفي ما يلي ندرس الباعث الحقيقي لما نشأ من الخلاف وهما أمران :

أ ـ استكبار المخلوقين أبد الدهر.

ب ـ حاجة السلطة في هذه الأمّة إلى إراءة حياة قدوات الإنسانية بما لا يناقض حياتها الغارقة في الشهوات. وفي ما يلي بيانهما :

أ ـ الباعث الحقيقي الأوّل على ما نشأ من الخلاف

أوّلا ـ في بدء الخليقة :

حكى الله سبحانه عمّا جرى من إبليس حين لم يسجد لآدم (ع) بقوله :

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ...) ص / ٧٥ و ٧٦.

و (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) الحجر / ٣٣.

إنّ إبليس عبد الله وحده لا شريك له عمر الملائكة ، ثمّ لم يخضع لآدم صفيّ الله في عصره واستهان به فكان من أمره ما كان.

أمّا الناس الّذين استكبروا واستهانوا بأنبياء الله وأصفيائه بعد ذلك فإليكم أمثلة من أمرهم في ما يأتي :

ثانيا ـ في الأمم السّابقة :

قال قوم نوح لنبيّهم نوح :

(ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا ... وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) هود / ٢٧.

٩٢

وقالوا : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) المؤمنون / ٢٤.

وقال قوم نوح وعاد وثمود لرسلهم :

(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ...) إبراهيم / ١٠.

وقالوا لنبيّهم :

(ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) المؤمنون / ٣٣.

وكان جواب الأنبياء لأممهم في هذا الاعتراض والاستهانة بهم ما أخبر الله عنه وقال :

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) إبراهيم / ١١.

ثالثا ـ في عصر خاتم الأنبياء (ص):

روى ابن حجر في ترجمة ذي الخويصرة رأس الخوارج من الإصابة عن أنس ، قال :

كان في عهد رسول الله (ص) رجل يعجبنا تعبّده واجتهاده ، وقد ذكرناه لرسول الله (ص) فلم يعرفه ، فوصفناه بصفته فلم يعرفه. فبينا نحن نذكره إذ طلع الرجل علينا فقلنا : هو هذا. قال : إنّكم لتخبروني عن رجل إنّ في وجهه لسعفة من الشيطان. فأقبل حتّى وقف عليهم ولم يسلّم ، فقال له رسول الله (ص) : أنشدك الله ، هل قلت حين وقفت على المجلس : «ما في القوم أحد أفضل منّي أو خير منّي»؟ قال : اللهمّ نعم! ثمّ دخل يصلّي فقال رسول الله (ص) : من يقتل الرجل ـ الحديث. وفي آخر الحديث قال (ص): لو قتل

٩٣

ما اختلف من أمّتي رجلان ... (١٢).

رابعا ـ في عصرنا

قال الرجل (ذو المعرفة) من السعوديين :

(محمّد رجالا مثلي ، مات).

وسبب هذا القول ـ أيضا ـ هو الاستكبار كما كان شأن السابقين.

خلاصة البحث

إنّ إبليس لا يرى فضلا لصفيّ الله ونبيّه آدم على نفسه فلا يخضع له ويقول عنه : إنّه بشر.

وقوم نوح وعاد وثمود لا يرون لأنبيائهم من فضل عليهم ويقولون لأنبيائهم : إن أنتم إلّا بشر مثلنا.

وذو الخويصرة رأس الخوارج يقول لجمع فيهم رسول الله : ما في القوم أفضل منّي أو خير منّي.

وكذلك الأمر في عصرنا.

إذا فالباعث الأول للاستهانة بأصفياء الله هو الاستكبار.

__________________

(١٢) راجع ترجمة ذي الخويصرة من الإصابة.

وذو الخويصرة التميمي حرقوص بن زهير. أصل الخوارج قال لرسول الله عند ما كان يقسم قسما : يا رسول الله ، اعدل! فقال له : ويحك من يعدل إذا لم أعدل!؟ وقال فيه : إنّ له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كمروق السهم من الرمية. راجع ترجمة ذي الخويصرة في أسد الغابة. وتفصيل قول رسول الله فيه وفي الخوارج وقتال الإمام علي إيّاهم في صحيح مسلم ، باب ذكر الخوارج ، وباب التحريض على قتل الخوارج ، وباب الخوارج شرّ الخلق والخليقة.

