معالم المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

فقال عمر : هيهات لا يجتمع اثنان في قرن ... لا ترضى العرب أن يؤمّروكم ونبيّها من غيركم.

وهدّد أحدهما الآخر بالقتل.

فقالت الأنصار أو بعض الأنصار : لا نبايع إلّا عليّا. فتخوّف عمر من الاختلاف وقال لأبي بكر : ابسط يدك أبايعك. وسبقه بشير بن سعد وبايع ، فناداه الحباب بن المنذر : عققت عقاق أنفست على ابن عمّك الإمارة!؟

وبايع عمر وأبو عبيدة ، وقالت الأوس : لئن وليتها الخزرج مرّة لا زالت لهم الفضيلة عليكم وما جعلوا لكم فيها نصيبا ، فبايعوا أبا بكر ، فانكسر على سعد بن عبادة والخزرج وكادوا يطئون سعد بن عبادة ، فقال أصحابه : اتّقوا سعدا لا تطئوه.

فقال عمر : اقتلوه قتله الله.

ثمّ قام على رأسه فقال : لقد هممت أن أطأك حتّى تندر (٢) عضوك. فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر فقال : والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة.

فقال أبو بكر : مهلا يا عمر ، الرفق هاهنا أبلغ. فأعرض عنه عمر.

فحمل سعد إلى بيته.

وأخرج أبو بكر من السقيفة ، وجاءت قبيلة أسلم فبايعت ، فانتصر بهم أبو بكر ، وأقبلت الجماعة تزفّه إلى مسجد رسول الله (ص). فصعد المنبر ، وشغلوا عن دفن رسول الله حتّى كان يوم الثلاثاء ، فجاءوا إلى المسجد ثانية فجلس أبو بكر على منبر رسول الله ووقف عمر وقال : إنّ قوله بالأمس لم يكن من كتاب الله ولا عهدا من رسوله ، ولكنّه كان يرى أنّ الرسول (ص) سيدبّر أمرهم ويكون آخرهم ، وإن الله أبقى فيهم القرآن يهتدون به ، وقد جمع

__________________

(٢) تندر عضوك : حتّى تسقط أعضاؤك.

٥٦١

أمركم على صاحب رسول الله ، قوموا فبايعوه ، فبايعه الناس عندئذ بعد بيعة السقيفة ، ثمّ خطب أبو بكر فقال : قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني ....

شغلوا عن رسول الله بقيّة الاثنين وليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء ، وصلّى المسلمون على رسول الله زمرا زمرا ، وخلّى أصحاب رسول الله (ص) بين جثمانه وأهله ، فولوا إجنانه (٣). ولم يشهد أبو بكر وعمر غسل الرسول (ص) وتكفينه ودفنه.

قالت عائشة : ما علمنا بدفن الرسول حتّى سمعنا صوت المساحي في جوف اللّيل.

وتخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار وبنو هاشم ومالوا مع عليّ بن أبي طالب.

فذهبوا إلى العباس ليستميلوه فجابههم بالردّ.

وتحصّن في دار فاطمة جماعة من بني هاشم وجمع من المهاجرين والأنصار ، فبعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة وقال له : إن أبوا فقاتلهم.

فأقبل بقبس نار على أن يضرم عليهم الدار ، فلقيتهم فاطمة فقالت : يا ابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟ قال : نعم ، أو تدخلوا في ما دخلت فيه الأمّة.

وإليه أشار أبو بكر في مرض موته حين قال :

(أمّا إنّي لا آسي على شيء في الدنيا إلّا على ثلاث فعلتهنّ وددت أنّي لم أفعلهن ... فوددت أنّي لم أكشف عن بيت فاطمة ولو أغلق على حرب ...).

__________________

(٣) تولوا دفنه.

٥٦٢

ثمّ إنّ عليّا حمل فاطمة ليلا إلى بيوت الأنصار يسألهم النصرة وتسألهم فاطمة الانتصار له ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو كان ابن عمّك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به ، فيقول عليّ : أفكنت أترك رسول الله (ص) في بيته لم أجهّزه وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه؟ وتقول فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسبهم.

وكان معاوية يعيّر أمير المؤمنين عليّا بهذا الموقف ويقول :

(وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر الصدّيق ، فلم تدع أحدا من أهل بدر والسوابق ألّا دعوتهم إلى نفسك ومشيت إليهم بامرأتك وأدللت إليهم بابنيك واستنصرتهم على صاحب رسول الله ... فلم يجبك منهم إلّا أربعة أو خمسة ... ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لمّا حرّكك وهيجك : لو وجدت أربعين ذوي عزم لناهضتهم).

