معالم المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

فقال الربّ لموسى : خذ يشوع بن نون رجلا فيه روح وضع يدك عليه وأوقفه قدّام كلّ الجماعة وأوصه أمام أعينهم واجعل من هيبتك عليه لكي يسمع له كلّ جماعة بني إسرائيل حسب قوله يدخلون وحسب قوله يخرجون. ففعل موسى ما أمره الربّ ، أخذ يشوع وأوقفه قدّام كلّ الجماعة ووضع يديه عليه وأوصاه كما تكلّم الربّ ....

ورأينا في القرآن الكريم بعد ما أوحى الله إلى خاتم أنبيائه (ص) في شأن الإمام عليّ ما أوحى ، رأيناه يقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ورأينا النبيّ (ص) بعد ذلك يأمر بالحجيج أن يجتمعوا في غدير خم ، يرجع إليه من تقدم عليه ويلتحق به من تأخّر عنه ، ثمّ يوقف الإمام عليّا ويرفعه أمام كلّ الجماعة وهم ينوفون على سبعين ألف ويخاطب الجمع ويقول لهم :

«ألستم تشهدون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» ولما قال الجمع : اللهم بلى ، جعل الرسول من هيبته هذا على الإمام عليّ وقال :

«من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ...»

* * *

كان ما أوردناه بعض النصوص الواردة في السنّة النبويّة في تعيين إمام الأمّة وولي الأمر من بعده. ونذكر في ما يأتي بعض ما ورد في كتاب الله في هذا الصدد.

٥٠١

الولاية وأولو الأمر في القرآن الكريم

أ ـ ولاية عليّ في القرآن الكريم

نصّت الأحاديث السابقة على ولاية الإمام عليّ على المؤمنين بعد رسول الله (ص) وهذا بعينه ما عنته الآية الكريمة : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) المائدة / ٥٥.

ويؤيد ذلك الروايات الآتية :

في تفسير الطبري ، وأسباب النزول للواحدي وشواهد التنزيل للحاكم الحسكاني وأنساب الأشراف للبلاذري وغيرها (١) :

عن ابن عباس وأبي ذرّ وأنس بن مالك والإمام عليّ وغيرهم ما خلاصته :

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ١٨٦. وأسباب النزول للواحدي ص ١٣٣ ـ ١٣٤ ، وفي شواهد التنزيل ١ / ١٦١ ـ ١٦٤ خمس روايات عن ابن عباس وفي ص ١٦٥ ـ ١٦٦ روايتان عن أنس بن مالك ، وستّ روايات أخرى في ص ١٦٧ ـ ١٦٩. وأنساب الأشراف للبلاذري ح ١٥١ من ترجمة الإمام ١ / الورقة ٢٢٥. وغرائب القرآن للنيسابوري بهامش الطبري ٦ / ١٦٧ ـ ١٦٨. وأخرج السيوطي كثيرا من رواياتها في تفسيره ٢ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ، وقال في لباب النقول في أسباب النزول ص ٩٠ ـ ٩١ بعد إيراد الروايات : (فهذه شواهد يقوّي بعضها بعضا).

٥٠٢

(إنّ فقيرا من فقراء المسلمين دخل مسجد الرسول (ص) وسأل ، وكان عليّ راكعا في صلاة غير فريضة (٢) ، فأوجع قلب عليّ كلام السائل ، فأومأ بيده اليمنى إلى خلف ظهره ، وكان في إصبعه خاتم عقيق يماني أحمر يلبسه في الصلاة ، وأشار إلى السائل بنزعه ، فنزعه ودعا له ومضى فما خرج أحد من المسجد حتّى نزل جبرئيل (ع) بقول الله عزوجل : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ...) الآية (٣) ، فأنشأ حسّان بن ثابت يقول أبياتا منها قوله :

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي

وكلّ بطيء في الهدى ومسارع

فأنت الّذي أعطيت إذ أنت راكع

فدتك نفوس القوم يا خير راكع

فأنزل فيك الله خير ولاية

فأثبتها في محكمات الشرائع (٤)

إيراد على دلالة الآية

أورد بعضهم على مفاد الروايات السابقة أنّ لفظ الآية : (الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) جمع ، فكيف يعبر بلفظ الجمع ويراد به الواحد وهو الإمام عليّ (ع)؟

قال المؤلف : توهّم من قال ذلك ، فإنّ الّذي لا يجوز إنّما هو استعمال اللّفظ المفرد وإرادة الجمع منه ، أمّا العكس فجائز وشائع في المحاورات ، وقد ورد نظائره في موارد متعدّدة في القرآن الكريم ، مثل التعابير الّتي وردت في سورة المنافقين :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ

__________________

(٢) يستفاد ذلك من رواية أنس حيث قال : خرج النبيّ إلى صلاة الظهر فإذا هو بعلي يركع. ونظيرها رواية ابن عباس ، وكلتاهما في شواهد التنزيل ١ / ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٣) إلى هنا أوردنا ملخّصه من شواهد التنزيل.