والسعفة : قروح تخرج في الوجه والرأس ، ويكون المعنى أثر ضربة الشيطان في وجهه.

٩٤

ب ـ الباعث الثاني لما نشأ من الخلاف

الباعث الثاني على الخلاف في الأمّة الإسلامية مدى القرون ، هو حاجة السّلطات الحاكمة على المسلمين إلى إراءة حياة القدوات الإنسانية ، من الأنبياء والأصفياء ، بما لا يناقض حياتهم الغارقة في الشّهوات والمنهمكة في اتّباع هوى النفس.

وكان من أثر العاملين الأول والثاني ، أن أوّلت آيات من الذكر الحكيم إلى ما يبيّن صدور المعاصي من أنبياء الله وأصفيائه ، ووضعت روايات في انغماسهم في الملاهي والشهوات ، وأحيانا استفادوا من الأخبار الإسرائيليّة في ذلك مثل ما رووا عن داود وزوجة أوريا (١٣) ، إلى غيرها ، والكثير من أمثالها الّتي رووها في سيرة الأنبياء ؛ وقد مرّ بنا أمثلة ممّا رووا في سيرة أفضل الأنبياء وخاتمهم محمّد (ص). وفي هذا السبيل ، سبيل تسوية الأنبياء والأوصياء بغيرهم من البشر ، والقول بعدم وجود ميزة لهم عمّن سواهم ، أوّلوا آيات من الكتاب العزيز المصرّحة بمعجزات الأنبياء ، مثل خلق عيسى (ع) من الطّين طيرا بإذن الله ونظائره ، ووضعت روايات تتّفق وما يقولون به من عدم وجود ميزة لأصفياء الله عمّن سواهم من البشر.

وفي مقابل تلكم الأحاديث وتأويلات آيات كتاب الله ، بدافع العاملين المذكورين آنفا ، نجد في كتب التفسير والحديث والسّيرة أحاديث أخرى تدلّ على ميّزات أصفياء الله. فآمن بها طائفة من المسلمين ، وأوّلت آيات كتاب الله بما يوافق تلك الأحاديث. وأنتج ما ذكرناه رؤية خاصّة لصفات الله وصفات أنبيائه وعن العرش والكرسيّ وسائر المعارف الإسلاميّة تناقض

__________________

(١٣) راجع أخبار سيرة النبيّ داود (ع) في تاريخ الطبريّ وغيره.

٩٥

رؤية الطائفة الأخرى. وكل طائفة آمنت بما لديها بما يبلغ بها إلى تكفير من يخالفها في الرأي. وإنّ ما وقع من التفرقة مدى القرون كان من أثر ما ذكرناه. أمّا العلاج فسنذكره بحوله تعالى في الخاتمة الآتية.

٩٦

ـ ٩ ـ

خلاصة وخاتمة

شرع الله للإنسان الإسلام نظاما مناسبا لفطرته ، وهداه بواسطة أنبيائه (ع) وكان كلّما توفّي نبيّ وغيّرت أمّته شريعته ، جدّد الله دينه بإرسال نبيّ جديد. واقتضت حكمته ختم الشّرائع بشريعة خاتمهم ، فحفظ أصول الإسلام بحفظ القرآن من الزّيادة والنقصان أبد الدهر ، وجعل بيان الأحكام وشرحها في سنّة رسوله (ص) ولم يحفظها مثل القرآن من الزيادة والنّقصان ، ولم يعصم رواتها عن السّهو والنسيان ، ولم يعصم نسّاخ كتب الحديث من الخطأ والزلل. ومضى على رواية سنّة الرسول (ص) أربعة عشر قرنا وتداول المسلمون من روايات سنّة الرسول (ص) سيرة وحديثا ما تعارض بعضه مع بعض الشيء الكثير ، مع وجود المجمل والمفصّل والعامّ والخاصّ فيها ، والعوامل الخارجية المؤثرة في رواية الحديث ، والّتي أشرنا إليها سابقا ، فاختلفت اجتهادات المجتهدين في ترجيح بعضها على بعض ، مضافا إلى اجتهاداتهم الخاصّة في مختلف معارف الإسلام وأحكامه. فتعصّب كلّ لآرائه ، فتكوّنت لكلّ فرقة رؤية خاصّة للإسلام أوّلت بموجبها آيات متشابهات في كتاب الله

٩٧

الكريم ، وحملت عليها آيات محكمات أخرى.