وروى البخاري ما دار بين ابنة رسول الله (ص) وأبي بكر وقال :

فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتّى توفّيت بعد ستّة أشهر ، ودفنها زوجها ولم يؤذن بها أبا بكر ، وكان لعليّ من الناس وجه حياة فاطمة فلمّا توفيت انصرفت وجوه الناس عن عليّ فلم يبايع عليّ ستّة أشهر ولا أحد من بني هاشم حتّى بايعه عليّ ، فلمّا رأى عليّ انصراف وجوه الناس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر.

وقال البلاذري : ولم يخرج أحد إلى قتال العدوّ قبل أن يبايع عليّ.

وممّن تخلف عن بيعة أبي بكر : فروة بن عمرو ، وخالد وأبان وعمر بنو سعيد الأموي ، فلمّا بايع بنو هاشم بايعوا.

وسعد بن عبادة لم يبايع ، وأشار الأنصار أن يتركوه فإنّه لا يبايع حتّى

٥٦٣

يقتل وليس بمقتول حتّى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته ، فتركوه ، فقال له عمر في أوّل خلافته ، من كره جوار جار تحوّل عنه. فذهب إلى الشام ، فبعث عمر رجلا فقال له : أدعه إلى البيعة واحتل له ، فإن أبى فاستعن الله عليه ، فذهب الرجل إلى الشام ووجد سعدا بحوارين من قرى حلب فدعاه إلى البيعة فأبى فرماه بسهم فقتله.

بيعة عمر

لمّا حضر أبو بكر دعا عثمان خاليا فقال : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين ، أمّا بعد ـ فأغمي عليه ـ فكتب عثمان : فإنّي استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا ، ثمّ أفاق أبو بكر فقرأها عليه فأقرّها أبو بكر.

ثمّ جاء عمر مع الكتاب إلى مسجد الرسول (ص) وقال للنّاس : اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله (ص) إنّه يقول : إنّي لم آلكم نصحا.

وهكذا بايع الناس عمر.

الشورى وبيعة عثمان

لمّا طعن عمر قيل له : لو استخلفت. قال : لو كان سالم حيّا لاستخلفته ، ولو كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته ، ثمّ قال : لأجعلنّها شورى بين ستّة ، وعيّنهم من قريش ، وولى أبا طلحة زيد بن سهل الخزرجي على خمسين من الأنصار ، وأمر صهيبا أن يصلّي بالناس ثلاثة أيام ، فإذا انتهت الأيّام الثلاثة واتّفقوا على واحد فليضرب أبو طلحة عنق الّذي يخالف ، وإن اجتمع ثلاثة على رجل وثلاثة على رجل كانوا مع الّذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، وإن صفق عبد الرحمن بإحدى يديه على الأخرى ، عليهم أن يتّبعوه ومن أبى

٥٦٤

ضربوا عنقه ، فلمّا توفي الخليفة قال عبد الرحمن : إنّي أخرج نفسي منها وسعدا على أن أختار أحدكم فأجابوا إلّا عليّا فإنّه أبى من ذلك ولمّا أصرّوا عليه أن يقبل أحلف عبد الرحمن أن لا يميل إلى هوى وأن يؤثر الحقّ وأن لا يحابي ذا قرابة ، فحلف له ، فقال : اختر مسددا.

ثمّ اجتمعوا في مسجد الرسول فمدّ يده إلى عليّ وقال :

امدد يدك أبايعك على كتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الشيخين.

فقال : أسير فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه ما استطعت.

ثمّ مدّ يده إلى عثمان فوافق على ذلك.

ثمّ مدّ يده إلى عليّ فقال مثل مقالته الأولى ، فأجابه مثل الجواب الأول.

ثمّ قال لعثمان مثل المقالة الأولى ، فأجابه مثل ما كان أجابه ، ثمّ اتّجه إلى عليّ فقال له مثل المقالة الأولى.

فقال الإمام عليّ : إنّ كتاب الله وسنّة نبيّه لا يحتاج معهما إلى طريقة أحد. أنت مجتهد أن تزوي هذا الأمر عنّي.

فاتّجه عبد الرحمن إلى عثمان وأعاد عليه القول ، فأجابه مثل الجواب الأوّل ، فصفق على يده وبايعه ، فقال الإمام عليّ لعبد الرحمن : حبوته حبوة دهر ، ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، والله ما وليت عثمان إلا ليردّ الأمر إليك ، والله كلّ يوم في شأن.