(٤) نقلا عن كفاية الطالب الباب ٦١ ص ٢٢٨ ، وبقية مصادر الحديث في تاريخ ابن كثير ٧ / ٣٥٧.

٥٠٣

لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) إلى قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) إلى قوله : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) المنافقون / ١ ـ ٨.

قال الطبري في تفسير السورة :

إنّما عني بهذه الآيات كلّها عبد الله بن أبي سلول ... وأنزل الله فيه هذه السورة من أوّلها إلى آخرها ، وبالنحو الّذي قلنا ، قال أهل التأويل وجاءت الأخبار (٥).

وروى السيوطي بتفسير الآيات عن ابن عباس انّه قال :

وكلّ شيء أنزله في المنافقين ـ في هذه السورة ـ فإنما أراد عبد الله بن أبي (٦).

وموجز القصة كما نقلها أهل السير وورد في التفاسير :

(انّ أجير عمر بن الخطاب ، جهجاه الغفاري ، ازدحم بعد غزوة بني المصطلق مع سنان الجهني حليف بني الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار! وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين! فغضب عبد الله بن أبيّ ومعه رهط من قومه وفيهم زيد بن أرقم ، غلام حديث السنّ فقال : أقد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما اعدّنا وجلابيب قريش هذه إلّا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، ثمّ أقبل على من حضره من قومه ، فقال : هذا

__________________

(٥) تفسير الطبري ٢٨ / ٢٧٠.

(٦) تفسير السيوطي ٦ / ٢٢٣.

٥٠٤

ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم ، فسمع ذلك زيد بن أرقم ومشى به إلى رسول الله وأخبره وعنده عمر بن الخطاب (٧).

فقال عمر بن الخطاب : دعني أضرب عنقه يا رسول الله. فقال : إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب. قال عمر : فإن كرهت يا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين ، فمر به سعد بن معاذ ومحمد بن مسلمة فيقتلانه. فقال : إنّي أكره أن يتحدث الناس أنّ محمدا يقتل أصحابه (٨).

فذهب عبد الله إلى رسول الله ، وحلف أنّه لم يكن شيء من ذلك ، فلام الأنصار زيدا على قوله. وقالوا لعبد الله : لو رأيت رسول الله يستغفر لك. فلوّى رأسه وقال : أمرتموني أن أومن فآمنت ، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فأعطيت ، فما بقي لي إلّا أن أسجد لمحمّد ، فنزلت السورة فيه وهو المقصود بقوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) (٩).

وهو المقصود من قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ ...)) (١٠).

* * *

في هذه السورة عبّر الله عن عبد الله بن أبيّ القائل الواحد ، بقوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ) وبقوله عزّ اسمه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ). القائل والفاعل واحد كما أجمع على ذلك المفسّرون ، وأطبقت الروايات على ذلك ، وإنّما أوردنا هذا على سبيل المثال

__________________

(٧) تفسير الطبري ٢٨ / ٧٥.

(٨) تفسير الطبري ٢٨ / ٧٤.

(٩) لخّصنا روايات متعددة وردت في تفسير الطبري ٢٨ / ٧١ فما بعدها ، وتفسير السيوطي ٦ / ٢٢٢ فما بعدها إلى غير ذلك ممّا ورد في التفاسير والسير.

٥٠٥

وإلّا فنظائرها متعدّدة في القرآن الكريم مثل قوله تعالى :

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) التوبة / ٦١.

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ...) آل عمران / ١٧٣.

(يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ...) آل عمران / ١٥٤.

هذه إلى غيرها ممّا عبّر فيها بلفظ الجمع وأريد بها الواحد ، تعدّد نظائرها في القرآن الكريم.

ب ـ أولو الأمر : عليّ والأئمة من ولده

أثبتت الروايات المتظافرة المتواترة السابقة أنّ عليّا هو مولى المؤمنين ووليّ أمرهم بعد رسول الله (ص) ، كما أنّها تفسّر المراد من أولي الأمر في الآية الكريمة :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) النساء / ٥٩.