* * *

وهكذا انقسم المسلمون إلى فرق ومذاهب ، ومضت عليهم قرون طويلة كفّر خلالها المسلمون بعضهم بعضا ، وقتلت كلّ فرقة من خالفها في الرأي أحيانا ، وهدّمت ديارهم! فكيف يمكن توحيد كلمة المسلمين مع وجود هذه المفارقات ، ووجود مسائل الخلاف بينهم ممّا أوردنا أمثلة منها في ما سبق؟ لا ، لن يتمّ التقارب بين المسلمين هكذا ، ومع بقائهم على تقليد اجتهادات السّلف ، فلا بدّ للمسلمين من أن تبدي كلّ طائفة منهم ما لديها من رؤى للإسلام وتأويل للقرآن وحديث مرويّ واجتهادات للسّلف نشأ منها الخلاف ، على شرط أن يتمّ ذلك بأسلوب الدعوة إلى الحقّ والبحث العلميّ الرصين ، دون الرّكون إلى السباب والشتائم والافتراء انتصارا لرأيها وطائفتها ـ أعاذنا الله من ذلك ـ ثمّ الاستماع بتجرّد إلى ما لدى الطّوائف الأخرى كذلك ، والحقيقة بنت البحث.

والسّبيل الصّحيح للوصول إلى ذلك ، أن يبادر علماء المسلمين إلى تلك الدراسات بتجرّد علميّ بحت ، ثمّ تعرض نتائج تلك الدراسات على الأندية العلميّة الإسلاميّة الكبرى ، مثل الجامع الأزهر الشريف في القاهرة ، والجامعة الإسلاميّة في المدينة المنوّرة ، ورابطة العالم الإسلامي في مكّة المكرمة ، والجوامع الإسلاميّة الكبرى في النجف الأشرف وقم وخراسان والقيروان والزيتونة ، لبحثها وتمحيصها. ثمّ لتنشر بعد ذلك حكومات البلاد الإسلاميّة ما تتمخّض عنه دراسات تلك الجامعات بين المسلمين كافّة ليتسنّى لجميع المسلمين من أراد منهم أن يفهم رأي غيره تفهما واعيا لا لبس فيه ولا غموض ولا نبز ، وله بعد ذلك أن يتقبّل رأي غيره بقبول حسن ، أو يعذر أخاه المسلم في ما اتّخذ له من رأي. وهكذا يتيسّر للمسلمين أن يتفهّم بعضهم بعضا

٩٨

ويتقاربوا ويوحّدوا جهودهم في ما يصلح لهم (١).

ومن الضروريّ في هذا السبيل أن يبدأ بالبحث عن مصادر الشّريعة الإسلاميّة وكيفيّة أخذ المسلمين منها وسبل الوصول إلى السنّة النبويّة.

وللوصول إلى هذا الهدف الجليل قمت مستعينا بالله تعالى بتأليف هذا الكتاب وفق المنهج التالي.

منهج البحث في الكتاب :

أوردنا في ما سبق أمثلة من مسائل الخلاف ومنشأ الاختلاف ودوافعهما وبقي لنا دراسة جذور الخلاف والاختلاف. وسندرسها في أبواب القسم الأوّل من هذا الكتاب ليدرسها المصلحون الغيارى على الإسلام والمسلمين وينسّقوا جهودهم في ضوء معرفتها لتقريب أبناء الأمّة الإسلاميّة وتوحيد