وبايع أصحاب الشورى عثمان ، وكان عليّ قائما فخرج مغضبا ، فقال له عبد الرحمن : بايع وإلّا ضربت عنقك ، ولم يكن يومئذ سيف مع أحد ، ولحقه أصحاب الشورى فقالوا : بايع وإلا جاهدناك ، فأقبل معهم حتّى بايع عثمان.

٥٦٥

بيعة الإمام عليّ

لمّا قتل عثمان ورجع إلى المسلمين أمرهم وانحلوا من كل بيعة سابقة ، تهافتوا على الإمام عليّ ، اجتمع المهاجرون والأنصار فيهم طلحة والزبير فأتوا عليّا فقالوا : هلمّ نبايعك.

فقال : لا حاجة لي في أمركم أنا معكم ، فمن اخترتم فقد رضيت به.

فقالوا : والله ما نختار غيرك. فاختلفوا إليه مرارا ثمّ أتوه في آخر ذلك.

فقالوا : إنّه لا يصلح الناس إلّا بإمرة وقد طال الأمر ، لا والله ما نحن بفاعلين حتّى نبايعك.

قال : ففي المسجد فإنّ بيعتي لا تكون خفيا ولا تكون إلّا عن رضى المسلمين.

فاجتمعوا في المسجد يهرعون إليه ، وأول من صعد إليه فبايعه طلحة ثمّ تتابع المهاجرون والأنصار ثمّ سائر الناس فبايعوا عليّا (٤).

بعد هذا العرض ندرس في ما يأتي آراء المدرستين في أمر الإمامة والخلافة.

* * *

__________________

(٤) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ط. الأولى ١ / ٢٤٠ ـ ٢٤١ وط. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ٤ / ٨ ـ ٩.

٥٦٦

أقوال مدرسة الخلفاء في أمر الخلافة

أولا ـ الخليفة أبو بكر ، قال يوم السقيفة : لن يعرف هذا الأمر إلّا لهذا الحيّ من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقال : رضيت لكم عمر وأبا عبيدة فبايعوا أيّهما شئتم (١).

وفي رواية قال :

هم أولياؤه وعشيرته وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده ولا ينازعهم ذلك إلّا ظالم (٢).

ثانيا ـ قال عمر في السقيفة مخاطبا الأنصار :

(والله لا ترضى العرب أن يؤمّروكم ونبيّها من غيركم ، ولكنّ العرب لا تمتنع أن تولّي أمرها من كانت النبوّة فيهم وولي أمورهم منهم ، ولنا بذلك على من أبى الحجّة الظاهرة والسلطان المبين ، من ذا ينازعنا سلطان محمّد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته؟ إلّا مدلّ بباطل أو متجانف لإثم أو متورّط في هلكة) (٣).

__________________

(١) البخاري ، كتاب الحدود ، باب : رجم الحبلى ٤ / ١٢٠.

(٢) تاريخ الطبري ، ط. أوربا ١ / ١٨٤٠.

(٣) تاريخ الطبري ، ط. أوربا ١ / ١٨٤١.

٥٦٧

وقال في آخر شهر من عمره عند ما بلغه أنّ أحدهم يقول :

لو قد مات أمير المؤمنين بايعت فلانا.

فقال عمر :

(من بايع رجلا من المسلمين على غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الّذي بايعه تغرّة أن يقتلا) (٤).

وقال عند ما طعن وعيّن الستّة للشورى :

(لو أدركني أحد رجلين فجعلت هذا الأمر إليه لوثقت به : سالم مولى أبي حذيفة ، وأبو عبيدة الجراح) (٥).

وقال :

(لو كان سالم حيّا ما جعلتها شورى) (٦).

ثالثا ـ أتباع مدرسة الخلفاء قالوا :

تنعقد الإمامة بعهد الإمام من قبل ، لأنّ أبا بكر عهد بها لعمر ولم تتوقّف على رضا الصحابة ، وتنعقد أيضا باختيار أهل الحلّ والعقد ، واختلفوا في عددهم ، فمن قائل تنعقد ببيعة خمسة لأنّ الّذين بايعوا أبا بكر أيضا كانوا خمسة ، ولأنّ عمر جعلها في ستّة ليبايع خمسة منهم السادس.

وقال الأكثر منهم : تنعقد بواحد ، لأنّ العباس قال لعليّ : امدد يدك أبايع ، ولأنّه حكم ، وحكم حاكم واحد نافذ.

وقالوا :

(ومن غلب عليهم بالسيف حتّى صار خليفة وسمّي أمير المؤمنين فلا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما برّا كان أو فاجرا

__________________

(٤) البخاري ، باب رجم الحبلى ٤ / ١٢٠.