ودلّت على ذلك أيضا الأحاديث الآتية :

أ ـ في شواهد التنزيل عن علي أنّه سأل رسول الله عن الآية وقال : يا نبي الله من هم؟ قال : أنت أوّلهم.

ب ـ وعن مجاهد : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

قال : علي بن أبي طالب ولّاه الله الأمر بعد محمّد في حياته حين خلّفه رسول الله بالمدينة فأمر الله العباد بطاعته وترك الخلاف عليه.

ج ـ وعن أبي بصير ، عن أبي جعفر :

أنّه سأله عن قوله الله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ

٥٠٦

مِنْكُمْ).

قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب.

قلت : إنّ الناس يقولون : فما منعه أن يسمّي عليّا وأهل بيته في كتابه فقال أبو جعفر :

قولوا لهم ؛ إنّ الله أنزل على رسوله الصلاة ولم يسمّ ثلاثا ولا أربعا حتّى كان رسول الله هو الّذي يفسّر ذلك ، وأنزل الحجّ فلم ينزل طوفوا أسبوعا حتّى فسّر لهم ذلك رسول الله ، وأنزل : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فنزلت في عليّ والحسن والحسين وقال رسول الله (ص) أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي إنّي سألت الله أن لا يفرق بينهما حتّى يردا عليّ الحوض ، فأعطاني ذلك (١٠).

ج ـ قول النبيّ (ص) : مثل أهل بيتي كسفينة نوح (ع)

ومثل باب (حطّة) في بني إسرائيل

روى من الصحابة وأهل البيت كلّ من الإمام علي وأبي ذرّ وأبي سعيد الخدري وابن عباس وأنس بن مالك :

أنّ رسول الله (ص) قال :

«مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق».

وفي ألفاظ بعضهم :

«ومثل باب حطّة في بني إسرائيل».

المصادر :

ذخائر العقبى للمحبّ الطبري ص : ٢٠.

__________________

(١٠) الأحاديث : أ ، ب ، ج وردت متواليات في شواهد التنزيل ١ / ١٤٨ ـ ١٥٠.

٥٠٧

مستدرك الحاكم ٢ / ٣٤٣ ، و ٣ / ١٥٠.

حلية الأولياء لأبي نعيم ٤ / ٣٠٦.

تاريخ بغداد للخطيب ١٢ / ١٩.

مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١٦٨.

الدر المنثور للسيوطي بتفسير الآية : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) البقرة / ٥٨.

وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي ص : ٢٧٠ بترجمة المنصور : عن المأمون عن الرشيد عن المهدي عن المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس عن النبيّ (ص) :

«مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك».

كنز العمّال ، ط. الأولى ٦ / ١٥٣ و ٢١٦.

الصواعق لابن حجر ص : ٧٥ ، رواها عن الدار قطني والطبراني وابن جرير وأحمد بن حنبل وغيرهم.

كلّ ما ذكرناه في ما سبق نصوص من الكتاب والسنّة تدلّ على تعيين الله ورسوله (ص) وليّ الأمر بعد الرسول (ص). وفي ما يأتي نصوص أخرى بألفاظ أخرى كما ترد في البحوث الآتية.

٥٠٨

الأئمة : علي وبنوه عليهم‌السلام

مبلّغون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

حصر القرآن الكريم في عدّة آيات وظيفة الرسل في التبليغ مثل قوله تعالى :

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) المائدة / ٩٩.

وقوله : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) النور / ٥٤ ، والعنكبوت / ١٨.

وقوله : (أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) المائدة / ٩٢ ، والتغابن / ١٢.

وقوله : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) النحل / ٣٥.

وحصر كذلك وظيفة خاتم الرسل خاصّة في التبليغ بقوله تعالى :

(فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) آل عمران / ٢٠ ، والنحل / ٣٥ ، والرعد / ١٣.

وقوله : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) الشورى / ٤٨.

وينقسم التبليغ إلى تبليغ مباشر وتبليغ بواسطة ، وإلى تبليغ ما حان وقت عمله وما لم يحن ، مثل حكم الطائفتين المتقاتلتين من المؤمنين وواجب المسلمين تجاه الحاكم الجائر ، وينقسم ما يبلّغه الرسول إلى قسمين :

أ ـ ما أوحي إلى الرسول لفظه ومعناه وهو كتاب الله ويسمّى في هذه

٥٠٩

الأمّة بالقرآن الكريم.