__________________

(١) لقد شرحت ضرورة القيام بدراسات مقارنة لسنّة الرسول (ص) بتجرّد علميّ بحت لعلماء المسلمين وكتّابهم ومفكّريهم بمصر والحجاز والشام ولبنان والهند وباكستان والعراق وغيرها ، سواء في الجامعات الإسلامية والأندية العلميّة بها أو في اجتماعي بالعلماء على انفراد ، واستعنت الله وقمت منذ نيف وخمسين سنة بهذه الدراسات. ولما كانت أمّ المؤمنين عائشة أكثر من تحدّثت عن سيرة الرسول الاكرم (ص) بين أمّهات المؤمنين وأهل البيت وجميع الصّحابة ، وكان أكثر الباحثين مسلمين وغير مسلمين من المستشرقين وتلاميذهم يتعرّفون على سيرة الرسول (ص) من خلال الأحاديث المرويّة عنها ، ولن تتيسّر دراسة سيرة الرسول دون الدراسة العلمية لمجموعة الأحاديث المرويّة عنها بتجرّد علميّ بحت ، لهذا اضطررت إلى دراسة أحاديثها دراسة مقارنة ، وطبعت الجزء الأول منها ، ولمّا يطبع الجزء الثاني منها. ورأيت خلال دراساتي من الاختلاف في أخبار السيرة وأخبار العصر الإسلامي الأول ما أكرهني على نشر بعض دراساتي باسم (خمسون ومائة صحابى مختلق) وقصدي من هذه التسمية أن أنبّه العلماء إلى ما في أخبار العصر الإسلامي الأوّل من عظيم الاختلاق ، وطبع منها جزءان ترجم فيهما ثلاثة وتسعون صحابيّا مختلقا وأكثر من سبعين راويا للحديث مختلقين ـ أيضا ـ أسندت إليهم روايات في الفتوح والردة وغير ذلك مختلقة جميعها. وكتبت مقدّمة لهذه الدراسة مجلّدي عبد الله بن سبأ ونشرا ، وبقي نشر المجلد الثالث من (خمسون ومائة صحابي مختلق) والثالث من عبد الله بن سبأ ، وإلى الله أشكو ما لا قيت من الإرجاف في هذا السبيل.

٩٩

كلمتهم ضدّ أعداء الإسلام إن شاء الله تعالى.

ونقول في هذا الصدد : لمّا كان جميع طوائف المسلمين ينتهون إلى مدرستين (٢) : مدرسة الإمامة ومدرسة الخلافة ، بحثت في الكتاب :

أولا ـ عن رأي المدرستين في الصّحابة وعدالتهم ، لأنّهم من سبل الوصول إلى سنّة الرسول (ص). وترى مدرسة الخلافة أنّهم جميعا عدول لا يتطرّق الشّكّ إلى عدالة أيّ واحد منهم ، ويصحّ أخذ الحديث من جميعهم. وترى المدرسة الأخرى أنّ في الصحابة البرّ التّقي الّذي يؤخذ منه الحديث ، وفيهم من وصمه الله في كتابه بالنفاق وقال : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) التوبة / ١٠١.

هكذا درست أدلّة الطّرفين في هذا الباب بتجرّد علميّ ، ثمّ بحثت عن رأي المدرستين في الإمامة والخلافة وأدلّتهما في ما ارتأتا ، لأنّ الخلفاء الأربعة الأوائل لدى إحداهما من سبل الوصول إلى الشّريعة الإسلامية وتروي في حقّهم عن الرسول (ص) أنّه قال : «خذوا بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي وعضّوا عليها بالنواجذ» ، ثمّ إنّها تتّخذ من اجتهاداتهم مصدرا للشّريعة الإسلاميّة (٣).

وكذلك الأئمة الاثنا عشر لدى مدرسة أهل البيت (ع) فإنّهم يرونهم من سبل الوصول إلى الشريعة الإسلاميّة ويأخذون منهم كلّ ما يروون عن الرّسول (ص) من أحكام بلا ترديد. فلا بدّ مع هذا من تمحيص أدلّة الطرفين في هذا السبيل.

ثانيا ـ درست بحوث المدرستين في مصادر الشّريعة الإسلاميّة بكلّ أمانة

__________________

(٢) سيأتي بيانه في بداية البحوث ، إن شاء الله تعالى.

(٣) يأتي بحث نقد الحديث ودراسة مواقفهم من اجتهادات مجتهدي مدرسة الخلفاء في الجزء الثاني في باب : بحوث المدرستين حول مصادر الشريعة الإسلامية ، إن شاء الله تعالى.

١٠٠