(٥) طبقات ابن سعد ط. بيروت ، دار صادر ، ٣ / ٣٤٣.

(٦) بترجمة سالم من الاستيعاب وأسد الغابة ٢ / ٢٤٦.

٥٦٨

فهو أمير المؤمنين) (٧).

ورووا أنّ رسول الله (ص) قال : «تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك».

وإنّ الخليفة لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك ، بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة بذلك.

كانت هذه آراء أتباع مدرسة الخلافة وينبغي لنا أن ندرس المصطلحات الّتي تدور في هذا البحث أولا ثمّ نناقش الآراء المذكورة.

تعريف المصطلحات

أوّلا ـ الشورى

التشاور والمشاورة في لغة العرب : استخراج الرأي بمراجعة البعض البعض الآخر ، وبهذا المعنى ورد في قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي يتشاورون في أمورهم فالكلمة ليست مصطلحا شرعيا.

ثانيا ـ البيعة

أ ـ البيعة في لغة العرب : الصفقة على إيجاب البيع ، وصفق يده وعلى يده بالبيعة والبيع : ضرب بيده على يده عند وجوب البيع ، وتصافقوا : تبايعوا.

وكانت العرب تعقد الحلف والعهد بأساليب مختلفة ، مثل أنّهم كانوا يضعون أيديهم في جفنة مملوءة طيبا ويتعاهدون على أمر ، أو في جفنة مملوءة دما.

ب ـ البيعة في الإسلام علامة على معاهدة المبايع المبايع له أن يبذل له

__________________

(٧) راجع قبله بحث الإمامة لدى مدرسة الخلافة.

٥٦٩

الطاعة في ما تقرر بينهما ويقال : بايعه عليه مبايعة أي : عاهده عليه ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ...) الفتح / ١٠.

وأوّل بيعة أخذها رسول الله من المسلمين في العقبة الأولى كانت على الإسلام.

والثانية : البيعة الثانية الكبرى أيضا بالعقبة بايعهم على الحرب لإقامة المجتمع الإسلامي.

وسمّيت البيعة الأولى بيعة النساء لأنّ البيعة كانت على الإسلام دون ما قتال.

والبيعة الثالثة : أخذها تحت الشجرة في الحديبيّة عند ما ندب الناس إلى العمرة ، فخرجوا محرمين للعمرة ، ولمّا صدّتهم قريش عن البيت وتهيّأت للقتال ، تبدّلت السفرة من العمرة إلى القتال وكانت الحالة الثانية مخالفة لما انتدبهم إليها فاقتضت الحالة أن يأخذ منهم البيعة على العمل الجديد وغير المعهود ، وفعل ذلك وأعطت البيعة ثمرها في إرعاب أهل مكّة.

وعلى ما ذكرنا قامت البيعة الأولى : على الإسلام دون ما قتال ، والثانية : على إقامة الدولة الإسلاميّة والقتال من أجلها ، والثالثة : البيعة على القتال في تلك السفرة. هذا ما كان في سيرة رسول الله (ص) من أمر البيعة. وورد في حديثه (ص) أنّه كان يأخذ البيعة على الطاعة في ما يستطيعون ولم يكن يبايع الغلام غير البالغ شرعا.

ويتّضح لنا من دراسة سيرة الرسول (ص) أنّ للبيعة ثلاثة أركان :

أ ـ المبايع.

ب ـ المبايع له.

٥٧٠

ج ـ المعاهدة على الطاعة.

وتقوم البيعة على تفهّم ما يطلب الطاعة بالقيام به ثمّ تنعقد المعاهدة بضرب المبايع على يد المبايع له ، والبيعة على هذا مصطلح شرعيّ وشروط تحقّق البيعة وفق الشرع الإسلامي. غير واضحة للكثير من المسلمين وهي :

أ ـ أن يكون المبايع ممّن تصحّ منه البيعة فلا تصحّ من صبيّ أو من مجنون لأنّهما غير مكلّفين شرعا ، وأن يكون مختارا لأنّ البيعة كالبيع لا ينعقد بأخذ المال من صاحبه قهرا ودفع الثمن له ، ولا تنعقد البيعة بأخذها بالجبر وبحدّ السيف.

ب ـ أن لا يكون المبايع له من المتجاهرين بالمعصية لأنّ الرسول (ص) قال : «لا طاعة لمن عصى الله تبارك وتعالى» (٨).