قال سبحانه : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) الأنعام / ١٩.

ب ـ ما أوحي إلى الرسول معناه دون لفظه. وبلّغه الرسول بلفظه الشريف ، مثل تبليغه تفصيل أحكام الشرع.

وقال الله سبحانه : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) الشورى / ١٣.

إنّ الرسول (ص) عند ما يعيّن عدد ركعات الصلاة وأذكارها ، ويبيّن سائر أحكامها وسائر أحكام الشرع الإسلاميّ ، أو يبلّغ أنباء الأمم السابقة والغيوب الآتية في هذه الدنيا أو العالم الآخر ، إنّما يبلّغ ما أوحي إليه في غير القرآن الكريم (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ويسمّى هذا النوع من التبليغ في هذه الأمّة بالحديث النبويّ الشريف.

* * *

حصرت الآيات السابقة وظيفة الرسول بالتبليغ ، وعلى هذا فإنّ الصفة المميّزة للرسول هي التبليغ ، وإذا قال الرسول عن شخص : «إنّه منّي» يعني إنّه منه في أمر التبليغ ولا نقول هذا اعتباطا ، بل قد وجدنا الرسول يصرّح بذلك في قسم من تلك الأحاديث ، مثل ما ورد في قصّة تبليغ آيات البراءة التالية :

قصّة تبليغ آيات البراءة

وردت قصّة تبليغ سورة البراءة في صحيح الترمذي وتفسير الطبري وخصائص النسائي ومستدرك الصحيحين وغيرها ، عن أنس وابن عباس

٥١٠

وسعد بن أبي وقّاص وعبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري وعمر بن ميمون وعليّ بن أبي طالب (١) ، وأبي بكر. ونختار هنا ذكر موجز رواية الامام عليّ الواردة في مسند أحمد ، قال :

دعا النبيّ أبا بكر فبعثه ببراءة لأهل مكّة ، لا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلّا نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول الله (ص) مدّة فأجله إلى مدّته ، والله بريء من المشركين ورسوله.

قال : فسار بها ثلاثا ثمّ قال لعليّ : «الحقه فردّ عليّ أبا بكر وبلّغها أنت».

قال : ففعل. فلمّا قدم على النبيّ (ص) أبو بكر بكى وقال : يا رسول الله حدث فيّ شيء؟

قال : «ما حدث فيك إلّا خير ، ولكنّي أمرت أن لا يبلّغه إلّا أنا أو رجل منّي»(٢).

وفي رواية عبد الله بن عمر :

«ولكن قيل لي : أنّه لا يبلّغ عنك إلّا أنت أو رجل منك» (٣).

وفي رواية أبي سعيد الخدري :

«لا يبلّغ عنّي غيري أو رجل منّي» (٤).

__________________

(١) سنن الترمذي ١٣ / ١٦٤ ـ ١٦٥. ومسند احمد ١ / ١٥١ ، و ٣ / ٢٨٣ ، وراجع ١ / ١٥٠. وخصائص النسائي ص ٢٨ ـ ٢٩. وتفسير الطبري ١٠ / ٤٦. ومستدرك الصحيحين ٣ / ٥١ و ٥٢. ومجمع الزوائد ٧ / ٢٩ ، و ٩ / ١١٩.

(٢) مسند أحمد ١ / ٣ ، ح ٤ من مسند أبي بكر وقال أحمد شاكر : (اسناده صحيح). وراجع كنز العمال وذخائر العقبى.

(٣) في مستدرك الصحيحين ٣ / ٥١.

(٤) في الدرّ المنثور بتفسير : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ).

٥١١

تدلّنا القرائن الحالية والمقالية في المقام ، أنّ القصد من التبليغ في هذه الروايات وما شابهها تبليغ ما أوحى الله إلى رسوله من أحكام إلى المكلّفين بها في بادئ الأمر ، وهذا ما لا يقوم به إلّا الرسول أو رجل من الرسول.

ويقابل هذا التبليغ التبليغ الّذي يقوم به المكلّفون بتلك الأحكام بعد ما بلّغوا بها بواسطة الرسول أو رجل من الرسول ، فإنّ لهم عند ذاك أن يقوموا بتبليغها إلى غيرهم ، ويطّرد جواز هذا التبليغ ورجحانه ويتسلسل مع كلّ من بلغه الحكم إلى أبد الدهر.

وواضح أنّ الرسول (ص) عنى بقوله : «لا يبلّغ عنّي غيري أو رجل منّي» التبليغ من النوع الأوّل.

ويفسّر أيضا لفظ «منّي» في أحاديث الرسول (ص) حديث المنزلة الآتي :

عليّ من النبيّ (ص) بمنزلة هارون من موسى

في صحيح البخاري ، ومسلم ، ومسند الطيالسي ، وأحمد ، وسنن الترمذي ، وابن ماجة وغيرها (٥) واللفظ للأوّل : انّ رسول الله (ص) قال لعليّ :

«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس نبيّ بعدي».

ولفظ مسلم وغيره :

__________________

(٥) صحيح البخاري ٢ / ٢٠٠ باب مناقب علي بن أبي طالب. وصحيح مسلم ٧ / ١٢٠ باب من فضائل علي بن أبي طالب. والترمذي ١٣ / ١٧١ باب مناقب علي. والطيالسي ١ / ٢٨ و ٢٩ وح ٢٠٥ و ٢٠٩ و ٢١٣. وابن ماجة باب فضل علي بن أبي طالب ح ١١٥. ومسند أحمد ١ / ١٧٠ و ١٧٣ ـ ١٧٥ و ١٧٧ و ١٧٩ و ١٨٢ و ١٨٤ و ١٨٥ و ٣٣٠ ، و ٣ / ٣٢ و ٣٣٨ ، و ٦ / ٣٦٩ و ٤٣٨. ومستدرك الحاكم ٢ / ٣٣٧. وطبقات ابن سعد ٣ / ١ / ١٤ و ١٥. ومجمع الزوائد ٩ / ١٠٩ ـ ١١١. ومصادر أخرى كثيرة.

٥١٢

«إلّا أنّه لا نبيّ بعدي».

وفي رواية ابن سعد في الطبقات عن البرّاء بن عازب وزيد بن أرقم قالا :

لمّا كان عند غزوة جيش العسرة وهي تبوك قال رسول الله (ص) لعلي بن أبي طالب : إنّه لا بدّ من أن أقيم أو تقيم ، فخلّفه ، فلمّا فصل رسول الله (ص) غازيا قال ناس : ما خلّف عليّا إلّا لشيء كرهه منه فبلغ ذلك عليّا فاتبع رسول الله (ص) حتّى انتهى إليه فقال له : ما جاء بك يا عليّ؟ قال : لا يا رسول الله إلّا أنّي سمعت ناسا يزعمون أنّك إنّما خلّفتني لشيء كرهته منّي ، فتضاحك رسول الله (ص) ، وقال : يا عليّ ، أما ترضى أن تكون منّي كهارون من موسى غير أنّك لست بنبيّ؟ قال : بلى يا رسول الله ، قال : فإنّه كذلك (٦).

وقد مرّ بعض ألفاظ الحديث في باب من استخلفه النبيّ (ص) على المدينة في غزواته.

المراد من لفظ «منّي» في أحاديث الرّسول (ص):

إنّ لفظ «منّي» في حديث «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» يوضّح المراد من هذا اللفظ في أحاديث الرسول (ص) الأخرى ، وذلك أنّ هارون لمّا كان شريك موسى في النبوّة ووزيره في التبليغ ، وكان عليّ من خاتم الأنبياء بمنزلة هارون من موسى باستثناء النبوّة ، يبقى لعليّ الوزارة في التبليغ.

وكذلك بيّن الرسول (ص) المراد من لفظ «منّي» في حديثه يوم عرفات في حجّة الوداع حيث قال :

__________________

(٦) طبقات ابن سعد ٣ / ق ١ / ١٥. ومجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١١١ باختلاف يسير.

٥١٣

«عليّ منّي وأنا من عليّ. لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ» (٧) ، وعلى هذا فإنّ الرسول (ص) فسّر لفظ «منّي» في هذه الأحاديث بكلّ وضوح وجلاء ، وصرّح (ص) أنّ القصد منه ؛ أنّه منه في مقام التبليغ عن الله إلى المكلّفين بلا واسطة. ومن ثمّ يتّضح معنى «منّي» في أحاديث أخرى للرسول (ص) في حقّ الإمام عليّ والّذي ورد فيها غير مفسّرة.

مثل ما ورد في رواية بريدة في خبر الشكوى أنّ الرسول (ص) قال له : «لا تقع في علي فإنّه منّي و...» (٨).