ج ـ لا تصحّ البيعة للقيام بما نهى الله عنه وخلافا لأوامره وأوامر الرسول (ص) لأنّ الرسول قال : «فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (٩)

ثالثا ورابعا ـ الخليفة وأمير المؤمنين

الخلافة في لغة العرب : النيابة عن الغير ، والخليفة : من يقوم مقام الغير ويسدّ مسدّه.

وبهذا المعنى ورد في القرآن الكريم مثل قوله تعالى في سورة الأعراف : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) (٦٩).

وفي حديث الرسول (ص) : «اللهم ارحم خلفائي» وقال في تعريف الخلفاء : «الّذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنّتي».

إذا فالخليفة في القرآن والحديث ليست اسما للّذي يحكم باسم النيابة عن رسول الله (ص) ، وكذلك كان الأمر إلى زمان الخليفة عمر حيث كان يقال

__________________

(٨) و (٩) راجع فصل المصطلحات ، خامسا : البيعة.

٥٧١

له : خليفة خليفة رسول الله ، ثمّ قيل له : أمير المؤمنين ، وبقي الأمر كذلك إلى عصر العباسيّين وعلى عهدهم كانوا يصفونهم بخليفة الله إلى جنب تسميتهم بأمير المؤمنين وفي عصر العثمانيّين سمّوا الحاكم الإسلامي الأعلى بالخليفة وبقيت هذه التسمية متداولة بين المسلمين حتّى اليوم.

إذا فإنّ لفظ الخليفة من مصطلحات المسلمين وليست مصطلحا شرعيّا وكذلك أمير المؤمنين.

خامسا ـ الإمام

الإمام في اللّغة : من يأتمّ به الناس ، وبهذا المعنى ورد في القرآن الكريم غير أنه قيّد الإمامة بشروط ذكرها في قوله تعالى لإبراهيم : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

إذا فالإمامة جعل من الله وعهد لا يناله من اتّصف بالظّلم سواء أكان ظالما لنفسه أو لغيره وبذلك أصبح (الإمام) مصطلحا شرعيّا وتسمية إسلاميّة.

سادسا ـ الأمر وأولو الأمر

إنّ الأمر استعمل في لغة العرب وعرف المسلمين والنصوص الإسلامية بمعنى الولاية على الناس والحكم.

أمّا أولو الأمر فيصحّ اعتباره مصطلحا إسلاميّا لوروده في القرآن بمعنى الولاية على الناس في قوله تعالى :

(أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) النساء / ٥٩.

وتختلف المدرستان في تشخيص أولي الأمر ووليّ الأمر بعد رسول الله (ص) ، فإنّ مدرسة أهل البيت ترى أنّ تعيين الإمام ووليّ الأمر بعد

٥٧٢

الرسول (ص) من الله ، يعيّن من يشاء ويبلّغ الرسول أمّته بذلك. وترى مدرسة الخلافة أنّه يتعيّن بالبيعة وبالاستيلاء على الحكم بالقهر والغلبة ، وبعد استيلائه على الحكم كيف ما كان تجب طاعته. ومن ثمّ أطاعوا الخليفة يزيد وقتلوا وسبوا ذريّة الرسول (ص) وأباحوا مدينة الرسول وقتلوا البقيّة من أصحابه والتابعين ورموا الكعبة بالمنجنيق ، وبعد كلّ تلكم الأفعال لا يزالون يسمّونه بأمير المؤمنين إلى عصرنا الحاضر.

سابعا ـ الوصيّ ووصيّ النبيّ

الوصيّ في الكتاب والسنّة : هو الإنسان الذي أوصى إليه غيره أن يقوم بعد وفاته بأمر يهمّه سواء في ذلك أن يقول الموصي لوصيّه : أوصيك أن تفعل كذا وكذا من بعدي ، أو يقول : أعهد إليك أن تفعل كذا وكذا من بعدي ، وكذلك الشأن في إخباره الآخرين بالوصيّة فإنّه سواء في ذلك أن يقول : فلان وصيّي من بعدي ، أو يقول : فلان يقوم بعدي بعمل كذا وكذا ، وما شابهها من الالفاظ الدالّة على الوصيّة. ووصيّ النبيّ : هو الإنسان الذي يعهد إليه النبيّ بأمر شريعته وأمته من بعده.

٥٧٣

مناقشة آراء مدرسة الخلفاء في أمر الخلافة والإمامة

أوّلا ـ الشورى

إن أوّل من ذكر الشورى لإقامة الخلافة هو الخليفة عمر بن الخطّاب ، ولم يستند في ذلك إلى دليل من الكتاب والسنّة بل اعتمد اجتهاده الخاصّ فمن اتّخذ سيرة الصحابة وأقوالهم في عداد كتاب الله وسنّة رسوله من مصادر الشريعة الإسلاميّة فله أن يتّخذ من السنّة العمرية هذه سندا لهذا الحكم في إقامة الخلافة. على أنّ سنّته هذه مخالفة لسنّته وسنّة الخليفة الأوّل أبي بكر في إقامة حكم الخليفة الأوّل أبي بكر فإنّها كانت فلتة حسب تعبير الخليفة عمر وتقييمه لها وكذلك مخالفة ـ أيضا ـ لسنّتهما في إقامة حكم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فإنّ الخليفة الأوّل ولى الخليفة عمر على المسلمين من بعده ، وكلاهما لم يستشيرا المسلمين في كلام المقامين ، ومخالفة ـ أيضا ـ لقول الخليفة عمر : لو كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا لاستخلفته ، فإنّ هذا القول يخالف الالتزام بالشورى!

وعلى فرض صحّة إقامة الخلافة على أساس الشورى العمريّة ، فكيف ينبغي أن تكون الشورى ؛ وكم ينبغي أن يكون عدد المتشاورين؟ في الأغلب قالوا ينحصر عدد المتشاورين في ستّة ، يبايع خمسة منهم السادس ، أضف إلى ما سبق السؤال عن المسوّغ لإعطاء عبد الرحمن بن عوف خاصّة حقّ اتّخاذ

٥٧٤

القرار النهائيّ من دون الآخرين في تلك الشورى. ثمّ ما المسوغ لقتل من خالف قرار عبد الرحمن ورأيه؟ ثمّ من الّذي كان يخشى منه المخالفة لرأي عبد الرحمن من دون الآخرين؟ وأخيرا هل اتّبعت مدرسة الخلافة الشورى العمرية مرّة واحدة وأقامت الخلافة كذلك لواحد من الخلفاء طوال القرون؟

هذه أسئلة تتوارد على الشورى العمرية.

أمّا ما استدلّ به أتباع مدرسة الخلفاء في هذا الصدد ، فما كان من استدلالهم بالآية الكريمة : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) فإنّه لا يستفاد منها أكثر من رجحان التشاور بين المؤمنين في أمورهم ، فإنّه سبحانه وتعالى لو أراد الوجوب في هذا الأمر لقال : كتب الله على المؤمنين أو قال : فرض عليهم ، إلى ما شابههما من الألفاظ الدالّة على وجوب الفعل على المؤمنين.

وما كان من استدلالهم بآية (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) فقد أوضحنا في ما سبق بأنّ الآية في مقام توجيه الرسول (ص) أن يدعو المسلمين إلى القتال بأسلوب المشاورة ؛ وليس بأسلوب الملوك الجبابرة الّذين يلقون أوامرهم إلى الناس بقولهم مثلا : أصدرنا أمرنا الملكيّ بكذا. وقد صرّح الجليل سبحانه بعد هذه الجملة بأنّ رأي المسلمين ليس ملزما لرسول الله (ص) حيث قال : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ) ، إذا فالقيام بالعمل يكون على أساس عزم الرسول (ص) وليس على ما يرتئيه المؤمنون ، ويوضح ذلك بجلاء الأمثلة الّتي ذكرناها من مشاورة الرسول المسلمين في موارد كانت عاقبة الأمر معلومة لرسول الله مسبقا مثل مشاورته إيّاهم للقتال في غزوة بدر.

ثمّ إنّ مشاوراته (ص) كانت في مقام استجلاء رأي المسلمين في كيفيّة تنفيذ الأحكام الإسلاميّة وليست في مقام استنباط الحكم الشرعيّ بالتشاور ، أضف إلى كلّ ذلك أنّ الله تعالى قال : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ

٥٧٥

ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) الأحزاب / ٣٦.

إذا فإنّ رجحان المشاورة ينحصر بمورد لم يقض الله ورسوله (ص) فيه أمرا وفي ما قضى الله ورسوله (ص) فيه أمرا ، تكون المشاورة معصية لله ورسوله (ص) وضلالا مبينا.

ثانيا ـ البيعة

عرفنا ممّا سبق : أنّ البيعة لا تنعقد للقيام بمعصية الخالق ولا لمتجاهر بمعصية الخالق ولا بالإكراه وحدّ السيف.

أمّا أصحاب مدرسة الخلافة فإنّهم قالوا : تنعقد الخلافة ببيعة خمسة وقال بعضهم : تنعقد ببيعة واحد وحضور شاهدين ، واستدلّوا بعمل الصحابة.