ورواية عمران بن حصين : «إنّ عليّا منّي ...» (٩).

* * *

في كل هذه الروايات قصد الرسول (ص) أنّ عليّا والأئمة (ع) من ولده ، من رسول الله (ص) في حمل أعباء التبليغ إلى المكلّفين مباشرة ووظيفتهم من نوع وظيفته ، وعلى هذا فهم منه وهو منهم ، يشتركون في التبليغ ويختلفون في أنّه يأخذ الأحكام الّتي يبلّغها من الله عن طريق الوحي ، وهم يأخذونها عن طريق رسول الله (ص) فهم مبلّغون عن رسول الله (ص) إلى الأمّة وقد أعدّهم الله ورسوله (ص) لحمل أعباء التبليغ ، وذلك بما عصمهم الله من الرجس وطهّرهم تطهيرا ، كما أخبر سبحانه عن ذلك في آية التطهير ، وبما أفاض الرسول (ص) على الإمام عليّ خاصّة ممّا أوحى الله إليه ، ثمّ ورث الأئمة من أبيهم الإمام عليّ ذلك واحدا بعد الآخر ، كما نصّت على ذلك الروايات الآتية.

__________________

(٧) أخرجه ابن ماجة في كتاب المقدمة ، باب فضائل الصحابة ص ٩٢ من الجزء الأوّل من سننه ، والترمذي ، كتاب المناقب ، ١٣ / ١٦٩ وهو الحديث : ٢٥٣١ في ص ١٥٣ من الجزء السادس من الكنز في طبعته الأولى ، وقد أخرجه الامام أحمد في ص ١٦٤ و ١٦٥ من الجزء الرابع من مسنده من حديث حبشي بن جنادة بطرق متعددة.

(٨) و (٩) مضى ذكر سندهما في باب : وليّ أمر المسلمين.

٥١٤

حامل علوم الرسول (ص)

في تفسير الرازي وكنز العمّال قال عليّ :

(علّمني رسول الله (ص) ألف باب من العلم وتشعّب لي من كلّ باب ألف باب)(١٠).

وفي تفسير الطبري وطبقات ابن سعد وتهذيب التهذيب وكنز العمال وفتح الباري واللفظ للأخير :

عن أبي الطفيل قال : شهدت عليّا وهو يخطب ويقول :

(سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلّا حدثتكم به ، وسلوني عن كتاب الله ، فو الله ما من آية إلّا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل ...) (١١).

ومن هنا قال في حقّه رسول الله (ص) كما رواه جابر بن عبد الله :

«أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد المدينة فليأت الباب». قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد (١٢).

وفي رواية :

«فمن أراد العلم فليأت الباب» (١٣).

__________________

(١٠) بتفسير الآية : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ ...) وكنز العمال ٦ / ٣٩٢ و ٤٠٥.

(١١) تفسير ابن جرير ٢٦ / ١١٦. وطبقات ابن سعد ٢ / ق ٢ / ١٠١. وتهذيب التهذيب ٧ / ٣٣٧. وفتح الباري ١٠ / ٢٢١. وحلية الأولياء ١ / ٦٧ ـ ٦٨ ، وكنز العمال ١ / ٢٢٨.

(١٢) مستدرك الصحيحين ٣ / ١٢٦. وفي ص ١٢٧ منه بطريق آخر ، وفي تاريخ بغداد ٤ / ٣٤٨ و ٧ / ١٧٢ و ١١ / ٤٨ ، وفي ص ٤٩ منه عن يحيى بن معين أنّه صحيح. وفي أسد الغابة ٤ / ٢٢. ومجمع الزوائد ٩ / ١١٤. وتهذيب التهذيب ٦ / ٣٢٠ و ٧ / ٤٢٧. وفي متن فيض القدير ٣ / ٤٦. وكنز العمال ط. الثانية ، ١٢ / ٢٠١ ، ح ١١٣٠. والصواعق المحرقة ص ٧٣.

(١٣) مستدرك الصحيحين ٣ / ١٢٧ ـ ١٢٩.

٥١٥

وفي رواية :

سمعت رسول الله (ص) يوم الحديبية وهو آخذ بيد عليّ يقول :

«هذا أمير البررة وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله ، ـ يمدّ بها صوته ـ أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد البيت فليأت الباب» (١٤).

ولفظه في رواية ابن عباس :

«أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها» (١٥).