ثالثا ـ عمل الصحابة

يصحّ الاستدلال بعمل الصّحابة في ما إذا اعتقدنا أنّ سيرة الصّحابة مثل كتاب الله وسنّة رسوله مصدر للتشريع الإسلامي ، ثمّ إنّ عمل الصحابة يخالف بعضه البعض الآخر كما رأينا في ما سبق ، ومن ثمّ وقع الخلاف في آراء أتباع مدرسة الخلافة كما شاهدنا في ما سبق. وعلى هذا بعمل أيّ من الصّحابة نقتدي وقول من منهم ومن الأتباع نأخذ!؟

الاستدلال بكلام الإمام عليّ

أمّا ما استدلّوا به من كلام للإمام عليّ ، فإنّه كان في مقام الاحتجاج على معاوية وجماعته بما التزموا به. على أنّ إجماع الصّحابة بما فيهم الإمام عليّ وسبطا الرسول (ص) الحسن والحسين حجّة. وهذا هو مفهوم كلام الإمام المذكور.

٥٧٦

وجوب طاعة الحاكم وعدم عزله بالفسق وإعلان المعصية :

قالوا : لا ينعزل الحاكم الّذي سمّوه بالإمام بالفسق والفجور وإعلان المعصية.

وقالوا : على المسلم السمع والطاعة للإمام الفاسق وإن ضرب ظهره وأخذ ماله ، ولا يجوز الخروج عليه.

وقالوا : إنّ يزيد بن معاوية المتجاهر بالفسق والفجور بالبيعة أصبح أمير المؤمنين ، ونتيجة لاعتقادهم بصحّة بيعته استطاع أن يجهّز جيشا من المعتقدين بصحّة بيعته ويقتل بهم ذريّة الرسول بكربلاء ويسبيهم ويسير بهم أسرى من كربلاء إلى عاصمة ملكه الشام.

وبنتيجة تلك البيعة استطاع أن يجهّز جيشا آخر من المعتقدين بصحّة بيعته ويغزو بهم مدينة الرسول (ص) ويبيحها لجيشه ثلاثة أيّام ، فقتلوا جمعا من أصحاب الرسول (ص) وتابعيهم ، وأخذوا البيعة من الآخرين على أنّهم عبيد أقنان ليزيد ، وهتكوا أعراضهم وفعلوا ما شاءوا من جرائم لم يشهد المسلمون نظيرها في تاريخهم الطويل ، ثمّ غزا بهم مكّة فضربوا بيت الله الحرام والكعبة بالمنجنيق. وبعد كلّ تلك الجرائم يلقّبونه بأمير المؤمنين حتّى اليوم ويكتبون في مدحه الكتب وينشرون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

٥٧٧

الإمامة لدى مدرسة أهل البيت (ع)

كانت تلكم آراء مدرسة الخلفاء في الإمامة والخلافة وأدلّتهم. أمّا مدرسة أهل البيت فإنّها تستدلّ بخطاب الله لإبراهيم وقوله له : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وجواب الله لطلب إبراهيم حين قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) على أنّ الإمامة عهد من الله لا يناله الظالم لنفسه أو لغيره. وتستدلّ بقوله تعالى في حقّ أهل البيت : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) على عصمة أهل البيت محمّد وأهل بيته ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ من الذنوب ، وكذلك تستشهد بسيرة أهل البيت ، حيث لم يسجل منهم في التاريخ أمر مخالف للعصمة.

أمّا الأدلّة على إمامتهم فإنّنا إذا درسنا سيرة الرسول في أمر تعيين وليّ الأمر من بعده نجد أنّه لم يغب عن بال الرسول (ص) ومن حوله أمر الإمامة من بعده ، فإنّ بعضهم طلب من الرسول أن يكون لهم الأمر من بعده فأجابه الرسول : «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء» وأخذ منهم البيعة في إقامة المجتمع الإسلامي «أن لا ينازعوا الأمر أهله» وعيّن الإمام عليّا في أوّل يوم دعا إلى الإسلام وزيرا له وخليفة من بعده ، وشاهدناه ـ أيضا ـ يستخلف على المدينة كلّما غاب عنها لأمر ما وإن كانت المسافة ميلا أو أقلّ من ذلك.

٥٧٨

وكذلك لم يترك أمّته هملا أبد الدهر ، وفعل (ص) كما فعل الرسل من قبله في تعيينهم الأوصياء من بعدهم وإخبارهم أممهم بذلك ، وعيّن وصيّه ووليّ الأمر من بعده في أماكن مختلفة وأزمنة متعددة بأقوال تواترت عنه مثل قوله (ص) لسلمان عند ما سأله عن وصيّه من بعده :

«إنّ وصيّي وموضع سرّي .... عليّ بن أبي طالب (ع)» إلى غير هذا من أحاديث النبيّ (ص) التي نصّ فيها (ص) على أنّ عليّا وليّ الأمر من بعده ، ولذلك اشتهر الإمام عليّ بلقب الوصيّ مدى القرون ، وورد ذكره في أشعار الشعراء وأقوال الخطباء واحتجاجات المناظرين صحابة وتابعين وعلماء وخلفاء وأمراء ، كما مرّ بنا أمثلة منها.

ولمّا كان اشتهار الإمام بأنّه وصيّ خاتم الأنبياء يخالف سياسة الخلفاء واتّجاه مدرستهم ، بالغوا جيلا بعد جيل في كتمان أحاديث الرسول (ص) الّتي نصّ فيها على أنّ عليّا (ع) وصيّه سواء كان التعيين بلفظ الوصيّ أو بألفاظ أخرى مثل الوليّ وأولي الأمر. وقد أوردنا عشرة أمثلة من أنواع كتمانهم في ما سبق مثل حذفهم بعض الحديث وتبديله بكلمة مبهمة ، كما فعلوا مع نصّ «وصيّي وخليفتي فيكم» الّذي ورد في سنّة الرسول (ص) فإنّهم حذفوه وأبدلوه بقولهم : (وكذا وكذا).

وتأويلهم بعض النصوص من سنّة الرسول في هذا الشأن.

ومثل نهيهم عن كتابة سنّة الرسول.

وقتلهم من خالفهم في ذلك مثل قتل النسائي أحد أصحاب الصحاح الستّة الّذي كتب (خصائص الإمام عليّ).

ولم يقتصر نهيهم عن نشر الحقائق بالنصوص الواردة في حقّ الأئمة الاثني عشر ، بل شمل النهي كلّما يخالف مصلحة السلطة الحاكمة ، فقد قال رسول الخليفة يزيد لعبد الله بن الزّبير ، عند ما خلع يزيد وقد اجتمعوا في بيت

٥٧٩

الله بمكّة :

يا ابن الزبير ، أتصعد المنبر وتتكلم في أمير المؤمنين بكلّ قبيح ثمّ تشبه نفسك بحمام مكة!؟ ثمّ قال : يا غلام! ائتني بقوسي وسهمي. قال : فأتي بقوسه وسهامه ، فأخذ سهما فوضعه في كبد قوس ثمّ سدّده نحو حمام مكّة.

وقال : يا حمامة ، أيشرب أمير المؤمنين؟ قولي : نعم! أما والله لو قلت : نعم ، لمّا أخطأك سهمي هذا. يا حمامة : أيلعب أمير المؤمنين بالقرود والفهود ويفسق في الدين؟ قولي : نعم! أما والله لئن قلت : نعم لا أخطأك سهمي هذا ... (١).

وفي شأن وصيّ الرسول (ص) خاصّة بالغوا في قلب الحقائق إلى حدّ أنّهم لعنوه في خطب صلاة الجمعة زهاء تسعين عاما في جميع بلاد المسلمين عدا سجستان (سيستان) ، ومع كل ذلك الحجر والشدّة المتناهية فيه ـ إلى حدّ قتل من روى عن الرسول (ص) في فضله حديثا ـ مع كل ذلك انتشر شيء ممّا يضرّ بمصلحة الخلفاء في بعض كتب الحديث والتفسير والسيرة وما شابهها فعالج ذلك أتباع مدرستهم بإحراق مكتبات كان فيها مئات الألوف من الكتب بخطوط مؤلّفيها (٢) لما فيها من شيء يضرّ مصلحة الخلفاء ، وبعد كلّ تلك الشدّة في منع نشر الحقائق بقي في سنّة الرسول (ص) الّتي بأيدينا من طرق مدرسة الخلفاء النصوص الآتية في أئمّة أهل البيت. مثل قوله (ص) :

«عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي».

وفي غدير خم لمّا أمره الله أن يعيّن وليّ الأمر من بعده ونزلت آية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) صعد منبرا من أحداج الإبل ورفع عليّا.

__________________

(١) تمام الخبر مع ذكر مصادره في ذكر خبر (ثورة أهل الحرمين) في ما يأتي من الجزء الثالث من هذا الكتاب.

(٢) راجع قبله بحث (إحراق الكتب والمكتبات).

٥٨٠