وفي رواية الإمام علي ، قال رسول الله (ص) :

«أنا دار العلم وعليّ بابها» (١٦).

وقال في حقّه ـ أيضا ـ كما رواه ابن عباس :

«أنا مدينة الحكمة وعليّ بابها ، فمن أراد الحكمة فليأت الباب» (١٧).

وفي رواية الإمام عليّ ، قال رسول الله (ص) :

«أنا دار الحكمة وعليّ بابها» (١٨).

وقال في حقّه كما في رواية أبي ذر :

«عليّ باب علمي ومبيّن لأمّتي ما أرسلت به بعدي ...» (١٩).

وقال كما في رواية أنس بن مالك :

أنّ النبيّ (ص) قال لعليّ (ع) :

__________________

(١٤) تاريخ بغداد للخطيب ٢ / ٣٧٧.

(١٥) كنز العمال ط. الثانية ، ١٢ / ٢١٢ ، وح ١٢١٩. وراجع كنوز الحقائق للمناوي.

(١٦) الرياض النضرة ٢ / ١٩٣.

(١٧) تاريخ بغداد للخطيب ١١ / ٢٠٤ ، وسنن الترمذي ، كتاب المناقب ، باب مناقب عليّ بن أبي طالب.

(١٨) سنن الترمذي ١٣ / ١٧١ باب مناقب علي بن أبي طالب ، قال : وفي الباب عن ابن عباس. وحلية الأولياء لأبي نعيم ١ / ٦٤. وكنز العمال ط. الأولى ، ٦ / ١٥٦.

(١٩) كنز العمال ط. الأولى ، ٦ / ١٥٦.

٥١٦

«أنت تبيّن لأمّتي ما اختلفوا فيه بعدي». قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين (٢٠).

وفي رواية قال له :

«أنت تؤدي عنّي وتسمعهم صوتي وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي» (٢١).

وقد يسر الله لخاتم أنبيائه أن يزقّ ابن عمه العلم فيما هيّأ لهما من الاجتماع في بيت واحد منذ أن كان الإمام عليّ طفلا كما رواه الحاكم :

(كان من نعم الله على عليّ بن أبي طالب (ع) ما صنع الله وأراده به من الخير ، أنّ قريشا أصابتهم أزمة شديدة ، وكان أبو طالب في عيال كثير فقال رسول الله (ص) لعمه العباس وكان من أيسر بني هاشم :

يا أبا الفضل إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق بنا إليه يخفّف عنه من عياله آخذ أنا من بنيه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكفلهما عنه ، فقال العباس : نعم ، فانطلقا حتّى أتيا أبا طالب ، فقالا : إنّا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتّى تنكشف عن الناس ما هم فيه ، فقال لهما أبو طالب : إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما ، فأخذ رسول الله (ص) عليّا فضمّه إليه ، وأخذ العباس جعفرا فضمّه إليه ، فلم يزل عليّ (ع) مع رسول الله (ص) حتّى بعثه الله نبيّا فاتّبعه وصدّقه ، وأخذ العباس جعفرا وضمّه إليه ولم يزل جعفر مع العبّاس حتّى أسلم واستغنى عنه)(٢٢).

__________________

(٢٠) مستدرك الصحيحين ٣ / ١٢٢. وكنز العمال ط. الأولى ، ٦ / ١٥٦. وراجع المناوي في كنوز الحقائق ص ١٨٨.

(٢١) حلية الأولياء ١ / ٦٣.

(٢٢) مستدرك الصحيحين ٣ / ٥٧٦.

٥١٧

وروي عن زيد بن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جده (ع) قال :

(أشرف رسول الله (ص) من بيت ومعه عمّاه العباس وحمزة ، وعليّ وجعفر وعقيل في أرض يعملون فيها ، فقال رسول الله (ص) لعمّيه : اختارا من هؤلاء. فقال أحدهما : اخترت جعفرا. وقال الآخر : اخترت عقيلا. فقال : خيّرتكما فاخترتما ، فاختار الله لي عليّا) (٢٣).

وقد أخبر الإمام بنفسه عن ذلك وقال :

(وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ؛ وضعني في حجره وأنا ولد ، يضمّني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله به صلى‌الله‌عليه‌وآله من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل إثر أمّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علما ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخديجة ، وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوّة.

ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت : يا رسول الله ، ما هذه الرنّة؟ (٢٤) فقال :

«هذا الشيطان أيس من عبادته ، إنّك تسمع ما أسمع ، وترى ما أرى ، إلّا إنّك لست بنبيّ ، ولكنّك لوزير ، وإنّك لعلى خير».

ولقد كنت معه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أتاه الملأ من قريش ، فقالوا له :

__________________

(٢٣) مستدرك الصحيحين ٣ / ٥٧٦ ـ ٥٧٧.

(٢٤) الرنّة : الصيحة الحزينة.

٥١٨

يا محمد ، إنّك قد ادّعيت عظيما لم يدّعه آباؤك ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمرا إن أنت أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنّك نبيّ ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : وما تسألون؟ قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتّى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله على كلّ شيء قدير ، فإن فعل الله لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحقّ؟ قالوا : نعم ، قال : فإني سأريكم ما تطلبون ، وإنّي لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير (٢٥) ، وإنّ فيكم من يطرح في القليب (٢٦) ، ومن يحزب الأحزاب. ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أيّتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أنّي رسول الله فانقلعي بعروقك حتّى تقفي بين يدي بإذن الله. والّذي بعثه بالحقّ لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوّي شديد ، وقصف كقصف أجنحة الطير (٢٧) ، حتّى وقفت بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مرفرفة ، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وببعض أغصانها على منكبي ، وكنت عن يمينه صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّا واستكبارا : فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها ، فأمرها بذلك ، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دويّا ، فكادت تلتفّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا كفرا وعتوا فمر هذا النّصف فليرجع إلى نصفه كما كان ، فأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله فرجع ، فقلت أنا : لا إله إلّا الله ، إنّي أوّل مؤمن بك يا رسول الله ، وأوّل من أقرّ بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقا بنبوّتك وإجلالا لكلمتك ، فقال القوم

__________________

(٢٥) لا تفيئون : لا ترجعون.

(٢٦) القليب ـ كأمير ـ البئر ، والمراد منه قليب بدر طرح فيه نيف وعشرون من أكابر قريش ، والأحزاب : طوائف متفرقة من القبائل اجتمعوا على حربه (ص) في وقعة الخندق.

(٢٧) القصف : الصوت الشديد. و (ريح قاصف) أي : شديد. و (رعد قاصف) أي : شديد الصوت.

٥١٩

كلّهم : بل ساحر كذّاب عجيب السحر خفيف فيه ، وهل يصدّقك في أمرك إلّا مثل هذا؟ ـ يعنوني ـ» (٢٨).

هكذا كان رسول الله (ص) يرفع للإمام في صغره كلّ يوم من أخلاقه علما ويأمره بالاقتداء به ، ويزقّه العلم زقّا في كبره ، ويخصّه بمناجاته.

وقد ورد في صحيح الترمذي وغيره واللفظ للترمذي عن جابر قال :

(دعا رسول الله (ص) عليّا (ع) يوم الطائف فانتجاه ، فقال الناس : لقد طال نجواه مع ابن عمّه! فقال رسول الله (ص) :

«ما انتجيته ولكنّ الله انتجاه») (٢٩).

وفي رواية :

(لمّا كان يوم الطائف دعا رسول الله (ص) عليّا فناجاه طويلا فقال بعض أصحابه ...) الحديث (٣٠).

وفي رواية جندب بن ناجية أو ناجية بن جندب :

(لمّا كان يوم غزوة الطائف قام النبيّ (ص) مع عليّ (ع) مليّا ثمّ مرّ ، فقال له أبو بكر : يا رسول الله لقد طالت مناجاتك عليّا منذ اليوم! فقال :

«ما أنا انتجيته ولكنّ الله انتجاه») (٣١).

وكان الإمام عليّ حريصا على أن يتلقى من رسول الله (ص). ولمّا نزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) المجادلة / ١٢ (٣٢).

__________________

(٢٨) الخطبة ١٩٠ من نهج البلاغة ، ٢ / ١٨٢ ـ ١٨٤.

(٢٩) سنن الترمذي ، كتاب المناقب ، باب مناقب علي بن أبي طالب ١٣ / ١٧٣. وتاريخ بغداد للخطيب ٧ / ٤٠٢.

(٣٠) أسد الغابة ٤ / ٢٧.

(٣١) كنز العمّال ط. الثانية ، ١٢ / ٢٠٠ ، ح ١١٢٢. والرياض النضرة ٢ / ٢٦٥.

(٣٢) تفسير السيوطي ٦ / ١٨٥.

٥٢٠